قال الإمام بن القيم عليه رحمة اللّه في ( كتابه الداء والدواء ) :
وللمعاصي من الآثار القبيحة المذمومة المضرة بالقلب والبدن في الدنيا والآخرة ما لا يعلمه إلا الله :
فمنها: حرمان العلم فإن العلم نور يقذفه الله في القلب والمعصية تطفىء ذلك النور ولما جلس الإمام الشافعي بين يدي مالك وقرأ عليه أعجبه ما رأى من وفور فطنته وتوقد ذكائه وكمال فهمه فقال: إني أرى الله قد ألقى على قلبك نورا فلا تطفئه بظلمة المعصية
وقال الشافعي رحمه الله:
شكوت إلى وكيع سوء حفظي فأرشدني إلى ترك المعاصي
وقال اعلم بان العلم فضل وفضل الله لايؤتاه عاصي
ومنها: حرمان الرزق وفي المسند "إن العبد ليحرم الرزق بالذنب يصيبه" .
ومنها: وحشة يجدها العاصي في قلبه بينه وبين الله لايوازنها ولايقارنها لذة أصلا ولو اجتمعت له لذات الدنيا بأسرها لم تف بتلك الوحشة وهذا أمر لا يحس به إلا من في قلبه حياة وما لجرح بميت إيلام فلو لم تترك الذنوب إلا حذرا من وقوع تلك الوحشة لكان العاقل حريا بتركها .
ومنها: الوحشة التي تحصل له بينه وبين الناس ولاسيما أهل الخير منهم فإنه يجد وحشة بينه وبينهم وكلما قويت تلك الوحشة بَعُد منهم ومن مجالستهم وحرم بركة الانتفاع بهم وقرب من حزب الشيطان بقدر ما بعد من حزب الرحمن وتقوى هذه الوحشة حتى تستحكم فتقع بينه وبين امرأته وولده وأقاربه وبينه وبين نفسه فتراه مستوحشا من نفسه
وقال بعض السلف إني لأعصي الله فأرى ذلك في خلق دابتي وامرأتي .
ومنها: تعسير أموره عليه فلا يتوجه لأمر إلا يجده مغلقا دونه أو متعسرا عليه وهذا كما أن من اتقى الله جعل له من أمره يسرا فمن عطل التقوى جعل الله له من أمره عسرا ويالله العجب ! كيف يجد العبد أبواب الخير والمصالح مسدودة عنه متعسرة عليه وهو لايعلم من أين أتى؟ .
ومنها: ظلمة يجدها في قلبه حقيقة يحس بها كما يحس بظلمة الليل البهيم ادلهَمّ فتصير ظلمة المعصية لقلبه كالظلمة الحسية لبصره فإن الطاعة نور والمعصية ظلمة وكلما قويت الظلمة ازدادت حيرته حتى يقع في البدع والضلالات والأمور المهلكة وهو لا يشعر وتقوى هذه الظلمة حتى تظهر في العين ثم تقوى حتى تعلو الوجه وتصير سوادا فيه حتى يراه كل أحد قال عبد الله بن عباس: "إن للحسنة ضياء في الوجه ونورا في القلب وسعة في الرزق وقوة في البدن ومحبة في قلوب الخلق وإن للسيئة سوادا في الوجه وظلمة في القلب ووهنا في البدن ونقصا في الرزق وبغضة في قلوب الخلق" .
ومنها: أن المعاصي توهن القلب والبدن أما وهنها للقلب فأمر ظاهر بل لاتزال توهنه حتى تزيل حياته بالكلية
وأما وهنها للبدن فإن المؤمن قوته في قلبه وكلما قوى قلبه قوى بدنه وأما الفاجر فإنه وإن كان قوى البدن فهو أضعف شيء عند الحاجة فتخونه قوته عند أحوج ما يكون إلى نفسه .
ومنها: حرمان الطاعة فلو لم يكن للذنب عقوبة إلا أن يصد عن طاعة تكون بدله وتقطع طريق طاعة أخرى فينقطع عليه طريق ثالثة ثم رابعة وهلم جرا فينقطع عليه بالذنب طاعات كثيرة كل واحدة منها خير له من الدنيا وما عليها .
ومنها: أن المعاصي تقصر العمر وتمحق بركته ولابد فإن البر كما يزيد في العمر فالفجور يقصر العمر وسر المسألة أن عمر الإنسان مدة حياته ولا حياة له إلا بإقباله على ربه والتنعم بحبه وذكره وإيثار مرضاته .
ومنها : أن المعاصي تزرع أمثالها وتولد بعضها بعضا حتى يعز على العبد مفارقتها والخروج منها كما قال بعض السلف: إن من عقوبة السيئة السيئة بعدها وأن من ثواب الحسنة الحسنة بعدها ، لايزال العبد يعاني الطاعة ويألفها ويحبها ويؤثرها حتى يرسل الله سبحانه وتعالى برحمته عليه الملائكة تؤزه إليها أزا وتحرضه عليها وتزعجه عن فراشه ومجلسه إليها ولايزال يألف المعاصي ويحبها ويؤثرها حتى يرسل الله عليه الشياطين فتؤزه إليها أزا فالأول قوى جند الطاعة بالمدد فصاروا من أكبر أعوانه وهذا قوى جند المعصية بالمدد فكانوا أعوانا عليه.
ومنها : وهو من أخوفها على العبد أنها تضعف القلب عن إرادته فتقوى إرادة المعصية وتضعف إرادة التوبة شيئا فشيئا إلى أن تنسلخ من قلبه إرادة التوبة بالكلية فلو مات نصفه لما تاب إلى الله فيأتي بالاستغفار وتوبة الكذابين باللسان بشيء كثير وقلبه معقود بالمعصية مصر عليها عازم على مواقعتها متى أمكنه وهذا من أعظم الأمراض وأقربها إلى الهلاك .
ومنها: أنه ينسلخ من القلب استقباحها فتصير له عادة فلا يستقبح من نفسه رؤية الناس له ولا كلامهم فيه وهو عند أرباب الفسوق هو غاية التفكه وتمام اللذة حتى يفتخر أحدهم بالمعصية ويحدث بها من لم يعلم أنه عملها .
ومنها: أن المعصية سبب لهوان العبد على ربه وسقوطه من عينه قال الحسن البصري: هانوا عليه فصعوه ولو عزوا عليه لعصمهم وإذا هان العبد على الله لم يكرمه أحد كما قال الله تعالى: {وَمَنْ يُهِنِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ مُكْرِمٍ} وإن عظمهم الناس في الظاهر لحاجتهم إليهم أو خوفا من شرهم فهم في قلوبهم أحقر شيء وأهونه .
ومنها: أن المعصية تورث الذل ولا بد فإن العز كل العز في طاعة الله تعالى قال تعالى: {مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْعِزَّةَ فَلِلَّهِ الْعِزَّةُ جَمِيعاً ا} أي فليطلبها بطاعة الله فإنه لا يجدها إلا في طاعة الله وكان من دعاء بعض السلف: "اللهم أعزني بطاعتك ولا تذلني بمعصيتك" قال الحسن البصري: إنهم وإن طقطقت بهم البغال وهملجت بهم البراذين إن ذل المعصية لا يفارق قلوبهم أبى الله إلا أن يذل من عصاه , وقال عبد الله بن المبارك:
رأيت الذنوب تميت القلوب وقد يورث الذل إدمانها
وترك الذنوب حياة القلوب وخير لنفسك عصيانها
وهل أفسد الدين إلا الملوك وأحبار سوء ورهبانها؟
ومنها: أن المعاصي تفسد العقل فإن للعقل نورا والمعصية تطفيء نور العقل ولابد وإدا طفئ نوره ضعف ونقص .
ومن آثار الذنوب والمعاصي: أنها تحدث في الأرض أنواعا من الفساد في المياه والهوى والزروع والثمار والمساكن قال تعالى: {ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُمْ بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ} قال مجاهد: إذا ولي الظالم سعى بالظلم "والفساد" فيحبس الله بذلك القطر فيهلك الحرث والنسل والله لا يحب الفساد ثم قرأ {ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُمْ بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ} ثم قال: أما والله ما هو بحركم هذا ولكن كل قرية على ماء جار فهو بحر .
ومن عقوبات الذنوب: أنها تطفئ من القلب نار الغيرة التي هي لحياته وصلاحه كالحرارة الغريزية لحياة جميع البدن فالغيرة حرارته وناره التي تخرج ما فيه من الخبث والصفات المذمومة كما يخرج الكير خبث الذهب والفضة والحديد وأشرف الناس وأعلاهم وهمة أشدهم غيرة على نفسه وخاصته وعموم الناس .
ومن بعض عقوبة هذا: أن يرفع الله عز وجل مهابته من قلوب الخلق ويهون عليهم ويستخفون به كما هان عليه أمره واستخف به فعلى قدر محبة العبد لله يحبه الناس وعلى قدر خوفه من الله يخافه الخلق وعلى قدر تعظيمه الله وحرماته يعظمه الناس وكيف ينتهك عبد حرمات الله ويطمع أن لا ينتهك الناس حرماته؟ أم كيف يهون عليه حق الله ولا يهونه الله على الناس؟ أم كيف يستخف بمعاصي الله ولا يستخف به الخلق .
ومن عقوباتها: أنها تستدعى نسيان الله لعبده وتركه وتخليته بينه وبين نفسه وشيطانه وهناك الهلاك الذي لا يرجى معه نجاة قال الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ لِغَدٍ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ نَسُوا اللَّهَ فَأَنْسَاهُمْ أَنْفُسَهُمْ أُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ}
ومن عقوبات الذنوب: أنها تزيل النعم وتحل النقم فما زالت عن العبد نعمة إلا بذنب ولا حلت به نقمة إلا بذنب كما قال علي بن أبي طالب رضي الله عنه: "ما نزل بلاء إلا بذنب ولا رفع إلا بتوبة" وقد قال تعالى: {وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ}
ولقد أحسن القائل:
إذا كنت في نعمة فارعها فإن الذنوب تزيل النعم
وخطها بطاعة رب العباد فرب العباد سريع النقم
وإياك والظلم مهما استطعت فظلم العباد شديد الوخم
وسافر بقلبك بين الورى لتبصر آثار من قد ظلم
فتلك مساكنهم بعدهم شهود عليهم ولاتتهم
وما كان شيء عليهم أضر من الظلم وهو الذي قد قصم
فكم تركوا من جنان ومن قصور وأخرى عليهم أطم
صلوا بالجحيم وفات النعيم وكان الذي نالهم كالحلم
ومن عقوباتها: ما يلقيه الله سبحانه من الرعب والخوف في قلب العاصي فلا تراه إلا خائفا مرعوبا فإن الطاعة حصن الله الأعظم الذي من دخله كان من الآمنين من عقوبة الدنيا والآخرة ومن خرج عنه أحاطت به المخاوف من كل جانب فمن أطاع الله انقلبت المخاوف في حقه أمانا ومن عصاه انقلبت مأمنه مخاوف .
ومن عقوباتها: أنها تعمي بصيرة القلب وتطمس نوره وتسد طرق العلم وتحجب مواد الهداية وقد قال مالك للشافعي رحمهما الله تعالى لما اجتمع به ورأى تلك المخايل :إني أرى الله تعالى قد ألقى على قلبك نورا فلا تطفئه بظلمه المعصية .
ومن عقوباتها: أنها تمحق بركة العمر وبركة الرزق وبركة العلم وبركة العمل وبركة الطاعة.
وبالجملة تمحق بركة الدين والدنيا فلا تجد أقل بركة في عمره ودينه ودنياه ممن عصى الله وما محقت البركة من الأرض إلا بمعاصي الخلق قال الله تعالى: {وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِنَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ} وقال تعالى: {وَأَلَّوِ اسْتَقَامُوا عَلَى الطَّرِيقَةِ لأَسْقَيْنَاهُمْ مَاءً غَدَقاً لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ} وإن العبد ليحرم الرزق بالذنب يصيبه.
مختصر من كتاب الداء والدواء
وللمعاصي من الآثار القبيحة المذمومة المضرة بالقلب والبدن في الدنيا والآخرة ما لا يعلمه إلا الله :
فمنها: حرمان العلم فإن العلم نور يقذفه الله في القلب والمعصية تطفىء ذلك النور ولما جلس الإمام الشافعي بين يدي مالك وقرأ عليه أعجبه ما رأى من وفور فطنته وتوقد ذكائه وكمال فهمه فقال: إني أرى الله قد ألقى على قلبك نورا فلا تطفئه بظلمة المعصية
وقال الشافعي رحمه الله:
شكوت إلى وكيع سوء حفظي فأرشدني إلى ترك المعاصي
وقال اعلم بان العلم فضل وفضل الله لايؤتاه عاصي
ومنها: حرمان الرزق وفي المسند "إن العبد ليحرم الرزق بالذنب يصيبه" .
ومنها: وحشة يجدها العاصي في قلبه بينه وبين الله لايوازنها ولايقارنها لذة أصلا ولو اجتمعت له لذات الدنيا بأسرها لم تف بتلك الوحشة وهذا أمر لا يحس به إلا من في قلبه حياة وما لجرح بميت إيلام فلو لم تترك الذنوب إلا حذرا من وقوع تلك الوحشة لكان العاقل حريا بتركها .
ومنها: الوحشة التي تحصل له بينه وبين الناس ولاسيما أهل الخير منهم فإنه يجد وحشة بينه وبينهم وكلما قويت تلك الوحشة بَعُد منهم ومن مجالستهم وحرم بركة الانتفاع بهم وقرب من حزب الشيطان بقدر ما بعد من حزب الرحمن وتقوى هذه الوحشة حتى تستحكم فتقع بينه وبين امرأته وولده وأقاربه وبينه وبين نفسه فتراه مستوحشا من نفسه
وقال بعض السلف إني لأعصي الله فأرى ذلك في خلق دابتي وامرأتي .
ومنها: تعسير أموره عليه فلا يتوجه لأمر إلا يجده مغلقا دونه أو متعسرا عليه وهذا كما أن من اتقى الله جعل له من أمره يسرا فمن عطل التقوى جعل الله له من أمره عسرا ويالله العجب ! كيف يجد العبد أبواب الخير والمصالح مسدودة عنه متعسرة عليه وهو لايعلم من أين أتى؟ .
ومنها: ظلمة يجدها في قلبه حقيقة يحس بها كما يحس بظلمة الليل البهيم ادلهَمّ فتصير ظلمة المعصية لقلبه كالظلمة الحسية لبصره فإن الطاعة نور والمعصية ظلمة وكلما قويت الظلمة ازدادت حيرته حتى يقع في البدع والضلالات والأمور المهلكة وهو لا يشعر وتقوى هذه الظلمة حتى تظهر في العين ثم تقوى حتى تعلو الوجه وتصير سوادا فيه حتى يراه كل أحد قال عبد الله بن عباس: "إن للحسنة ضياء في الوجه ونورا في القلب وسعة في الرزق وقوة في البدن ومحبة في قلوب الخلق وإن للسيئة سوادا في الوجه وظلمة في القلب ووهنا في البدن ونقصا في الرزق وبغضة في قلوب الخلق" .
ومنها: أن المعاصي توهن القلب والبدن أما وهنها للقلب فأمر ظاهر بل لاتزال توهنه حتى تزيل حياته بالكلية
وأما وهنها للبدن فإن المؤمن قوته في قلبه وكلما قوى قلبه قوى بدنه وأما الفاجر فإنه وإن كان قوى البدن فهو أضعف شيء عند الحاجة فتخونه قوته عند أحوج ما يكون إلى نفسه .
ومنها: حرمان الطاعة فلو لم يكن للذنب عقوبة إلا أن يصد عن طاعة تكون بدله وتقطع طريق طاعة أخرى فينقطع عليه طريق ثالثة ثم رابعة وهلم جرا فينقطع عليه بالذنب طاعات كثيرة كل واحدة منها خير له من الدنيا وما عليها .
ومنها: أن المعاصي تقصر العمر وتمحق بركته ولابد فإن البر كما يزيد في العمر فالفجور يقصر العمر وسر المسألة أن عمر الإنسان مدة حياته ولا حياة له إلا بإقباله على ربه والتنعم بحبه وذكره وإيثار مرضاته .
ومنها : أن المعاصي تزرع أمثالها وتولد بعضها بعضا حتى يعز على العبد مفارقتها والخروج منها كما قال بعض السلف: إن من عقوبة السيئة السيئة بعدها وأن من ثواب الحسنة الحسنة بعدها ، لايزال العبد يعاني الطاعة ويألفها ويحبها ويؤثرها حتى يرسل الله سبحانه وتعالى برحمته عليه الملائكة تؤزه إليها أزا وتحرضه عليها وتزعجه عن فراشه ومجلسه إليها ولايزال يألف المعاصي ويحبها ويؤثرها حتى يرسل الله عليه الشياطين فتؤزه إليها أزا فالأول قوى جند الطاعة بالمدد فصاروا من أكبر أعوانه وهذا قوى جند المعصية بالمدد فكانوا أعوانا عليه.
ومنها : وهو من أخوفها على العبد أنها تضعف القلب عن إرادته فتقوى إرادة المعصية وتضعف إرادة التوبة شيئا فشيئا إلى أن تنسلخ من قلبه إرادة التوبة بالكلية فلو مات نصفه لما تاب إلى الله فيأتي بالاستغفار وتوبة الكذابين باللسان بشيء كثير وقلبه معقود بالمعصية مصر عليها عازم على مواقعتها متى أمكنه وهذا من أعظم الأمراض وأقربها إلى الهلاك .
ومنها: أنه ينسلخ من القلب استقباحها فتصير له عادة فلا يستقبح من نفسه رؤية الناس له ولا كلامهم فيه وهو عند أرباب الفسوق هو غاية التفكه وتمام اللذة حتى يفتخر أحدهم بالمعصية ويحدث بها من لم يعلم أنه عملها .
ومنها: أن المعصية سبب لهوان العبد على ربه وسقوطه من عينه قال الحسن البصري: هانوا عليه فصعوه ولو عزوا عليه لعصمهم وإذا هان العبد على الله لم يكرمه أحد كما قال الله تعالى: {وَمَنْ يُهِنِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ مُكْرِمٍ} وإن عظمهم الناس في الظاهر لحاجتهم إليهم أو خوفا من شرهم فهم في قلوبهم أحقر شيء وأهونه .
ومنها: أن المعصية تورث الذل ولا بد فإن العز كل العز في طاعة الله تعالى قال تعالى: {مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْعِزَّةَ فَلِلَّهِ الْعِزَّةُ جَمِيعاً ا} أي فليطلبها بطاعة الله فإنه لا يجدها إلا في طاعة الله وكان من دعاء بعض السلف: "اللهم أعزني بطاعتك ولا تذلني بمعصيتك" قال الحسن البصري: إنهم وإن طقطقت بهم البغال وهملجت بهم البراذين إن ذل المعصية لا يفارق قلوبهم أبى الله إلا أن يذل من عصاه , وقال عبد الله بن المبارك:
رأيت الذنوب تميت القلوب وقد يورث الذل إدمانها
وترك الذنوب حياة القلوب وخير لنفسك عصيانها
وهل أفسد الدين إلا الملوك وأحبار سوء ورهبانها؟
ومنها: أن المعاصي تفسد العقل فإن للعقل نورا والمعصية تطفيء نور العقل ولابد وإدا طفئ نوره ضعف ونقص .
ومن آثار الذنوب والمعاصي: أنها تحدث في الأرض أنواعا من الفساد في المياه والهوى والزروع والثمار والمساكن قال تعالى: {ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُمْ بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ} قال مجاهد: إذا ولي الظالم سعى بالظلم "والفساد" فيحبس الله بذلك القطر فيهلك الحرث والنسل والله لا يحب الفساد ثم قرأ {ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُمْ بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ} ثم قال: أما والله ما هو بحركم هذا ولكن كل قرية على ماء جار فهو بحر .
ومن عقوبات الذنوب: أنها تطفئ من القلب نار الغيرة التي هي لحياته وصلاحه كالحرارة الغريزية لحياة جميع البدن فالغيرة حرارته وناره التي تخرج ما فيه من الخبث والصفات المذمومة كما يخرج الكير خبث الذهب والفضة والحديد وأشرف الناس وأعلاهم وهمة أشدهم غيرة على نفسه وخاصته وعموم الناس .
ومن بعض عقوبة هذا: أن يرفع الله عز وجل مهابته من قلوب الخلق ويهون عليهم ويستخفون به كما هان عليه أمره واستخف به فعلى قدر محبة العبد لله يحبه الناس وعلى قدر خوفه من الله يخافه الخلق وعلى قدر تعظيمه الله وحرماته يعظمه الناس وكيف ينتهك عبد حرمات الله ويطمع أن لا ينتهك الناس حرماته؟ أم كيف يهون عليه حق الله ولا يهونه الله على الناس؟ أم كيف يستخف بمعاصي الله ولا يستخف به الخلق .
ومن عقوباتها: أنها تستدعى نسيان الله لعبده وتركه وتخليته بينه وبين نفسه وشيطانه وهناك الهلاك الذي لا يرجى معه نجاة قال الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ لِغَدٍ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ نَسُوا اللَّهَ فَأَنْسَاهُمْ أَنْفُسَهُمْ أُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ}
ومن عقوبات الذنوب: أنها تزيل النعم وتحل النقم فما زالت عن العبد نعمة إلا بذنب ولا حلت به نقمة إلا بذنب كما قال علي بن أبي طالب رضي الله عنه: "ما نزل بلاء إلا بذنب ولا رفع إلا بتوبة" وقد قال تعالى: {وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ}
ولقد أحسن القائل:
إذا كنت في نعمة فارعها فإن الذنوب تزيل النعم
وخطها بطاعة رب العباد فرب العباد سريع النقم
وإياك والظلم مهما استطعت فظلم العباد شديد الوخم
وسافر بقلبك بين الورى لتبصر آثار من قد ظلم
فتلك مساكنهم بعدهم شهود عليهم ولاتتهم
وما كان شيء عليهم أضر من الظلم وهو الذي قد قصم
فكم تركوا من جنان ومن قصور وأخرى عليهم أطم
صلوا بالجحيم وفات النعيم وكان الذي نالهم كالحلم
ومن عقوباتها: ما يلقيه الله سبحانه من الرعب والخوف في قلب العاصي فلا تراه إلا خائفا مرعوبا فإن الطاعة حصن الله الأعظم الذي من دخله كان من الآمنين من عقوبة الدنيا والآخرة ومن خرج عنه أحاطت به المخاوف من كل جانب فمن أطاع الله انقلبت المخاوف في حقه أمانا ومن عصاه انقلبت مأمنه مخاوف .
ومن عقوباتها: أنها تعمي بصيرة القلب وتطمس نوره وتسد طرق العلم وتحجب مواد الهداية وقد قال مالك للشافعي رحمهما الله تعالى لما اجتمع به ورأى تلك المخايل :إني أرى الله تعالى قد ألقى على قلبك نورا فلا تطفئه بظلمه المعصية .
ومن عقوباتها: أنها تمحق بركة العمر وبركة الرزق وبركة العلم وبركة العمل وبركة الطاعة.
وبالجملة تمحق بركة الدين والدنيا فلا تجد أقل بركة في عمره ودينه ودنياه ممن عصى الله وما محقت البركة من الأرض إلا بمعاصي الخلق قال الله تعالى: {وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِنَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ} وقال تعالى: {وَأَلَّوِ اسْتَقَامُوا عَلَى الطَّرِيقَةِ لأَسْقَيْنَاهُمْ مَاءً غَدَقاً لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ} وإن العبد ليحرم الرزق بالذنب يصيبه.
مختصر من كتاب الداء والدواء