فصل :[ في علماء الدنيا و علماء الآخرة]
تأملت التحاسد بين العلماء ، فرأيت منشأه من حب الدنيا ، فإن علماء الآخرة يتوادون و لا يتحاسدون ، كما قال عز و جل : (و لا يجدون في صدورهم حاجة مما أوتو)ا .
و قال الله تعالى :( والذين جاؤوا من بعدهم يقولون ربنا اغفر لنا و لإخواننا الذين سبقونا بالإيمان و لا تجعل في قلوبنا غلاً للذين آمنوا) .
و قد كان أبو الدرداء : [ يدعو كل ليلة لجماعة من إخوانه ] .
و قال الإمام أحمد بن حنبل لولد الشافعي : [ أبوك من الستة الذين أدعو لهم كل ليلة وقت السحر ] .
و الأمر الفارق بين الفئتين : أن علماء الدنيا ينظرون إلى الرياسة فيها ، و يحبون كثرة الجمع و الثناء . و علماء الآخرة ، بمعزل من إيثار ذلك ، و قد كانوا يتخوفونه ، و يرحمون من بلي به .
و كان النخعي ، لا يستند إلى سارية .
و قال علقمة : أكره أن يوطأ عقبي . و يقال" علقمة" .
و كان بعضهم ، إذا جلس إليه أكثر من أربعة ، قام عنهم .
و كانوا يتدافعون الفتوى ، و يحبون الخمول ، ومثل القوم كمثل راكب البحر ، و قد خب ، فعنده شغل إلى أن يوقن بالنجاة .
و إنما كان بعضهم يدعوا لبعض ، و يستفيد منه لأنهم ركب تصاحبوا فتوادوا ، فالأيام و الليالي مراحلهم إلى سفر الجنة .[41]
* فصل : [ العلم بالعمل]
لقيت مشايخ ، أحوالهم مختلفة ، في مقاديرهم في العلم .
و كان أنفعهم لي في صحبته العامل منهم بعلمه ، و إن كان غيره أعلم منه .
و لقيت جماعة من علماء الحديث يحفظون و يعرفون و لكنهم كانوا يتسامحون بغيبة يخرجونها مخرج جرح و تعديل ، و يأخذون على قراءة الحديث أجرة ، و يسرعون بالجواب لئلا ينكسر الجاه و إن وقع خطأ .
و لقيت عبد الوهاب الأنماطي ، فكان على قانون السلف لم يسمع في مجلسه غيبة ،و لا كان يطلب أجراً على سماع الحديث ، و كنت إذا قرأت عليه أحاديث الرقاق بكى و اتصل بكاؤه .
فكان ـ و أنا صغير السن حينئذ ـ يعمل بكاؤه في قلبي ،و يبني قواعد .
و كان على سمت المشايخ الذين سمعنا أوصافهم في النقل .
و لقيت الشيخ أبا منصور الجواليقي ، فكان كثير الصمت ، شديد التحري فيما يقول ، متقناً محققاً .
و ربما سئل المسألة الظاهرة التي يبادر بجوابها بعض غلمانه ، فيتوقف فيها حتى يتيقن .
و كان كثير الصوم و الصمت . فانتفعت برؤية هذين الرجلين أكثر من انتفاعي بغيرهما .
ففهمت من هذه الحالة أن الدليل بالفعل أرشد من الدليل بالقول .
و رأيت مشايخ كانت لهم خلوات في انبساط و مزاح ، فراحوا عن القلوب و بدد تفريطهم ما جمعوا من العلم . فقل الانتفاع بهم في حياتهم ، و نسوا بعد مماتهم ، فلا يكاد أحد أن يلتفت إلى مصنفاتهم .
فالله الله في العلم بالعمل ، فإنه الأصل الأكبر .
و المسكين كل المسكين من ضاع عمره في علم لم يعمل به ، ففاته لذات الدنيا و خيرات الآخرة فقدم مفلساً على قوة الحجة عليه .[188]
* فصل[ من يرد الله به خيرا يفقهه في الدين]
أعظم دليل على فضيلة الشيء النظر إلى ثمرته . و من تأمل ثمرة الفقه علم أنه أفضل العلوم ، فإن أرباب المذاهب فاقوا بالفقه على الخلائق أبداً ، و إن كان في زمن أحدهم من هو أعلم منه بالقرآن أو بالحديث أو باللغة .
و اعتبر هذا بأهل زماننا ، فإنك ترى الشاب يعرف مسائل الخلاف الظاهرة فيستغني و يعرف حكم الله تعالى في الحوادث ما لا يعرفه النحرير من باقي العلماء .
كم رأينا مبرزاً في علم القرآن أو في الحديث أو في التفسير أو في اللغة لا يعرف مع الشيخوخة معظم أحكام الشرع .
و ربما جهل علم ما ينويه في صلاته ، على أنه ينبغي للفقيه ألا يكون أجنبياً عن باقي العلوم . فإنه لا يكون فقيهاً ، بل يأخذ من كل علم بحظ ثم يتوفر على الفقه فإنه عز الدنيا و الآخرة .[210]
* فصل [ الورع لطالب العلم إلى الممات]
رأيت نفراً ممن أفنى أوائل عمره و ريعان شبابه في طلب العلم يصبر على أنواع الأذى ، و هجر فنون الراحات ، أنفة من الجهل ، و رذيلته ، و طلباً للعلم و فضيلته ، فما نال منه طرفاً رفعه عن مراتب أرباب الدنيا .
و من لا علم له إلا بالعاجل ضاق به معاشه أو قل ما ينشده لنفسه من حظوظ ، فسافر في البلاد يطلب من الأرذال ، و يتواضع للسفلة و أهل الدناءة و المكاس و غيرهم .
فخاطبت بعضهم و قلت :ويحك أين تلك الأنفة من الجهل التي سهرت لأجلها ، و أظمأت نهارك بسببها ، فلما ارتفعت و انتفعت عدت إلى أسفل سافلين .
أفما بقي عندك ذرة من الأنفة تنبو بها عن مقامات الأرذال ؟
و لا معك يسير من العلم يسير بك عن مناخ الهوى ؟
و لا حصلت بالعلم قوة تجذب بها زمام النفس عن مراعي السوء ؟ على أنه يبين لي أن سهرك و تعبك كأنهما كانا لنيل الدنيا .
ثم إني أراك تزعم أنك تريد شيئاً من الدنيا تستعين به على طلب العلم ، فاعلم أن التفاتك إلى نوع كسب تستغني به عن الأرذال أفضل من التزيد في علمك .
فلو عرفت ما ينقص به دينك لم تر فيما قد عزمت عليه زيادة ، بل لعله كله مخاطرة بالنفس ، و بذل الوجه طالما صين لمن لا يصلح إلتفات مثلك إلى مثله .
و بعيد أن تقنع بعد شروعك في هذا الأمر بقدر الكفاف ، و قد علمت ما في السؤال بعد الكفاف من الإثم .
و أبعد منه أن تقدر على الورع في المأخوذ .
و من لك بالسلامة و الرجوع إلى الوطن ؟ و كم رمى قفر في بواديه من هالك !
ثم ما تحصله يفني و يبقى منه ما أعطى ، و عيب المتقين إياك ، و اقتداء الجاهلين بك .
و يكفيك أنك عدت على ما علمت من ذم الدنيا بشينه إذ فعلت ما يناقضه ، خصوصاً و قد مر أكثر العمر .
و من أحسن فيما مضى يحسن فيما بقي .[213]
فصل[في تعظيم حفظ العلم]
إعلم أن المعلم يفتقر إلى دوام الدراسة ، و من الغلط الإنهماك على الإعادة ليلاً و نهاراً ، فإنه لا يلبث صاحب هذه الحال إلا أياماً ثم يفتر أو يمرض .
و قد روينا أن الطبيب دخل على أبي بكر بن الأنباري في مرض موته ، فنظر إلى مائة كتاب و قال : [ قد كنت تفعل شيئاً لا يفعله أحد ] ، ثم خرج فقال : [ ما يجيء منه شيء ] ، فقيل له : [ ما الذي كنت تفعل ؟ ] قال : [ كنت أعيد كل أسبوع عشرة آلاف ورقة ] .
و من الغلط تحميل القلب حفظ الكثير أو الحفظ من فنون شتى ، فإن القلب جارحة من الجوارح ، و كما أن من الناس من يحمل المائة رطل ، و منهم من يعجز عن عشرين رطلاً ، فكذلك القلوب .
فليأخذ الإنسان على قدر قوته و دونها ، فإنه إذا استنفدها في وقت ضاعت منه أوقات .
كما أن الشره يأكل فضل لقيمات فيكون سبباً إلى منع أكلات .
و الصواب أن يأخذ قدر ما يطيق و يعيد في وقتين من النهار و الليل ، و يرزفه القوى في بقية الزمان ، و الدوام أصل عظيم .
فكم ممن ترك الاستذكار بعد الحفظ فضاع زمن طويل في استرجاع محفوظ قد نسي .
و للحفظ أوقات من العمر فأفضلها الصبا و ما يقاربه من أوقات الزمان ، و أفضلها إعادة الأسحار و أنصاف النهار ، و الغدوات خير من العشيات ، و أوقات الجوع خير من أوقات الشبع .
و لا يحمد الحفظ بحضرة خضرة و على شاطئ نهر ، لأن ذلك يلهي .
و الأماكن العالية للحفظ خير من السوافل .
و للخلوة أصل ، و جمع الهم أصل الأصول .
و ترفيه النفس من الإعادة يوماً في الأسبوع ليثبت المحفوظ و تأخذ النفس قوة كالبنيان يترك أياماً حتى يستقر ثم يبني عليه .
وتقليل المحفوظ مع الدوام أصل عظيم ، و ألا يشرع في فن حتى يحكم ما قبله .
و من لم يجد نشاطاً للحفظ فليتركه ، فإن مكابرة النفس لا تصلح .
و إصلاح المزاج من الأصول العظيمة ، فإن للمأكولات أثراً في الحفظ .
قال الزهري : [ ما أكلت خلاً منذ عالجت الحفظ ] .
و قيل لأبي حنيفة : بم يستعان على حفظ الفقه ؟ قال : بجمع الهم .
و قال حماد بن سلمة : [ بقلة الغم ] .
و قال مكحول : من نظف ثوبه قل همه ، و من طابت ريحه زاد عقله ، و من جمع بينهما زادت مروءته .
و أختار للمبتدي في طلب العلم أن يدافع النكاح مهما أمكن فإن أحمد بن حنبل لم يتزوج حتى تمت له أربعين سنة ، و هذا لأجل جمع الهم .
فإن غلب عليه الأمر تزوج و اجتهد في المدافعة بالفعل لتتوفر القوة على إعادة العلم .
ثم لينظر ما يحفظ من العلم ، فإن العمر عزيز ، و العلم غزير .
و إن أقواماً يصرفون الزمان إلى حفظ ما غيره أولى منه ، و إن كان كل العلوم حسناً ، و لكن الأولى تقديم الأهم و الأفضل .
و أفضل ما تشاغل به حفظ القرآن ثم الفقه ، و ما بعد هذا بمنزلة تابع ، و من رزق يقظة دلته يقظته فلم يحتج إلى دليل ، و من قصد وجه الله تعالى بالعلم دله المقصود على الأحسن( و اتقوا الله و يعلمكم الله) .[225]
فصل [محنة أصحاب الهمم العلية]
البلايا على مقادير الرجال . فكثير من الناس تراهم ساكنين راضين بما عندهم من دين و دنيا .
و أولئك قوم لم يرادوا لمقامات الصبر الرفيعة ، أو علم ضعفهم عن مقاومة البلاء فلطف بهم .
إنما المحنة العظمى أن ترزق همة عالية لا تقنع منك إلا بتحقيق الورع و تجويد الدين ، و كمال العلم ، ثم تبتلى بنفس تميل إلى المباحات ، و تدعي أنها تجمع بذلك همها ، و تشفي مرضها ، لتقبل مزاحه العلة على تحصيل الفضائل .
و هاتان الحالتان كضدين ، لأن الدنيا و الآخرة ضرتان .
و اللازم في هذا المقام مراعات الواجبات ، و ألا يفسح للنفس في مباح لا يؤمن أن يتعدى منه إعراض عن واجب ودع .
المبتلى يصيح ، فلأن يبكي الطفل خير من أن يبكي الوالد .
و اعلم أن فتح باب المباحات ربما جر أذى كثير في الدين فأوثق السكر قبل فتح الماء ، و البس الدرع قبل لقاء الحرب ، و تلمح عواقب ما تجني قبل تحريك اليد و استظهر في الحذر باجتناب ما يخاف منه و إن لم يتيقن .[253]
* فصل[يا طالب العلم تعهد قلبك]
رأيت الاشتغال بالفقه و سماع الحديث لا يكاد يكفي في صلاح القلب ، إلا أن يمزج بالرفائق و النظر في سير السلف الصالحين.
فأما مجرد العلم بالحلال, فليس له كبير عمل في رقة القلب, وإنما ترق القلوب بذكر رقائق الأحاديث وأخبار السلف الصالحين, لأنهم تناولوا مقصود النقل . و خرجوا عن صور الأفعال المأمور بها إلى ذوق معانيها و المراد بها .
و ما أخبرتك بهذا إلا بعد معالجة و ذوق لأني وجدت المحدثين و طلاب الحديث همة أحدهم في الحديث العالي و تكثير الأجزاء .
و جمهور الفقهاء في علوم الجدل و ما يغالب به الخصم .
و كيف يرق القلب مع هذه الأشياء ؟!
و قد كان جماعة من السلف يقصدون العبد الصالح للنظر إلى سمته و هديه . لا لاقتباس علمه .
و ذلك أن ثمرة علمه هديه و سمته ، فافهم هذا و أمزج طلب الفقه و الحديث بمطالعة سير السلف و الزهاد في الدنيا ، ليكون سبباً لرقة قلبك .
و قد جمعت لكل واحد من مشاهير الأخيار كتاباً فيه أخباره و آدابه . فجمعت كتاباً في أخبار الحسن ، و كتاباً في أخبار سفيان الثوري ، و إبراهيم بن أدهم ، و بشر الحافي ، و أحمد بن حنبل ، و معروف ، و غيرهم من العلماء و الزهاد ، و الله الموفق للمقصود . و لا يصلح العمل مع قلة العلم .
فهما في ضرب المثل كسائق و قائد ، و النفس بينهما حرون ، و مع جد السائق و القائد ينقطع المنزل ، و نعوذ بالله من الفتور .[264]
فصل [الحرص على الوقت]
أعوذ بالله من صحبة البطالين ، لقد رأيت خلقاً كثيراً يجرون معي فيما قد اعتاده الناس من كثرة الزيارة ، و يسمون ذلك الترددخدمة ، و يطلبون الجلوس و يجرون فيه أحاديث الناس و ما لا يعني ، و ما يتخلله غيبة .
و هذا شيء يفعله في زماننا كثير من الناس ، و ربما طلبه المزور و تشوق إليه ، و إستوحش من الوحدة ، و خصوصاً في أيام التهاني و الأعياد . فتراهم يمشي بعضهم إلى بعض ، و لا يقتصرون على الهناء و السلام ، بل يمزجون ذلك بما ذكرته من تضييع الزمان .
فلما رأيت أن الزمان أشرف شيء ، و الواجب إنتهاؤه بفعل الخير ، كرهت ذلك و بقيت معهم بين أمرين :
إن أنكرت عليهم و قعت وحشة لموضع قطع المألوف ، و إن تقبلته منهم ضاع الزمان.
فصرت أدافع اللقاء جهدي ، فإذا غلب قصرت في الكلام لأتعجل الفراق ، ثم أعددت أعمالاً تمنع من المحادثة لأوقات لقائهم لئلا يمضي الزمان فارغاً , فجعلت من الاستعداد للقائهم : قطع الكاغد و بري الأقلام ، و حزم الدفاتر ، فإن هذه الأشياء لا بد منها . و لا تحتاج إلى فكر و حضور قلب ، فأرصدتها لأوقات زيارتهم , لئلا يضيع شيء من و قتي .
نسأل الله عز وجل أن يعرفنا شرف أوقات العمر ، و ان يوفقنا لإغتنامه .
و لقد شاهدت خلقاً كثيراً لا يعرفون معنى الحياة ، فمنهم من أغناه الله عن التكسب بكثرة ماله ، فهو يقعد في السوق أكثر النهار ينظر إلى الناس ، و كم تمر به من آفة و منكر .
و منهم من يخلو بلعب الشطرنج ، و منهم من يقطع الزمان بكثرة الحوادث من السلاطين و الغلاء و الرخص ، إلى غير ذلك .
فعلمت أن الله تعالى لم يطلع على شرف العمر و معرفة قدر أوقات العافية إلا من و فقه و ألهمه اغتنام ذلك( و ما يلقاها إلا ذو حظ عظيم ).[277]
* فصل[ طلب العلم أفضل من النوافل]
سبحان من من على الخلق بالعلماء الفقهاء الذي فهموا مقصود الأمر و مراد الشارع ، فهم حفظة الشريعة ، فأحسن الله جزاءهم .
و إن الشيطان ليتجافاهم خوفاً منهم ، فأنهم يقدرون على آذاه و هو لا يقدر على أذاهم .
و لقد تلاعب بأهل الجهل و القليلي الفهم .
و كان من أعجب تلاعبه ، أن حسن لأقوام ترك العلم ، ثم لم يقنعوا بهذا حتى قدحوا في المتشاغلين به .
و هذا ـ لو فهموه ـ قدح في الشريعة ، فأن رسول الله صلى الله عليه و سلم يقول : "بلغوا عني".، و قد قال له ربه عز وجل : ( بلغ) .
فإذا لم يتشاغل بالعلم ، فكيف يبلغ الشريعة إلى الخلق ؟
و لقد نقل مثل هذا عن كبار الزهاد ، كبشر الحافي ، فإنه قال لعباس بن عبد العظيم : [ لا تجالس أصحاب الحديث ] .
و قال لإسحاق بن الضيف : [ إنك صاحب حديث ، فأحب ألا تعود إلي ] .
ثم اعتذر فقال : [ إنما الحديث فتنة ، إلا لمن أراد الله به ، و إذا لم يعمل به فتركه أفضل ] ، و هذا عجب منه .
من أين له أن طلابه لا يريدون الله به ، و أنهم لا يعملون به ؟
أو ليس العمل به على ضربين : عمل بما يجب ، و ذلك لا يسع أحداً تركه .
و الثاني : نافلة و لا يلزم .
و التشاغل بالحديث ، أفضل من التنفل بالصوم و الصلاة .
و ما أظنه أراد إلا طريقة في دوام الجوع و التهجد ، و ذلك شيء لا يلام تاركه .
فإن كان يريد ألا يوغل في علوم الحديث ، فهذا خطأ ، لأن جميع أقسامه محمودة .
أفترى لو ترك الناس طلب الحديث كان بشر يفتي ؟[302]
* فصل[التكرار لازم للحفظ]
ما رأيت أصعب على النفس من الحفظ للعلم و التكرار له .
و خصوصاً تكرار ما ليس لها في تكراره و حفظه حظ ، مثل مسائل الفقه ، بخلاف الشعر و السجع ، فإن لها لذة في إعادته و إن كان يصعب, لأنها تلتذ به مرة و مرتين .
فإذا زاد التكرار صعب عليها ، و لكن دون صعوبة الفقه و غيره من المستحسنات عند الطبع ، فتراها تخلد إلى الحديث و الشعر و التصانيف و النسخ لأنه يمر بها كل لحظة ما لم تره ، فهو في المعنى كالماء الجاري ، لأنه جزء بعد جزء .
وكذا من ينسخ ما يحب أن يسمعه أو يصنف ، فإنه يلتذ بالجدة و يستريح من تعب الإعادة .
إلا أنه ينبغي للعاقل أن يكون جل زمانه للإعادة ، خصوصاً الصبي و الشاب ، فإنه يستقر المحفوظ عندهما استقرارا لا يزول .
و يجعل أوقات التعب من الإعادة للنسخ ، و يحذر من تفلتها إلى النسخ عند الإعادة فيقهرها ، فإنه يحمد ذلك حمد السرى وقت الصباح . و سيندم من لم يحفظ ندم الكسعي وقت الحاجة إلى النظر و الفتوى .
و في الحظ نكتة ينبغي أن تلحظ ، و هو: أن الفقيه يحفظ الدرس و يعيده ثم يتركه فينساه فيحتاج إلى زمان آخر لحفظه ، فينبغي أن يحكم الحفظ و يكثر التكرار ليثبت قاعدة الحفظ .[309]
* فصل[خلوة حلوة]
ما أعرف نفعاً كالعزلة عن الخلق خصوصاً للعالم و الزاهد فإنك لا تكاد ترى إلا شامتاً بنكبة أو حسوداً على نعمة ، و من يأخذ عليك غلطاتك .
فيا للعزلة ما ألذها ، سلمت من كدر غيبة ، و آفات تصنع ، و أحوال المداجاة و تضييع الوقت .
ثم خلا فيها القلب بالفكر ،بعدما كان مشغولا عنه بالمخالطة, فدبر أمر دنياه و آخرته .
فمثله كمثل الحمية يخلو فيها المعي بالأخلاط فيذيبها .
و ما رأيت مثل ما يصنع المخالط ، لأنه يرى حالته الحاضرة من لقاء الناس و كلامهم فيشتغل بها عما بين يديه . فمثله كمثل رجل يريد سفراً قد أزف ، فجالس أقواماً فشغلوه بالحديث حتى ضرب البوق و ما تزود . فلو لم يكن في العزلة إلا التفكير في زاد الرحيل و السلامة من شر المخالطة كفى .
ثم لا عزلة على الحقيقة إلا للعالم و الزاهد ، فإنهما يعلمان مقصود العزلة و إن كانا لا في عزلة .
أما العالم فعلمه مؤنسه ، و كتبه محدثه ، و النظر في سير السلف مقومه ، و التفكير في حوادث الزمان السابق فرجته .
فإن ترقى بعلمه إلى مقام المعرفة الكاملة للخالق سبحانه ، و تشبث بأذيال محبته ، تضاعفت لذاته ، و اشتغل بها عن الأكوان و ما فيها .
فخلا بحبيبه ، و عمل معه بمقتضى علمه .
و كذلك الزاهد ، تعبده أنيسه ، و معبوده جليسه ، فإن كشف لبصره عن المعمول معه غاب عن الخلق ، و غابوا عنه .
إنما اعتزلا ما يؤذي . فهما في الوحدة بين جماعة . فهذان رجلان قد سلما من شر الخلق ، و سلم الخلق من شرورهما .
بل هما قدوة للمتعبدين ، و علم للسالكين . ينتفع بكلامهما السامع ، و تجري موعظتهما المدافع ، و تنتشر هيبتها في المجامع .
فمن أراد أن يتشبه بأحدهما فليصابر الخلوة و إن كرهها ، ليثمر له العسل . و أعوذ با الله من عالم مخالط للعالم ، خصوصاً لأرباب المال و السلاطين ، يجتلب و يجتلب و يختلب ، فما يحصل له شيء من الدنيا إلا و قد ذهب من دينه أمثاله .
ثم أين الأنفة من الذل للفساق ؟
فالذي لا يبالي بذلك هو الذي لا يذوق طعم العلم و لا يدري ما المراد به ، و كأنه به و قد وقع في بادية حرص و قفر مهلك في تلك البراري .
و كذلك المتزهد إذا خالط و خلط ، فإنه يخرج إلى الرياء و التصنع و النفاق فيفوته الحظان ، لا الدنيا و نعيمها تحصل له و لا الآخرة .
فنسأل الله عز وجل خلوة حلوة ، و عزلة عن البشر لذيذة يستصلحنا فيها لمناجاته ، و يلهم كلا منا طلب نجاته . إنه قريب مجيب .[311]
* فصل [لا تقصر همتك في فن واحد]
قد ثبت بالدليل شرف العلم و فضله ، إلا أن طلاب العلم افترقوا ، فكل تدعوه نفسه إلى شيء .
فمنهم من أذهب عمره في القراءات ، و ذلك تفريط في العمر ، لأنه إنما ينبغي أن يعتمد على المشهور منها لا على الشاذ .
ما أقبح القارىء يسأل عن مسألة في الفقه و هو لا يدري . و ليس ما شغله عن ذلك إلا كثرة الطرق في روايات القراءات .
و منهم من يتشاغل بالنحو و علله فحسب ، و منهم من يتشاغل باللغة فحسب . و منهم من يكتب الحديث ، و يكثر و لا ينظر في فهم ما كتب .
و قد رأينا في مشايخنا المحدثين من كان يسأل عن مسألة في الصلاة فلا يدري ما يقول .
و كذلك القراء ، و كذلك أهل اللغة و النحو .و حدثني عبد الرحمن بن عيسى الفقيه ، قال : حدثني ابن المنصوري ، قال : حضرنا مع أبي محمد بن الخشاب ، و كان إمام الناس في النحو و اللغة ، فتذاكروا الفقه فقال : [ سلوني عما شئتم ] ، فقال له رجل : إن قيل لنا رفع اليدين في الصلاة ما هو فماذا نقول ؟ فقال : [ هو ركن ] ! فدهشت الجماعة من قلة فقهه .
و إنما ينبغي للعاقل أن يأخذ من كل علم طرفاً ثم يهتم بالفقه .
ثم ينظر في مقصود العلوم ، و هو المعاملة لله سبحانه ، و المعرفة به ، و الحب له .
و ما أبله من يقطع عمره في معرفة علم النجوم ، و إنما ينبغي أن يعرف من ذلك اليسير و المنازل لعلم الأوقات ، فأما النظر فيما يدعى أنه القضاء و الحكم فجهل محض لأنه لا سبيل إلى علم ذلك حقيقة و قد جرب فبان جهل مدعيه .
و قد تقع الإصابة في وقت . و على تقدير الإصابة لا فائدة فيه إلا تعجيل الغم .
فإن قال قائل : يمكن دفع ذلك فقد سلم أنه لا حقيقة له .
و أبله من هؤلاء من يتشاغل بعلم الكيميا فإنه هذيان فارغ . و إذا كان لا يتصور قلب الذهب نحاساً لم يتصور قلب النحاس ذهباً .
فإنما فاعل هذا مستحل للتدليس على الناس في النقود . هذا إذا صح له مراده .
و ينبغي لطالب العلم أن يصحح قصده ، إذ فقدان الإخلاص يمنع قبول الأعمال .
و ليجتهد في مجالسة العلماء ، و النظر في الأقوال المختلفة ، و تحصيل الكتب ، فلا يخلو كتاب من فائدة .و ليجعل همته للحفظ ، و لا ينظر و لا يكتب إلا وقت التعب من الحفظ .
و لحيذر صحبة السلطان ، و لينظر في منهاج الرسول صلى الله عليه و سلم و الصحابة و التابعين ، و ليجتهد في رياضة نفسه و العمل بعلمه ، و من تولاه الحق وفقه [359]
فصل[ماذا يجب أن يدرسه طالب العلم؟]
هذا فصل غزير الفائدة .
اعلم أنه لو اتسع العمر لم أمنع من الإيغال في كل علم إلى منتهاه ، غير أن العمر قصير و العلم كثير .
فينبغي للإنسان أن يقتصر من القراءات إذا حفظ القرآن على العشر .
و من الحديث على الصحاح ، و السنن و المسانيد المصنفة . فإن علوم الحديث قد انبسطت زائدة في الحد و ما في هذا الجزاء و إنما الطرق تختلف .
و علم الحديث يتعلق بعضه ببعض، و هو مشتهى ، و الفقهاء يسمونه علم الكسالى [ وما أسوأ ما قالوا]، لأنهم يتشاغلون بكتابته و سماعه، و لا يكادون يعانون حفظه ، و يفوتهم المهم و هو الفقه .
و قد كان المحدثون قديماً هم الفقهاء ، ثم صار الفقهاء لا يعرفون الحديث ، و المحدثون لا يعرفون الفقه .
فمن كان ذا همة و نصح نفسه تشاغل بالمهم من كل علم ، و جعل جل شغله الفقه ، فهو أعظم العلوم و أهمها .
و قد قال أبو زرعة : كتب إلي أبو ثور : فإن هذا الحديث قد رواه ثمانية و تسعون رجلاً عن رسول الله صلى الله عليه و سلم ، و الذي صح منه طرق يسيرة .
فالتشاغل بغير ما صح يمنع التشاغل بما هو أهم .
و لو إتسع العمركان إستيفاء كل الطرق في كل الأحاديث غاية في الجودة ، و لكن العمر قصير .
و لما تشاغل بالطرق مثل يحي بن معين فاته من الفقه كثير ، حتى أنه سئل عن الحائض أيجوز أن تغسل الموتى! فلم يعلم ، حتى جاء أبو ثور فقال : يجوز ، لأن عائشة رضي الله عنها قالت : [ كنت أرجل رأس رسول الله صلى الله عليه و سلم و أنا حائض ] .
فيحي أعلم بالحديث منه ، و لكن لم يتشاغل بفهمه .
فأنا أنهي أهل الحديث أن تشغلهم كثرة الطرق .
و من أقبح الأشياء أن تجري حادثة يسأل عنها شيخ قد كتب الحديث ستين سنة فلا يعرف حكم الله عز وجل فيها .
و كذلك أنهي من يتشاغل بالتزهد و الإنقطاع عن الناس أن يعرض عن العلم ، بل ينبغي أن يجعل لنفسه منه حظاً ليعلم إن زل كيف يتخلص [481]
* فصل [ علو همة ابن الجوزي والسلف]
كانت همم القدماء من العلماء عالية ، تدل عليها تصانيفهم التي هي زبدة أعمارهم .
إلا أن أكثر تصانيفهم دثرت ، لأن همم الطلاب ضعفت ، فصاروا يطلبون المختصرات و لا ينشطون للمطولات .
ثم اقتصروا على ما يدرسون به من بعضها ، فدثرت الكتب و لم تنسخ .
فسبيل طالب الكمال في طلب العلم الاطلاع على الكتب التي قد تخلفت من المصنفات ، فليكثر من المطالعة ، فإنه يرى من علوم القوم و علو هممهم ما يشحذ خاطره و يحرك عزيمته للجد ، و ما يخلو كتاب من فائدة .
و أعوذ بالله من سير هؤلاء الذين نعاشرهم ، لا نرى فيهم ذا همة عالية فيقتدي بها المبتدي ، و لا صاحب ورع فيستفيد منه الزاهد .
فالله الله ,و عليكم بملاحظة سير السلف ، و مطالعة تصانيفهم ، و أخبارهم ، فالاستكثار من مطالعة كتبهم رؤية لهم ، كما قال :
فاتني أن أرى الديار بطرفي فلعلي أرى الديار بسمعي
و إني أخبر عن حالي ، ما أشبع من مطالعة الكتب ، و إذا رأيت كتاباً لم أره ، فكأني وقعت على كنز .
و لقد نظرت في ثبت الكتب الموقوفة في المدرسة النظامية ، فإذا به يحتوي على نحو ستة آلاف مجلد ، و في ثبت كتب أبي حنيفة ، و كتب الحميدي ، و كتب شيخنا عبد الوهاب و ابن ناصر و كتب أبي محمد بن الخشاب و كانت أحمالا ، و غير ذلك من كل كتاب أقدر عليه .
و لو قلت أني طالعت عشرين ألف مجلد كان أكثر و أنا بعد في الطلب .
فاستفدت بالنظر فيها من ملاحظة سير القوم ، و قدر هممهم ، و حفظهم ، و عباداتهم ، و غرائب علومهم ، ما لا يعرفه من لم يطالع .
فصرت أستزري ما الناس فيه و أحتقر همم الطلاب و الله الحمد .[492]
تمت بحمد الله
تأملت التحاسد بين العلماء ، فرأيت منشأه من حب الدنيا ، فإن علماء الآخرة يتوادون و لا يتحاسدون ، كما قال عز و جل : (و لا يجدون في صدورهم حاجة مما أوتو)ا .
و قال الله تعالى :( والذين جاؤوا من بعدهم يقولون ربنا اغفر لنا و لإخواننا الذين سبقونا بالإيمان و لا تجعل في قلوبنا غلاً للذين آمنوا) .
و قد كان أبو الدرداء : [ يدعو كل ليلة لجماعة من إخوانه ] .
و قال الإمام أحمد بن حنبل لولد الشافعي : [ أبوك من الستة الذين أدعو لهم كل ليلة وقت السحر ] .
و الأمر الفارق بين الفئتين : أن علماء الدنيا ينظرون إلى الرياسة فيها ، و يحبون كثرة الجمع و الثناء . و علماء الآخرة ، بمعزل من إيثار ذلك ، و قد كانوا يتخوفونه ، و يرحمون من بلي به .
و كان النخعي ، لا يستند إلى سارية .
و قال علقمة : أكره أن يوطأ عقبي . و يقال" علقمة" .
و كان بعضهم ، إذا جلس إليه أكثر من أربعة ، قام عنهم .
و كانوا يتدافعون الفتوى ، و يحبون الخمول ، ومثل القوم كمثل راكب البحر ، و قد خب ، فعنده شغل إلى أن يوقن بالنجاة .
و إنما كان بعضهم يدعوا لبعض ، و يستفيد منه لأنهم ركب تصاحبوا فتوادوا ، فالأيام و الليالي مراحلهم إلى سفر الجنة .[41]
* فصل : [ العلم بالعمل]
لقيت مشايخ ، أحوالهم مختلفة ، في مقاديرهم في العلم .
و كان أنفعهم لي في صحبته العامل منهم بعلمه ، و إن كان غيره أعلم منه .
و لقيت جماعة من علماء الحديث يحفظون و يعرفون و لكنهم كانوا يتسامحون بغيبة يخرجونها مخرج جرح و تعديل ، و يأخذون على قراءة الحديث أجرة ، و يسرعون بالجواب لئلا ينكسر الجاه و إن وقع خطأ .
و لقيت عبد الوهاب الأنماطي ، فكان على قانون السلف لم يسمع في مجلسه غيبة ،و لا كان يطلب أجراً على سماع الحديث ، و كنت إذا قرأت عليه أحاديث الرقاق بكى و اتصل بكاؤه .
فكان ـ و أنا صغير السن حينئذ ـ يعمل بكاؤه في قلبي ،و يبني قواعد .
و كان على سمت المشايخ الذين سمعنا أوصافهم في النقل .
و لقيت الشيخ أبا منصور الجواليقي ، فكان كثير الصمت ، شديد التحري فيما يقول ، متقناً محققاً .
و ربما سئل المسألة الظاهرة التي يبادر بجوابها بعض غلمانه ، فيتوقف فيها حتى يتيقن .
و كان كثير الصوم و الصمت . فانتفعت برؤية هذين الرجلين أكثر من انتفاعي بغيرهما .
ففهمت من هذه الحالة أن الدليل بالفعل أرشد من الدليل بالقول .
و رأيت مشايخ كانت لهم خلوات في انبساط و مزاح ، فراحوا عن القلوب و بدد تفريطهم ما جمعوا من العلم . فقل الانتفاع بهم في حياتهم ، و نسوا بعد مماتهم ، فلا يكاد أحد أن يلتفت إلى مصنفاتهم .
فالله الله في العلم بالعمل ، فإنه الأصل الأكبر .
و المسكين كل المسكين من ضاع عمره في علم لم يعمل به ، ففاته لذات الدنيا و خيرات الآخرة فقدم مفلساً على قوة الحجة عليه .[188]
* فصل[ من يرد الله به خيرا يفقهه في الدين]
أعظم دليل على فضيلة الشيء النظر إلى ثمرته . و من تأمل ثمرة الفقه علم أنه أفضل العلوم ، فإن أرباب المذاهب فاقوا بالفقه على الخلائق أبداً ، و إن كان في زمن أحدهم من هو أعلم منه بالقرآن أو بالحديث أو باللغة .
و اعتبر هذا بأهل زماننا ، فإنك ترى الشاب يعرف مسائل الخلاف الظاهرة فيستغني و يعرف حكم الله تعالى في الحوادث ما لا يعرفه النحرير من باقي العلماء .
كم رأينا مبرزاً في علم القرآن أو في الحديث أو في التفسير أو في اللغة لا يعرف مع الشيخوخة معظم أحكام الشرع .
و ربما جهل علم ما ينويه في صلاته ، على أنه ينبغي للفقيه ألا يكون أجنبياً عن باقي العلوم . فإنه لا يكون فقيهاً ، بل يأخذ من كل علم بحظ ثم يتوفر على الفقه فإنه عز الدنيا و الآخرة .[210]
* فصل [ الورع لطالب العلم إلى الممات]
رأيت نفراً ممن أفنى أوائل عمره و ريعان شبابه في طلب العلم يصبر على أنواع الأذى ، و هجر فنون الراحات ، أنفة من الجهل ، و رذيلته ، و طلباً للعلم و فضيلته ، فما نال منه طرفاً رفعه عن مراتب أرباب الدنيا .
و من لا علم له إلا بالعاجل ضاق به معاشه أو قل ما ينشده لنفسه من حظوظ ، فسافر في البلاد يطلب من الأرذال ، و يتواضع للسفلة و أهل الدناءة و المكاس و غيرهم .
فخاطبت بعضهم و قلت :ويحك أين تلك الأنفة من الجهل التي سهرت لأجلها ، و أظمأت نهارك بسببها ، فلما ارتفعت و انتفعت عدت إلى أسفل سافلين .
أفما بقي عندك ذرة من الأنفة تنبو بها عن مقامات الأرذال ؟
و لا معك يسير من العلم يسير بك عن مناخ الهوى ؟
و لا حصلت بالعلم قوة تجذب بها زمام النفس عن مراعي السوء ؟ على أنه يبين لي أن سهرك و تعبك كأنهما كانا لنيل الدنيا .
ثم إني أراك تزعم أنك تريد شيئاً من الدنيا تستعين به على طلب العلم ، فاعلم أن التفاتك إلى نوع كسب تستغني به عن الأرذال أفضل من التزيد في علمك .
فلو عرفت ما ينقص به دينك لم تر فيما قد عزمت عليه زيادة ، بل لعله كله مخاطرة بالنفس ، و بذل الوجه طالما صين لمن لا يصلح إلتفات مثلك إلى مثله .
و بعيد أن تقنع بعد شروعك في هذا الأمر بقدر الكفاف ، و قد علمت ما في السؤال بعد الكفاف من الإثم .
و أبعد منه أن تقدر على الورع في المأخوذ .
و من لك بالسلامة و الرجوع إلى الوطن ؟ و كم رمى قفر في بواديه من هالك !
ثم ما تحصله يفني و يبقى منه ما أعطى ، و عيب المتقين إياك ، و اقتداء الجاهلين بك .
و يكفيك أنك عدت على ما علمت من ذم الدنيا بشينه إذ فعلت ما يناقضه ، خصوصاً و قد مر أكثر العمر .
و من أحسن فيما مضى يحسن فيما بقي .[213]
فصل[في تعظيم حفظ العلم]
إعلم أن المعلم يفتقر إلى دوام الدراسة ، و من الغلط الإنهماك على الإعادة ليلاً و نهاراً ، فإنه لا يلبث صاحب هذه الحال إلا أياماً ثم يفتر أو يمرض .
و قد روينا أن الطبيب دخل على أبي بكر بن الأنباري في مرض موته ، فنظر إلى مائة كتاب و قال : [ قد كنت تفعل شيئاً لا يفعله أحد ] ، ثم خرج فقال : [ ما يجيء منه شيء ] ، فقيل له : [ ما الذي كنت تفعل ؟ ] قال : [ كنت أعيد كل أسبوع عشرة آلاف ورقة ] .
و من الغلط تحميل القلب حفظ الكثير أو الحفظ من فنون شتى ، فإن القلب جارحة من الجوارح ، و كما أن من الناس من يحمل المائة رطل ، و منهم من يعجز عن عشرين رطلاً ، فكذلك القلوب .
فليأخذ الإنسان على قدر قوته و دونها ، فإنه إذا استنفدها في وقت ضاعت منه أوقات .
كما أن الشره يأكل فضل لقيمات فيكون سبباً إلى منع أكلات .
و الصواب أن يأخذ قدر ما يطيق و يعيد في وقتين من النهار و الليل ، و يرزفه القوى في بقية الزمان ، و الدوام أصل عظيم .
فكم ممن ترك الاستذكار بعد الحفظ فضاع زمن طويل في استرجاع محفوظ قد نسي .
و للحفظ أوقات من العمر فأفضلها الصبا و ما يقاربه من أوقات الزمان ، و أفضلها إعادة الأسحار و أنصاف النهار ، و الغدوات خير من العشيات ، و أوقات الجوع خير من أوقات الشبع .
و لا يحمد الحفظ بحضرة خضرة و على شاطئ نهر ، لأن ذلك يلهي .
و الأماكن العالية للحفظ خير من السوافل .
و للخلوة أصل ، و جمع الهم أصل الأصول .
و ترفيه النفس من الإعادة يوماً في الأسبوع ليثبت المحفوظ و تأخذ النفس قوة كالبنيان يترك أياماً حتى يستقر ثم يبني عليه .
وتقليل المحفوظ مع الدوام أصل عظيم ، و ألا يشرع في فن حتى يحكم ما قبله .
و من لم يجد نشاطاً للحفظ فليتركه ، فإن مكابرة النفس لا تصلح .
و إصلاح المزاج من الأصول العظيمة ، فإن للمأكولات أثراً في الحفظ .
قال الزهري : [ ما أكلت خلاً منذ عالجت الحفظ ] .
و قيل لأبي حنيفة : بم يستعان على حفظ الفقه ؟ قال : بجمع الهم .
و قال حماد بن سلمة : [ بقلة الغم ] .
و قال مكحول : من نظف ثوبه قل همه ، و من طابت ريحه زاد عقله ، و من جمع بينهما زادت مروءته .
و أختار للمبتدي في طلب العلم أن يدافع النكاح مهما أمكن فإن أحمد بن حنبل لم يتزوج حتى تمت له أربعين سنة ، و هذا لأجل جمع الهم .
فإن غلب عليه الأمر تزوج و اجتهد في المدافعة بالفعل لتتوفر القوة على إعادة العلم .
ثم لينظر ما يحفظ من العلم ، فإن العمر عزيز ، و العلم غزير .
و إن أقواماً يصرفون الزمان إلى حفظ ما غيره أولى منه ، و إن كان كل العلوم حسناً ، و لكن الأولى تقديم الأهم و الأفضل .
و أفضل ما تشاغل به حفظ القرآن ثم الفقه ، و ما بعد هذا بمنزلة تابع ، و من رزق يقظة دلته يقظته فلم يحتج إلى دليل ، و من قصد وجه الله تعالى بالعلم دله المقصود على الأحسن( و اتقوا الله و يعلمكم الله) .[225]
فصل [محنة أصحاب الهمم العلية]
البلايا على مقادير الرجال . فكثير من الناس تراهم ساكنين راضين بما عندهم من دين و دنيا .
و أولئك قوم لم يرادوا لمقامات الصبر الرفيعة ، أو علم ضعفهم عن مقاومة البلاء فلطف بهم .
إنما المحنة العظمى أن ترزق همة عالية لا تقنع منك إلا بتحقيق الورع و تجويد الدين ، و كمال العلم ، ثم تبتلى بنفس تميل إلى المباحات ، و تدعي أنها تجمع بذلك همها ، و تشفي مرضها ، لتقبل مزاحه العلة على تحصيل الفضائل .
و هاتان الحالتان كضدين ، لأن الدنيا و الآخرة ضرتان .
و اللازم في هذا المقام مراعات الواجبات ، و ألا يفسح للنفس في مباح لا يؤمن أن يتعدى منه إعراض عن واجب ودع .
المبتلى يصيح ، فلأن يبكي الطفل خير من أن يبكي الوالد .
و اعلم أن فتح باب المباحات ربما جر أذى كثير في الدين فأوثق السكر قبل فتح الماء ، و البس الدرع قبل لقاء الحرب ، و تلمح عواقب ما تجني قبل تحريك اليد و استظهر في الحذر باجتناب ما يخاف منه و إن لم يتيقن .[253]
* فصل[يا طالب العلم تعهد قلبك]
رأيت الاشتغال بالفقه و سماع الحديث لا يكاد يكفي في صلاح القلب ، إلا أن يمزج بالرفائق و النظر في سير السلف الصالحين.
فأما مجرد العلم بالحلال, فليس له كبير عمل في رقة القلب, وإنما ترق القلوب بذكر رقائق الأحاديث وأخبار السلف الصالحين, لأنهم تناولوا مقصود النقل . و خرجوا عن صور الأفعال المأمور بها إلى ذوق معانيها و المراد بها .
و ما أخبرتك بهذا إلا بعد معالجة و ذوق لأني وجدت المحدثين و طلاب الحديث همة أحدهم في الحديث العالي و تكثير الأجزاء .
و جمهور الفقهاء في علوم الجدل و ما يغالب به الخصم .
و كيف يرق القلب مع هذه الأشياء ؟!
و قد كان جماعة من السلف يقصدون العبد الصالح للنظر إلى سمته و هديه . لا لاقتباس علمه .
و ذلك أن ثمرة علمه هديه و سمته ، فافهم هذا و أمزج طلب الفقه و الحديث بمطالعة سير السلف و الزهاد في الدنيا ، ليكون سبباً لرقة قلبك .
و قد جمعت لكل واحد من مشاهير الأخيار كتاباً فيه أخباره و آدابه . فجمعت كتاباً في أخبار الحسن ، و كتاباً في أخبار سفيان الثوري ، و إبراهيم بن أدهم ، و بشر الحافي ، و أحمد بن حنبل ، و معروف ، و غيرهم من العلماء و الزهاد ، و الله الموفق للمقصود . و لا يصلح العمل مع قلة العلم .
فهما في ضرب المثل كسائق و قائد ، و النفس بينهما حرون ، و مع جد السائق و القائد ينقطع المنزل ، و نعوذ بالله من الفتور .[264]
فصل [الحرص على الوقت]
أعوذ بالله من صحبة البطالين ، لقد رأيت خلقاً كثيراً يجرون معي فيما قد اعتاده الناس من كثرة الزيارة ، و يسمون ذلك الترددخدمة ، و يطلبون الجلوس و يجرون فيه أحاديث الناس و ما لا يعني ، و ما يتخلله غيبة .
و هذا شيء يفعله في زماننا كثير من الناس ، و ربما طلبه المزور و تشوق إليه ، و إستوحش من الوحدة ، و خصوصاً في أيام التهاني و الأعياد . فتراهم يمشي بعضهم إلى بعض ، و لا يقتصرون على الهناء و السلام ، بل يمزجون ذلك بما ذكرته من تضييع الزمان .
فلما رأيت أن الزمان أشرف شيء ، و الواجب إنتهاؤه بفعل الخير ، كرهت ذلك و بقيت معهم بين أمرين :
إن أنكرت عليهم و قعت وحشة لموضع قطع المألوف ، و إن تقبلته منهم ضاع الزمان.
فصرت أدافع اللقاء جهدي ، فإذا غلب قصرت في الكلام لأتعجل الفراق ، ثم أعددت أعمالاً تمنع من المحادثة لأوقات لقائهم لئلا يمضي الزمان فارغاً , فجعلت من الاستعداد للقائهم : قطع الكاغد و بري الأقلام ، و حزم الدفاتر ، فإن هذه الأشياء لا بد منها . و لا تحتاج إلى فكر و حضور قلب ، فأرصدتها لأوقات زيارتهم , لئلا يضيع شيء من و قتي .
نسأل الله عز وجل أن يعرفنا شرف أوقات العمر ، و ان يوفقنا لإغتنامه .
و لقد شاهدت خلقاً كثيراً لا يعرفون معنى الحياة ، فمنهم من أغناه الله عن التكسب بكثرة ماله ، فهو يقعد في السوق أكثر النهار ينظر إلى الناس ، و كم تمر به من آفة و منكر .
و منهم من يخلو بلعب الشطرنج ، و منهم من يقطع الزمان بكثرة الحوادث من السلاطين و الغلاء و الرخص ، إلى غير ذلك .
فعلمت أن الله تعالى لم يطلع على شرف العمر و معرفة قدر أوقات العافية إلا من و فقه و ألهمه اغتنام ذلك( و ما يلقاها إلا ذو حظ عظيم ).[277]
* فصل[ طلب العلم أفضل من النوافل]
سبحان من من على الخلق بالعلماء الفقهاء الذي فهموا مقصود الأمر و مراد الشارع ، فهم حفظة الشريعة ، فأحسن الله جزاءهم .
و إن الشيطان ليتجافاهم خوفاً منهم ، فأنهم يقدرون على آذاه و هو لا يقدر على أذاهم .
و لقد تلاعب بأهل الجهل و القليلي الفهم .
و كان من أعجب تلاعبه ، أن حسن لأقوام ترك العلم ، ثم لم يقنعوا بهذا حتى قدحوا في المتشاغلين به .
و هذا ـ لو فهموه ـ قدح في الشريعة ، فأن رسول الله صلى الله عليه و سلم يقول : "بلغوا عني".، و قد قال له ربه عز وجل : ( بلغ) .
فإذا لم يتشاغل بالعلم ، فكيف يبلغ الشريعة إلى الخلق ؟
و لقد نقل مثل هذا عن كبار الزهاد ، كبشر الحافي ، فإنه قال لعباس بن عبد العظيم : [ لا تجالس أصحاب الحديث ] .
و قال لإسحاق بن الضيف : [ إنك صاحب حديث ، فأحب ألا تعود إلي ] .
ثم اعتذر فقال : [ إنما الحديث فتنة ، إلا لمن أراد الله به ، و إذا لم يعمل به فتركه أفضل ] ، و هذا عجب منه .
من أين له أن طلابه لا يريدون الله به ، و أنهم لا يعملون به ؟
أو ليس العمل به على ضربين : عمل بما يجب ، و ذلك لا يسع أحداً تركه .
و الثاني : نافلة و لا يلزم .
و التشاغل بالحديث ، أفضل من التنفل بالصوم و الصلاة .
و ما أظنه أراد إلا طريقة في دوام الجوع و التهجد ، و ذلك شيء لا يلام تاركه .
فإن كان يريد ألا يوغل في علوم الحديث ، فهذا خطأ ، لأن جميع أقسامه محمودة .
أفترى لو ترك الناس طلب الحديث كان بشر يفتي ؟[302]
* فصل[التكرار لازم للحفظ]
ما رأيت أصعب على النفس من الحفظ للعلم و التكرار له .
و خصوصاً تكرار ما ليس لها في تكراره و حفظه حظ ، مثل مسائل الفقه ، بخلاف الشعر و السجع ، فإن لها لذة في إعادته و إن كان يصعب, لأنها تلتذ به مرة و مرتين .
فإذا زاد التكرار صعب عليها ، و لكن دون صعوبة الفقه و غيره من المستحسنات عند الطبع ، فتراها تخلد إلى الحديث و الشعر و التصانيف و النسخ لأنه يمر بها كل لحظة ما لم تره ، فهو في المعنى كالماء الجاري ، لأنه جزء بعد جزء .
وكذا من ينسخ ما يحب أن يسمعه أو يصنف ، فإنه يلتذ بالجدة و يستريح من تعب الإعادة .
إلا أنه ينبغي للعاقل أن يكون جل زمانه للإعادة ، خصوصاً الصبي و الشاب ، فإنه يستقر المحفوظ عندهما استقرارا لا يزول .
و يجعل أوقات التعب من الإعادة للنسخ ، و يحذر من تفلتها إلى النسخ عند الإعادة فيقهرها ، فإنه يحمد ذلك حمد السرى وقت الصباح . و سيندم من لم يحفظ ندم الكسعي وقت الحاجة إلى النظر و الفتوى .
و في الحظ نكتة ينبغي أن تلحظ ، و هو: أن الفقيه يحفظ الدرس و يعيده ثم يتركه فينساه فيحتاج إلى زمان آخر لحفظه ، فينبغي أن يحكم الحفظ و يكثر التكرار ليثبت قاعدة الحفظ .[309]
* فصل[خلوة حلوة]
ما أعرف نفعاً كالعزلة عن الخلق خصوصاً للعالم و الزاهد فإنك لا تكاد ترى إلا شامتاً بنكبة أو حسوداً على نعمة ، و من يأخذ عليك غلطاتك .
فيا للعزلة ما ألذها ، سلمت من كدر غيبة ، و آفات تصنع ، و أحوال المداجاة و تضييع الوقت .
ثم خلا فيها القلب بالفكر ،بعدما كان مشغولا عنه بالمخالطة, فدبر أمر دنياه و آخرته .
فمثله كمثل الحمية يخلو فيها المعي بالأخلاط فيذيبها .
و ما رأيت مثل ما يصنع المخالط ، لأنه يرى حالته الحاضرة من لقاء الناس و كلامهم فيشتغل بها عما بين يديه . فمثله كمثل رجل يريد سفراً قد أزف ، فجالس أقواماً فشغلوه بالحديث حتى ضرب البوق و ما تزود . فلو لم يكن في العزلة إلا التفكير في زاد الرحيل و السلامة من شر المخالطة كفى .
ثم لا عزلة على الحقيقة إلا للعالم و الزاهد ، فإنهما يعلمان مقصود العزلة و إن كانا لا في عزلة .
أما العالم فعلمه مؤنسه ، و كتبه محدثه ، و النظر في سير السلف مقومه ، و التفكير في حوادث الزمان السابق فرجته .
فإن ترقى بعلمه إلى مقام المعرفة الكاملة للخالق سبحانه ، و تشبث بأذيال محبته ، تضاعفت لذاته ، و اشتغل بها عن الأكوان و ما فيها .
فخلا بحبيبه ، و عمل معه بمقتضى علمه .
و كذلك الزاهد ، تعبده أنيسه ، و معبوده جليسه ، فإن كشف لبصره عن المعمول معه غاب عن الخلق ، و غابوا عنه .
إنما اعتزلا ما يؤذي . فهما في الوحدة بين جماعة . فهذان رجلان قد سلما من شر الخلق ، و سلم الخلق من شرورهما .
بل هما قدوة للمتعبدين ، و علم للسالكين . ينتفع بكلامهما السامع ، و تجري موعظتهما المدافع ، و تنتشر هيبتها في المجامع .
فمن أراد أن يتشبه بأحدهما فليصابر الخلوة و إن كرهها ، ليثمر له العسل . و أعوذ با الله من عالم مخالط للعالم ، خصوصاً لأرباب المال و السلاطين ، يجتلب و يجتلب و يختلب ، فما يحصل له شيء من الدنيا إلا و قد ذهب من دينه أمثاله .
ثم أين الأنفة من الذل للفساق ؟
فالذي لا يبالي بذلك هو الذي لا يذوق طعم العلم و لا يدري ما المراد به ، و كأنه به و قد وقع في بادية حرص و قفر مهلك في تلك البراري .
و كذلك المتزهد إذا خالط و خلط ، فإنه يخرج إلى الرياء و التصنع و النفاق فيفوته الحظان ، لا الدنيا و نعيمها تحصل له و لا الآخرة .
فنسأل الله عز وجل خلوة حلوة ، و عزلة عن البشر لذيذة يستصلحنا فيها لمناجاته ، و يلهم كلا منا طلب نجاته . إنه قريب مجيب .[311]
* فصل [لا تقصر همتك في فن واحد]
قد ثبت بالدليل شرف العلم و فضله ، إلا أن طلاب العلم افترقوا ، فكل تدعوه نفسه إلى شيء .
فمنهم من أذهب عمره في القراءات ، و ذلك تفريط في العمر ، لأنه إنما ينبغي أن يعتمد على المشهور منها لا على الشاذ .
ما أقبح القارىء يسأل عن مسألة في الفقه و هو لا يدري . و ليس ما شغله عن ذلك إلا كثرة الطرق في روايات القراءات .
و منهم من يتشاغل بالنحو و علله فحسب ، و منهم من يتشاغل باللغة فحسب . و منهم من يكتب الحديث ، و يكثر و لا ينظر في فهم ما كتب .
و قد رأينا في مشايخنا المحدثين من كان يسأل عن مسألة في الصلاة فلا يدري ما يقول .
و كذلك القراء ، و كذلك أهل اللغة و النحو .و حدثني عبد الرحمن بن عيسى الفقيه ، قال : حدثني ابن المنصوري ، قال : حضرنا مع أبي محمد بن الخشاب ، و كان إمام الناس في النحو و اللغة ، فتذاكروا الفقه فقال : [ سلوني عما شئتم ] ، فقال له رجل : إن قيل لنا رفع اليدين في الصلاة ما هو فماذا نقول ؟ فقال : [ هو ركن ] ! فدهشت الجماعة من قلة فقهه .
و إنما ينبغي للعاقل أن يأخذ من كل علم طرفاً ثم يهتم بالفقه .
ثم ينظر في مقصود العلوم ، و هو المعاملة لله سبحانه ، و المعرفة به ، و الحب له .
و ما أبله من يقطع عمره في معرفة علم النجوم ، و إنما ينبغي أن يعرف من ذلك اليسير و المنازل لعلم الأوقات ، فأما النظر فيما يدعى أنه القضاء و الحكم فجهل محض لأنه لا سبيل إلى علم ذلك حقيقة و قد جرب فبان جهل مدعيه .
و قد تقع الإصابة في وقت . و على تقدير الإصابة لا فائدة فيه إلا تعجيل الغم .
فإن قال قائل : يمكن دفع ذلك فقد سلم أنه لا حقيقة له .
و أبله من هؤلاء من يتشاغل بعلم الكيميا فإنه هذيان فارغ . و إذا كان لا يتصور قلب الذهب نحاساً لم يتصور قلب النحاس ذهباً .
فإنما فاعل هذا مستحل للتدليس على الناس في النقود . هذا إذا صح له مراده .
و ينبغي لطالب العلم أن يصحح قصده ، إذ فقدان الإخلاص يمنع قبول الأعمال .
و ليجتهد في مجالسة العلماء ، و النظر في الأقوال المختلفة ، و تحصيل الكتب ، فلا يخلو كتاب من فائدة .و ليجعل همته للحفظ ، و لا ينظر و لا يكتب إلا وقت التعب من الحفظ .
و لحيذر صحبة السلطان ، و لينظر في منهاج الرسول صلى الله عليه و سلم و الصحابة و التابعين ، و ليجتهد في رياضة نفسه و العمل بعلمه ، و من تولاه الحق وفقه [359]
فصل[ماذا يجب أن يدرسه طالب العلم؟]
هذا فصل غزير الفائدة .
اعلم أنه لو اتسع العمر لم أمنع من الإيغال في كل علم إلى منتهاه ، غير أن العمر قصير و العلم كثير .
فينبغي للإنسان أن يقتصر من القراءات إذا حفظ القرآن على العشر .
و من الحديث على الصحاح ، و السنن و المسانيد المصنفة . فإن علوم الحديث قد انبسطت زائدة في الحد و ما في هذا الجزاء و إنما الطرق تختلف .
و علم الحديث يتعلق بعضه ببعض، و هو مشتهى ، و الفقهاء يسمونه علم الكسالى [ وما أسوأ ما قالوا]، لأنهم يتشاغلون بكتابته و سماعه، و لا يكادون يعانون حفظه ، و يفوتهم المهم و هو الفقه .
و قد كان المحدثون قديماً هم الفقهاء ، ثم صار الفقهاء لا يعرفون الحديث ، و المحدثون لا يعرفون الفقه .
فمن كان ذا همة و نصح نفسه تشاغل بالمهم من كل علم ، و جعل جل شغله الفقه ، فهو أعظم العلوم و أهمها .
و قد قال أبو زرعة : كتب إلي أبو ثور : فإن هذا الحديث قد رواه ثمانية و تسعون رجلاً عن رسول الله صلى الله عليه و سلم ، و الذي صح منه طرق يسيرة .
فالتشاغل بغير ما صح يمنع التشاغل بما هو أهم .
و لو إتسع العمركان إستيفاء كل الطرق في كل الأحاديث غاية في الجودة ، و لكن العمر قصير .
و لما تشاغل بالطرق مثل يحي بن معين فاته من الفقه كثير ، حتى أنه سئل عن الحائض أيجوز أن تغسل الموتى! فلم يعلم ، حتى جاء أبو ثور فقال : يجوز ، لأن عائشة رضي الله عنها قالت : [ كنت أرجل رأس رسول الله صلى الله عليه و سلم و أنا حائض ] .
فيحي أعلم بالحديث منه ، و لكن لم يتشاغل بفهمه .
فأنا أنهي أهل الحديث أن تشغلهم كثرة الطرق .
و من أقبح الأشياء أن تجري حادثة يسأل عنها شيخ قد كتب الحديث ستين سنة فلا يعرف حكم الله عز وجل فيها .
و كذلك أنهي من يتشاغل بالتزهد و الإنقطاع عن الناس أن يعرض عن العلم ، بل ينبغي أن يجعل لنفسه منه حظاً ليعلم إن زل كيف يتخلص [481]
* فصل [ علو همة ابن الجوزي والسلف]
كانت همم القدماء من العلماء عالية ، تدل عليها تصانيفهم التي هي زبدة أعمارهم .
إلا أن أكثر تصانيفهم دثرت ، لأن همم الطلاب ضعفت ، فصاروا يطلبون المختصرات و لا ينشطون للمطولات .
ثم اقتصروا على ما يدرسون به من بعضها ، فدثرت الكتب و لم تنسخ .
فسبيل طالب الكمال في طلب العلم الاطلاع على الكتب التي قد تخلفت من المصنفات ، فليكثر من المطالعة ، فإنه يرى من علوم القوم و علو هممهم ما يشحذ خاطره و يحرك عزيمته للجد ، و ما يخلو كتاب من فائدة .
و أعوذ بالله من سير هؤلاء الذين نعاشرهم ، لا نرى فيهم ذا همة عالية فيقتدي بها المبتدي ، و لا صاحب ورع فيستفيد منه الزاهد .
فالله الله ,و عليكم بملاحظة سير السلف ، و مطالعة تصانيفهم ، و أخبارهم ، فالاستكثار من مطالعة كتبهم رؤية لهم ، كما قال :
فاتني أن أرى الديار بطرفي فلعلي أرى الديار بسمعي
و إني أخبر عن حالي ، ما أشبع من مطالعة الكتب ، و إذا رأيت كتاباً لم أره ، فكأني وقعت على كنز .
و لقد نظرت في ثبت الكتب الموقوفة في المدرسة النظامية ، فإذا به يحتوي على نحو ستة آلاف مجلد ، و في ثبت كتب أبي حنيفة ، و كتب الحميدي ، و كتب شيخنا عبد الوهاب و ابن ناصر و كتب أبي محمد بن الخشاب و كانت أحمالا ، و غير ذلك من كل كتاب أقدر عليه .
و لو قلت أني طالعت عشرين ألف مجلد كان أكثر و أنا بعد في الطلب .
فاستفدت بالنظر فيها من ملاحظة سير القوم ، و قدر هممهم ، و حفظهم ، و عباداتهم ، و غرائب علومهم ، ما لا يعرفه من لم يطالع .
فصرت أستزري ما الناس فيه و أحتقر همم الطلاب و الله الحمد .[492]
تمت بحمد الله