تتويج الرحمن
لأهل القرآن
لأبي فيروز عبد الرحمن الإندونيسي
غفر الله له
بسم الله الرحمن الرحيم
مقدمة
الحمد لله وأشهد أن لا إله إلا الله وأهل محمدا عبده ورسوله، اللهم صل وسلم على محمد وعلى آله أجمعين، وأما بعد:
فقد جاء سؤال من أخ فاضل حفظه الله: ما حال حديث تتويج الوالد الذي ابنه يحفظ القرآن ، وأن سبع ذرياته يبعدون من النار؟ وما حال أهل القرآن ووالده من أهل البدع أو أهل الشرك؟
فأقول مستعيناً بالله:
الباب الأول: أحوال حديث تتويج أهل القرآن
الحديث جاء عن بريدة بن الحصيب رضي الله عنه:
أخرجه الإمام أحمد بن حنبل رحمه الله في مسنده (22950) وابن أبي شيبة في مصنفه (30045) والدارمي في سننه (3434) وغيرهم قالوا: حدثنا أبو نعيم، حدثنا بشير هو ابن المهاجر، حدثني عبد الله بن بريدة، عن أبيه، قال: كنت جالسا عند النبي صلى الله عليه وسلم فسمعته يقول: «تعلموا سورة البقرة، فإن أخذها بركة، وتركها حسرة، ولا يستطيعها البطلة» . ثم سكت ساعة، ثم قال: " تعلموا سورة البقرة، وآل عمران، فإنهما الزهراوان، وإنهما تظلان صاحبهما يوم القيامة كأنهما غمامتان أو غيايتان، أو فرقان من طير صواف. وإن القرآن يلقى صاحبه يوم القيامة حين ينشق عنه القبر كالرجل الشاحب فيقول له: هل تعرفني؟ فيقول: ما أعرفك، فيقول: أنا صاحبك القرآن الذي أظمأتك في الهواجر، وأسهرت ليلك، وإن كل تاجر من وراء تجارته، وإنك اليوم من وراء كل [ص:2136] تجارة، فيعطى الملك بيمينه، والخلد بشماله، ويوضع على رأسه تاج الوقار، ويكسى والداه حلتين لا يقوم لهما الدنيا، فيقولان: بم كسينا هذا؟ فيقال لهما: بأخذ ولدكما القرآن. ثم يقال له: اقرأ واصعد في درج الجنة وغرفها، فهو في صعود ما دام يقرأ هذا كان أو ترتيلاً.
في سنده بشير بن المهاجر هو صدوق له مناكير ويخطئ كثيراً. (راجع "تهذيب التهذيب" /1/ص468).
وله شاهد من حديث أبي هريرة رضي الله عنه:
أخرجه الطبراني في الأوسط (5764) وأبو بكر الدينوري في المجالسة (2189) من طريق شريك، عن عبد الله بن عيسى، عن يحيى بن أبي كثير، عن أبي سلمة، عن أبي هريرة: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم ذكر القرآن وصاحبه يوم القيامة؛ فقال: «يعطى الملك بيمينه والخلد بشماله، ويوضع على رأسه تاج الوقار».
شريك هو ابن عبد الله النخعي، سيء الحفظ، وهو في الشواهد.
وأخرج الترمذي في سننه برقم (2915) عن أبي هريرة، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «يجيء القرآن يوم القيامة فيقول: يا رب حله، فيلبس تاج الكرامة، ثم يقول: يا رب زده، فيلبس حلة الكرامة، ثم يقول: يا رب ارض عنه، فيرضى عنه، فيقال له: اقرأ وارق، ويزاد بكل آية حسنة».
رجح الترمذي وقفه لأن غندر رواه عن شعبة بهذا السند موقوفاً، وهو كما قال.
وتابع شعبة زائدة –وهو ابن قدامة- أخرجه ابن أبي شيبة في مصنفه (30047)، وزيد بن أبي أنيسة عند الدارمي (3354) بسند موقوفاً على أبي هريرة رضي الله عنه.
ولا يمكن لأبي هريرة أن يجتهد في مثل هذه المغيبات، وليس ممن يأخذ من الإسرائيليات. فالحديث له حكم المرفوع إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم. وحديث أبي هريرة مع ما سبق يترقي إلى الحسن.
وله شاهد من حديث ابن عباس رضي الله عنهما:
أخرجه ابن أبي شيبة في مصنفه (30044) قال: حدثنا عبد الله بن نمير، قال: حدثنا محمد بن إسحاق، عن عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جده قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: «يمثل القرآن يوم القيامة رجلا، فيؤتى بالرجل قد حمله فخالف أمره، فيتمثل خصما له فيقول: يا رب حملته إياي فشر حامل تعدى حدودي، وضيع فرائضي، وركب معصيتي، وترك طاعتي، فما يزال يقذف عليه بالحجج حتى يقال: فشأنك به فيأخذ بيده، فما يرسله حتى يكبه على منخره في النار، ويؤتى برجل صالح قد كان حمله، وحفظ أمره، فيتمثل خصما له دونه فيقول: يا رب حملته إياي فخير حامل، حفظ حدودي، وعمل بفرائضي، واجتنب معصيتي، واتبع طاعتي، فما يزال يقذف له بالحجج حتى يقال: شأنك به، فيأخذ بيده فما يرسله حتى يلبسه حلة الإستبرق، ويعقد عليه تاج الملك، ويسقيه كأس الخمر».
وأخرجه ابن شاهين في "الترغيب في فضائل الأعمال" (207).
وسندهما ضعيف بسبب عنعنة ابن إسحاق وهو مدلس. ولكنه في الشواهد.
وله شاهد من حديث ابن عمر رضي الله عنهما:
أخرجه الدارمي في سننه (3355) قال: حدثنا موسى بن خالد، حدثنا إبراهيم بن محمد الفزاري، عن سفيان، عن عاصم، عن مجاهد، عن ابن عمر، قال: «يجيء القرآن يشفع لصاحبه، يقول: يا رب لكل عامل عمالة من عمله، وإني كنت أمنعه اللذة والنوم، فأكرم. فيقال: ابسط يمينك، فيملأ من رضوان الله، ثم يقال: ابسط شمالك، فيملأ من رضوان الله، ويكسى كسوة الكرامة، ويحلى حلية الكرامة، ويلبس تاج الكرامة».
وهذا السند حسن موقوف، بسبب عاصم بن أبي النجود، وهو حسن الحديث.
ولا يمكن لابن عمر أن يجتهد في مثل هذه المغيبات، وليس ممن يأخذ من الإسرائيليات. فالحديث له حكم المرفوع إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم.
فالحديث جيد، أو يبلغ الصحيح ببقية الطرق التي لم أذكرها هنا.
وأما حديث معاذ بن جبل، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «من قرأ القرآن وعمل بما فيه ومات في الجماعة بعثه الله يوم القيامة مع السفرة والحكام، ومن قرأ القرآن وهو ينفلت منه، ولا يدعه فله أجره مرتين، ومن كان حريصا عليه ولا يستطيعه ولا يدعه بعثه الله يوم القيامة مع أشراف أهله، وفضلوا على الخلائق كما فضلت النسور على سائر الطيور، وكما فضلت عين في مرج على ما حولها، ثم ينادي مناد: أين الذين كانوا لا يلهيهم رعية الأنعام عن تلاوة كتابي؟ فيقومون فيلبس أحدهم تاج الكرامة، ويعطى الفوز بيمينه، والخلد بشماله، فإن كان أبواه مسلمين كسيا حلة خيرا من الدنيا وما فيها، فيقولان: أنى هذه لنا؟ فيقال: بما كان ولدكما يقرأ القرآن». (أخرجه الطبراني في "المعجم الكبير" (136) والبيهقي في "شعب الإيمان" (1837)).
في سنده سويد بن عبد العزيز، وهو سويد بن عبد العزيز بن نمير السلمي الدمشقي، وهو متروك الحديث. (راجع "تهذيب التهذيب"/4/ص 276).
وجاء من حديث كعب بن مالك رضي الله عنه أنه قال: «يمثل القرآن لمن كان يعمل به في الدنيا يوم القيامة كأحسن صورة رآها، وأحسنها وجها، وأطيبها ريحا، فيقوم بجنب صاحبه، فكلما جاءه روع هدأ روعه، وسكنه، وبسط له أمله، فيقول له: جزاك الله خيرا من صاحب، فما أحسن صورتك وأطيب ريحك، فيقول له: أما تعرفني؟، تعال اركبني، فطالما ركبتك في الدنيا، أنا عملك، إن عملك كان حسنا، فترى صورتي حسنة، وكان طيبا فترى ريحي طيبة، فيحمله فيوافي به الرب تبارك وتعالى [ص:130]، فيقول: يا رب هذا فلان، وهو أعرف به منه، قد شغلته في أيامه في حياته في الدنيا، أظمأت نهاره، وأسهرت ليله، فشفعني فيه، فيوضع تاج الملك على رأسه، ويكسى حلة الملك، فيقول: يا رب قد كنت أرغب له عن هذا، وأرجو له منك أفضل من هذا، فيعطى الخلد بيمينه، والنعمة بشماله، فيقول: يا رب إن كل تاجر قد دخل على أمله من تجارته، فيشفع في أقاربه، وإن كان كافرا مثل له عمله في أقبح صورة رآها وأنتنها، فكلما جاءه روع زاده روعا، فيقول: قبحك الله من صاحب، فما أقبح صورتك وما أنتن ريحك، فيقول: من أنت؟، فيقول: أما تعرفني؟، أنا عملك، إن عملك كان قبيحا فترى صورتي قبيحة، وكان منتنا فترى ريحي منتنة، فيقول: تعال أركبك، فطالما ركبتني في الدنيا، فيركبه فيوافي به الله فلا يقيم له وزنا». (أخرجه ابن أبي شيبة في مصنفه (30046)).
في سنده موسى بن عبيدة الربذي، وهو أبو عبد العزيز المدني، منكر الحديث، ضعيف جداً. (راجع "تهذيب التهذيب"/10/ص 357).
وجاء من حديث معاذ بن أنس رضي الله عنه:
أخرجه الإمام أحمد في مسنده (15645) وأبو داود في سننه (2465) وأبو يعلى في مسنده (1493) والطبراني في الكبير (445) من طريق زبان بن فائد، عن سهل بن معاذ الجهني عن أبيه: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «من قرأ القرآن وعمل بما فيه، ألبس والداه تاجا يوم القيامة، ضوءه أحسن من ضوء الشمس في بيوت الدنيا لو كانت فيكم، فما ظنكم بالذي عمل بهذا؟».
زبان بن فائد هو زبان بن فائد المصري، أبو جوين الحمراوي، وهو عابد فاضل، ولكنه منكر الحديث. قال أحمد: أحاديثه مناكير. قال ابن معين: شيخ ضعيف. وقال ابن حبان: منكر الحديث جداً، يتفرد عن سهل بن معاذ بنسخة كأنها موضوعة، لا يحتج به. ("تهذيب التهذيب" /3/ص 308).
فهذا الحديث لا يصلح للشواهد.
الباب الثاني: شفاعة أهل القرآن لغيره
قد ثبت أن القرآن يشفع لصاحبه.
عن أبي أمامة الباهلي رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم، يقول: «اقرءوا القرآن فإنه يأتي يوم القيامة شفيعا لأصحابه، اقرءوا الزهراوين البقرة، وسورة آل عمران، فإنهما تأتيان يوم القيامة كأنهما غمامتان، أو كأنهما غيايتان، أو كأنهما فرقان من طير صواف، تحاجان عن أصحابهما، اقرءوا سورة البقرة، فإن أخذها بركة، وتركها حسرة، ولا تستطيعها البطلة». قال معاوية –أحد الرواة-: بلغني أن البطلة: السحرة. (أخرجه مسلم (804)).
ولم يذكر في تلك الأحاديث أنه يشفع في سبع ذريات وأنهم يبعدون من النار بسبب قراءة صاحب القرآن.
وإنما جاء من حديث كعب بن مالك رضي الله عنه: (...فيشفع في أقاربه) وهو حديث ضعيف جداً كما سبق.
ولا شك أن من دخل الجنة من المؤمنين عموماً يشفعون لغيرهم من المؤمنين بإذن الله تعالى، بشروط معروفة.
عن أبى سعيد الخدري رضي الله عنه: قال رسول الله -صلى الله عليه وعلى آله وسلم-: «... فيمرّ المؤمنون كطرف العين وكالبرق وكالريح وكالطير وكأجاويد الخيل والركاب فناج مسلم ومخدوش مرسل ومكدوس في نار جهنم. حتى إذا خلص المؤمنون من النار، فوالذي نفسي بيده ما منكم من أحد بأشد مناشدة لله في استقصاء الحق من المؤمنين لله يوم القيامة لإخوانهم الذين في النار. يقولون: ربنا كانوا يصومون معنا ويصلون ويحجون. فيقال لهم: أخرجوا من عرفتم. فتحرم صورهم على النار فيخرجون خلقا كثيرا قد أخذت النار إلى نصف ساقيه وإلى ركبتيه. ثم يقولون: ربنا ما بقى فيها أحد ممن أمرتنا به. فيقول: ارجعوا فمن وجدتم فى قلبه مثقال دينار من خير فأخرجوه. فيخرجون خلقا كثيرا ثم يقولون: ربنا لم نذر فيها أحدا ممن أمرتنا. ثم يقول: ارجعوا فمن وجدتم في قلبه مثقال نصف دينار من خير فأخرجوه. فيخرجون خلقا كثيرا ثم يقولون: ربنا لم نذر فيها ممن أمرتنا أحدا. ثم يقول: ارجعوا فمن وجدتم في قلبه مثقال ذرة من خير فأخرجوه. فيخرجون خلقاً كثيراً ثم يقولون: ربنا لم نذر فيها خيرا». وكان أبو سعيد الخدري يقول: إن لم تصدقوني بهذا الحديث فاقرءوا إن شئتم ﴿إن الله لا يظلم مثقال ذرة وإن تك حسنة يضاعفها ويؤت من لدنه أجرا عظيما﴾ فيقول الله عز وجل: شفعت الملائكة وشفع النبيون وشفع المؤمنون ولم يبق إلا أرحم الراحمين فيقبض قبضة من النار فيخرج منها قوما لم يعملوا خيرا قط قد عادوا حمما فيلقيهم في نهر في أفواه الجنة يقال له: نهر الحياة فيخرجون كما تخرج الحبة في حميل السيل ألا ترونها تكون إلى الحجر أو إلى الشجر ما يكون إلى الشمس أصيفر وأخيضر وما يكون منها إلى الظل يكون أبيض». الحديث. (أخرجه البخاري (7439) ومسلم (183)).
الباب الثالث: تاج أهل القرآن
قد ذكر في تلك الأحاديث أن من فضائل أهل القرآن أنه يعطىَ تاج الكرامة، أو تاج الوقار، أو تاج الملك. وما هذا التاج؟ هو ما يوضع على رأس الملِك علامة للعزّ والكراكة وعلوّ المنقبة. وهذا من ملابس أهل الجنة.
قال الإمام ابن القيم رحمه الله: ومن ملابسهم التيجان على رؤوسهم. ("حادي الأرواح" /ص 204).
وقال علي القاري رحمه الله في شرح حديث (ويوضع على رأسه تاج الوقار): أي المعزة. وفى النهاية: التاج ما يصاغ للملوك من الذهب والجواهر. ("مرقاة المفاتيح"/6/ص2482).
وقال محمد عبد الرحمن المباركفوري رحمه الله: (ويوضع على رأسه تاج الوقار) أي: تاج هو سبب العزة والعظمة. ("تحفة الأحوذي"/5/ص 248).
الباب الرابع: إنما ينال فضل القرآن أهله
ففي الجملة: حديث تتويج أهل القرآن يدل على عظيم فضائل أهل القرآن.
ولا شك أنه ليس كل قارئ للقرآن يبلغ تلك الفضائل. وإنما يستحقها المؤمنون به، العاملين بمقتضاه، المتبعين له.
قال الله تعالى: ﴿وننزل من القرآن ما هو شفاء ورحمة للمؤمنين ولا يزيد الظالمين إلا خساراً﴾ [الإسراء: 82].
قال الإمام ابن رجب الحنبلي رحمه الله: قال بعض السلف: ما جالس أحد القرآن، فقام عنه سالما؛ بل إما أن يربح أو أن يخسر، ثم تلا هذه الآية. ("جامع العلوم والحكم"/2/ص26(.
عن أبي مالك الأشعري قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم: «... والقرآن حجة لك أو عليك كل الناس يغدو فبايع نفسه فمعتقها أو موبقها». (أخرجه مسلم (223) بسند منقطع، وأخرجه النسائي (2437) بسند متصل صحيح).
قال النووي رحمه الله: وأما قوله صلى الله عليه و سلم: «والقرآن حجة لك أو عليك» فمعناه ظاهر أي: تنتفع به إن تلوته وعملت به، وإلا فهو حجة عليك. وأما قوله صلى الله عليه و سلم: «كل الناس يغدو فبائع نفسه فمعتقها أو موبقها» فمعناه: كل إنسان يسعى بنفسه، فمنهم من يبيعها لله تعالى بطاعته فيعتقها من العذاب، ومنهم من يبيعها للشيطان والهوى باتباعهما فيوبقها أى: يهلكها. والله أعلم. ("شرح النووي على مسلم"/3 /ص102).
فأهل البدع كالخوارج وغيرهم وإن كثرت تلاوتهم للقرآن فلا تنفعهم إذا خالفوا مقتضاه.
عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه: قال النبي صلى الله عليه وسلم في شأن الخوارج: «إن من ضئضئ هذا، أو: في عقب هذا قوما يقرءون القرآن لا يجاوز حناجرهم، يمرقون من الدين مروق السهم من الرمية، يقتلون أهل الإسلام ويدعون أهل الأوثان، لئن أنا أدركتهم لأقتلنهم قتل عاد». (أخرجه البخاري (3344) ومسلم (1064)).
قال الإمام محمد بن إسماعيل الأمير الصنعاني رحمه الله عن كلمة التوحيد: ولا نفعت الخوارج مع ما انضمَّ إليها من العبادة التي يحتقر الصحابةُ عبادتَهم إلى جنبها، بل أَمَرَ صلى الله عليه وسلم بقتلهم، وقال: «لئن أدركتُهم لأقتلَنَّهم قتل عاد»، وذلك لَمَّا خالفوا بعضَ الشريعة وكانوا شرّ القتلى تحت أديم السماء، كما ثبتت به الأحاديث. فثبت أنَّ مجرَّدَ قول كلمة التوحيد غيرُ مانع من ثبوت شرك مَن قالَها؛ لارتكابه ما يُخالفها من عبادة غير الله. ("تطهير الاعتقاد" / ص89-91/ط. دار ابن حزم).
وإنما ينتفع بالقرآن أهله.
عن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: «يُقَالُ لِصَاحِبِ الْقُرْآنِ اقْرَأْ وَارْتَقِ وَرَتِّلْ كَمَا كُنْتَ تُرَتِّلُ فِى الدُّنْيَا فَإِنَّ مَنْزِلَكَ عِنْدَ آخِرِ آيَةٍ تَقْرَؤُهَا». (أخرجه أبو داود (1461)/عون)، والترمذي (2914)/أحوذي) وحسنه الإمام الألباني رحمه الله كما في "المشكاة" (رقم (2134)/ مكتبة الإسلامي)، والإمام الوادعي رحمه الله في "الصحيح المسند" (رقم (792)/دار الآثار).
قال الإمام أبو الطيب رحمه الله: (يقال): أي عند دخول الجنة (لصاحب القرآن): أي من يلازمه بالتلاوة والعمل لا من يقرؤه ولا يعمل به، (اقرأ وارتق): أي إلى درجات الجنة أو مراتب القرب، (ورتل): أي لا تستعجل في قراءتك في الجنة التي هي لمجرد التلذذ والشهود الأكبر كعبادة الملائكة (كما كنت ترتل): أي في قراءتك ، وفيه إشارة إلى أن الجزاء على وفق الأعمال كمية وكيفية (في الدنيا): من تجويد الحروف ومعرفة الوقوف اهـ.
وقال رحمه الله: ويؤخذ من الحديث أنه لا ينال هذا الثواب الأعظم إلا من حفظ القرآن وأتقن أداءه وقراءته كما ينبغي له اهـ.
وقال رحمه الله: وقال الطيبي : إن الترقي يكون دائما فكما أن قراءته في حال الاختتام استدعت الافتتاح الذي لا انقطاع له كذلك هذه القراءة والترقي في المنازل التي لا تتناهى ، وهذه القراءة لهم كالتسبيح للملائكة لا تشغلهم من مستلذاتهم بل هي أعظمها اهـ.
وقال رحمه الله: قال بعض العلماء: إن من عمل بالقرآن فكأنه يقرؤه دائما وإن لم يقرأه ، ومن لم يعمل بالقرآن فكأنه لم يقرأه وإن قرأه دائما، وقد قال الله تعالى: ﴿كتاب أنزلناه إليك مبارك ليدبروا آياته وليتذكر أولو الألباب﴾ فمجرد التلاوة والحفظ لا يعتبر اعتبارا يترتب عليه المراتب العلية في الجنة العالية اهـ. (كل في "عون المعبود" / تحت (1461)/دار الكتب العلمية).
وقال الإمام ابن القيم رحمه الله: والمقصود: التلاوة الحقيقية وهي تلاوة المعنى واتباعه تصديقا بخبره وائتمارا بأمره وانتهاء بنهيه وائتماما به حيث ما قادك انقدت معه فتلاوة القرآن تتناول تلاوة لفظه ومعناه وتلاوة المعنى أشرف من مجرد تلاوة اللفظ وأهلها هم أهل القرآن الذين لهم الثناء في الدنيا والآخرة فإنهم أهل تلاوة ومتابعة حقا اهـ. ("مفتاح دار السعادة"/1 / ص 56/المكتبة العصرية).
وقال علي القاري رحمه الله: وقال الطيبي: والمنزلة التي في الحديث هي ما يناله العبد من الكرامة على حسب منزلته في الحفظ والتلاوة لا غير، وذلك لما عرفنا من أصل الدين أن العامل بكتاب الله المتدبر له أفضل من الحافظ والتالي له إذا لم ينل شأنه في العمل والتدبر، وقد كان في الصحابة من هو أحفظ من الصديق وأكثر تلاوة منه وكان هو أفضلهم على الإطلاق لسبقه عليهم في العلم بالله وبكتابه وتدبره له وعمله به، وإن ذهبنا إلى الثاني وهو أحق الوجهين وأتمهما فالمراد من الدرجات التي يستحقها بالآيات سائرها وحينئذ تقدر التلاوة في القيامة على قدر العمل فلا يستطيع أحد أن يتلو آية إلا وقد أقام ما يجب عليه فيها، واستكمال ذلك إنما يكون للنبي - صلى الله عليه وسلم - ثم للأمة بعده على مراتبهم ومنازلهم في الدين ومعرفة اليقين، فكل منهم يقرأ على مقدار ملازمته إياه تدبرا وعملا اهـ وهو في غاية من الحسن والبهاء ونهاية الظهور والجلاء. ("مرقاة المفاتيح شرح مشكاة المصابيح"/4/ ص1470).
وقال علي القاري رحمه الله: وقد قال الله تعالى: {كتاب أنزلناه إليك مبارك ليدبروا آياته وليتذكر أولو الألباب} [ص: 29] فمجرد التلاوة والحفظ لا يعتبر اعتبارا يترتب عليه المراتب العلية في الجنة العالية. ("مرقاة المفاتيح شرح مشكاة المصابيح"/4/ ص1470).
ثم لو لم تحبط حسنات المبتدع فإن بدعته من الكبائر، ويوم القيامة يقيم الله ميزانه بالقسط.
والله تعالى أعلم، والحمد لله رب العالمين.
صنعاء، 24 جمادى الأولى 1436 هـ.
لأهل القرآن
لأبي فيروز عبد الرحمن الإندونيسي
غفر الله له
بسم الله الرحمن الرحيم
مقدمة
الحمد لله وأشهد أن لا إله إلا الله وأهل محمدا عبده ورسوله، اللهم صل وسلم على محمد وعلى آله أجمعين، وأما بعد:
فقد جاء سؤال من أخ فاضل حفظه الله: ما حال حديث تتويج الوالد الذي ابنه يحفظ القرآن ، وأن سبع ذرياته يبعدون من النار؟ وما حال أهل القرآن ووالده من أهل البدع أو أهل الشرك؟
فأقول مستعيناً بالله:
الباب الأول: أحوال حديث تتويج أهل القرآن
الحديث جاء عن بريدة بن الحصيب رضي الله عنه:
أخرجه الإمام أحمد بن حنبل رحمه الله في مسنده (22950) وابن أبي شيبة في مصنفه (30045) والدارمي في سننه (3434) وغيرهم قالوا: حدثنا أبو نعيم، حدثنا بشير هو ابن المهاجر، حدثني عبد الله بن بريدة، عن أبيه، قال: كنت جالسا عند النبي صلى الله عليه وسلم فسمعته يقول: «تعلموا سورة البقرة، فإن أخذها بركة، وتركها حسرة، ولا يستطيعها البطلة» . ثم سكت ساعة، ثم قال: " تعلموا سورة البقرة، وآل عمران، فإنهما الزهراوان، وإنهما تظلان صاحبهما يوم القيامة كأنهما غمامتان أو غيايتان، أو فرقان من طير صواف. وإن القرآن يلقى صاحبه يوم القيامة حين ينشق عنه القبر كالرجل الشاحب فيقول له: هل تعرفني؟ فيقول: ما أعرفك، فيقول: أنا صاحبك القرآن الذي أظمأتك في الهواجر، وأسهرت ليلك، وإن كل تاجر من وراء تجارته، وإنك اليوم من وراء كل [ص:2136] تجارة، فيعطى الملك بيمينه، والخلد بشماله، ويوضع على رأسه تاج الوقار، ويكسى والداه حلتين لا يقوم لهما الدنيا، فيقولان: بم كسينا هذا؟ فيقال لهما: بأخذ ولدكما القرآن. ثم يقال له: اقرأ واصعد في درج الجنة وغرفها، فهو في صعود ما دام يقرأ هذا كان أو ترتيلاً.
في سنده بشير بن المهاجر هو صدوق له مناكير ويخطئ كثيراً. (راجع "تهذيب التهذيب" /1/ص468).
وله شاهد من حديث أبي هريرة رضي الله عنه:
أخرجه الطبراني في الأوسط (5764) وأبو بكر الدينوري في المجالسة (2189) من طريق شريك، عن عبد الله بن عيسى، عن يحيى بن أبي كثير، عن أبي سلمة، عن أبي هريرة: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم ذكر القرآن وصاحبه يوم القيامة؛ فقال: «يعطى الملك بيمينه والخلد بشماله، ويوضع على رأسه تاج الوقار».
شريك هو ابن عبد الله النخعي، سيء الحفظ، وهو في الشواهد.
وأخرج الترمذي في سننه برقم (2915) عن أبي هريرة، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «يجيء القرآن يوم القيامة فيقول: يا رب حله، فيلبس تاج الكرامة، ثم يقول: يا رب زده، فيلبس حلة الكرامة، ثم يقول: يا رب ارض عنه، فيرضى عنه، فيقال له: اقرأ وارق، ويزاد بكل آية حسنة».
رجح الترمذي وقفه لأن غندر رواه عن شعبة بهذا السند موقوفاً، وهو كما قال.
وتابع شعبة زائدة –وهو ابن قدامة- أخرجه ابن أبي شيبة في مصنفه (30047)، وزيد بن أبي أنيسة عند الدارمي (3354) بسند موقوفاً على أبي هريرة رضي الله عنه.
ولا يمكن لأبي هريرة أن يجتهد في مثل هذه المغيبات، وليس ممن يأخذ من الإسرائيليات. فالحديث له حكم المرفوع إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم. وحديث أبي هريرة مع ما سبق يترقي إلى الحسن.
وله شاهد من حديث ابن عباس رضي الله عنهما:
أخرجه ابن أبي شيبة في مصنفه (30044) قال: حدثنا عبد الله بن نمير، قال: حدثنا محمد بن إسحاق، عن عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جده قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: «يمثل القرآن يوم القيامة رجلا، فيؤتى بالرجل قد حمله فخالف أمره، فيتمثل خصما له فيقول: يا رب حملته إياي فشر حامل تعدى حدودي، وضيع فرائضي، وركب معصيتي، وترك طاعتي، فما يزال يقذف عليه بالحجج حتى يقال: فشأنك به فيأخذ بيده، فما يرسله حتى يكبه على منخره في النار، ويؤتى برجل صالح قد كان حمله، وحفظ أمره، فيتمثل خصما له دونه فيقول: يا رب حملته إياي فخير حامل، حفظ حدودي، وعمل بفرائضي، واجتنب معصيتي، واتبع طاعتي، فما يزال يقذف له بالحجج حتى يقال: شأنك به، فيأخذ بيده فما يرسله حتى يلبسه حلة الإستبرق، ويعقد عليه تاج الملك، ويسقيه كأس الخمر».
وأخرجه ابن شاهين في "الترغيب في فضائل الأعمال" (207).
وسندهما ضعيف بسبب عنعنة ابن إسحاق وهو مدلس. ولكنه في الشواهد.
وله شاهد من حديث ابن عمر رضي الله عنهما:
أخرجه الدارمي في سننه (3355) قال: حدثنا موسى بن خالد، حدثنا إبراهيم بن محمد الفزاري، عن سفيان، عن عاصم، عن مجاهد، عن ابن عمر، قال: «يجيء القرآن يشفع لصاحبه، يقول: يا رب لكل عامل عمالة من عمله، وإني كنت أمنعه اللذة والنوم، فأكرم. فيقال: ابسط يمينك، فيملأ من رضوان الله، ثم يقال: ابسط شمالك، فيملأ من رضوان الله، ويكسى كسوة الكرامة، ويحلى حلية الكرامة، ويلبس تاج الكرامة».
وهذا السند حسن موقوف، بسبب عاصم بن أبي النجود، وهو حسن الحديث.
ولا يمكن لابن عمر أن يجتهد في مثل هذه المغيبات، وليس ممن يأخذ من الإسرائيليات. فالحديث له حكم المرفوع إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم.
فالحديث جيد، أو يبلغ الصحيح ببقية الطرق التي لم أذكرها هنا.
وأما حديث معاذ بن جبل، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «من قرأ القرآن وعمل بما فيه ومات في الجماعة بعثه الله يوم القيامة مع السفرة والحكام، ومن قرأ القرآن وهو ينفلت منه، ولا يدعه فله أجره مرتين، ومن كان حريصا عليه ولا يستطيعه ولا يدعه بعثه الله يوم القيامة مع أشراف أهله، وفضلوا على الخلائق كما فضلت النسور على سائر الطيور، وكما فضلت عين في مرج على ما حولها، ثم ينادي مناد: أين الذين كانوا لا يلهيهم رعية الأنعام عن تلاوة كتابي؟ فيقومون فيلبس أحدهم تاج الكرامة، ويعطى الفوز بيمينه، والخلد بشماله، فإن كان أبواه مسلمين كسيا حلة خيرا من الدنيا وما فيها، فيقولان: أنى هذه لنا؟ فيقال: بما كان ولدكما يقرأ القرآن». (أخرجه الطبراني في "المعجم الكبير" (136) والبيهقي في "شعب الإيمان" (1837)).
في سنده سويد بن عبد العزيز، وهو سويد بن عبد العزيز بن نمير السلمي الدمشقي، وهو متروك الحديث. (راجع "تهذيب التهذيب"/4/ص 276).
وجاء من حديث كعب بن مالك رضي الله عنه أنه قال: «يمثل القرآن لمن كان يعمل به في الدنيا يوم القيامة كأحسن صورة رآها، وأحسنها وجها، وأطيبها ريحا، فيقوم بجنب صاحبه، فكلما جاءه روع هدأ روعه، وسكنه، وبسط له أمله، فيقول له: جزاك الله خيرا من صاحب، فما أحسن صورتك وأطيب ريحك، فيقول له: أما تعرفني؟، تعال اركبني، فطالما ركبتك في الدنيا، أنا عملك، إن عملك كان حسنا، فترى صورتي حسنة، وكان طيبا فترى ريحي طيبة، فيحمله فيوافي به الرب تبارك وتعالى [ص:130]، فيقول: يا رب هذا فلان، وهو أعرف به منه، قد شغلته في أيامه في حياته في الدنيا، أظمأت نهاره، وأسهرت ليله، فشفعني فيه، فيوضع تاج الملك على رأسه، ويكسى حلة الملك، فيقول: يا رب قد كنت أرغب له عن هذا، وأرجو له منك أفضل من هذا، فيعطى الخلد بيمينه، والنعمة بشماله، فيقول: يا رب إن كل تاجر قد دخل على أمله من تجارته، فيشفع في أقاربه، وإن كان كافرا مثل له عمله في أقبح صورة رآها وأنتنها، فكلما جاءه روع زاده روعا، فيقول: قبحك الله من صاحب، فما أقبح صورتك وما أنتن ريحك، فيقول: من أنت؟، فيقول: أما تعرفني؟، أنا عملك، إن عملك كان قبيحا فترى صورتي قبيحة، وكان منتنا فترى ريحي منتنة، فيقول: تعال أركبك، فطالما ركبتني في الدنيا، فيركبه فيوافي به الله فلا يقيم له وزنا». (أخرجه ابن أبي شيبة في مصنفه (30046)).
في سنده موسى بن عبيدة الربذي، وهو أبو عبد العزيز المدني، منكر الحديث، ضعيف جداً. (راجع "تهذيب التهذيب"/10/ص 357).
وجاء من حديث معاذ بن أنس رضي الله عنه:
أخرجه الإمام أحمد في مسنده (15645) وأبو داود في سننه (2465) وأبو يعلى في مسنده (1493) والطبراني في الكبير (445) من طريق زبان بن فائد، عن سهل بن معاذ الجهني عن أبيه: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «من قرأ القرآن وعمل بما فيه، ألبس والداه تاجا يوم القيامة، ضوءه أحسن من ضوء الشمس في بيوت الدنيا لو كانت فيكم، فما ظنكم بالذي عمل بهذا؟».
زبان بن فائد هو زبان بن فائد المصري، أبو جوين الحمراوي، وهو عابد فاضل، ولكنه منكر الحديث. قال أحمد: أحاديثه مناكير. قال ابن معين: شيخ ضعيف. وقال ابن حبان: منكر الحديث جداً، يتفرد عن سهل بن معاذ بنسخة كأنها موضوعة، لا يحتج به. ("تهذيب التهذيب" /3/ص 308).
فهذا الحديث لا يصلح للشواهد.
الباب الثاني: شفاعة أهل القرآن لغيره
قد ثبت أن القرآن يشفع لصاحبه.
عن أبي أمامة الباهلي رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم، يقول: «اقرءوا القرآن فإنه يأتي يوم القيامة شفيعا لأصحابه، اقرءوا الزهراوين البقرة، وسورة آل عمران، فإنهما تأتيان يوم القيامة كأنهما غمامتان، أو كأنهما غيايتان، أو كأنهما فرقان من طير صواف، تحاجان عن أصحابهما، اقرءوا سورة البقرة، فإن أخذها بركة، وتركها حسرة، ولا تستطيعها البطلة». قال معاوية –أحد الرواة-: بلغني أن البطلة: السحرة. (أخرجه مسلم (804)).
ولم يذكر في تلك الأحاديث أنه يشفع في سبع ذريات وأنهم يبعدون من النار بسبب قراءة صاحب القرآن.
وإنما جاء من حديث كعب بن مالك رضي الله عنه: (...فيشفع في أقاربه) وهو حديث ضعيف جداً كما سبق.
ولا شك أن من دخل الجنة من المؤمنين عموماً يشفعون لغيرهم من المؤمنين بإذن الله تعالى، بشروط معروفة.
عن أبى سعيد الخدري رضي الله عنه: قال رسول الله -صلى الله عليه وعلى آله وسلم-: «... فيمرّ المؤمنون كطرف العين وكالبرق وكالريح وكالطير وكأجاويد الخيل والركاب فناج مسلم ومخدوش مرسل ومكدوس في نار جهنم. حتى إذا خلص المؤمنون من النار، فوالذي نفسي بيده ما منكم من أحد بأشد مناشدة لله في استقصاء الحق من المؤمنين لله يوم القيامة لإخوانهم الذين في النار. يقولون: ربنا كانوا يصومون معنا ويصلون ويحجون. فيقال لهم: أخرجوا من عرفتم. فتحرم صورهم على النار فيخرجون خلقا كثيرا قد أخذت النار إلى نصف ساقيه وإلى ركبتيه. ثم يقولون: ربنا ما بقى فيها أحد ممن أمرتنا به. فيقول: ارجعوا فمن وجدتم فى قلبه مثقال دينار من خير فأخرجوه. فيخرجون خلقا كثيرا ثم يقولون: ربنا لم نذر فيها أحدا ممن أمرتنا. ثم يقول: ارجعوا فمن وجدتم في قلبه مثقال نصف دينار من خير فأخرجوه. فيخرجون خلقا كثيرا ثم يقولون: ربنا لم نذر فيها ممن أمرتنا أحدا. ثم يقول: ارجعوا فمن وجدتم في قلبه مثقال ذرة من خير فأخرجوه. فيخرجون خلقاً كثيراً ثم يقولون: ربنا لم نذر فيها خيرا». وكان أبو سعيد الخدري يقول: إن لم تصدقوني بهذا الحديث فاقرءوا إن شئتم ﴿إن الله لا يظلم مثقال ذرة وإن تك حسنة يضاعفها ويؤت من لدنه أجرا عظيما﴾ فيقول الله عز وجل: شفعت الملائكة وشفع النبيون وشفع المؤمنون ولم يبق إلا أرحم الراحمين فيقبض قبضة من النار فيخرج منها قوما لم يعملوا خيرا قط قد عادوا حمما فيلقيهم في نهر في أفواه الجنة يقال له: نهر الحياة فيخرجون كما تخرج الحبة في حميل السيل ألا ترونها تكون إلى الحجر أو إلى الشجر ما يكون إلى الشمس أصيفر وأخيضر وما يكون منها إلى الظل يكون أبيض». الحديث. (أخرجه البخاري (7439) ومسلم (183)).
الباب الثالث: تاج أهل القرآن
قد ذكر في تلك الأحاديث أن من فضائل أهل القرآن أنه يعطىَ تاج الكرامة، أو تاج الوقار، أو تاج الملك. وما هذا التاج؟ هو ما يوضع على رأس الملِك علامة للعزّ والكراكة وعلوّ المنقبة. وهذا من ملابس أهل الجنة.
قال الإمام ابن القيم رحمه الله: ومن ملابسهم التيجان على رؤوسهم. ("حادي الأرواح" /ص 204).
وقال علي القاري رحمه الله في شرح حديث (ويوضع على رأسه تاج الوقار): أي المعزة. وفى النهاية: التاج ما يصاغ للملوك من الذهب والجواهر. ("مرقاة المفاتيح"/6/ص2482).
وقال محمد عبد الرحمن المباركفوري رحمه الله: (ويوضع على رأسه تاج الوقار) أي: تاج هو سبب العزة والعظمة. ("تحفة الأحوذي"/5/ص 248).
الباب الرابع: إنما ينال فضل القرآن أهله
ففي الجملة: حديث تتويج أهل القرآن يدل على عظيم فضائل أهل القرآن.
ولا شك أنه ليس كل قارئ للقرآن يبلغ تلك الفضائل. وإنما يستحقها المؤمنون به، العاملين بمقتضاه، المتبعين له.
قال الله تعالى: ﴿وننزل من القرآن ما هو شفاء ورحمة للمؤمنين ولا يزيد الظالمين إلا خساراً﴾ [الإسراء: 82].
قال الإمام ابن رجب الحنبلي رحمه الله: قال بعض السلف: ما جالس أحد القرآن، فقام عنه سالما؛ بل إما أن يربح أو أن يخسر، ثم تلا هذه الآية. ("جامع العلوم والحكم"/2/ص26(.
عن أبي مالك الأشعري قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم: «... والقرآن حجة لك أو عليك كل الناس يغدو فبايع نفسه فمعتقها أو موبقها». (أخرجه مسلم (223) بسند منقطع، وأخرجه النسائي (2437) بسند متصل صحيح).
قال النووي رحمه الله: وأما قوله صلى الله عليه و سلم: «والقرآن حجة لك أو عليك» فمعناه ظاهر أي: تنتفع به إن تلوته وعملت به، وإلا فهو حجة عليك. وأما قوله صلى الله عليه و سلم: «كل الناس يغدو فبائع نفسه فمعتقها أو موبقها» فمعناه: كل إنسان يسعى بنفسه، فمنهم من يبيعها لله تعالى بطاعته فيعتقها من العذاب، ومنهم من يبيعها للشيطان والهوى باتباعهما فيوبقها أى: يهلكها. والله أعلم. ("شرح النووي على مسلم"/3 /ص102).
فأهل البدع كالخوارج وغيرهم وإن كثرت تلاوتهم للقرآن فلا تنفعهم إذا خالفوا مقتضاه.
عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه: قال النبي صلى الله عليه وسلم في شأن الخوارج: «إن من ضئضئ هذا، أو: في عقب هذا قوما يقرءون القرآن لا يجاوز حناجرهم، يمرقون من الدين مروق السهم من الرمية، يقتلون أهل الإسلام ويدعون أهل الأوثان، لئن أنا أدركتهم لأقتلنهم قتل عاد». (أخرجه البخاري (3344) ومسلم (1064)).
قال الإمام محمد بن إسماعيل الأمير الصنعاني رحمه الله عن كلمة التوحيد: ولا نفعت الخوارج مع ما انضمَّ إليها من العبادة التي يحتقر الصحابةُ عبادتَهم إلى جنبها، بل أَمَرَ صلى الله عليه وسلم بقتلهم، وقال: «لئن أدركتُهم لأقتلَنَّهم قتل عاد»، وذلك لَمَّا خالفوا بعضَ الشريعة وكانوا شرّ القتلى تحت أديم السماء، كما ثبتت به الأحاديث. فثبت أنَّ مجرَّدَ قول كلمة التوحيد غيرُ مانع من ثبوت شرك مَن قالَها؛ لارتكابه ما يُخالفها من عبادة غير الله. ("تطهير الاعتقاد" / ص89-91/ط. دار ابن حزم).
وإنما ينتفع بالقرآن أهله.
عن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: «يُقَالُ لِصَاحِبِ الْقُرْآنِ اقْرَأْ وَارْتَقِ وَرَتِّلْ كَمَا كُنْتَ تُرَتِّلُ فِى الدُّنْيَا فَإِنَّ مَنْزِلَكَ عِنْدَ آخِرِ آيَةٍ تَقْرَؤُهَا». (أخرجه أبو داود (1461)/عون)، والترمذي (2914)/أحوذي) وحسنه الإمام الألباني رحمه الله كما في "المشكاة" (رقم (2134)/ مكتبة الإسلامي)، والإمام الوادعي رحمه الله في "الصحيح المسند" (رقم (792)/دار الآثار).
قال الإمام أبو الطيب رحمه الله: (يقال): أي عند دخول الجنة (لصاحب القرآن): أي من يلازمه بالتلاوة والعمل لا من يقرؤه ولا يعمل به، (اقرأ وارتق): أي إلى درجات الجنة أو مراتب القرب، (ورتل): أي لا تستعجل في قراءتك في الجنة التي هي لمجرد التلذذ والشهود الأكبر كعبادة الملائكة (كما كنت ترتل): أي في قراءتك ، وفيه إشارة إلى أن الجزاء على وفق الأعمال كمية وكيفية (في الدنيا): من تجويد الحروف ومعرفة الوقوف اهـ.
وقال رحمه الله: ويؤخذ من الحديث أنه لا ينال هذا الثواب الأعظم إلا من حفظ القرآن وأتقن أداءه وقراءته كما ينبغي له اهـ.
وقال رحمه الله: وقال الطيبي : إن الترقي يكون دائما فكما أن قراءته في حال الاختتام استدعت الافتتاح الذي لا انقطاع له كذلك هذه القراءة والترقي في المنازل التي لا تتناهى ، وهذه القراءة لهم كالتسبيح للملائكة لا تشغلهم من مستلذاتهم بل هي أعظمها اهـ.
وقال رحمه الله: قال بعض العلماء: إن من عمل بالقرآن فكأنه يقرؤه دائما وإن لم يقرأه ، ومن لم يعمل بالقرآن فكأنه لم يقرأه وإن قرأه دائما، وقد قال الله تعالى: ﴿كتاب أنزلناه إليك مبارك ليدبروا آياته وليتذكر أولو الألباب﴾ فمجرد التلاوة والحفظ لا يعتبر اعتبارا يترتب عليه المراتب العلية في الجنة العالية اهـ. (كل في "عون المعبود" / تحت (1461)/دار الكتب العلمية).
وقال الإمام ابن القيم رحمه الله: والمقصود: التلاوة الحقيقية وهي تلاوة المعنى واتباعه تصديقا بخبره وائتمارا بأمره وانتهاء بنهيه وائتماما به حيث ما قادك انقدت معه فتلاوة القرآن تتناول تلاوة لفظه ومعناه وتلاوة المعنى أشرف من مجرد تلاوة اللفظ وأهلها هم أهل القرآن الذين لهم الثناء في الدنيا والآخرة فإنهم أهل تلاوة ومتابعة حقا اهـ. ("مفتاح دار السعادة"/1 / ص 56/المكتبة العصرية).
وقال علي القاري رحمه الله: وقال الطيبي: والمنزلة التي في الحديث هي ما يناله العبد من الكرامة على حسب منزلته في الحفظ والتلاوة لا غير، وذلك لما عرفنا من أصل الدين أن العامل بكتاب الله المتدبر له أفضل من الحافظ والتالي له إذا لم ينل شأنه في العمل والتدبر، وقد كان في الصحابة من هو أحفظ من الصديق وأكثر تلاوة منه وكان هو أفضلهم على الإطلاق لسبقه عليهم في العلم بالله وبكتابه وتدبره له وعمله به، وإن ذهبنا إلى الثاني وهو أحق الوجهين وأتمهما فالمراد من الدرجات التي يستحقها بالآيات سائرها وحينئذ تقدر التلاوة في القيامة على قدر العمل فلا يستطيع أحد أن يتلو آية إلا وقد أقام ما يجب عليه فيها، واستكمال ذلك إنما يكون للنبي - صلى الله عليه وسلم - ثم للأمة بعده على مراتبهم ومنازلهم في الدين ومعرفة اليقين، فكل منهم يقرأ على مقدار ملازمته إياه تدبرا وعملا اهـ وهو في غاية من الحسن والبهاء ونهاية الظهور والجلاء. ("مرقاة المفاتيح شرح مشكاة المصابيح"/4/ ص1470).
وقال علي القاري رحمه الله: وقد قال الله تعالى: {كتاب أنزلناه إليك مبارك ليدبروا آياته وليتذكر أولو الألباب} [ص: 29] فمجرد التلاوة والحفظ لا يعتبر اعتبارا يترتب عليه المراتب العلية في الجنة العالية. ("مرقاة المفاتيح شرح مشكاة المصابيح"/4/ ص1470).
ثم لو لم تحبط حسنات المبتدع فإن بدعته من الكبائر، ويوم القيامة يقيم الله ميزانه بالقسط.
والله تعالى أعلم، والحمد لله رب العالمين.
صنعاء، 24 جمادى الأولى 1436 هـ.