من فقه الابتلاء
تحرير الشيخ سليم بن عيد الهلالي السلفي
ولقد ثبت الإسلام في وجه كل المحاولات التي تبغي اجتثاثه، ولم يول دبره إلا متحرفا لقتال أو متحيزا إلى فئة؛ لأن عناصر القوة كامنة في طبيعته:
كامنة في يسره، وضوحه، وشموله، وكماله، وموافقته للفطرة البشرية، وتلبيته لحاجاتها الحقيقية٫
كامنة في استعلائه عن عبودية العباد بالعبودية لرب العباد ... وفي رفض التلقي إلا من اللطيف الخبير، ورفض الخضوع إلا للسميع البصير.
كامنة في استعلاء أهله بالإيمان على الملابسات الطارئة؛ كالوقوع تحت تسلط الجبارين ... فهذا السلطان يبقى خارج نقاط القلب والروح مهما اشتدت وطأته ... ومن ثم لا تقع الهزيمة الإيمانية طالما عمّر الإسلام القلب والروح، وإن وقعت الهزيمة الظاهرية في بعض الأحايين٫
ورحم الله إمام العلماء الربانيين، وعميد السلفيين شيخ الإسلام ابن تيمية- قدس الله روحه- ، الذي قرر هذه الحقيقة الدقيقة -عندما تكالب عليه الخصوم من كل حدب وصوب -بقوله: (ماذا يفعل أعدائي بي؟! إن قتلي شهادة، ونفيي سياحة، وسجني خلوة، جنتي وبستاني في صدري)٫
ولجملة ما سبق؛ فنحن نعتقد يقينا جازما حاسما أن المستقبل للإسلام، وقد مضى ذلك بشرى في كلام رب العالمين، وتأكد بالتواتر المعنوي في سنة سيد المرسلين كما سيأتي تأصيله وتفصيله وتحليله بعد حين٫
هذا الإعتقاد -بأن المستقبل للإسلام وحده هو الذي صنع الجيل القدوة الأول محمدا صلى الله عليه وسلم والذين معه -، وتدبر هذا النص القرآني: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جَاءتْكُمْ جُنُودٌ فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحاً وَجُنُوداً لَّمْ تَرَوْهَا وَكَانَ اللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيراً (9) إِذْ جَاؤُوكُم مِّن فَوْقِكُمْ وَمِنْ أَسْفَلَ مِنكُمْ وَإِذْ زَاغَتْ الْأَبْصَارُ وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَنَاجِرَ وَتَظُنُّونَ بِاللَّهِ الظُّنُونَا (10) هُنَالِكَ ابْتُلِيَ الْمُؤْمِنُونَ وَزُلْزِلُوا زِلْزَالاً شَدِيداً (11) وَإِذْ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ مَّا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ إِلَّا غُرُوراً (12) وَإِذْ قَالَت طَّائِفَةٌ مِّنْهُمْ يَا أَهْلَ يَثْرِبَ لَا مُقَامَ لَكُمْ فَارْجِعُوا وَيَسْتَأْذِنُ فَرِيقٌ مِّنْهُمُ النَّبِيَّ يَقُولُونَ إِنَّ بُيُوتَنَا عَوْرَةٌ وَمَا هِيَ بِعَوْرَةٍ إِن يُرِيدُونَ إِلَّا فِرَاراً (13) وَلَوْ دُخِلَتْ عَلَيْهِم مِّنْ أَقْطَارِهَا ثُمَّ سُئِلُوا الْفِتْنَةَ لَآتَوْهَا وَمَا تَلَبَّثُوا بِهَا إِلَّا يَسِيراً (14) وَلَقَدْ كَانُوا عَاهَدُوا اللَّهَ مِن قَبْلُ لَا يُوَلُّونَ الْأَدْبَارَ وَكَانَ عَهْدُ اللَّهِ مَسْؤُولاً (15) قُل لَّن يَنفَعَكُمُ الْفِرَارُ إِن فَرَرْتُم مِّنَ الْمَوْتِ أَوِ الْقَتْلِ وَإِذاً لَّا تُمَتَّعُونَ إِلَّا قَلِيلاً (16) قُلْ مَن ذَا الَّذِي يَعْصِمُكُم مِّنَ اللَّهِ إِنْ أَرَادَ بِكُمْ سُوءاً أَوْ أَرَادَ بِكُمْ رَحْمَةً وَلَا يَجِدُونَ لَهُم مِّن دُونِ اللَّهِ وَلِيّاً وَلَا نَصِيراً (17) قَدْ يَعْلَمُ اللَّهُ الْمُعَوِّقِينَ مِنكُمْ وَالْقَائِلِينَ لِإِخْوَانِهِمْ هَلُمَّ إِلَيْنَا وَلَا يَأْتُونَ الْبَأْسَ إِلَّا قَلِيلاً (18) أَشِحَّةً عَلَيْكُمْ فَإِذَا جَاء الْخَوْفُ رَأَيْتَهُمْ يَنظُرُونَ إِلَيْكَ تَدُورُ أَعْيُنُهُمْ كَالَّذِي يُغْشَى عَلَيْهِ مِنَ الْمَوْتِ فَإِذَا ذَهَبَ الْخَوْفُ سَلَقُوكُم بِأَلْسِنَةٍ حِدَادٍ أَشِحَّةً عَلَى الْخَيْرِ أُوْلَئِكَ لَمْ يُؤْمِنُوا فَأَحْبَطَ اللَّهُ أَعْمَالَهُمْ وَكَانَ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيراً (19) يَحْسَبُونَ الْأَحْزَابَ لَمْ يَذْهَبُوا وَإِن يَأْتِ الْأَحْزَابُ يَوَدُّوا لَوْ أَنَّهُم بَادُونَ فِي الْأَعْرَابِ يَسْأَلُونَ عَنْ أَنبَائِكُمْ وَلَوْ كَانُوا فِيكُم مَّا قَاتَلُوا إِلَّا قَلِيلاً (20) لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِّمَن كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيراً (21) وَلَمَّا رَأَى الْمُؤْمِنُونَ الْأَحْزَابَ قَالُوا هَذَا مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَصَدَقَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَمَا زَادَهُمْ إِلَّا إِيمَاناً وَتَسْلِيماً (22) مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُم مَّن قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُم مَّن يَنتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلاً (23) لِيَجْزِيَ اللَّهُ الصَّادِقِينَ بِصِدْقِهِمْ وَيُعَذِّبَ الْمُنَافِقِينَ إِن شَاء أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ غَفُوراً رَّحِيماً (24) وَرَدَّ اللَّهُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِغَيْظِهِمْ لَمْ يَنَالُوا خَيْراً وَكَفَى اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ الْقِتَالَ وَكَانَ اللَّهُ قَوِيّاً عَزِيزاً (25) وَأَنزَلَ الَّذِينَ ظَاهَرُوهُم مِّنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مِن صَيَاصِيهِمْ وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ فَرِيقاً تَقْتُلُونَ وَتَأْسِرُونَ فَرِيقاً (26) وَأَوْرَثَكُمْ أَرْضَهُمْ وَدِيَارَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ وَأَرْضاً لَّمْ تَطَؤُوهَا وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيراً }[الأحزاب ]
إن العبد المؤمن ليتلو هذا النص القرآني فيجيب على السؤال الحائر ، ويفتي في المشكلة المعقدة، ويكشف الطريق الخافي، ويرسم الاتجاه القاصد، ويفئ بالقلب إلى اليقين الجازم، وإلى الاطمئنان العميق.
إن النص القرآني يُذكر المؤمنين بغزو الأحزاب، حيث لم تكن معركة خسائر، بل معركة أعصاب، ومع ذلك؛ فهي من أهم المعارك في تاريخ الإسلام1 ، إذ أن مصير الإسلام كان فيها أشبه برجل يمشي على حافة قمة سامقة، أو حبل ممدود، فلو اختل توازنه لحظة أو اضطرب فؤاده لمحة؛ لهوى من السماء، فتتخطفه الطير ممزق الأعضاء، ممزع الأشلاء، أو تهوي به الريح في مكان سحيق وواد عميق، ولقد أصبح المسلمون كالجزيرة المنقطعة وسط طوفان يتهددها بالغرق ليل نهار ... جيش عرمرم يريد أن يستأصل شأفتهم ، أو يجتث جذورهم : (( إذ جاءوكم من فوقكم ومن أسفل منكم )) .
يا للهول الذي روع المدينة النبوية ! ويا للكرب الذي شملها! والذي لم ينج منه أحد من أهلها؛ فقط أطبق المشركون – من قريش، وغطفان، ويهود- من كل جانب، من أعلاها ومن أسفلها، ((وإذ زاغت الأبصار وبلغت القلوب الحناجر )) .
لقد بلغ الخوف والكرب والضيق أشده، فيخبر عنها رب العزة –تبارك وتعالى- بملامح الوجوه، وحركات القلوب، ونظرات العيون، فهي أبلغ من الكلام المجرد.
لم يختلف الشعور بالكرب والهول في قلب عن قلب، وإنما الذي اختلف هو : استجابة تلك القلوب، وظنها بالله، وسلوكها في الشدة، ونظراتها للمقدمات والنتائج ((وتظنون بالله الظنونا)).
ومن ثم كان ابتلاء كاملا، وامتحانا شاملا، وهولا مروعا رهيبا مزلزلا، زلزل المؤمنين زلزالا شديدا ((هنالك ابتلي المؤمنون وزلزلوا زلزالا شديدا)) .
لذلك ؛ كان التميز في هذه الغزوة بين المنافقين والمؤمنين حاسما لا تردد فيه، واضحا لا غبش يعتريه، صريحا لا لبس فيه، ولا غموض يأتيه.
لقد وجد المنافقون والذين في قلوبهم مرض في الكرب المزلزل، والشدة الآخذة الخناق فرصة سانحة للكشف عن خبيئة أنفسهم الخبيثة؛ فلا يلومهم أحد، وفرصة في التثبيط والتخذيل، وبث الشك والريبة في وعد الله ورسوله؛ فلا يأخدهم بقولهم أحد، أو يرد عليهم أحد.
فالواقع المشاهد بظاهره يصدقهم في التهوين والتثبيط، فقد اجتمعت الجزيرة على حرب رسول الله محمد صلى الله عليه ووسلم والذين معه فالهوى أزاح عن وجوههم قناع التجمل، والكرب كشف إيمانهم المهلهل، وهذه نتائج عدم الثبات والتوكل عند نزول الهول المرعب المزلزل: ((إذ يقول المنافقون والذين في قلوبهم مرض ما وعدنا الله ورسوله إلا غرورا)) .
…..
وأمام هذا الزلزال الشديد والإعصار العنيد: كفار الجزيرة- الذين تحزبوا ضد الرسول صلى الله عليه وسلم والذين معه- ، والمرجفون المثبطون –الذين والوا الأحزاب، وكشفوا عن حقيقة النفاق - ، ويهود بني قريظة الذين نقضوا العهد والميثاق ... كانت هناك جماعة مطمئنة وسط الزلزال ،واثقة بالله الكبير المتعال ، مستيقنة من نصر الله وإن طال ... على رأسها رسول الله صلى الله عليه وسلم ، الذي أخذ يعمل في الخندق مع المسلمين، يضرب بالفأس، ويجرف التراب بالمسحاة، ويحمله في المكتل، ويرفع صوته مع المرتجزين وهم يرفعون أصواتهم بالرجَز في أثنا العمل ، فيشاركهم في الترجيع، ولا تحسبن عمل رسول الله صلى الله عليه وسلم في ذلك كله من قبيل التمثيل الذي يحسنه رجال السياسة العصرية .. كلا .. كلا .. إن الرجولة الكاملة في أنبل صورها كانت تقتبس من مسلك رسول الله صلى الله عليه وسلم في هذا الموقف وفي كل موقف.
عن البراء بن عازب رضي الله تعالى عنه قال: لما كان يوم الأحزاب ، وخندق رسول الله صلى الله عليه وسلم: رأيته ينقل من تراب الخندق؛ حتى وراى عنه التراب جلدة بطنه –وكان كثير الشعر؛ فسمعته يرتجز بكلمات ابن رواحة –وهو ينقل التراب – يقول:
اللهم لولا أنت ما اهتدينا ** ولا تصدقنا ولا صلينا
فأنزلن سكينة علينا ** وثبت الأقدام إن لقينا
إن الألى قد بغوا علينا ** وإن أرادوا فتنة أبينا
قال: وكان يمد صوته بآخرها 2.
وتأسى برسول الله صلى الله عليه وسلم الرجال الكبار الكبار ، ممن لم يألفوا هذا العمل من قبل ، فشهدت المدينة النبوية منظرا عجبا : وجوها ناصعة تتألف منها فرق شتى تضرب بالفؤوس وتحمل المكاتل، فتلبس حللا من نسج الغبار المتراكم والعرق واللغوب : ((لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة لمن كان يرجو الله واليوم الآخر وذكر الله كثيرا)).
ثم كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يستشرف النصر من بعيد، ويراه رأي العين في ومضات الصخور على ضرب المعاول ، فيخبر بها المسلمين، ويبث فيهم الثقة والأمل والليقين ... فمن أحكام السياسة الشرعية وإحكامها : أن يقارن هذا الأمل الواسع مراحل الجهد المضني.
وهذه قاعدة من قواعد التربية الإيمانية؛ أصلها رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يصنع جيل القدوة الأول، وقرن الأسوة الأمثل من(التكوين) إلى (التمكين) ، ليكون الأنمودج الأنبل في كل العصور، والجيل الأجمل على مر الدهور، وحجة الله البالغة في جميع الأمور:
ففي (عهد التكوين) : أصل فيهم (فقه الابتلاء).
ودونك مفرداته :
لقد فقه سلفنا الصالح مسألة الابتلاء ؛ فكانت دافعا للثبات، وطاقة عطاء لا تنفد، وقوة عزم لا تنقطع.
ودونك معالم (فقه الابتلاء) عند سلفنا الصالح :
المصدر : المستقبل للإسلام بمنهج السلف الكرام (ص 12-17)
(يتبع إن شاء الله )
1حيث تحول المسلمون بعدها إلى مرحلة الهجوم، ونقل الحرب إلى دار الأعداء؛ كما عند البخاري من حديث سليمان بن صرد رضي الله عنه قال:: قال النبي صلى الله عليه وسلم يوم الأحزاب: "الآن نغزوهم ولا يغزوننا؛ نحن نسير إليهم" .
وله شاهد أخرجه البزار من حديث جابر بن عبد الله: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال يوم الأحزاب، وقد جمعوا له جموعا كثيرة: "لا يغزوكم بعدها أبدًا" حسنه الحافظ في "فتح الباري" وقال الهيثمي في "مجمع الزوائد": " ورجاله رجال الصحيح".
قلت: في إسناده مقال؛ لكنه حسن بما قبله.
قال الحافظ رحمه الله (7/405) : "وفيه أنهم رجعوا بغير اختيارهم، بل لصنع الله –تعالى- لرسوله.
وفيه علم من أعلام النبوة؛ فإنه صلى الله عليه وسلم اعتمر السنة المقبلة، فصدته قريش عن البيت، ووقعت الهدنة بينهم إلى أن نقضوها ؛ فكان ذلك سبب فتح مكة، فوع الأمر كما قال النبي صلى الله عليه وسلم ".
2أخرجه البخاري.
تحرير الشيخ سليم بن عيد الهلالي السلفي
ولقد ثبت الإسلام في وجه كل المحاولات التي تبغي اجتثاثه، ولم يول دبره إلا متحرفا لقتال أو متحيزا إلى فئة؛ لأن عناصر القوة كامنة في طبيعته:
كامنة في يسره، وضوحه، وشموله، وكماله، وموافقته للفطرة البشرية، وتلبيته لحاجاتها الحقيقية٫
كامنة في استعلائه عن عبودية العباد بالعبودية لرب العباد ... وفي رفض التلقي إلا من اللطيف الخبير، ورفض الخضوع إلا للسميع البصير.
كامنة في استعلاء أهله بالإيمان على الملابسات الطارئة؛ كالوقوع تحت تسلط الجبارين ... فهذا السلطان يبقى خارج نقاط القلب والروح مهما اشتدت وطأته ... ومن ثم لا تقع الهزيمة الإيمانية طالما عمّر الإسلام القلب والروح، وإن وقعت الهزيمة الظاهرية في بعض الأحايين٫
ورحم الله إمام العلماء الربانيين، وعميد السلفيين شيخ الإسلام ابن تيمية- قدس الله روحه- ، الذي قرر هذه الحقيقة الدقيقة -عندما تكالب عليه الخصوم من كل حدب وصوب -بقوله: (ماذا يفعل أعدائي بي؟! إن قتلي شهادة، ونفيي سياحة، وسجني خلوة، جنتي وبستاني في صدري)٫
ولجملة ما سبق؛ فنحن نعتقد يقينا جازما حاسما أن المستقبل للإسلام، وقد مضى ذلك بشرى في كلام رب العالمين، وتأكد بالتواتر المعنوي في سنة سيد المرسلين كما سيأتي تأصيله وتفصيله وتحليله بعد حين٫
هذا الإعتقاد -بأن المستقبل للإسلام وحده هو الذي صنع الجيل القدوة الأول محمدا صلى الله عليه وسلم والذين معه -، وتدبر هذا النص القرآني: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جَاءتْكُمْ جُنُودٌ فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحاً وَجُنُوداً لَّمْ تَرَوْهَا وَكَانَ اللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيراً (9) إِذْ جَاؤُوكُم مِّن فَوْقِكُمْ وَمِنْ أَسْفَلَ مِنكُمْ وَإِذْ زَاغَتْ الْأَبْصَارُ وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَنَاجِرَ وَتَظُنُّونَ بِاللَّهِ الظُّنُونَا (10) هُنَالِكَ ابْتُلِيَ الْمُؤْمِنُونَ وَزُلْزِلُوا زِلْزَالاً شَدِيداً (11) وَإِذْ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ مَّا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ إِلَّا غُرُوراً (12) وَإِذْ قَالَت طَّائِفَةٌ مِّنْهُمْ يَا أَهْلَ يَثْرِبَ لَا مُقَامَ لَكُمْ فَارْجِعُوا وَيَسْتَأْذِنُ فَرِيقٌ مِّنْهُمُ النَّبِيَّ يَقُولُونَ إِنَّ بُيُوتَنَا عَوْرَةٌ وَمَا هِيَ بِعَوْرَةٍ إِن يُرِيدُونَ إِلَّا فِرَاراً (13) وَلَوْ دُخِلَتْ عَلَيْهِم مِّنْ أَقْطَارِهَا ثُمَّ سُئِلُوا الْفِتْنَةَ لَآتَوْهَا وَمَا تَلَبَّثُوا بِهَا إِلَّا يَسِيراً (14) وَلَقَدْ كَانُوا عَاهَدُوا اللَّهَ مِن قَبْلُ لَا يُوَلُّونَ الْأَدْبَارَ وَكَانَ عَهْدُ اللَّهِ مَسْؤُولاً (15) قُل لَّن يَنفَعَكُمُ الْفِرَارُ إِن فَرَرْتُم مِّنَ الْمَوْتِ أَوِ الْقَتْلِ وَإِذاً لَّا تُمَتَّعُونَ إِلَّا قَلِيلاً (16) قُلْ مَن ذَا الَّذِي يَعْصِمُكُم مِّنَ اللَّهِ إِنْ أَرَادَ بِكُمْ سُوءاً أَوْ أَرَادَ بِكُمْ رَحْمَةً وَلَا يَجِدُونَ لَهُم مِّن دُونِ اللَّهِ وَلِيّاً وَلَا نَصِيراً (17) قَدْ يَعْلَمُ اللَّهُ الْمُعَوِّقِينَ مِنكُمْ وَالْقَائِلِينَ لِإِخْوَانِهِمْ هَلُمَّ إِلَيْنَا وَلَا يَأْتُونَ الْبَأْسَ إِلَّا قَلِيلاً (18) أَشِحَّةً عَلَيْكُمْ فَإِذَا جَاء الْخَوْفُ رَأَيْتَهُمْ يَنظُرُونَ إِلَيْكَ تَدُورُ أَعْيُنُهُمْ كَالَّذِي يُغْشَى عَلَيْهِ مِنَ الْمَوْتِ فَإِذَا ذَهَبَ الْخَوْفُ سَلَقُوكُم بِأَلْسِنَةٍ حِدَادٍ أَشِحَّةً عَلَى الْخَيْرِ أُوْلَئِكَ لَمْ يُؤْمِنُوا فَأَحْبَطَ اللَّهُ أَعْمَالَهُمْ وَكَانَ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيراً (19) يَحْسَبُونَ الْأَحْزَابَ لَمْ يَذْهَبُوا وَإِن يَأْتِ الْأَحْزَابُ يَوَدُّوا لَوْ أَنَّهُم بَادُونَ فِي الْأَعْرَابِ يَسْأَلُونَ عَنْ أَنبَائِكُمْ وَلَوْ كَانُوا فِيكُم مَّا قَاتَلُوا إِلَّا قَلِيلاً (20) لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِّمَن كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيراً (21) وَلَمَّا رَأَى الْمُؤْمِنُونَ الْأَحْزَابَ قَالُوا هَذَا مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَصَدَقَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَمَا زَادَهُمْ إِلَّا إِيمَاناً وَتَسْلِيماً (22) مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُم مَّن قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُم مَّن يَنتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلاً (23) لِيَجْزِيَ اللَّهُ الصَّادِقِينَ بِصِدْقِهِمْ وَيُعَذِّبَ الْمُنَافِقِينَ إِن شَاء أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ غَفُوراً رَّحِيماً (24) وَرَدَّ اللَّهُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِغَيْظِهِمْ لَمْ يَنَالُوا خَيْراً وَكَفَى اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ الْقِتَالَ وَكَانَ اللَّهُ قَوِيّاً عَزِيزاً (25) وَأَنزَلَ الَّذِينَ ظَاهَرُوهُم مِّنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مِن صَيَاصِيهِمْ وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ فَرِيقاً تَقْتُلُونَ وَتَأْسِرُونَ فَرِيقاً (26) وَأَوْرَثَكُمْ أَرْضَهُمْ وَدِيَارَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ وَأَرْضاً لَّمْ تَطَؤُوهَا وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيراً }[الأحزاب ]
إن العبد المؤمن ليتلو هذا النص القرآني فيجيب على السؤال الحائر ، ويفتي في المشكلة المعقدة، ويكشف الطريق الخافي، ويرسم الاتجاه القاصد، ويفئ بالقلب إلى اليقين الجازم، وإلى الاطمئنان العميق.
إن النص القرآني يُذكر المؤمنين بغزو الأحزاب، حيث لم تكن معركة خسائر، بل معركة أعصاب، ومع ذلك؛ فهي من أهم المعارك في تاريخ الإسلام1 ، إذ أن مصير الإسلام كان فيها أشبه برجل يمشي على حافة قمة سامقة، أو حبل ممدود، فلو اختل توازنه لحظة أو اضطرب فؤاده لمحة؛ لهوى من السماء، فتتخطفه الطير ممزق الأعضاء، ممزع الأشلاء، أو تهوي به الريح في مكان سحيق وواد عميق، ولقد أصبح المسلمون كالجزيرة المنقطعة وسط طوفان يتهددها بالغرق ليل نهار ... جيش عرمرم يريد أن يستأصل شأفتهم ، أو يجتث جذورهم : (( إذ جاءوكم من فوقكم ومن أسفل منكم )) .
يا للهول الذي روع المدينة النبوية ! ويا للكرب الذي شملها! والذي لم ينج منه أحد من أهلها؛ فقط أطبق المشركون – من قريش، وغطفان، ويهود- من كل جانب، من أعلاها ومن أسفلها، ((وإذ زاغت الأبصار وبلغت القلوب الحناجر )) .
لقد بلغ الخوف والكرب والضيق أشده، فيخبر عنها رب العزة –تبارك وتعالى- بملامح الوجوه، وحركات القلوب، ونظرات العيون، فهي أبلغ من الكلام المجرد.
لم يختلف الشعور بالكرب والهول في قلب عن قلب، وإنما الذي اختلف هو : استجابة تلك القلوب، وظنها بالله، وسلوكها في الشدة، ونظراتها للمقدمات والنتائج ((وتظنون بالله الظنونا)).
ومن ثم كان ابتلاء كاملا، وامتحانا شاملا، وهولا مروعا رهيبا مزلزلا، زلزل المؤمنين زلزالا شديدا ((هنالك ابتلي المؤمنون وزلزلوا زلزالا شديدا)) .
لذلك ؛ كان التميز في هذه الغزوة بين المنافقين والمؤمنين حاسما لا تردد فيه، واضحا لا غبش يعتريه، صريحا لا لبس فيه، ولا غموض يأتيه.
لقد وجد المنافقون والذين في قلوبهم مرض في الكرب المزلزل، والشدة الآخذة الخناق فرصة سانحة للكشف عن خبيئة أنفسهم الخبيثة؛ فلا يلومهم أحد، وفرصة في التثبيط والتخذيل، وبث الشك والريبة في وعد الله ورسوله؛ فلا يأخدهم بقولهم أحد، أو يرد عليهم أحد.
فالواقع المشاهد بظاهره يصدقهم في التهوين والتثبيط، فقد اجتمعت الجزيرة على حرب رسول الله محمد صلى الله عليه ووسلم والذين معه فالهوى أزاح عن وجوههم قناع التجمل، والكرب كشف إيمانهم المهلهل، وهذه نتائج عدم الثبات والتوكل عند نزول الهول المرعب المزلزل: ((إذ يقول المنافقون والذين في قلوبهم مرض ما وعدنا الله ورسوله إلا غرورا)) .
…..
وأمام هذا الزلزال الشديد والإعصار العنيد: كفار الجزيرة- الذين تحزبوا ضد الرسول صلى الله عليه وسلم والذين معه- ، والمرجفون المثبطون –الذين والوا الأحزاب، وكشفوا عن حقيقة النفاق - ، ويهود بني قريظة الذين نقضوا العهد والميثاق ... كانت هناك جماعة مطمئنة وسط الزلزال ،واثقة بالله الكبير المتعال ، مستيقنة من نصر الله وإن طال ... على رأسها رسول الله صلى الله عليه وسلم ، الذي أخذ يعمل في الخندق مع المسلمين، يضرب بالفأس، ويجرف التراب بالمسحاة، ويحمله في المكتل، ويرفع صوته مع المرتجزين وهم يرفعون أصواتهم بالرجَز في أثنا العمل ، فيشاركهم في الترجيع، ولا تحسبن عمل رسول الله صلى الله عليه وسلم في ذلك كله من قبيل التمثيل الذي يحسنه رجال السياسة العصرية .. كلا .. كلا .. إن الرجولة الكاملة في أنبل صورها كانت تقتبس من مسلك رسول الله صلى الله عليه وسلم في هذا الموقف وفي كل موقف.
عن البراء بن عازب رضي الله تعالى عنه قال: لما كان يوم الأحزاب ، وخندق رسول الله صلى الله عليه وسلم: رأيته ينقل من تراب الخندق؛ حتى وراى عنه التراب جلدة بطنه –وكان كثير الشعر؛ فسمعته يرتجز بكلمات ابن رواحة –وهو ينقل التراب – يقول:
اللهم لولا أنت ما اهتدينا ** ولا تصدقنا ولا صلينا
فأنزلن سكينة علينا ** وثبت الأقدام إن لقينا
إن الألى قد بغوا علينا ** وإن أرادوا فتنة أبينا
قال: وكان يمد صوته بآخرها 2.
وتأسى برسول الله صلى الله عليه وسلم الرجال الكبار الكبار ، ممن لم يألفوا هذا العمل من قبل ، فشهدت المدينة النبوية منظرا عجبا : وجوها ناصعة تتألف منها فرق شتى تضرب بالفؤوس وتحمل المكاتل، فتلبس حللا من نسج الغبار المتراكم والعرق واللغوب : ((لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة لمن كان يرجو الله واليوم الآخر وذكر الله كثيرا)).
ثم كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يستشرف النصر من بعيد، ويراه رأي العين في ومضات الصخور على ضرب المعاول ، فيخبر بها المسلمين، ويبث فيهم الثقة والأمل والليقين ... فمن أحكام السياسة الشرعية وإحكامها : أن يقارن هذا الأمل الواسع مراحل الجهد المضني.
وهذه قاعدة من قواعد التربية الإيمانية؛ أصلها رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يصنع جيل القدوة الأول، وقرن الأسوة الأمثل من(التكوين) إلى (التمكين) ، ليكون الأنمودج الأنبل في كل العصور، والجيل الأجمل على مر الدهور، وحجة الله البالغة في جميع الأمور:
ففي (عهد التكوين) : أصل فيهم (فقه الابتلاء).
ودونك مفرداته :
لقد فقه سلفنا الصالح مسألة الابتلاء ؛ فكانت دافعا للثبات، وطاقة عطاء لا تنفد، وقوة عزم لا تنقطع.
ودونك معالم (فقه الابتلاء) عند سلفنا الصالح :
المصدر : المستقبل للإسلام بمنهج السلف الكرام (ص 12-17)
(يتبع إن شاء الله )
1حيث تحول المسلمون بعدها إلى مرحلة الهجوم، ونقل الحرب إلى دار الأعداء؛ كما عند البخاري من حديث سليمان بن صرد رضي الله عنه قال:: قال النبي صلى الله عليه وسلم يوم الأحزاب: "الآن نغزوهم ولا يغزوننا؛ نحن نسير إليهم" .
وله شاهد أخرجه البزار من حديث جابر بن عبد الله: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال يوم الأحزاب، وقد جمعوا له جموعا كثيرة: "لا يغزوكم بعدها أبدًا" حسنه الحافظ في "فتح الباري" وقال الهيثمي في "مجمع الزوائد": " ورجاله رجال الصحيح".
قلت: في إسناده مقال؛ لكنه حسن بما قبله.
قال الحافظ رحمه الله (7/405) : "وفيه أنهم رجعوا بغير اختيارهم، بل لصنع الله –تعالى- لرسوله.
وفيه علم من أعلام النبوة؛ فإنه صلى الله عليه وسلم اعتمر السنة المقبلة، فصدته قريش عن البيت، ووقعت الهدنة بينهم إلى أن نقضوها ؛ فكان ذلك سبب فتح مكة، فوع الأمر كما قال النبي صلى الله عليه وسلم ".
2أخرجه البخاري.