إعـــــــلان

تقليص
لا يوجد إعلان حتى الآن.

رحمة الغفار. بدراسة أسانيد ومتون حديث سيد الاستغفار

تقليص
X
 
  • تصفية - فلترة
  • الوقت
  • عرض
إلغاء تحديد الكل
مشاركات جديدة

  • رحمة الغفار. بدراسة أسانيد ومتون حديث سيد الاستغفار

    رحمة الغَفَّار
    بدراسة أسانيد ومتون
    أحاديث سيد الاستغفار



    كتبه الفقير إلى الله:
    أبو فيروز عبد الرحمن بن سوكايا الإندونيسي


    بسم الله الرحمن الرحيم
    مقدمة مؤلف عفا الله عنه

    الحمد لله وأشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا عبده ورسوله اللهم صل وسلم على محمد وآله أجمعين أما بعد:
    فقد سألني أحد الإخوة في بداية شهر رمضان هذه السنة (1435 من الهجرة) أن أشرح حديث سيد الاستغفار. وقد علمنا أن لأبي العون محمد السفاريني رحمه الله كتاب "نتائج الأفكار في شرح حديث سيد الاستغفار".
    ولعلّ الأخ يحب شرحاً لطيفاً مفيداً سهلاً للفهم والاعتبار، فألبّي المطلب بحول الله وقوته وحده، وأذكر أقوال العلماء المناسبة لهذا المقام إن شء الله، وأسوق دراسة أسانيد الحديث لوجود الاختلاف بين الرواة في ذلك.
    فأقول مستعينا بالله تعالى:

    الباب الأول: تخريج حديث سيد الاستغفار

    أخبار سيد الاستغفار جاء من بعض الصحابة رضي الله عنهم.
    الأول: حديث شداد بن أوس رضي الله عنه:
    قال الإمام البخاري رحمه الله: حدثنا أبو معمر حدثنا عبد الوارث حدثنا الحسين حدثنا عبد الله بن بريدة قال حدثني بشير بن كعب العدوي قال حدثني شداد بن أوس رضي الله عنه: عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «سيد الاستغفار أن تقول: اللهم أنت ربي لا إله إلا أنت خلقتني وأنا عبدك وأنا على عهدك ووعدك ما استطعت، أعوذ بك من شر ما صنعت، أبوء لك بنعمتك علي وأبوء لك بذنبي، فاغفر لي، فإنه لا يغفر الذنوب إلا أنت». قال: «ومن قالها من النهار موقناً بها فمات من يومه قبل أن يمسي فهو من أهل الجنة، ومن قالها من الليل وهو موقن بها فمات قبل أن يصبح فهو من أهل الجنة». (أخرجه البخاري (6306)).
    وأخرجه من طريق عبد الوارث أيضا الإمام أحمد (17172) به.
    وأخرجه الإمام البخاري رحمه الله في صحيحه برقم (6323) والنسائي في "الكبرى" (7963) من طريق يزيد بن زريع عن الحسين المعلم به.
    وأخرجه الإمام أحمد في "المسند" (17152) وابن حبان في صحيحه (933) من طريق يحيى بن سعيد القطان عن حسين بن ذكوان عن عبد الله بن بريدة عن بشير بن كعب به.
    وأخرجه النسائي في "الكبرى" (9847) من طريق محمد بن جعفر غندر عن الحسين المعلم به.
    بل النسائي في "الكبرى" (10298) من طريق يزيد بن زريع وبشر بن المفضل ويحيى بن سعيد وابن أبي عدي قالوا حدثنا حسين المعلم به.
    نعم، أخرج من طريق محمد بن أبي عدي أيضا الإمام أحمد في مسنده (17171) به.
    وأخرجه ابن أبي شيبة في "المصنف" (23949) والحاكم في "المستدرك على الصحيحين" (3707) وابن حبان في صحيحه (932) من طريق أبي أسامة حدثني حسين بن ذكوان عن عبد الله بن بريدة عن بشير بن كعب به.
    وأخرجه الطبراني في "المعجم الأوسط" (1014) من طريق مرجى بن رجاء عن حسين المعلم به.
    كلهم يروون عن حسين المعلم عن عبد الله بن بريدة عن بشير بن كعب العدوي عن شداد بن أوس رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم.
    هذا هو الراجح. وقد ذُكر أن شعبة رحمه الله رواه عن حسين المعلم عن ابن بريدة عن بشير بن كعب عن النبي صلى الله عليه وسلم مرسلاً.
    قال ابن أبي حاتم الرازي رحمه الله: قال أبي: روى هذا الحديث شعبة ، عن حسين المعلم ، عن ابن بريدة ، عن بشير بن كعب ، عن النبي صلى الله عليه وسلم ، ولم يقل شداد. قال أبي: الصحيح عن شداد ، عن النبي. نقص شعبة رجلاً. ("علل الحديث" /لابن أبي حاتم /(2077)).
    وقد خالف حسيناً المعلم الوليدُ بن ثعلبة فيرويه عن ابن بريدة عن أبيه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم به، كما أخرجه النسائي في "الكبرى" (10415)، فجعله من حديث بريدة بن الحصيب رضي الله عنه.
    والوليد بن عثلبة الطائي وثقه ابن معين. ("تهذيب التهذيب"/11/ص116).
    وأما الحسين بن ذكوان المعلم البصري ثقة، من رواة الجماعة. وقد وثقه ابن معين، وأبو حاتم الرازي، والنسائي، والدارقطني، وابن سعد، والعجلي، وأبو بكر البزار. وقال أبو زرعة: ليس به بأس. وقال أبو جعفر العقيلي: ضعيف مضطرب الحديث. وقال يحيى بن سعيد القطان: فيه اضطراب. ("تهذيب التهذيب"/2/ص293).
    قال ابن حجر رحمه الله: لعل الاضطراب من الرواة عنه، فقد احتج به الأئمة. ("مقدمة فتح البارى"/2/ص284).
    من أجل هذا يرى ابن حبان البستي رحمه الله الروايتين محفوظتين فقال: سمع هذا الخبر عبد الله بن بريدة عن أبيه وسمعه من بشير بن كعب عن شداد بن أوس فالطريقان جميعا محفوظان. ("صحيح ابن حبان"/3/ص213).
    وأما الإمام النسائي رحمه الله فرجح رواية حسين المعلم فقال: حسين أثبت عندنا من الوليد بن ثعلبة وأعلم بعبد الله بن بريدة وحديثه أولى بالصواب. ("السنن الكبرى للنسائي"/6/ص 150).
    وهو ترجيح الحافظ البزار رحمه الله حيث أخرج طريق حسين المعلم ثم قال: وهذا الإسناد من أحسن إسناد يروى عن شداد وأشده اتصالاً عنه. ("البحر الزخار ـ مسند البزار"/(2949)).
    وقد اختار الإمام البخاري رواية حسين المعلم في موضعين في صحيحه فجعله من حديث شداد بن أوس رضي الله عنه.
    وقد روى أيضاً الإمام النسائي رحمه الله فقال: أخبرنا سليمان بن عبيد الله حدثنا بهز بن أسد حدثنا حماد بن سلمة حدثنا ثابت عن عبد الله بن بريدة أن نفرا صحبوا شداد بن أوس فقالوا حدثنا بشئ سمعته من رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول –ثم ذكر الحديث-. (أخرجه النسائي في "الكبرى" (10299)).
    فأبهم عبد الله بن بريدة شيخه عن شداد بن أوس رضي الله عنه، وقد صرح به في الروايات المتقدمة وهو: بشير بن كعب العدوي.
    ولبشير بن كعب العدوي متابع كما في رواية الإمام الترمذي رحمه الله أنه أخرج الحديث من طريق عبد العزيز بن أبي حازم عن كثير بن زيد عن عثمان بن ربيعة عن شداد بن أوس رضي الله عنه. ("سنن الترمذي"/(3393)).
    كثير بن زيد الأسلمي هو أبو محمد المدني، صدوق يخطئ. ("تهذيب التهذيب"/8/ص370).
    وعبد العزيز بن أبي حازم هو أبو تمام المدني ثقة فقيه. ("تهذيب التهذيب"/6/ص297).
    وعثمان بن ربيعة هو ابن عبدالله بن الهدير. مجهول العين، ما روى عنه سوى كثير بن زيد. ("ميزان الاعتدال"/(5504)).
    ولا نفرح بمتابعة مجهول العين.
    وله متابع آخر كما أخرجه ابن أبي شيبة في "المصنف" (23949) عن زيد بن حباب حدثني كثير بن زيد المدني حدثني المغيرة بن سعيد بن نوفل عن شداد بن أوس : أن رسول الله صلى الله عليه و سلم قال له : ألا أدلك على سيد الاستغفار. الحديث.
    وأخرجه الإمام الطبراني رحمه الله من طريق زيد بن حباب به. ("المعجم الكبير (7189)).
    زيد بن حباب قال فيه الإمام أحمد: صدوق كثير الخطأ. ("ميزان الاعتدال"/2/ص100).
    والمغيرة بن سعيد بن نوفل هو حجازي لم نجد من روى عنه غير كثير بن زيد، فهو يعتبر مجهول العين. (ذكره ابن حبان في "الثقات"/5/ص407).
    ولا نفرح بمتابعة مجهول العين.
    ولا شك أن حديث شداد بن أوس رضي الله عنه صحيح بلا هذه المتابعات.

    الثاني: حديث جابر بن عبد الله رضي الله عنهما
    قال الإمام عبد بن حميد رحمه الله: حدثنا محمد بن منيب العدني أنا السري بن يحيى عن هشام عن أبي الزبير عن جابر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «تعلّموا سيد الاستغفار اللهم أنت ربي لا إله إلا أنت خلقتني وأنا عبدك على عهدك ووعدك ما استطعت وأعوذ بك من شر ما صنعت أبوء بنعمتك علي وأبوء بذنبي فاغفر لي ذنبي إنه لا يغفر الذنوب إلا أنت». ("مسند عبد بن حميد" (1063)).
    ومن طريق محمد بن منيب العدني أيضا أخرج الإمام النسائي رحمه الله هذا الحديث بلفظ الأمر: «تعلّموا سيد الاستغفار»، الحديث. (أخرجه النسائي في "الكبرى" (10301)).
    ومحمد بن منيب هو أبو الحسن العدني، حسن الحديث. ("تهذيب التهذيب"/9/ص421).
    وتابع محمدَ بن منيب العدني: الأزرقُ عن السري به. (أخرجه النسائي في "الكبرى" (10302)).
    والأزرق هو إسحاق بن يوسف الواسطي الأزرق، ثقة.
    والسري بن يحيى هو ابن إياس بن حرملة الشيباني أبو الهيثم، ثقة. ("تهذيب التهذيب"/3/ص400).
    وهشام هو ابن سنبر الدستوائي أبو بكر، ثقة ثبت. ("تهذيب التهذيب"/11/ص40).
    حديث جابر رضي الله عنه صحيح.
    فالخلاصة: حديث سيد الاستغفار صحيح عن شداد بن أوس رضي الله عنه خبراً عن فضيلته، وعن جابر بن عبد الله رضي الله عنه أمراً إرشاديّاً.

    الباب الثاني: شرح حديث سيد الاستغفار

    عن شداد بن أوس رضي الله عنه: عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «سيد الاستغفار أن تقول: اللهم أنت ربي لا إله إلا أنت خلقتني وأنا عبدك وأنا على عهدك ووعدك ما استطعت، أعوذ بك من شر ما صنعت، أبوء لك بنعمتك علي وأبوء لك بذنبي، فاغفر لي، فإنه لا يغفر الذنوب إلا أنت». قال: «ومن قالها من النهار موقناً بها فمات من يومه قبل أن يمسي فهو من أهل الجنة، ومن قالها من الليل وهو موقن بها فمات قبل أن يصبح فهو من أهل الجنة». (أخرجه البخاري (6306)).
    مفردات الحديث:
    قوله «سيد»، قال ابن الأثير رحمه الله: والسَّيّد يُطْلق على الربِّ، والمالِك، والشَّرِيف، والفاَضِل، والكَرِيم، والحَليِم، ومُتَحمِّل أذَى قَومِه، والزَّوج، والرئيس، والمقدَّم . وأصله من ساَدَ يَسُودُ فهو سَيْوِد فقُلبت الواو ياء لأجْل الياءِ السَّاكِنَة قبلها ثم أدغمت. ("النهاية في غريب الأثر" /2/ص 1029).
    هذا يدل على أن هذا الدعاء أفضل الاسغفار، كما سيأتي كلام العلماء في ذلك.
    وقوله: «الاستغفار» طلب المغفرة. والمغفرة ستر الذنب ومحوه. قال شيخ الإسلام رحمه الله: ومن الناس من يقول: (الغفر الستر) ويقول: (إنما سمي المغفرة والغفار لما فيه من معنى الستر وتفسير اسم الله الغفار بأنه الستار). وهذا تقصير في معنى الغفر فإن المغفرة معناها وقاية شر الذنب بحيث لا يعاقب على الذنب. فمن غفر ذنبه لم يعاقب عليه. وأما مجرد ستره فقد يعاقب عليه في الباطن. ومن عوقب على الذنب باطنا، أو ظاهرا، فلم يغفر له. وإنما يكون غفران الذنب إذا لم يعاقب عليه العقوبة المستحقة بالذنب. ("مجموع الفتاوى"/10 /ص317).
    وقال الإمام ابن القيم رحمه الله: فالاستغفار المفرد كالتوبة بل هو التوبة بعينها مع تضمنه طلب المغفرة من الله، وهو محو الذنب وإزالة أثره ووقاية شره، لا كما ظنه بعض الناس: أنها الستر، فإن الله يستر على من يغفر له ومن لا يغفر له. ("مدارج السالكين"/1/ص307).
    وقوله: «اللهم» نداء لرب العالمين، ولفظ الجلالة اسمه الدال على أنه هو المستحق لأن يُعبد. قال الإمام ابن كثير رحمه الله: وأصل ذلك الإله، فحذفت الهمزة التي هي فاء الكلمة، فالتقت اللام التي هي عينها مع اللام الزائدة في أوّلها للتعريف فأدغمت إحداهما في الأخرى، فصارتا في اللفظ لامًا واحدة مشددة، وفخمت تعظيما، فقيل: الله اهـ. ("تفسير القرآن العظيم"/1 / ص 124).
    و«الإله» بمعنى المألوه، وهو المعبود. قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: فإن الإله هو المألوه الذي يستحق أن يؤله فيعبد. والعبادة تجمع غاية الذل، وغاية الحب وهذا لا يستحقه إلا هو. اهـ. ("مجموع الفتاوى"/8 / ص378).
    والميم عوض عن حرف النداء (يا)، فلا تجتمعان في المنادى. قال الإمام ابن القيم رحمه الله: لا خلاف أن لفظة اللهم معناها يا الله ولهذا لا تستعمل إلا في الطلب، فلا يقال اللهم غفور رحيم بل يقال اللهم اغفر لي وارحمني. ("جلاء الأفهام"/ص143).
    وقال ابن عقيل رحمه الله: والأكثر في نداء اسم الله اللهم بميم مشددة معوضة من حرف النداء وشذ الجمع بين اليم وحرف النداء في قوله:
    إني إذا ما حدث ألما ... أقول يا اللهم يا اللهما.
    ("شرح ابن عقيل على ألفية ابن مالك"/3/ص265).
    وقال الإمام ابن القيم رحمه الله: والضمة التي على الهاء ضمة الاسم المنادى المفرد وفتحت الميم لسكونها وسكون الميم التي قبلها، وهذا من خصائص هذا الاسم كما اختص بالتاء في القسم وبدخول حرف النداء عليه مع لام التعريف وبقطع همزة وصله في النداء وتفخيم لامه وجوبا غير مسبوقة بحرف إطباق هذا ملخص مذهب الخليل وسيبويه. ("جلاء الأفهام"/ص143-144).
    زعم بعض العلماء أن الميم عوض عن الجملة. ولكنه مرجوح من وجوه.
    قال الإمام ابن القيم رحمه الله: وقيل الميم عوض عن جملة محذوفة والتقدير يا الله أمنا بخير أي اقصدنا ثم حذف الجار والمجرور وحذف المفعول فبقي في التقدير يا الله أم ثم حذفوا الهمزة لكثرة دوران هذا الاسم في الدعاء على ألسنتهم فبقي يا اللهم. وهذا قول الفراء وصاحب هذا القول يجوز دخول يا عليه ويحتج بقول الشاعر:
    وما عليك أن تقولي كلما صليت أو سبحت ... يا اللهما اردد علينا شيخنا مسلما
    وبالبيت المتقدم وغيرهما
    ورد البصريون هذا بوجوه :
    أحدها: أن هذه تقادير لا دليل عليها ولا يقتضيها القياس فلا يصار إليها بغير دليل
    الثاني: أن الأصل عدم الحذف فتقدير هذه المحذوفات الكثيرة خلاف الأصل
    الثالث: أن الداعي بهذا قد يدعو بالشر على نفسه وعلى غيره فلا يصح هذا التقدير فيه تجمع بين يا واللهم ولو كان أصله ما ذكره الفراء لم يمتنع الجمع بل كان استعماله فصيحا شائعا والأمر بخلافه
    الخامس: أنه لا يمتنع أن يقول الداعي اللهم أمنا بخير ولو كان التقدير كما ذكره لم يجز الجمع بينهما لما فيه من الجمع بين العوض والمعوض
    السادس: أن الداعي بهذا الاسم لا يخطر ذلك بباله وإنما تكون غايته مجردة إلى المطلوب بعد ذكر الاسم
    السابع: أنه لو كان التقدير ذلك لكان اللهم جملة تامة يحسن السكوت عليها لاشتمالها على الاسم المنادى وفعل الطلب وذلك باطل
    الثامن: أنه لو كان التقدير ما ذكره لكتب فعل الأمر وحده ولم يوصل بالاسم المنادى كما يقال يا الله قه ويا زيد عه ويا عمرو فه لأن الفعل لا يوصل بالاسم الذي قبله حتى يجعلا في الخط كلمة واحدة هذا لا نظير له في الخط وفي الاتفاق على وصل الميم باسم الله دليل على أنها ليست بفعل مستقل
    التاسع: أنه لا يسوغ ولا يحسن في الدعاء أن يقول العبد اللهم أمني بكذا بل هذا مستكره اللفظ والمعنى فإنه لا يقال اقصدني بكذا إلا لمن كان يعرض له الغلط والنسيان فيقول له اقصدني وأما من لا يفعل إلا بإرادته ولا يضل ولا ينسى فلا يقال اقصد كذا
    العاشر: أنه يسوغ استعمال هذا اللفظ في موضع لا يكون بعده دعاء كقوله في الدعاء: (اللهم لك الحمد وإليك المشتكى وأنت المستعان وبك المستغاث وعليك التكلان ولا حول ولا قوة إلا بك). ]أخرجه الطبراني في "المعجم الأوسط" (3394) عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه. وفي سنده جبير بن محمد الواسطي، وهو مجهول. وفيه جعفر بن فضل الواسطي مجهول.
    وقوله: (اللهم إني أصبحت أشهدك وأشهد حملة عرشك وملائكتك وجميع خلقك أنك أنت الله لا إله إلا أنت وحدك لا شريك لك وأن محمدا عبدك ورسولك).
    وقوله تعالى: ﴿قل اللهم مالك الملك تؤتي الملك من تشاء وتنزع الملك ممن تشاء وتعز من تشاء وتذل من تشاء﴾ ]آل عمران: 26[ الآية .
    وقوله تعالى: ﴿قل اللهم فاطر السماوات والأرض عالم الغيب والشهادة أنت تحكم بين عبادك فيما كانوا فيه يختلفون﴾ ]الزمر: 46 [.
    وقول النبي في ركوعه وسجوده: «سبحانك اللهم ربنا وبحمدك اللهم اغفر لي»
    فهذا كله لا يسوغ فيه التقدير الذي ذكروه والله أعلم.
    (انتهى من "جلاء الأفهام"/ص145-146).
    والميم دليل على الجمع، فقوله «اللهم» نداء لجميع أسماء الله الحسنى.
    قال شيخ الإسلام رحمه الله: وجاءت الميم في مثل : اللهم إشعار بجميع الأسماء؛ وذلك لأن حرف الشفة لما كان جامعا للقوة من مبدأ مخارج الحروف إلى منتهاها بمنزلة الخاتم الآخر، الذي حوى ما في المتقدم وزيادة كان جامعا لقوى الحروف، فجعل جامعا للأسماء مظهرها ومضمرها وجامعا بين المفردات والجمل، فالواو والفاء عاطفان، والفاء رابطة جملة بجملة. ("مجموع الفتاوى" /16/ص224).
    قال الإمام ابن القيم رحمه الله: الميم تدل على الجمع وتقتضيه، ومخرجها يقتضي ذلك. وهذا مطرد على أصل من أثبت المناسبة بين اللفظ والمعنى كما هو مذهب أساطين العربية. وعقد له أبو الفتح بن جني بابا في "الخصائص" وذكره عن سيبويه، واستدل عليه بأنواع من تناسب اللفظ والمعنى، ثم قال: ولقد كنت برهة يرِد على اللفظ لا أعلم موضوعه، وآخذ معناه من قوة لفظه ومناسبة تلك الحروف لذلك المعنى، ثم أكشفه فأجده كما فهمته أو قريبا منه.
    فحكيت لشيخ الإسلام هذا عن ابن جني فقال: وأنا كثيراً ما يجري لي ذلك. ثم ذكر لي فصلاً عظيم النفع في التناسب بين اللفظ والمعنى ومناسبة الحركات لمعنى اللفظ، وأنهم في الغالب يجعلون الضمة التي هي أقوى الحركات للمعنى الأقوى والفتحة الخفيفة للمعنى الخفيف والمتوسطة للمتوسط فيقولون عزّ يعَزُّ بفتح العين إذا صلب، وأرض عزاز صلبة. ويقولون: عزّ يعِزُّ بكسرها إذا امتنع، والممتنع فوق الصلب. فقد يكون الشيء صلباً ولا يمتنع على كاسره. ثم يقولون: عزَّه يعُزُّه إذا غلبه. قال الله تعالى في قصة داود عليه السلام: ﴿وعزَّني في الخطاب﴾ ]ص: 23[، والغلبة أقوى من الامتناع إذ قد يكون الشيء ممتنعاً في نفسه متحصنا من عدوه ولا يغلب غيره. فالغالب أقوى من الممتنع فأعطوه أقوى الحركات. والصلب أضعف من الممتنع فأعطوه أضعف الحركات، والممتنع المتوسط بين المرتبتين فأعطوه حركة الوسط.
    ونظير هذا قولهم: ذِبح بكسر أوله للمحل المذبوح، وذَبح بفتح أوله لنفس الفعل، ولا ريب أن الجسم أقوى من العرض، فأعطوا الحركة القوية للقوي والضعيفة للضعيف. وهو مثل قولهم: نِهب ونَهب بالكسر للمنهوب وبالفتح للفعل. وكقولهم: مِلء ومَلء بالكسر لما يملأ الشيء وبالفتح للمصدر الذي هو الفعل. وكقولهم: حِمل وحَمل فبالكسر لما كان قويا مرئيا مثقلا لحامله على ظهره أو رأسه أو غيرهما من أعضائه، والحَمل بالفتح لما كان خفيفه غير مثقل لحامله كحَمل الحيوان وحَمل الشجرة به أشبه ففتحوه. وتأمل كونهم عكسوا هذا في الحِبّ والحُبّ فجعلوا المكسور الأول لنفس المحبوب ومضمومه للمصدر إيذاناً بخفة المحبوب على قلوبهم ولطف موقعه في أنفسهم وحلاوته عندهم وثقل حمل الحب ولزومه للمحب كما يلزم الغريم غريمه. ولهذا يسمى غراماً، ولهذا كثر وصفهم لتحمله بالشدة والصعوبة وإخبارهم بأن أعظم المخلوقات وأشدها من الصخر والحديد ونحوهما لو حمله لذاب ولم يستقل به كما هو كثير في أشعار المتقدين والمتأخرين وكلامهم، فكان الأحسن أن يعطوا المصدر هنا الحركة القوية والمحبوب الحركة التي هي أخف منها ومن هذا قولهم قبض بسكون وسطه للفعل وقبض بتحريكه للمقبوض والحركة أقوى من السكون والمقبوض أقوى من المصدر ونظيره سبق بالسكون للفعل وسبق بالفتح للمال المأخوذ في هذا العقد وتأمل قولهم دار دورانا وفارت القدر فورانا وغلت غليانا كيف تابعوا بين الحركات في هذه المصادر لتتابع حركة المسمى فطابق اللفظ المعنى وتأمل قولهم حجر وهواء كيف وضعوا للمعنى الثقيل الشديد هذه الحروف الشديدة ووضعوا للمعنى الخفيف هذه الحروف الهوائية التي هي من أخف الحروف
    وهذا أكثر من أن يحاط به وإن مد الله في العمر وضعت فيه كتابا مستقلا إن شاء الله تعالى.
    ومثل هذه المعاني يستدعي لطافة ذهن ورقة طبع ولا تتأتى مع غلظ القلوب والرضى بأوائل مسائل النحو والتصريف دون تأملها وتدبرها والنظر إلى حكمة الواضع ومطالعة ما في هذه اللغة الباهرة من الأسرار التي تدق على أكثر العقول وهذا باب ينبه الفاضل على ما وراءه. ﴿ومن لم يجعل الله له نورا فما له من نور﴾ ]النور: 40[.
    (انتهى من "جلاء الأفهام"/ص147-149).
    ثم قال الإمام ابن القيم رحمه الله: وتأمل الألفاظ التي فيها الميم كيف تجد الجمع معقوداً بها مثل لمّ الشيء يلمّه إذا جمعه. ومنه: لمّ الله شعثه أي: جمع ما تفرق من أموره. ومنه قولهم: دار لمومة أي تلمّ الناس وتجمعهم. ومنه: ﴿أكلا لما﴾ ]الفجر: 19[ جاء في تفسيرها: يأكل نصيبه ونصيب صاحبه. وأصله من اللمّ وهو الجمع، كما يقال: لفّه يلفّه. ومنه ألمّ بالشيء إذا قارب الاجتماع به والوصول إليه. ومنه: اللمم وهو مقاربة الاجتماع بالكبائر. ومنه: الملمّة وهي النازلة التي تصيب العبد. ومنه: اللمّة وهي الشعر الذي قد اجتمع وتقلص حتى جاوز شحمة الأذن. ومنه: تمّ الشيء وما تصرف منها. ومنه: بدر التمّ إذا كمل واجتمع نوره. ومنه: التوأم للولدين المجتمعين في بطن. ومنه الأمّ وأمّ الشيء أصله الذي تفرع منه، فهو الجامع له، وبه سميت مكة أمّ القرى والفاتحة أمّ القرآن واللوح المحفوظ أمّ الكتاب.
    قال الجوهري: أمّ الشيء أصله. ومكة أمّ القرى وأمّ مثواك صاحبة منزلك يعني: التي تأوي إليها وتجتمع معها. وأمّ الدماغ الجلدة التي تجمع الدماغ، ويقال لها: أمّ الرأس. وقوله تعالى في الآيات المحكمات: ﴿هنّ أمّ الكتاب﴾ ]آل عمران: 7[، والأمّة الجماعة المتساوية في الخلقة والزمان. قال تعالى: ﴿وما من دابة في الأرض ولا طائر يطير بجناحيه إلا أمم أمثالكم﴾ ]الأنعام: 38 [.
    وقال النبي: «لولا أن الكلاب أمة من الأمم لأمرت بقتلها».
    ومنه: الإمام الذي يجتمع المقتدون به على اتباعه. ومنه: أمّ الشيء يؤمّه إذا اجتمع قصده وهمه إليه. ومنه رمّ الشيء يرمّه إذا أصلحه وجمع متفرقة.
    قيل: ومنه سمي الرمّان لاجتماع حبه وتضامه. ومنه: ضمّ الشيء يضمّه إذا جمعه. ومنه: همّ الإنسان وهمومه، وهي إرادته وعزائمه التي تجتمع في قلبه. ومنه: قولهم للأسود أحمّ وللفحمة السوداء حممة وحمم رأسه إذا اسودّ بعد حلقه. كلّ هذا لأن السواد لون جامع للبصر لا يدعه يتفرق. ولهذا يجعل على عيني الضعيف البصر لوجع أو غيره شيء أسود من شعر أو خرقة ليجمع عليه بصره فتقوى القوة الباصرة. وهذا باب طويل فلنقتصر منه على هذا القدر.
    وإذا علم هذا من شأن الميم فهم ألحقوها في آخر هذا الاسم الذي يسأل الله سبحانه به في كل حاجة وكل حال إيذانا بجميع أسمائه وصفاته. فالسائل إذا قال: (اللهم إني أسألك) كأنه قال: أدعو الله الذي له الأسماء الحسنى والصفات العلى بأسمائه وصفاته. فأتى بالميم المؤذنة بالجمع في آخر هذا الاسم إيذانا بسؤاله تعالى بأسمائه كلها، كما قال النبي في الحديث الصحيح: «ما أصاب عبدا قط هم ولا حزن فقال اللهم إني عبدك ابن عبدك ابن أمتك ناصيتي بيدك ماض في حكمك عدل في قضاؤك أسألك بكل اسم هو لك سميت به نفسك أو أنزلته في كتابك أو علمته أحدا من خلقك أو استأثرت به في علم الغيب عندك أن تجعل القرآن ربيع قلبي ونور صدري وجلاء حزني وذهاب همي وغمي إلا أذهب الله همه وغمه وأبدله مكانه فرحا» قالوا: يا رسول الله أفلا نتعلمهن؟ قال: «بلى ينبغي لمن سمعهن أن يتعلمهن» // إسناده صحيح //
    فالداعي مندوب إلى أن يسأل الله تعالى بأسمائه وصفاته كما في الاسم الأعظم: «اللهم إني أسألك بأن لك الحمد لا إله إلا أنت الحنان المنان بديع السماوات والأرض يا ذا الجلال والإكرام يا حي يا قيوم» // إسناده صحيح //
    وهذه الكلمات تتضمن الأسماء الحسنى كما ذكر في غير هذا الموضع.
    والدعاء ثلاثة أقسام، أحدها: أن يسأل الله تعالى بأسمائه وصفاته وهذا أحد التأويلين في قوله تعالى: ﴿ولله الأسماء الحسنى فادعوه بها﴾ ]الأعراف: 180 [.
    والثاني: أن تسأله بحاجتك وفقرك وذلك فتقول: أنا العبد الفقير المسكين البائس الذليل المستجير ونحو ذلك.
    والثالث: أن تسأل حاجتك ولا تذكر واحداً من الأمرين، فالأول أكمل من الثاني والثاني أكمل من الثالث. فإذا جمع الدعاء الأمور الثلاثة كان أكمل.
    وهذه عامة أدعية النبي.
    (انتهى من "جلاء الأفهام"/ص150-153).
    وقال رحمه الله: وهذا القول الذي اخترناه جاء عن غير واحد من السلف. قال الحسن البصري: اللهم مجمع الدعاء. وقال أبو رجاء العطاردي: إن الميم في قوله اللهم فيها تسعة وتسعون اسما من أسماء الله تعالى. وقال النضر بن شميل: من قال اللهم فقد دعا الله بجميع أسمائه. وقد وجه طائفة هذا القول بأن الميم هنا بمنزلة الواو الدالة على الجمع فإنها من مخرجها فكأن الداعي بها يقول يا الله الذي اجتمعت له الأسماء الحسنى والصفات العلى. قال: ولذلك شددت لتكون عوضا عن علامتي الجمع وهي الواو والنون في مسلمون ونحوه. وعلى الطريقة التي ذكرناها أن نفس الميم دالة على الجمع لا يحتاج إلى هذا. ("جلاء الأفهام"/ص153-154).
    وقوله صلى الله عليه وسلم في حديث سيد الاستغفار: «أنت ربي»، معنى الرب هو الملك الرازق المدبر الهادي المحيي المميت. قال شيخ الإسلام رحمه الله: والرب هو المربي الخالق الرازق الناصر الهادي، وهو الاسم أحق باسم الاستعانة. ("التفسير الكبير"/2/ص307).
    ثم قوله: «لا إله إلا أنت»، فمعناها: لا معبود حق إلا الله. قال الإمام الطرطوسي رحمه الله: فإذا قلت: (لا إله إلا الله) نفيت ما لا يجوز في صفته من شريك في عبادته، مع الإقرار بأنه الإله وحده. ("الدعاء المأثور وآدابه"/للطرطوسي/ص178/كما نقله عبد الله بن فهد في "جهود المالكية في تقرير توحيد العبادة"/ص64/دار التوحيد).
    وإثبات توحيد الألوهية بعد الإقرار بالربوبية يدل على أن إفراد الله بالعبادة هو من لوازم الإقرار بربوبيته. قال تعالى: ﴿ذَلِكُمُ الله رَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ﴾ [يونس/3]. والأدلة في ذلك كثيرة.
    قال الإمام ابن القيم رحمه الله: ثم قال الذي خلقكم فنبه بهذا أيضا على وجوب عبادته وحده، وهو كونه أخرجهم من العدم إلى الوجود، وأنشأهم واخترعهم وحده بلا شريك باعترافهم وإقرارهم، كما قال في غير موضع من القرآن ﴿وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ الله﴾ [لقمان/25]. فإذا كان هو وحده الخالق فكيف لا يكون وحده المعبود؟ وكيف يجعلون معه شريكا في العبادة وأنتم مقرون بأنه لا شريك له في الخلق؟ وهذه طريقة القرآن يستدل بتوحيد الربوبية على توحيد الإلهية. ("بدائع الفوائد"/ 4 / ص 943).
    فمن لم يكن كذلك فليس بمؤمن. قال شيخ الإسلام رحمه الله: فإقرار المشرك بأن الله رب كل شىء، ومليكه وخالقه، لا ينجيه من عذاب الله، إن لم يقترن به إقراره بأنه لا إله إلا الله، فلا يستحق العبادة أحد إلا هو، وأن محمدا رسول الله، فيجب تصديقه فيما أخبر، وطاعته فيما أمر. ("مجموع الفتاوى"/3 /ص105).
    ثم قال في حديث سيد الاستغفار: «خلقتني وأنا عبدك». فيه تأكيدٌ لما قبله من أن لازم الإقرار بالربوبية توحيده في الألوهية. قال تعالى: ﴿ذَلِكُمُ الله رَبُّكُمْ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ فَاعْبُدُوهُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ﴾ [الأنعام/102].
    قال الإمام ابن جرير رحمه الله: إنه لا شيء له الألوهية والعبادة، إلا الذي خلق كل شيء، وهو بكل شيء عليم، فإنه لا ينبغي أن تكون عبادتكم وعبادةُ جميع من في السموات والأرض إلا له خالصة بغير شريك تشركونه فيها، فإنه خالق كل شيء وبارئه وصانعه، وحق على المصنوع أن يفرد صانعه بالعبادة. ("جامع البيان"/ 12 / ص12-13).
    فائدة: في قول الله تعالى: ﴿هو الله الخالق البارئ المصور﴾، فما الفرق بين الخلق والبراية والتصوير؟
    قال الإمام القرطبي رحمه الله: قوله تعالى: ﴿هو الله الخالق البارئ المصور﴾ "الخالق" هنا المقدر. و "البارئ" المنشئ المخترع. و "المصور" مصور الصور ومركبها على هيئات مختلفه. فالتصوير مرتب على الخلق والبراية وتابع لهما. ومعنى التصوير التخطيط والتشكيل. ("الجامع لأحكام القرآن"/18/ص48).
    قوله: «وأنا على عهدك ووعدك ما استطعت»، هنا فرق بين العهد والوعد. قال أبو هلال العسكري رحمه الله: الفرق بين العهد والوعد: أن العهد ما كان من الوعد مقرونا بشرط نحو قولك إن فعلت كذا فعلت كذا، وما دمت على ذلك فأنا عليه، قال الله تعالى: ﴿ولقد عهدنا إلى آدم﴾ أي: أعلمناه أنك لا تخرج من الجنة ما لم تأكل من هذه الشجرة، والعهد يقتضي الوفاء والوعد. يقتضي الإيجاز، ويقال: نقض العهد وأخلف الوعد. ("الفروق اللغوية"/ص 379).
    وفيه إقرار بطاعة الله التي عهدها العبد ربه. قال الله تعالى: ﴿وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ الله عَلَيْكُمْ وَمِيثَاقَهُ الَّذِي وَاثَقَكُمْ بِهِ إِذْ قُلْتُمْ سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا وَاتَّقُوا الله إِنَّ الله عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ﴾ [المائدة: 7].
    والعلاقة بين الميثاق والعهد، كما قال أبو هلال العسكري رحمه الله: الفرق بين الميثاق والعهد: أن الميثاق توكيد العهد من قولك أوثقت الشئ إذا أحكمت شده، وقال بعضهم العهد يكون حالا من المتعاهدين والميثاق يكون من أحدهما. ("الفروق اللغوية"/ص 525).
    وقال الخطابي رحمه الله: يريد: أنا على ما عهدتك عليه وواعدتك من الإيمان بك وإخلاص الطاعة لك ما استطعت من ذلك. ويحتمل أن يريد: أنا مقيم على ما عهدت إلى من أمرك ومتمسك به ومنتجز وعدك في المثوبة والأجر. واشتراط الاستطاعة في ذلك معناه الاعتراف بالعجز والقصور عن كنه الواجب من حقه تعالى. ("فتح الباري"/لابن حجر/11/ص99).
    والعبد لا بد أن يكون في غاية الثقة بالله أنه ينجز وعده. ﴿جَنَّاتِ عَدْنٍ الَّتِي وَعَدَ الرَّحْمَنُ عِبَادَهُ بِالْغَيْبِ إِنَّهُ كَانَ وَعْدُهُ مَأْتِيًّا﴾ [مريم: 61]
    ولما كان العبد لا يعبد الله إلا بتوفيقه ومعونته، وأن العبد لا يوفي وظيفة العبودية كما ينبغي علق ذلك باستطاعته، كما قال تعالى: ﴿فَاتَّقُوا الله مَا اسْتَطَعْتُمْ﴾ [التغابن: 16].
    قال الإمام ابن القيم رحمه الله: فتضمن ذلك التزام شرعه وأمره ودينه، وهو عهده الذي عهده إلى عباده، وتصديق وعده، وهو جزاؤه من ثوابه. فتضمن التزام الأمر والتصديق بالموعود وهو الإيمان والاحتساب، ثم لما علم أن العبد لا يوفي هذا المقام حقه الذي يصلح له تعالى علق ذلك باستطاعته وقدرته التي لا يتعداها فقال: «ما استطعت» أي: التزم ذلك بحسب استطاعتي وقدرتي. ("طريق الهجرتين"/ص 265).
    وقال ابن بطال رحمه الله: وأعلم أمته بقوله: «أنا على عهدك ووعدك ما استطعت». إن أحدًا لا يقدر على الإتيان بجميع ما لله، ولا الوفاء بجميع الطاعات والشكر على النعم، إذ نعمه تعالى كثيرة ولا يحاط بها، ألا ترى قوله تعالى: ﴿وَأَسْبَغَ عَلَيْكُمْ نِعَمَهُ ظَاهِرَةً وَبَاطِنَةً﴾ [لقمان: 20] فمن يقدر مع هذا أن يؤدى شكر النعم الظاهرة، فكيف الباطنة؟ لكن قد رفق الله بعباده فلم يكلفهم من ذلك إلا وسعهم وتجاوز عما فوق ذلك، وكان - صلى الله عليه وسلم - يمتثل هذا المعنى فى مبايعته للمؤمنين، فيقول: أبايعكم على السمع والطاعة فيما استطعتم. ("شرح ابن بطال"/19/ص99).
    قوله: «أعوذ بك من شر ما صنعت»، فيه الاستعاذة من شرّ ما فيه شر. والاستعاذة طلب العوذ والحرز. قال الإمام ابن القيم رحمه الله: اعلم أن لفظ «عاذ» وما تصرف منها يدلّ على التحرز، والتحصن، والنجاة. وحقيقة معناها الهروب من شيء تخافه إلى من يعصمك منه. ولهذا يسمى المستعاذ به معاذاً - إلى قوله:- العائذ قد هرب من عدوه الذي يبغي هلاكه إلى ربه ومالكه، وفرّ إليه، وألقى نفسه بين يديه، واعتصم به واستجار به، والتجأ إليه –إلى قوله:- السين والتاء دالة على الطلب. فقوله: (أستعيذ بالله) أي: أطلب العياذ به. ("بدائع الفوائد"/2/ص 426).
    وقوله: «أبوء لك بنعمتك علي وأبوء لك بذنبي»، قال ابن حجر رحمه الله: وأصله البواء، ومعناه اللزوم، ومنه: بوأه الله منزلاً، إذا أسكنه. فكأنه ألزمه به. قوله: وأبوء لك بذنبي أي أعترف. ("فتح الباري" /11/ص100).
    وهذه طريقة المؤمنين الذين يعترفون بأن جميع النعم من الله، لا بحوله ولا بقوته، وإنما بالله وحده، فيشكرونه على نعمه، ويسندون الخير إليه. ومن وجه آخر أنهم يعترفون بأنهم يخطئون بالليل والنهار، وينسبون الشر إلى أنفسهم. فجميع الخيرات فضل من الله، وجميع الشرور الحاصلة عدل من الله.
    قال شيخ الإسلام رحمه الله: وأهل الهدى والرشاد إذا فعلوا حسنة شهدوا إنعام الله عليهم بها، وأنه هو الذي أنعم عليهم وجعلهم مسلمين، وجعلهم يقيمون الصلاة وألهمهم التقوى، وأنه لا حول ولا قوة إلا به فزال عنهم بشهود القدر العجب والمن والأذى، وإذا فعلوا سيئة استغفروا الله وتابوا إليه منها. ("مجموع الفتاوى"/11/ص260).
    وقال رحمه الله: ومن نعمه على عبده المؤمن، ما ييسره له من الإيمان والحسنات فإنها من فضله وإحسانه ورحمته وحكمته، وسيئات العبد من عدله وحكمته؛ إذ كل نعمة منه فضل، وكل نقمة منه عدل، وهو لا يسأل عما يفعل ؛ لكمال حكمته ورحمته وعدله، لا لمجرد قهره وقدرته، كما يقوله جهم وأتباعه، وقد بسط الكلام على هذا وبين حقيقة قوله : «والخير بيديك، والشر ليس إليك» وإن كان خالق كل شيء، وبين أن الشر لم يضف إلى الله في الكتاب والسنة، إلا على أحد وجوه ثلاثة :
    إما بطريق العموم، كقوله : ﴿الله خالق كل شيء﴾ [ الرعد : 16، الزمر : 62 ] ، وإما بطريقة إضافته إلى السبب، كقوله : ﴿من شر ما خلق﴾ [ الفلق : 2 ] . وإما أن يحذف فاعله، كقول الجن : ﴿وأنا لا ندري أشر أريد بمن في الأرض أم أراد بهم ربهم رشدا﴾ [ الجن : 10 ] .
    (انتهى من "مجموع الفتاوى"/8/ص511).
    وقال الإمام ابن القيم رحمه الله: فالعبد يبوء إلى الله بنعمته عليه ويبوء بذنبه ويرجع إليه بالاعتراف بهذا وبهذا رجوع مطمئن إلى ربه منيب إليه ليس رجوع من أقبل عليه ثم أعرض عنه بل رجوع من لا يعرض عن ربه بل لا يزال مقبلا عليه. ("طريق الهجرتين"/ص 169).
    قوله: «دخل الجنة»، الجنة من أعظم رحمة الله على عباده المؤمنين، وهي جزاءهم يوم القيامة. قال الراغب الأصفهاني رحمه الله: والجنة كل بستان ذى شجر يستر بأشجاره الأرض، قال عزوجل: ﴿لقد كان لسبا في مسكنهم آية جنتان عن يمين وشمال﴾ - ﴿وبدلناهم بجنتيهم جنتين﴾ – ﴿ولولا إذ دخلت جنتك﴾. قيل: وقد تسمى الأشجار الساترة جنة، وعلى ذلك حمل قول الشاعر:
    * من النواضح تسقى جنة سحقا *
    وسميت الجنة إما تشبيهاً بالجنة في الأرض وإن كان بينهما بون، وإما لستره نعمها عنا المشار إليها بقوله تعالى: ﴿فلا تعلم نفس ما أخفى لهم من قرة أعين﴾.
    (انتهى من "مفردات غريب القرآن"/ للأصفهاني/ص98).
    فمن تأمل هذا الحديث ومعانيه تبين لنا عظيم منقبة هذا النوع من الاستغفار لأنه يتضمن الثناء على الله بتوحيد الربوبية والألوهية والأسماء والصفات، مع الاعتراف بنعمه والاعتراف بعدم قيام العبد بشكرها، فلا بد من طلب المغفرة من الغفور الرحيم. فناسب أن يسميه رسول الله صلى الله عليه وسلم: "سيد الاتغفار".
    وقال الإمام ابن رجب رحمه الله: وأفضل أنواع الاستغفار : أن يبدأ العبد بالثناء على ربه ، ثم يثني بالاعتراف بذنبه ، ثم يسأل الله المغفرة كما في حديث شداد بن أوس – ثم ذكر حديث سيد الاستغفار -. ("جامع العلوم والحكم"/الحديث الثاني والأربعون).
    وقد أخرجه الإمام البخاري في صحيحه تحت باب: أفضل الاستغفار.
    وقال الطيبي: لما كان هذا الدعاء جامعاً لمعاني التوبة كلها استعير له اسم السيد وهو في الأصل الرئيس الذي يقصد في الحوائج ويرجع إليه في الأمور. ("فتح الباري"/لابن حجر/11/ص99).
    وقال السندي رحمه الله: سيد الاستغفار، وفي رواية: «أفضل الاستغفار»، أي: أكثر ثواباً لقائله من بين جنس الاستغفار. ووجه كونه كذلك مما لا يعرف بالعقل، وإنما هو أمر مفوض إلى الذي قرر الثواب على الأعمال. ("حاشية السندي على النسائي"/8/ص279).
    وقال المناوي رحمه الله: «سيد الاستغفار» أي أفضل أنواع الأذكار التي تطلب بها المغفرة هذا الذكر الجامع لمعاني التوبة كلها والاستغفار طلب المغفرة والمغفرة الستر للذنوب والعفو عنها. ("فيض القدير شرح الجامع الصغير (4743).
    هذا الدعاء أعظم أنواع الاستغفار لاشتماله على توحيد الألوهية الذي من أجله خلق الله الإنس والجن، وأنزل الكتب، وأرسل الرسل. وهذا الدعاء يجمع سائر معاني التوبة، والافتقار إلى الله، والاعتراف بنعم الله وكثرة ذنوب العبد، وهو يتقلب في هذه الأمور طيل حياته.
    قال شيخ الإسلام رحمه الله: فالعبد دائما بين نعمة من الله يحتاج فيها إلى شكر، وذنب منه يحتاج فيه إلى الاستغفار، وكل من هذين من الأمور اللازمة للعبد دائما، فإنه لا يزال يتقلب في نعم الله وآلائه، ولا يزال محتاجا إلى التوبة والاستغفار. ("مجموع الفتاوى"/10/ص88).
    وقال بدر الدين العيني رحمه الله: ولا شك أن سيد القوم أفضلهم وهذا الدعاء أيضا سيد الأدعية وهو الاستغفار. ("عمدة القاري"/33/ص47).
    قوله: «اللهم أنت ربي»، جمع بين الثناء بلفظ الجلالة وبين الطلب متوسِّلاً بالربوبية، وهذا الأسلوب من أسباب استجابة الدعاء.
    قال الإمام ابن القيم رحمه الله: وسرّ ذلك أن الله تعالى يسئل بربوبيته المتضمنة قدرته وإحسانه وتربيته عبده وإصلاح أمره، ويثنى عليه بإلاهيته المتضمنة إثبات ما يجب له من الصفات العلى والأسماء الحسنى. وتدبر طريقة القرآن تجدها كما ذكرت لك. فأما الدعاء فقد ذكرنا منه أمثلة وهو في القرآن حيث وقع لا يكاد يجيء إلا مصدرا باسم الرب. وأما الثناء فحيث وقع فمصدر بالأسماء الحسنى وأعظم ما يصدر به اسم الله جل جلاله. ("بدائع الفوائد"/2/ص420).
    قوله: «لا إله إلا أنت» كلمة الإخلاص، ورأس جميع الأمور، وأعظم أركان الإسلام، وأفضل شعب الإيمان، وهو أعظم أسباب السعادة بالشفاعة يوم القيامة، وأكبر المنجيات من النار، وهو مفتاح الجنة. ففيه اعتراف بتفرد الله في حق العبودية.
    قال شيخ الإسلام رحمه الله: فقوله : «لا إله إلا أنت» فيه إثبات انفراده بالإلهية، والإلهية تتضمن كمال علمه وقدرته ورحمته وحكمته، ففيها إثبات إحسانه إلى العباد، فإن الإله هو المألوه، والمألوه هو الذي يستحق أن يعبد، وكونه يستحق أن يعبد هو بما اتصف به من الصفات التي تستلزم أن يكون هو المحبوب غاية الحب، المخضوع له غاية الخضوع، والعبادة تتضمن غاية الحب بغاية الذل. ("مجموع الفتاوى"/10/ص249).
    قوله: «خلقتني وأنا عبدك» فيه اعتراف بشدة افتقاره إلى خالقه، وبهذا الأسلوب استجيب الدعاء وقضيت الحاجات. قال الإمام ابن القيم رحمه الله: فأقر بتوحيد الربوبية المتضمن لانفراده سبحانه بالخلق وعموم المشيئة ونفوذها وتوحيد الإلهية المتضمن لمحتبه وعبادته وحده لا شريك له والاعتراف بالعبودية المتضمن للافتقار من جميع الوجوه إليه سبحانه. ("طريق الهجرتين"/ص 264-265).
    قوله: «أعوذ بك من شر ما صنعت»، إشارة إلى أن صنيع العبد لا يخلو من الخطأ والزلل الجالب للشرّ المسبب لخسارة العبد فلا بد من الاستعاذة بربه وخالقه وإلهه من هذه الشرور.
    قال الإمام ابن القيم رحمه الله في مضمون هذا الدعاء: ثم أفزع إلى الاستعاذة والاعتصام بك من شر ما فرطت فيه من أمرك ونهيك فإنك إن لم تعذني من شره وإلا أحاطت بي الهلكة فإن إضاعة حقك سبب الهلاك. ("مدارج السالكين"/1/ص221).
    وقال شيخ الإسلام رحمه الله على خطبة الحاجة: فإذا تدبر العبد علم أن ما هو فيه من الحسنات من فضل الله، فشكر الله، فزاده الله من فضله عملا صالحا، ونعما يفيضها عليه . وإذا علم أن الشر لا يحصل له إلا من نفسه بذنوبه استغفر وتاب، فزال عنه سبب الشر . فيكون العبد دائما شاكرا مستغفرا، فلا يزال الخير يتضاعف له، والشر يندفع عنه، كما كان النبى صلى الله عليه وسلم يقول فى خطبته: «الحمد لله» فيشكر الله، ثم يقول : «نستعينه ونستغفره» نستعينه على الطاعة، ونستغفره من المعصية، ثم يقول : «ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا» فيستعيذ به من الشر الذى فى النفس، ومن عقوبة عمله، فليس الشر إلا من نفسه ومن عمل نفسه، فيستعيذ الله من شر النفس؛ أن يعمل بسبب سيئاته الخطايا، ثم إذا عمل استعاذ بالله من سيئات عمله ومن عقوبات عمله، فاستعانه على الطاعة وأسبابها، واستعاذ به من المعصية وعقابها . فعلم العبد بأن ما أصابه من حسنة فمن الله، وما أصابه من سيئة فمن نفسه ـ يوجب له هذا وهذا. ("مجموع الفتاوى"/14/ص261-262).
    قوله: «فاغفر لي» فيه طلب ستر الذنوب، ومحوها، والوقاية من آثارها السيئة. قال شيخ الإسلام رحمه الله: وإذا أذنب استغفر وتاب : لا يحتج بالقدر على ما يفعله من السيئات، ولا يرى للمخلوق حجة على رب الكائنات، بل يؤمن بالقدر ولا يحتج به. ("مجموع الفتاوى"/10/ص671).
    قوله: «فإنه لا يغفر الذنوب إلا أنت» فيه دليل على أنه لا يغفر الذنوب إلا الله. فإذا كان كذلك فلا يجوز طلب مغفرة الذنوب من غيره. قال بدر الدين العيني رحمه الله: قوله: «لا يغفر الذنوب إلا أنت» بمنزلة التعليل، يعني: لأن مغفرة الذنوب بيدك، وليس هي إلا إليك، ولا يتولاها غيرك، ولا يقدر عليها أحد غيرك. ("شرح أبي داود" /للعيني /3 /ص361).
    وقال شيخ الإسلام رحمه الله في شرح حديث أبي بكر رضي الله عنه: فهذا فيه وصف العبد لحال نفسه المقتضى حاجته إلى المغفرة فيه وصف ربه الذى يوجب أنه لا يقدر على هذا المطلوب غيره . ("مجموع الفتاوى"/10/ص247).
    وقال الإمام ابن عثيمين رحمه الله: قال الله تعالى: ﴿ومن يغفر الذنوب إلا الله﴾ يعني : لا أحد يغفر الذنوب إلا الله عز وجل لو أن الأمة كلها من أولها إلى آخرها ، والجنة والملائكة اجتمعوا على أن يغفروا لك ذنباً واحداً ما غفروه ؛ لأنه لا يغفر الذنوب إلا الله عز وجل. ولكننا نسأل الله المغفرة ، لنا ولإخواننا الذين سبقونا بالإيمان ، وأما أن يكون بيدنا أن نغفر ، فلا يغفر الذنوب إلا الله . ("شرح رياض الصالحين"/ للعثيمين /باب المبادرة إلى الخيرات).
    ثم قال صلى الله عليه وسلم: «ومن قالها من النهار موقناً بها فمات من يومه قبل أن يمسي فهو من أهل الجنة، ومن قالها من الليل وهو موقن بها فمات قبل أن يصبح فهو من أهل الجنة».
    قوله: «ومن قالها من النهار»، في رواية النسائي: «فإن قالها حين يصبح»، وفي رواية عثمان بن ربيعة: «لا يقولها أحدكم حين يمسي فيأتي عليه قدر قبل أن يصبح أو حين يصبح فيأتي عليه قدر قبل أن يمسي». ("فتح الباري"/لابن حجر/11/ص100).
    يستحبّ أن يقولها قبل طلوع الشمس وقبل غروبها.
    قال الإمام النووي رحمه الله: والأصلُ في هذا الباب من القرآن العزيز قولُ الله سبحانه وتعالى: ﴿وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ غُرُوبِها﴾ ]طه : 130[ وقال تعالى: ﴿وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ بالْعَشِيّ والإِبْكارِ﴾ ]غافر : 55[ وقال تعالى : ﴿وَ اذْكُرْ رَبَّكَ فِي نَفْسِكَ تَضَرُّعاً وَخِيفَةً وَدُونَ الجَهْرِ مِنَ القَوْلِ بالغُدُوّ والآصَالِ﴾ ]الأعراف : 205[ قال أهل اللغة : الآصال جمع أصيل : وهو ما بين العصر والمغرب . وقال تعالى : ﴿وَلاتَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ﴾ ]الأنعام : 52[ قال أهل اللغة : العشيّ : ما بين زوال الشمس وغروبها . وقال تعالى : ﴿فِي بُيُوتٍ أذِنَ الله أنْ تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيها اسْمُهُ، يُسَبِّحُ لَهُ فِيها بالْغُدُوّ والآصَالِ رِجالٌ لا تُلْهِيهِمْ تِجارَةٌ وَلاَ بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ الله﴾ ]النور : 36[ الآية . وقال تعالى: ﴿إنَّا سَخَّرْنا الجِبَالَ مَعَهُ يُسَبِّحْنَ بالْعَشِيّ وَالإِشْرَاقِ﴾ ]ص : 18[. ("الأذكار النووية" /للإمام النووي /ص110).
    وقوله صلى الله عليه وسلم: «من قالها موقناً بها» أي: مخلصاً من قلبه مصدقا بثوابها. ("فتح الباري"/لابن حجر /11/ص100).
    قوله: «دخل الجنة»، هذا من فضائل هذا الدعاء على الكيفية المذكورة. ومن نجا من النار ودخل الجنة فقد فاز فوزاً عظيماً. قال الله تعالى: ﴿فَمَنْ زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ﴾ [آل عمران: 185].
    وعن المستورد بن شداد رضي الله عنه قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: «والله ما الدنيا في الآخرة إلا مثل ما يجعل أحدكم إصبعه هذه في اليمّ فلينظر بم يرجع». (أخرجه مسلم (3736)).
    قال العيني رحمه الله: قيل: المؤمن وإن لم يقلها فهو من أهل الجنة. وأجيب بأنه يدخلها ابتداء من غير دخول النار، لأن الغالب أن الموقن بحقيقتها المؤمن بمضمونها لا يعصى الله تعالى، أو لأن الله يعفو عنه ببركة هذا الاستغفار. ("عمدة القاري"/33/ص49).
    فما أعظم فضل الاستغفار لمن فعله مخلصاً لله متبعاً لهدى رسوله صلى الله عليه وسلم.
    عن عبد الله بن بسر رضي الله عنهما قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: «طوبى لمن وجد في صحيفته استغفارا كثيرا». (أخرجه ابن ماجه (3818)، وهو حديث حسن).
    قال ملا علي القاري رحمه الله: قال رسول الله: «طوبى» أي الحالة الطيبة والعيشة الراضية أو الشجرة المشهورة في الجنة العالية. –إلى قوله:- قال الطيبي: فإن قيل: لم لم يقل (طوبى لمن استغفر كثيرا)؟ وما فائدة العدول؟ قلت: هو كناية عنه فبدل على حصول ذلك جزماً، وعلى الإخلاص لأنه إذا لم يكن مخلصاً فيه كان هباءً منثوراً، فلم يجد في صحيفته إلا ما يكون حجة عليه ووبالا له. ("مرقاة المفاتيح شرح مشكاة المصابيح"/8/ص204-205).
    ومن أجل عظيم هذا النوع من الاستغفار أرشد النبي صلى الله عليه وسلم أمته لتعلُّمه، كما في حديث جابر رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «تعلّموا سيد الاستغفار». الحديث.
    نكتفي إلى هنا، ونسأل الله عز وجل أن يعلمنا ما لم نعلم، ويوفقنا على العمل بما علمنا، وأن يغفر لنا خطايانا وتقصيرنا.
    والحمد لله رب العالمين.
    صنعاء 14 رمضان 1435 هـ.
يعمل...
X