إعـــــــلان

تقليص
لا يوجد إعلان حتى الآن.

إزالة الغيام عن حال أبوي سيد الأنام عليه الصلاة والسلام

تقليص
X
 
  • تصفية - فلترة
  • الوقت
  • عرض
إلغاء تحديد الكل
مشاركات جديدة

  • إزالة الغيام عن حال أبوي سيد الأنام عليه الصلاة والسلام

    إزالة الغيام
    عن حال أبوي سيد الأنام
    عليه الصلاة والسلام


    كتبها الفقير إلى الله
    أبو فيروز عبد الرحمن بن سوكايا الإندونيسي عفا الله عنه


    بسم الله الرحمن الرحيم
    مقدمة المؤلف عفا الله عنه

    الحمد لله رب العالمين وأشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمدا عبده ورسوله، اللهم صل وسلم على محمد وعلى آله أجمعين أما بعد:
    فقد أرسل إلي أحد الإخوة الفضلاء رسالة مرتين يطلب مني التعاون على حل إشكالات حول ما نسب إلى الشيخ محمد الأمين الشنقيطي رحمه الله في شأن أبوي رسول الله صلى الله عليه وسلم. ووجدت في القصة إشكالات قوية يطلب من حلّها.
    ولا بد من تنبيه أن المؤمن يجب عليه احترام النبي صلى الله عليه وسلم وتعظيمه. قال الله تعالى: ﴿فَالَّذِينَ آمَنُوا بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ وَاتَّبَعُوا النُّورَ الَّذِي أُنْزِلَ مَعَهُ أُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ [الأعراف: 157].
    وعلى المؤمن ألا يقدّم رأيه ولا ذوقه ولا معقوله على شريعة الله تعالى ورسوله صلى الله عليه وسلم. قال الله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ * يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ وَلَا تَجْهَرُوا لَهُ بِالْقَوْلِ كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ أَنْ تَحْبَطَ أَعْمَالُكُمْ وَأَنْتُمْ لَا تَشْعُرُونَ﴾ [الحجرات: 1، 2].
    قال الإمام ابن القيم رحمه الله: فإذا كان رفع أصواتهم فوق صوته سببًا لحبوط أعمالهم فكيف تقديم آرائهم، وعقولهم، وأذواقهم، وسياستهم، ومعارفهم على ما جاء به، ورفعها عليه؟ أليس هذا أولى أن يكون محبطاً لأعمالهم؟! ("إعلام الموقعين"/النهي عن التقدم بين يدي الله ورسوله/1/ص 49).
    فعلى المؤمن الاستسلام إلى أمر الله الذي بلغه رسوله صلى الله عليه وسلم. قال الله تعالى: ﴿فَإِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَلَهُ أَسْلِمُوا وَبَشِّرِ الْمُخْبِتِينَ﴾ [الحج: 34].
    وقال الإمام الزهري رحمه الله: من الله الرسالة وعلى رسول الله صلى الله عليه وسلم البلاغ وعلينا التسليم. ("صحيح البخاري"/18/ص 583).
    وقال الإمام أبو جعفر الطحاوي رحمه الله: ولا تثبت قدم الإسلام إلا على ظهر التسليم والاستسلام. ("العقيدة الطحاوية"/ص 65).
    والصدق والإنصاف مع التجرد للحق هي من أسباب توفيق الله تعالى عند حلّ المشاكل. وقال الإمام أبو شامة رحمه الله: والحق أبلج واضح لمن أنصف. ("الباعث على إنكار البدع والحوادث"/ص 46).
    وقال الإمام ابن القيم رحمه الله: ومن له قدم راسخ في الشريعة ومعرفة بمصادرها ومواردها وكان الإنصاف أحب إليه من التعصب والهوى والعلم والحجة آثر عنده من التقليد لم يكد يخفى عليه وجه الصواب والله الموفق. ("إعلام الموقعين"/4 /ص32).
    ولا بد أن نعلم أن الكلام في هذه المسألة لا يعتبر إساءة إلى جناب رسول الله صلى الله عليه وسلم كما زعمه بعض الناس، بل هي مسألة علمية غيبية ليس لها مستند إلا لسان رسول الله صلى الله عليه وسلم المبلغ عن عالم الغيب والشهادة، وتثبت قدم عبد إلا على متن التسليم بقضاء الله والإيمان بكمال علمه وبلوغ حكمته ولا يظلم ربك أحدا.
    أقول بعون الله وحده:


    الباب الأول: نص القصة المنسوبة إلى الشيخ محمد أمين الشنقيطي رحمه الله

    قال هذا الأخ الفاضل حفظه الله:
    حوار لطيف مع الشيخ العلامة محمد الأمين الشنقيطي في مجلس الشيخ الزاحم رحمهم الله في هل أبواه في النار أم من أهل الفترة؟
    كان الشيخ محمد الأمين الشنقيطي قد ذكر في بعض دروسه في المسجد النبوي أن والدي رسول الله من أهل الفترة، وذكر ما يقوله أهل العلم في أهل الفترة .وفي إحدى الليالي استدعاه الشيخ عبد الله الزاحم – – إلى منزله، فلما حضر رحّب به وأوسع له في المجلس إلى جنبه، وكان مجلسه ذلك الوقت ليس به إلا المنتسبون للعلم، وكان بين أيديهم كتاب فيه مرجع .
    قال الشيخ محمد الأمين: فلما انتهى التسليم ناولني الشيخ عبدالله الزاحم الكتاب، فإذا هو شرح النووي على صحيح مسلم والمرجع فيه عند حديث: «إن أبي وأباك في النار «.
    قال الشيخ عبدالله الزاحم : إنك قبل أيام قلت في الدرس كذا وكذا، لما قرر من أنهما من أهل فترة .
    قال الشيخ الشنقيطي : قلت ما قلت اعتمادا على نص من كتاب الله قطعي المتن وقطعي الدلالة، وما كنت لأردّ نصا قطعي المتن قطعي الدلالة بنص ظني المتن وظني الدلالة عند الترجيح بينهما؛ فهذا الحديث خبر آحاد، ومثله حديث أبي هريرة عند مسلم: »استأذنت ربي أن أزور أمي فأذن لي، واستأذنته أن أستغفر لهما فلم يأذن لي«، ولكن أخبار الآحاد ظنية المتن فلا يردّ بها نص قرآني قطعي المتن، وهو قوله تعالى : ﴿وما كنا معذبين حتى نبعث رسولا﴾ ]الإسراء: 10[ ؛ أي : ولا مثيبين .وهذا النص قطعي الدلالة لا يحتمل غير ما يدل عليه لفظه بالمطابقة ، بخلاف حديث: »إن أبي وأباك في النار«؛ فإنه ظني الدلالة ؛ يحتمل أنه يعني بقوله: »إن أبي «عمه أبا طالب ؛ لأن العرب تسمي العم: أباً ، وجاء بذلك الاستعمال كتاب الله العزيز في موضعين:
    أحدهما: قطعي المتن قطعي الدلالة ، وهو قوله تعالى في البقرة: ﴿ قَالُواْ نَعْبُدُ إِلَـهَكَ وَإِلَـهَ آبَائِكَ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ﴾ ]البقرة: 133[، وإسماعيل عمه قطعاً ؛ فهو يعقوب بن سحاق بن إبراهيم .
    والموضع الثاني: قطعي المتن لكنه ظني الدلالة ، وهو قوله تعالى: ﴿وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ كُلاًّ هَدَيْنَا وَنُوحاً هَدَيْنَا مِن قَبْلُ﴾ إلى أن قال: ﴿ وَإِسْمَاعِيلَ وَالْيَسَعَ وَيُونُسَ وَلُوطاً ]الأنعام: 84-86[ فهو نص قرآني على أن إبراهيم يطلق عليه أبٌ للوط ، وهو عمه على ما وردت به الأخبار ، إلا أن هذا النص ظني الدلالة لأنه يحتمل أن يكون الضمير من قوله تعالى: ﴿ وَمِن ذُرِّيَّتِهِ﴾ يرجع إلى نوح ، لأنه قال في الآية من قبل ذلك: ﴿وَنُوحاً هَدَيْنَا مِن قَبْلُ﴾ ، ولكنه احتمال مرجوح ؛ لأن الكلام عن إبراهيم.
    وإذاً فإنه يحتمل أنه -- لما سأله الأعرابي بقوله: أين أبي ؟ وقال له: إن أباك في النار وولّى والحزن باد عليه ، فقال: »ردوه علي« فلما رجع قال له: « إن أبي وأباك في النار «. يحتمل أنه يعني بأبيه: أبا طالب ؛ لأن العرب تسمي العم أبا لا سيما إذا انضمّ إلى العمومية التربية، والعطف والدفاع عنه.
    ثم قال: والتحقيق في أبوي رسول الله -- أنهما من أهل الفترة ؛ لأن تعريف أهل الفترة أنهم القوم الذين لم يدركوا النذارة قبلهم ، ولم تدركهم الرسالة التي من بعدهم ، فإذا كان ذلك كذلك ، فإن والد النبي -- التحقيق أنه مات والنبي – بأبي وأمي هو – حمل في بطن أمه ، وأمه -- ماتت وهو ابن ستة أعوام بلا خلاف ؛ وإذاً فإنهما من أهل الفترة.
    فقال أحد الحضور: العرب كانوا على دين إسماعيل فعندهم نذارة أدركوها.
    فقال له الشيخ الأمين: هل أنت على بصيرة مما تقول ؟ فقال: نعم.
    فقال له الشيخ محمد الأمين: أين أنت من قوله تعالى في سورة يس: ﴿لتُنذِرَ قَوْماً مَّا أُنذِرَ آبَاؤُهُمْ فَهُمْ غَافِلُونَ﴾ الآية. ] يس: 6[ وما هنا نافية على التحقيق بدليل الفاء في قوله: ﴿فَهُمْ غَافِلُونَ﴾؛ أي: لعلة عدم إنذارهم. وأين أنت من قوله تعالى في سورة القصص: ﴿وَلَكِن رَّحْمَةً مِّن رَّبِّكَ لِتُنذِرَ قَوْماً مَّا أَتَاهُم مِّن نَّذِيرٍ مِّن قَبْلِكَ﴾ الآية ] القصص: 46[. وأين أنت من قوله تعالى في سورة سبأ: ﴿مَا آتَيْنَاهُم مِّن كُتُبٍ يَدْرُسُونَهَا وَمَا أَرْسَلْنَا إِلَيْهِمْ قَبْلَكَ مِن نَّذِيرٍ﴾ الآية ]سبأ: 44[. وأين أنت من قوله تعالى في سورة السجدة: ﴿بَل هُوَ الْحَقُّ مِن رَّبِّكَ لِتُنذِرَ قَوْماً مَّا أَتَاهُم مِّن نَّذِيرٍ مِّن قَبْلِكَ﴾ الآية: السجدة: 3[.
    قال شيخنا: إن التحقيق في أهل الفترة ، والبله ، وأولاد المشركين الذين ماتوا صغاراً أنهم تشب لهم نار يوم القيامة في عرصات المحشر فيؤمرون باقتحامها ، والله يعلم من خلقه منهم للجنة فيقتحمونها فتكون عليهم برداً ويذهب بهم ذات اليمين ، ويعلم من خلقه منهم للنار فيمتنعون من دخولها فيذهب بهم ذات الشمال ، ذكر ذلك ابن كثير في تفسير قوله تعالى: ﴿وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً ﴾ الآية ] الإسراء: 15[.
    وقال: إنه جاءت بذلك أحاديث منها الصحيح ، ومنها الحسن ، ومنها ما هو ضعيف يتقوى بالصحيح والحسن ؛ وإذا كانت أحاديث الباب متعاضدة على هذا النمط أفادت الحجة عند الناظر فيها.
    فقال أحد الحضور: هذا تكليف والآخرة دار جزاء فهي يوم الدين.
    فقال له شيخنا: هل أنت على بصيرة من قولك هذا ؟ قال : نعم.
    قال الشيخ محمد الأمين: قال تعالى في سورة القلم: ﴿يَوْمَ يُكْشَفُ عَن سَاقٍ وَيُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ الآية ] القلم: 42[، أي يوم هذا يا معشر الحضور ؟ وهل كان هذا تكليفاً في عرصات القيامة بنص كتاب الله ؟
    وأيضاً ، قد ثبت في الصحيح أن المؤمن يسجد لله يوم القيامة ، وأن المنافق لا يستطيع السجود ، وتكون ظهور المنافقين مثل صياصي البقر ، أليس هذا بتكليف في عرصات القيامة ؟
    قال أحد الحضور: أليس بالإمكان حمل الخاص على العام ؟ لأن الخاص يقضي على العام عند الجمهور ؛ فقوله تعالى: ﴿وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً ﴾ الآية ] الإسراء: 15[. دليل عام ، والأحاديث الواردة في أشخاص معينين دليل خاص ، فما أخرجه دليل خاص خرج من العموم ، وما لم يخرجه بقي على عمومه داخلاً فيه .
    قال شيخنا: إن هذا التخصيص لو قلنا به لأبطل ذلك حكمة العام ؛ لأن الله تعالى تمدح بكمال الإنصاف ، وأنه لا يعذب أحداً حتى يقطع حجة المعذب بإنذار الرسل له في دار الدنيا ، فلو عذب أحداً من غير إنذار لاختلّت تلك الحكمة التي تمدَّح الله بها ، ولثبتت لذلك المعذب الحجة على الله التي أرسل الرسل لقطعها كما بينه تعالى في سورة النساء: ﴿رُّسُلاً مُّبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ لِئَلاَّ يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى الله حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ الآية ] النساء: 165[.
    وهذه الحجة التي أرسل الرسل لقطعها بيّنها في آخر سورة طه بقوله تعالى: ﴿وَلَوْ أَنَّا أَهْلَكْنَاهُم بِعَذَابٍ مِّن قَبْلِهِ لَقَالُوا رَبَّنَا لَوْلَا أَرْسَلْتَ إِلَيْنَا رَسُولاً فَنَتَّبِعَ آيَاتِكَ مِن قَبْلِ أَن نَّذِلَّ وَنَخْزَى﴾ ]طه: 134[ ، وقال تعالى في سورة القصص: ﴿وَلَوْلَا أَن تُصِيبَهُم مُّصِيبَةٌ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ فَيَقُولُوا رَبَّنَا لَوْلَا أَرْسَلْتَ إِلَيْنَا رَسُولاً فَنَتَّبِعَ آيَاتِكَ وَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ ]القصص: 47[.
    فيتعين بكل هذه الحجج عذر أهل الفترة بفترتهم في الدنيا ، وأنهم ممتحنون يوم القيامة ، ولا يعلم من يقتحم منهم النار ممن يمتنع إلا الله الذي خلقهم ، والعلم عند الله تعالى هو حسبنا ونعم الوكيل.
    ثم أن الشيخ عبدالله الزاحم قد نصح بعض الحضور لهذه الجلسة قائلا : إن من نصيحتي لك أن لا تتكلم في مجلس فيه هذا الرجل الذي تسلح بآيات كتاب الله ، ينظر إليها كأنها بين عينيه ، فلا يؤمن على أحد عارضه .... ، نسال الله السلامة والعافية .
    ...
    انظر "مجالس مع فضيلة الشيخ: محمد الأمين الجكني الشنقيطي"، كتبها تلميذه : أحمد بن محمد الأمين بن أحمد الجكني الشنقيطي (ص 39-49).
    فقد طلب مني الأخ الفاضل حفظه الله التعليق على هذه القصة.
    فأقول مستعينا بالله عز وجل:



    الباب الثاني: خلاصة كلام الشيخ محمد الأمين الشنقيطي رحمه الله المذكور في القصة

    إن الظاهر من الكلام المنسوب إلى الشيخ محمد الأمين الشنقيطي رحمه الله على حسب ما ذكر في هذه القصة يتلخص بما يلي:
    الأولى: أن حديث: «إن أبي وأباك في النار «ظني المتن وظني الدلالة، وهو خبر آحاد.
    وكذلك حديث: »استأذنت ربي أن أزور أمي فأذن لي، واستأذنته أن أستغفر لهما فلم يأذن لي« من أخبار الآحاد ظنية المتن.
    والثانية: حديث: »إن أبي وأباك في النار«؛ فإنه ظني الدلالة ؛ يحتمل أنه يعني بقوله: »إن أبي «عمه أبا طالب ؛ لأن العرب تسمي العم: أباً.
    والثالثة: أن أبوي رسول الله صلى الله عليه وسلم كانا من أهل القترة الذين لم يبلغهم الدعوة. والدليل على ذلك قول الله تعالى: ﴿لتُنذِرَ قَوْماً مَّا أُنذِرَ آبَاؤُهُمْ فَهُمْ غَافِلُونَ﴾ الآية. ] يس: 6[ ، وقوله تعالى: ﴿وَلَكِن رَّحْمَةً مِّن رَّبِّكَ لِتُنذِرَ قَوْماً مَّا أَتَاهُم مِّن نَّذِيرٍ مِّن قَبْلِكَ﴾ الآية ] القصص: 46[. وقوله تعالى: ﴿مَا آتَيْنَاهُم مِّن كُتُبٍ يَدْرُسُونَهَا وَمَا أَرْسَلْنَا إِلَيْهِمْ قَبْلَكَ مِن نَّذِيرٍ﴾ الآية ]سبأ: 44[. وقوله تعالى: ﴿بَل هُوَ الْحَقُّ مِن رَّبِّكَ لِتُنذِرَ قَوْماً مَّا أَتَاهُم مِّن نَّذِيرٍ مِّن قَبْلِكَ﴾ الآية: السجدة: 3[.
    والرابعة: أن هناك تكليف في عرصات القيامة. قال تعالى: ﴿يَوْمَ يُكْشَفُ عَن سَاقٍ وَيُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ الآية ] القلم: 42[ ، وقد ثبت في الصحيح أن المؤمن يسجد لله يوم القيامة ، وأن المنافق لا يستطيع السجود ، وتكون ظهور المنافقين مثل صياصي البقر.
    والخامسة: لا يمكن تخصيص عموم قوله تعالى : ﴿وما كنا معذبين حتى نبعث رسولا﴾ ]الإسراء: 10[ بتعذيب بعض الأعيان قبل الإنذار، لإن هذا التخصيص لو قلنا به لأبطل ذلك حكمة العام ؛ لأن الله تعالى تمدح بكمال الإنصاف ، وأنه لا يعذب أحداً حتى يقطع حجة المعذب بإنذار الرسل له في دار الدنيا.
    والسادسة: ولو جاز تعذيب شخص قبل الإنذار لحصلت له حجة على الله، وقد قال الله تعالى : ﴿رُّسُلاً مُّبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ لِئَلاَّ يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى الله حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ الآية ] النساء: 165[. وقال تعالى: ﴿وَلَوْ أَنَّا أَهْلَكْنَاهُم بِعَذَابٍ مِّن قَبْلِهِ لَقَالُوا رَبَّنَا لَوْلَا أَرْسَلْتَ إِلَيْنَا رَسُولاً فَنَتَّبِعَ آيَاتِكَ مِن قَبْلِ أَن نَّذِلَّ وَنَخْزَى﴾ ]طه: 134[ ، وقال تعالى: ﴿وَلَوْلَا أَن تُصِيبَهُم مُّصِيبَةٌ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ فَيَقُولُوا رَبَّنَا لَوْلَا أَرْسَلْتَ إِلَيْنَا رَسُولاً فَنَتَّبِعَ آيَاتِكَ وَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ ]القصص: 47[.
    انتهى من خلاصة الأقوال المنسوبة إلى الشيخ محمد الأمين الشنقيطي رحمه الله.
    ومضمونها مذكور أيضا في كتابه "أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن".
    فبعضها حق، وبعضها يتحاج إلى إعادة نظر، وكل مأخوذ من كلامه مردود عليه إلا رسول الله صلى الله عليه وسلم، ومن كان إلى الدليل أقرب كان بالحق أولى.
    عن ابن عباس رضي الله عنهما رفعه قال : «ليس أحد إلا يؤخذ من قوله ويدع غير النبي -صلى الله عليه و سلم-». (أخرجه الطبراني/"المعجم الكبير"/رقم (11941)/صحيح).


    الباب الثالث: علوّ منزلة حديث: «إن أبي وأباك في النار «والرد على من وهّنه أو وهن دلالته بعلة أنه خبر الآحاد

    قال الإمام مسلم رحمه الله: حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة حدثنا عفان حدثنا حماد بن سلمة عن ثابت عن أنس أن رجلا قال: يا رسول الله أين أبي ؟ قال: في النار. فلما قفى دعاه فقال: «إن أبي وأباك في النار «. (أخرجه مسلم (203)).
    والإمام مسلم بن الحجاج إمام كبير ثقة ثبت. قال الإمام أحمد بن سلمة رحمه الله: رأيت أبا زرعة وأبا حاتم يقدمان مسلم بن الحجاج في معرفة الصحيح على مشايخ عصرهما. ("تاريخ بغداد"/5/ص495).
    وقال الإمام الذهبي رحمه الله: مسلم بن الحجاج الإمام الحافظ حجة الإسلام أبو الحسين القشيري النيسابوري صاحب التصانيف. ("تذكرة الحفاظ"/2/ص588).
    وشيخه هو ابن أبي شيبة هو الإمام الحافظ الكبير عبد الله بن محمد بن إبراهيم بن عثمان أبو بكر العبسي المعروف بابن أبي شيبة. قال الإمام أبو زرعة الرازي رحمه الله: ما رأيت أحفظ من أبي بكر بن أبي شيبة. ("تاريخ بغداد"/4/ص340-342).
    وشيخه هو عفان بن مسلم الصفار ثقة ثبت سني، وهو أثبت الناس في حماد بن سلمة. قال الحسين بن حيان: سألت أبا زكريا: إذا اختلف أبو الوليد وعفان في حديث عن حماد بن سلمة فالقول قول من؟ قال: عفان. قلت: وفي حديث شعبة؟ قال: القول قول عفان. قلت: وفي كل شيء؟ قال: نعم عفان أثبت منه وأكيس، وأبو الوليد ثبت ثقة. قلت: فأبو نعيم؟ قال: عفان أثبت. ("تهذيب التهذيب"/7/ص206).
    وشيخه: حماد بن سلمة رحمه الله هو أثبت الناس في ثابت البناني رحمه الله. قال الإمام أبو حاتم الرازي رحمه الله: أضبط الناس لحديث ثابت ، وعلي بن زيد حماد بن سلمة. ("علل الحديث"/لابن أبي حاتم/ص1231).
    وقال الإمام أحمد بن حنبل رحمه الله: أعلم الناس بحديث ثابت ، وعلي بن زيد ، وحميد : حماد بن سلمة. ("علل الحديث"/لابن أبي حاتم /ص 2238).
    وشيخه: ثابت بن أسلم البناني رحمه الله قد صحب أنس بن مالك رضي الله عنه أربعين سنة. قال ثابت رحمه الله: صحبت أنسا أربعين سنة ما رأيت أعبد منه. ("التاريخ الكبير"/للإمام البخاري/2/ص159).
    وثابت البناني من المتثبتين في الأحاديث. قال الإمام أحمد رحمه الله: ثابت يتثبت في الحديث. ("تهذيب التهذيب"/2/ص3).
    وقال حماد بن سلمة رحمه الله: كنت أسمع أن القصاص لا يحفظون الحديث قال فكنت أقلب الأحاديث على ثابت أجعل أنس لابن أبي ليلى واجعل بن أبي ليلى لأنس أشوشهما عليه فيجيء بها على الاستواء. ("الكامل في الضعفاء"/2/ص100).
    بل هو من أثبت الناس في أنس بن مالك رحمه الله. قال الإمام أبو حاتم الرازي رحمه الله: ثابت البناني ثقة صدوق، وأثبت أصحاب أنس الزهرى ثم قتادة ثم ثابت البناني. ("الجرح والتعديل"/2/ص 449).
    وأنس بن مالك رضي الله عنه من المكثرين في أحاديث رسول الله صلى الله عليه وسلم. قال الإمام ابن الأثير رحمه الله: وهو من المكثرين في الرواية عن رسول الله صلى الله عليه و سلم. ("أسد الغابة"/ص 80).
    وقد صحبه ولازمه عشر سنين. قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: أن أنساً كان يخدم النبي من حين قدم النبي صلى الله عليه و سلم المدينة إلى أن مات([1]) ، وكان يدخل على نسائه قبل الحجاب، ويصحبه حضراً وسفراً، وكان حين حج النبي تحت ناقته يسيل عليه لعابها([2]). (مجموع الفتاوى/22/ص412).
    فالحديث صحيح في غاية الصحة.
    فلا يصح أن يوهن هذا الحديث بعلة أنه حديث الآحاد. قال الله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا﴾ [الحجرات: 6].
    قال الإمام القرطبي رحمه الله: في هذه الآية دليل على قبول خبر الواحد إذا كان عدلا، لأنه إنما أمر فيها بالتثبت عند نقل خبر الفاسق. ("الجامع لأحكام القرآن" /8 /ص 582).
    وقال شيخ الإسلام رحمه الله في تفسير الآية: قوله ﴿إن جاءكم فاسق بنبأ فتبينوا﴾ فأمر بالتبين عند مجيء كل فاسق بنبأ بل من الأنباء ما ينهى فيه عن التبين، ومنها ما يباح فيه ترك التبين ومن الأنباء ما يتضمن العقوبة لبعض الناس لأنه علل الأمر بأنه إذا جاءنا فاسق بنبأ خشية أن نصيب قوما بجهالة فلو كان كل من أصيب بنبأ كذلك لم يحصل الفرق بين العدل والفاسق، بل هذه الأدلة واضحة على أن الإصابة بنبأ العدل الواحد لا ينهى عنها مطلقا، وذلك يدل على قبول شهادة العدل الواحد في جنس العقوبات . ("مجموع الفتاوى"/15 /ص 307).
    وقال الإمام ابن القيم في تفسير الآية: وهذا يدل على الجزم بقبول خبر الواحد أنه لا يحتاج إلى التثبيت، ولو كان خبره لا يفيد العلم لأمر بالتثبت حتى يحصل العلم. (مختصر "الصواعق المرسلة" /ص577).
    قلت –وفقني الله:- ومراده رحمه الله بخبر الواحد هنا خبر الواحد العدل كما ذكره رحمه الله في أول الفصل (ص576).
    و الشيخ محمد الأمين الشنقيطي رحمه الله نفسه قال في تفسير الآية: وقد دلت هذه الآية من سورة الحجرات على أمرين : ...والثاني: هو ما استدل عليه بها أهل الأصول من قبول خبر العدل لأن قوله تعالى: ﴿إِن جَآءَكُمْ فَاسِقُ بِنَبَإٍ فتبينوا﴾ يدل بدليل خطابه، أعني مفهوم مخالفته أن الجائي بنبإ إن كان غير فاسق بل عدلاً لا يلزم التبين في نبئه على قراءة : فتبينوا . ولا التثبت على قراءة : فتثبتوا ، وهو كذلك . ("أضواء البيان "/ ص1647).
    ثم إن الإمام ابن أبي شيبة لم ينفرد بهذا الحديث، وقد تابعه عليه الإمام أحمد بن حنبل رحمه الله في "المسند" (13861) فرواه عن عفان عن حماد به.
    وتابعه أيضاً الإمام إسحاق بن إبراهيم قال: أخبرنا عفان قال : حدثنا حماد بن سلمة به. ("صحيح ابن حبان"/ (578))
    وتابعه أيضا زهير: حدثنا عفان به. ("مسند أبي يعلى"/(3516)).
    ولم ينفرد عفان بن مسلم في هذا الحديث، وقد تابعه وكيع بن الجراح عن حماد به. ("مسند أحمد بن حنبل" (12213)).
    وتابعه أيضا موسى بن إسماعيل قال: ثنا حماد به. (أخرجه الإمام أبو داود رحمه الله في "السنن" (4718)).
    وحماد بن سلمة رحمه الله أثبت الناس في ثابت البناني رحمه الله كما سبق. قال الإمام مسلم رحمه الله: أثبت الناس في ثابت البناني، حماد بن سلمة. كذلك قال: يحيى القطان، ويحيى بن معين، وأحمد بن حنبل، وغيرهم من أهل المعرفة. ("التمييز"/للإمام مسلم/ص51).
    فلا يصح توهين الحديث بأنه من خبر الآحاد. وخبر الواحد الثقة يفيد العلم.
    عن ابن عباس رضي الله عنهما في قصة طاعون بعموس: ... فجاء عبد الرحمن بن عوف وكان متغيبا في بعض حاجته فقال إن عندي في هذا علما سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول إذا سمعتم به بأرض فلا تقدموا عليه وإذا وقع بأرض وأنتم بها فلا تخرجوا فرارا منه قال فحمد الله عمر ثم انصرف. (أخرجه البخاري (5729) ومسلم (2219)).
    قال الإمام ابن عبد البر رحمه الله في شرح قصة قبول عمر حديث عبدالرحمن بن عوف في الطاعون : وفيه دليل على استعمال خبر الواحد وقبوله وإيجاب العمل به، وهذا هو أوضح وأقوى ما نرى من جهة الآثار في قبول خبر الواحد لأن ذلك كان في جماعة الصحابة وبمحضرهم في أمر قد أشكل عليهم فلم يقل لعبدالرحمن بن عوف (أنت واحد والواحد لا يجب قبول خبره إنما يجب قبول خبر الكافة) ما أعظم ضلال من قال بهذا والله عز و جل يقول: ﴿إن جاءكم فاسق بنبأ فتبينوا﴾ وقرئت ﴿فتثبتوا﴾ فلو كان العدل إذا جاء بنبأ يتثبت في خبره ولم ينفذ لاستوى الفاسق والعدل، وهذا خلاف القرآن قال الله عز و جل: ﴿أم نجعل المتقين كالفجار﴾. ("التمهيد"/14 /ص347).
    فثبت عندنا حديث أنس رضي الله عنه: أن رجلا قال: يا رسول الله أين أبي ؟ قال: في النار. فلما قفى دعاه فقال: «إن أبي وأباك في النار «. (أخرجه مسلم (203)).
    وهذا الحديث دليل جلي على أن أبا رسول الله صلى الله عليه وسلم في النار.
    وهذا الحديث في صحيح مسلم ولم ينتقده أحد من أئمة العلل، فصار مما تلقته الأمة بالقبول، وهو يفيد العلم.
    قال الإمام أبو إسحاق الشيرازي رحمه الله: خبر الواحد الذي تلقته الأمة بالقبول فيقطع بصدقه سواء عمل الكل به أو عمل البعض وتأوله البعض، فهذه الأخبار توجب العمل ويقع العلم بها استدلالا. ("اللمع في أصول الفقه"/ص 39).
    وقال ابن النجار الفتوحي رحمه الله: وقال ابن قاضي الجبل : مذهب الحنابلة : أن أخبار الآحاد المتلقاة بالقبول تصلح لإثبات أصول الديانات . ذكره القاضي أبو يعلى في مقدمة "المجرد". والشيخ تقي الدين في عقيدته ، انتهى . ("شرح الكوكب المنير"/1/ص451).


    الباب الرابع: ضعف حمل دلالة (الأب) على (العم) في هذا الحديث

    أما حمل لفظ (الأب) على (العمّ) وإن كان له وجه في العرف ولكن الأظهر الأول، وهو: أن الأب المعتبر المعروف المشهور هو والد الولد. والأدلة في هذا كثيرة جدا معروفة عرف كلام الله وعادة كلام رسول الله صلى الله عليه وسلم. قال الله تعالى: ﴿قَالُوا يَا أَيُّهَا الْعَزِيزُ إِنَّ لَهُ أَبًا شَيْخًا كَبِيرًا﴾ [يوسف: 78] ، وقوله تعالى: ﴿فَلَمَّا اسْتَيْأَسُوا مِنْهُ خَلَصُوا نَجِيًّا قَالَ كَبِيرُهُمْ أَلَمْ تَعْلَمُوا أَنَّ أَبَاكُمْ قَدْ أَخَذَ عَلَيْكُمْ مَوْثِقًا مِنَ اللَّه﴾ [يوسف: 80]، وقوله سبحانه عنه: ﴿فَلَنْ أَبْرَحَ الْأَرْضَ حَتَّى يَأْذَنَ لِي أَبِي﴾ [يوسف: 80]، وقوله جل ذكره: ﴿ارْجِعُوا إِلَى أَبِيكُمْ فَقُولُوا يَا أَبَانَا إِنَّ ابْنَكَ سَرَقَ﴾ [يوسف: 81]، وقوله تعالى: ﴿اذْهَبُوا بِقَمِيصِي هَذَا فَأَلْقُوهُ عَلَى وَجْهِ أَبِي يَأْتِ بَصِيرًا﴾ [يوسف: 93].
    هذا كثير جدا أنهم يريدون به والدهم الحقيقي: يعقوب بن إبراهيم عليهما الصلاة والسلام.
    وكذلك قول الله تعالى: ﴿ مَا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَا أَحَدٍ مِنْ رِجَالِكُمْ﴾ [الأحزاب: 40]، ولم يقصد العم أو الخال.
    وكذلك قوله تعالى: ﴿ قَالَتَا لَا نَسْقِي حَتَّى يُصْدِرَ الرِّعَاءُ وَأَبُونَا شَيْخٌ كَبِيرٌ﴾ [القصص: 23]، وقوله سبحانه: ﴿فَجَاءَتْهُ إِحْدَاهُمَا تَمْشِي عَلَى اسْتِحْيَاءٍ قَالَتْ إِنَّ أَبِي يَدْعُوكَ لِيَجْزِيَكَ أَجْرَ مَا سَقَيْتَ لَنَا﴾ [القصص: 25]، وقوله سبحانه: ﴿ قَالَتْ إِحْدَاهُمَا يَا أَبَتِ اسْتَأْجِرْهُ إِنَّ خَيْرَ مَنِ اسْتَأْجَرْتَ الْقَوِيُّ الْأَمِينُ﴾ [القصص: 26]، المقصود والدهما الحقيقي لا العم أو الخال.
    وكذلك قوله تعالى: ﴿وَلِأَبَوَيْهِ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا السُّدُس﴾ [النساء: 11]، هذا واضح جدا أن المراد هو الوالد والوالدة فلكل واحد منهما السدس، ولم يرد العم ولا العمة ولا الخال ولا الخالة.
    وكذلك قوله عن الخضر عليه السلام: ﴿ وَأَمَّا الْغُلَامُ فَكَانَ أَبَوَاهُ مُؤْمِنَيْنِ﴾ [الكهف: 80]. هذا أيضا كذلك.
    هذا هو عرف القرآن، ولم يصرف عن هذا العرف إلا بدليل راجح.
    وأما قوله تعالى : ﴿ قَالُواْ نَعْبُدُ إِلَـهَكَ وَإِلَـهَ آبَائِكَ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ﴾ ]البقرة: 133[، وإسماعيل عمه قطعاً، إنما ذكر ضمناً في جملة آباء يعقوب لا مستقلاً، وهو أيضا نادر، فلا يصلح الاستدلال به على جواز صرف عرف القرآن في معنى الأب من أجل تأويل الدليل القطعي الجلي: «إن أبي وأباك في النار «.
    وهو عادة رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه.
    فعن أبي موسى قال سئل النبي صلى الله عليه وسلم عن أشياء كرهها فلما أكثر عليه غضب ثم قال للناس: «سلوني عما شئتم». قال رجل: من أبي؟ قال: «أبوك حذافة»، فقام آخر فقال: من أبي يا رسول الله؟ فقال: «أبوك سالم مولى شيبة». فلما رأى عمر ما في وجهه قال: يا رسول الله إنا نتوب إلى الله عز وجل. (أخرجه البخاري (92) ومسلم (2360)).
    لا شك أن الصحابيين يريدان السؤال عن والديهما لا عن العم ولا الخال. والرسول صلى الله عليه وسلم قطعا يريد أن يقول لعبد الله بن حذافة: (أبوك حذافة) ولا يضمر: (عمك حذافة وليس هو والدك).
    وكذلك الناصح الأمين قال لسعد بن سالم مولى شيبة بن ربيعة: (أبوك سالم مولى شيبة) صدقاً ولم يخف إرادة أخرى: (عمك سالم وليس هو والدك).
    وكذلك في قصة جريج: «فتوضأ وصلى ثم أتى الغلام فقال: من أبوك يا غلام؟ قال: الراعي. قالوا: نبني صومعتك من ذهب. قال: لا إلا من طين. (أخرجه البخاري (2482)). لم يرد: من عمك؟
    وعن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما: أن رجلا قال: يا رسول الله إن لي مالا وولدا . وإن أبي يريد أن يجتاح مالي . فقال : «أنت ومالك لأبيك». (أخرجه ابن ماجه (2291) وغيره/صحيح).
    ولم يرد: أنت ومالك لعمك.
    وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رجل: يا رسول الله من أحق بحسن الصحبة ؟ قال: «أمك ثم أمك ثم أمك ثم أبوك ثم أدناك أدناك». (أخرجه مسلم (2548)).
    عن أبي حميد الساعدى رضي الله عنه قال: استعمل النبى - صلى الله عليه وسلم - رجلا من بنى أسد يقال له: ابن الأتبية على صدقة فلما قدم قال: هذا لكم وهذا أهدى لي . فقام النبي - صلى الله عليه وسلم - على المنبر - فحمد الله وأثنى عليه ثم قال: «ما بال العامل نبعثه، فيأتي يقول هذا لك وهذا لي . فهلا جلس فى بيت أبيه وأمه فينظر أيهدى له أم لا » الحديث. (أخرجه البخاري (7174) ومسلم (1832)).
    وعن أنس رضي الله عنه قال: لما ثقل النبي صلى الله عليه وسلم جعل يتغشاه فقالت فاطمة عليها السلام: وا كرب أباه. فقال لها: «ليس على أبيك كرب بعد اليوم». فلما مات قالت: يا أبتاه أجاب ربا دعاه يا أبتاه من جنة الفردوس مأواه يا أبتاه إلى جبريل ننعاه. فلما دفن قالت فاطمة عليها السلام: يا أنس أطابت أنفسكم أن تحثوا على رسول الله صلى الله عليه وسلم التراب؟ (أخرجه البخاري (4462)).
    وعن عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما قال: إن أبي شكاني إلى رسول الله صلى الله عليه و سلم فقال لي رسول الله صلى الله عليه و سلم: «أطع أباك ما دام حيا ولا تعصه». (أخرجه الإمام أحمد بن حنبل (6929)/صحيح).
    هذا كله دليل واضح على أن رسول الله صلى الله عليه وسلم يريدون بالأب هو الوالد الحقيقي.
    ومن أوضح الأدلة قصة الحديبية: عن البراء بن عازب رضي الله عنهما: ... قالوا: لو علمنا أنك رسول لاتبعناك ولكن اكتب اسمك واسم أبيك. فقال النبي صلى الله عليه و سلم: «اكتب من محمد بن عبدالله». (أخرجه البخاري (2699) و مسلم (1784)).
    لم يريدوا من رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه يكتب: (محمد بن أبي طالب). وكذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم وإن عظمت منة أبي طالب كما قاله الشيخ الشنقيطي رحمه الله: (لا سيما إذا انضمّ إلى العمومية التربية، والعطف والدفاع عنه) لم يجعل رسول الله صلى الله عليه وسلم تلك المنقبة لأبي طالب أن ينتسب إليه، بل هو يرجع إلى نسبه الأصلي المعروف عند العرب: (محمد بن عبد الله).
    فهذا البيان كله رد على تأويل الشيخ الشنقيطي رحمه الله: (يحتمل أنه يعني بقوله: »إن أبي «عمه أبا طالب).
    ولا شك أن العرب قد يستعملون العم بمنزلة الأب، ولكنه نادر بالنسبة إلى حقيقة الأبوة. والنادر لا ينبني عليه الحكم.
    قال الإمام ابن القيم رحمه الله: والأحكام إنما هي للغالب الكثير، والنادر في حكم المعدوم. ("زاد المعاد"/5/ص 378/الرسالة).
    وهكذا الكلام في (الأم) و(الخالة).
    فلا يجوز حمل الأظهر على الأخفى إلا لعارض قوي يوجب صرفه عن ظاهره، مع استيفاء الشروط.
    قال الإمام ابن القيم رحمه الله: من ادّعى صرف لفظ عن ظاهره إلى مجازه لم يتم له ذلك إلا بعد أربع مقامات، أحدها: بيان امتناع إرادة الحقيقة. الثاني: بيان صلاحية اللفظ لذلك المعنى الذي عيّنه وإلا كان مفترياً على اللغة. الثالث: بيان تعيين ذلك المجمل إن كان له عدة مجازات. الرابع: الجواز عن الدليل الموجب لإرادة الحقيقة. ("بدائع الفوائد"/4/ ص1009).
    وإذا قيل: إن الدليل الموجب لصرف (الأب) إلى (العمّ) هو أدلة منع العذاب ممن لم تبلغه الحجة.
    الجواب بتوفيق الله وحده: لا نحتاج إلى هذا التأويل لإمكانية الجمع بين الآية والحديث، ولا يمكن أن يتعارض كلام الله وكلام رسوله صلى الله عليه وسلم.
    نقول اقتباساً من كلام الإمام ابن القيم رحمه الله: فينبغي أن تعطى لنصوص حقها، والسنةُ حقها، فلا تعارض بين هذه الآية وبين ما جاءت به السنة بوجه ما، والكل من مشكاة واحدة، يصدق بعضها بعضاً. ("أحكام أهل الذمة"/ص 115).
    ولا يسلك مسلك الترجيح مع إمكان الجمع.
    قال العلامة الشاطبي رحمه الله: التعارض إما أن يعتبر من جهة ما في نفس الأمر، وإما من جهة نظر المجتهد. أما من جهة ما في نفس الأمر فغير ممكن بإطلاق، وقد مرّ آنفا في كتاب الاجتهاد من ذلك في مسألة أن الشريعة على قول واحد ما فيه كفاية. وأما من جهة نظر المجتهد فممكن بلا خلاف إلا أنهم إنما نظروا فيه بالنسبة إلى كل موضع لا يمكن فيه الجمع بين الدليلين وهو صواب فإنه إن أمكن الجمع فلا تعارض كالعام مع الخاص والمطلق مع المقيد وأشباه ذلك. ("الموافقات"/4/ص294-295).
    وقال الحافظ ابن حجر رحمه الله: العمل بالدليلين أولى من الغاء أحدهما. ("فتح الباري"/1/ ص245).
    فقول الله تعالى : ﴿وما كنا معذبين حتى نبعث رسولا﴾ ]الإسراء: 10[ على عمومه أنه لا يعذب أحدا حتى تبلغه الحجة.
    قال الإمام ابن كثير رحمه الله: قوله تعالى: ﴿وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولا﴾ إخبار عن عدله تعالى، وأنه لا يعذب أحدًا إلا بعد قيام الحجة عليه بإرسال الرسول إليه، كما قال تعالى: ﴿كُلَّمَا أُلْقِيَ فِيهَا فَوْجٌ سَأَلَهُمْ خَزَنَتُهَا أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَذِيرٌ قَالُوا بَلَى قَدْ جَاءَنَا نَذِيرٌ فَكَذَّبْنَا وَقُلْنَا مَا نزلَ الله مِنْ شَيْءٍ إِنْ أَنْتُمْ إِلا فِي ضَلالٍ كَبِيرٍ﴾ [ الملك: 8 ، 9 ]، وكذا قوله تعالى: ﴿وَسِيقَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى جَهَنَّمَ زُمَرًا حَتَّى إِذَا جَاءُوهَا فُتِحَتْ أَبْوَابُهَا وَقَالَ لَهُمْ خَزَنَتُهَا أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ يَتْلُونَ عَلَيْكُمْ آيَاتِ رَبِّكُمْ وَيُنْذِرُونَكُمْ لِقَاءَ يَوْمِكُمْ هَذَا قَالُوا بَلَى وَلَكِنْ حَقَّتْ كَلِمَةُ الْعَذَابِ عَلَى الْكَافِرِينَ﴾ [ الزمر: 71 ]، وقال تعالى: ﴿وَهُمْ يَصْطَرِخُونَ فِيهَا رَبَّنَا أَخْرِجْنَا نَعْمَلْ صَالِحاً غَيْرَ الَّذِي كُنَّا نَعْمَلُ أَوَلَمْ نُعَمِّرْكُمْ مَا يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَنْ تَذَكَّرَ وَجَاءَكُمُ النَّذِيرُ فَذُوقُوا فَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ نَصِيرٍ﴾ [ فاطر: 37 ] إلى غير ذلك من الآيات الدالة على أن الله تعالى لا يدخل أحدًا النار إلا بعد إرسال الرسول إليه. ("تفسير القرآن العظيم"/5/ص52-53).
    وليس حديث الباب مخالفا لما دلت عليه هذه الآية. ويوضح ذلك ما سنذكره في الباب الآتي بتوفيق الله وحده:



    الباب الخامس: إمكانية بلوغ الحجة إلى عبد الله بن عبد المطلب

    هل عبد الله بن عبد المطلب والد رسول الله صلى الله عليه وسلم قد بلغته الحجة حتى يحكم عليه أنه في النار؟ فيه ثلاثة أوجه في الجواب.
    الوجه الأول بتوفيق الله وحده:
    يحتمل أنه قد بلغته الحجة، وهذا قول الإمام النووي رحمه الله: وفيه أن من مات في الفترة على ما كانت عليه العرب من عبادة الأوثان فهو من أهل النار وليس هذا مؤاخذة قبل بلوغ الدعوة فان هؤلاء كانت قد بلغتهم دعوة ابراهيم وغيره من الأنبياء صلوات الله تعالى وسلامه عليهم. ("المنهاج شرح صحيح مسلم بن الحجاج"/3/ص74/دار المعرفة).
    إذا قيل: متى كانت الحجة قد بلغت عبد الله بن عبد المطلب؟
    الجواب بتوفيق الله وحده: يحتمل أنه قد بلغته الحجة من طريق ورقة بن نوفل رضي الله عنه وهو بمكة، وكان ورقة رضي الله عنه على توحيد الله.
    عن عائشة رضي الله عنها في قصة بداية الوحي: ... فانطلقت به خديجة حتى أتت به ورقة بن نوفل بن أسد بن عبد العزى ابن عم خديجة وكان امرأ قد تنصر في الجاهلية وكان يكتب الكتاب العبراني فيكتب من الإنجيل بالعبرانية ما شاء الله أن يكتب وكان شيخا كبيرا قد عمي، فقالت له خديجة: يا ابن عم اسمع من ابن أخيك. فقال له ورقة: يا ابن أخي ماذا ترى؟ فأخبره رسول الله صلى الله عليه وسلم خبر ما رأى. فقال له ورقة: هذا الناموس الذي نزل الله على موسى. الحديث. (أخرجه البخاري (3) ومسلم (160)).
    فما المانع من إمكانية بلوغه الحجة من قبل ورقة وكلاهما في مكة؟
    ويحتمل أن الحجة قد بلغت عبد الله لما سافر إلى الشام وكان يتردد إلى هناك للتجارة. وقد بقي في الشام وغيرها نزر يسير من أحبار أهل الكتاب الثابتين على دين التوحيد، كما في حديث سلمان الفارسي رضي الله عنه.
    عن عبد الله بن عباس رضي الله عنهما قال: حدثني سلمان الفارسي حديثه من فيه قال : كنت رجلا فارسيا من أهل أصبهان من أهل قرية منها يقال لها جى ... –إلى قوله:- فمررت بكنيسة من كنائس النصارى فسمعت أصواتهم فيها وهم يصلون وكنت لا أدري ما أمر الناس لحبس أبي إياي في بيته فلما مررت بهم وسمعت أصواتهم دخلت عليهم انظر ما يصنعون قال فلما رأيتهم أعجبني صلاتهم ورغبت في أمرهم وقلت هذا والله خير من الدين الذي نحن عليه فوالله ما تركتهم حتى غربت الشمس وتركت ضيعة أبي ولم آتها فقلت لهم أين أصل هذا الدين قالوا بالشام ... –إلى قوله: - ثم جاؤوا برجل آخر فجعلوه بمكانه قال يقول سلمان فما رأيت رجلا لا يصلي الخمس أرى أنه أفضل منه أزهد في الدنيا ولا أرغب في الآخرة ولا آداب ليلا ونهارا منه قال فأحببته حبا لم أحبه من قبله وأقمت معه زمانا ثم حضرته الوفاة فقلت له: يا فلان أني كنت معك وأحببتك حبا لم أحبه من قبلك وقد حضرك ما ترى من أمر الله فإلى من توصى بي وما تأمرني؟ قال: أي بني والله ما أعلم أحدا اليوم على ما كنت عليه لقد هلك الناس وبدلوا وتركوا أكثر ما كانوا عليه إلا رجلا بالموصل وهو فلان فهو على ما كنت عليه فالحق به. قال: فلما مات وغيب لحقت بصاحب الموصل –إلى قوله:- فأقمت عنده فوجدته خير رجل على أمر صاحبه فلم يلبث أن مات فلما حضرته الوفاة قلت له: يا فلان، إن فلانا أوصى بي إليك وأمرني باللحوق بك وقد حضرك من الله عز و جل ما ترى فإلى من توصى بي وما تأمرني؟ قال: أي بني والله ما أعلم رجلا على مثل ما كنا عليه إلا رجلا بنصيبين وهو فلان فالحق به. قال: فلما مات وغيب لحقت بصاحب نصيبين فجئته –إلى قوله:- فأقمت عنده فوجدته على أمر صاحبيه فأقمت مع خير رجل فوالله ما لبث أن نزل به الموت فلما حضر قلت له: يا فلان إن فلانا كان أوصى بي إلى فلان ثم أوصى بي فلان إليك، فإلى من توصى بي وما تأمرنني؟ قال: أي بني والله ما نعلم أحدا بقي على أمرنا آمرك أن تأتيه إلا رجلا بعمورية فإنه بمثل ما نحن عليه فإن أحببت فأته قال: فإنه على أمرنا قال فلما مات وغيب لحقت بصاحب عمورية –إلى قوله:- فأقمت مع رجل على هدي أصحابه وأمرهم. قال: واكتسبت حتى كان لي بقرات وغنيمة قال ثم نزل به أمر الله فلما حضر قلت له: يا فلان إني كنت مع فلان فأوصى بي فلان إلى فلان وأوصى بي فلان إلى فلان ثم أوصى بي فلان إليك فإلى من توصى بي وما تأمرني؟ قال: أي بني والله ما أعلمه أصبح على ما كنا عليه أحد من الناس آمرك أن تأتيه، ولكنه قد أظلك زمان نبي هو مبعوث بدين إبراهيم يخرج بأرض العرب مهاجرا إلى أرض بين حرتين بينهما نخل به علامات لا تخفى يأكل الهدية ولا يأكل الصدقة بين كتفيه خاتم النبوة. الحديث. (أخرجه الإمام أحمد في "المسند" (23788)/صحيح).
    هذا يدل على وجود بقايا أهل التوحيد في زمن الجاهلية وإن كانوا مغمورين بالنسبة إلى كثرة أهل الجهل والشرك.
    ومن طلب الحق وبذل جهده في ذلك لن يخيب الله سعيه. ومن لا فلا يلومن إلا نفسه.
    قال الإمام الحافظ محمد بن إبراهيم بن الوزير رحمه الله: وطالب الحق اليوم شبيه بطلابه في أيام الفترة وهم سلمان الفارسي وزيد بن عمرو بن نفيل وأضرابهما رحمهما الله تعالى، فإنهم قدوة الطالب للحق، وفيهم له أعظم أسوة فإنهم لما حرصوا على الحق وبذلوا الجهد في طلبه بلغهم الله إليه، وأوقفهم عليه، وفازوا من بين العوالم الجمة. فكم أدرك الحق طالبه في زمن الفترة؟ وكم عمي عنه المطلوب له في زمن النبوة؟ فاعتبر بذلك واقتد بأولئك فإن الحق ما زال مصونا عزيزا نفيسا كريما. ("إيثار الحق على الخلق"/ص 27).
    وما يمنع هذا الاحتمال: أن عبد الله بن عبد المطلب قد بلغته الحجة إما في مكة وإما في الشام، وإما في مكان من أمكنة سفره؟
    ومما يقوّي هذا الإمكان حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «رأيت عمرو بن عامر الخزاعي يجر قصبه في النار كان أول من سيب السوائب». (أخرجه البخاري (4623) ومسلم (2856)).
    وعن عائشة رضي الله عنها قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «رأيت جهنم يحطم بعضها بعضا ورأيت عمرا يجر قصبه وهو أول من سيب السوائب». (أخرجه البخاري (4624)).
    لماذا يعذب عمرو بن عامر الخزاعي وهو من أهل الجاهلية؟
    ذلك بأن دعوة إبراهيم عليه الصلاة والسلام قد وبلغته وكما بلغت العرب القدماء، فغيّرها هو فاستحق العذاب.
    قال شيخ الإسلام رحمه الله: فإن عَمْرو بن لُحَي هو أول من غير دين إبراهيم عليه السلام وكان قد أتي الشام ورآهم بالبلقاء لهم أصنام يستجلبون بها المنافع، ويدفعون بها المضار، فصنع مثل ذلك في مكة لما كانت خزاعة ولاة البيت قبل قريش، وكان هو سيد خزاعة . وفي الصحيحين عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : " رأيت عَمْرو بن لُحَي بن قَمَعَة بن خِنْدِفَ يجر قصْبَهُ في النار - أي أمعاءه وهو أول من غير دين إبراهيم، وسيب السوائب، وبحر البحيرة. ("مجموع الفتاوى"/17/ص 461).
    وعمرو بن عامر الخزاعي من أهل الجاهلية، أهل الفترة، وقد بلغته الحجة. ذلك لأن الفترة هي مدة طويلة بين نبي إلى نبي آخر مع انقطاع جدّية دعوة الحق. قال الله تعالى: ﴿يَا أَهْلَ الْكِتَابِ قَدْ جَاءَكُمْ رَسُولُنَا يُبَيِّنُ لَكُمْ عَلَى فَتْرَةٍ مِنَ الرُّسُل﴾ [المائدة: 19].
    قال القرطبي رحمه الله: ﴿على فترة من الرسل﴾ أي سكون، يقال فتر الشئ سكن. وقيل: ﴿على فترة﴾ على انقطاع ما بين النبيين، عن أبي علي وجماعة أهل العلم، حكاه الرماني، قال: والأصل فيها انقطاع العمل عما كان عليه من الجد فيه، من قولهم: فتر عن عمله وفترته عنه. -إلى قوله:- والمعنى، أي مضت للرسل مدة قبله. ("الجامع لأحكام القرآن"/6/ ص121).
    وقال البغوي رحمه الله: ﴿على فترة من الرسل﴾ أي انقطاع من الرسل. ("معالم التنزيل"/3/ص 34).
    وقال ابن كثير رحمه الله: ﴿على فترة من الرسل﴾ أي: بعد مدة متطاولة ما بين إرساله وعيسى ابن مريم. ("تفسير القرآن العظيم"/3/ص 70).
    فينطبع على عمرو بن عامر الخزاعي أنه من أهل الفترة، لطول المدة بينه وبين إسماعيل عليه السلام. وقد ولي الأمر بعد إسماعيل ولده نابت بن إسماعيل، ثم تملك رؤساء جرهم مكة مدة طويلة، ثم رؤساء خزاعة إلى أن ترأس عليهم عمرو بن عامر الخزاعي، وقد اندرس في زمنهم كثير من تعاليم دين إبراهيم عليه الصلاة والسلام. ثم ابتدع عمر بن عامر عبادة الأصنام.
    وليست الفترة بمعنى عدم الدعوة الحنيفية البتة، بل وجد نزر يسير من بقايا أهل الكتاب من تمسك بالتوحيد ويدعو الناس إليه مع الضعف، كما تقدم.
    فلا يستبعد أن تبلغ الدعوةُ عمرو بن عامر، وكذلك والدي رسول الله صلى الله عليه وسلم. وكونهم معذبين في النار يدل على بلوغهم الحجة، مع كونهم في الجملة من أهل الفترة، ورسول الله صلى الله عليه وسلم هو الصادق المصدوق، وقد بلغ الحق، وحكم بالعدل، فعلينا التسليم والإيمان، ولا نقدم آراءنا ولا أذواقنا على حكم الله ورسوله.
    ونقول لكم كما قال سهل بن حنيف رضي الله عنه: يا أيها الناس اتهموا رأيكم على دينكم. (أخرجه البخاري (7308) ومسلم (1785)).
    ووما يقوي أن أبا رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي في النار هو أبوه حقيقة، وهو عبد الله بن عبد المطلب قوله: «إنّ أبي وأباك في النار». قاله رسول الله صلى الله عليه وسلم من أجل تسلية الرجل السائل وجبر قلبه، أنه لم يكن منفردا في هذه المصيبة بل رسول الله صلى الله عليه وسلم معه فيها، وقد أصابه ما أصابه، فلا يستوحش بها، وليصبر عليها كما صبر عليها رسول الله صلى الله عليه وسلم.
    قال القرطبي رحمه الله: وقوله ـ صلى الله عليه وسلم ـ : «إنّ أبي وأباك في النار» جبرٌ للرجل ممّا أصابه ، وإحالة له على التأسّي حتّى تهون عليه مصيبته بأبيه. ("المفهم لما أشكل من تلخيص كتاب مسلم"/3/ص87).
    ولا تحصل التسلية التامة إذا علم الرجل أن مصيبة الرسول لا تساوي مصيبته لأن فقد العمّ ليس كفقد الوالد. ولو علم الرجل أن مراد الرسول بالأب هو عمه أبو طالب لقال مثلا: إنك لم تصب بمصيبتي، فزالت حكمة التسلية، ولا يستطيع الرجل التأسي بالرسول كما ينبغي في الصبر على المصيبة. ولا يمكن أن يسلي الرسول الرجلَ ليظن التساوي في المصيبتين والرجل يظن أن الرسول يفقد والده والرسول إنما يضمر العم. هذا لا يمكن لأن الرسول في غاية من الصدق والبيان مع أصحابه وليس المقام مقام المزاح.
    ثم إن هذا الكلام: «إنّ أبي وأباك في النار» يدل على حسن عشرة الرسول صلى الله عليه وسلم مع أصحابه. قال النووي رحمه الله: وقوله صلى الله عليه و سلم «إنّ أبي وأباك في النار» هو من حسن العشرة للتسلية بالاشتراك في المصيبة. ("المنهاج شرح صحيح مسلم بن الحجاج"/3/ص74/دار المعرفة).
    وليست من حسن العشرة عدم الصدق والوضوح والبيان.
    فبهذا البيان تحققنا أن أبا رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي في النار هو والده حقيقة وهو عبد الله بن عبد المطلب. وما يمنعنا أن نعتقد أنه في النار وقد أخبرنا به النبي صلى الله عليه وسلم مع احتمال أنه قد بلغته الحجة من طريق من الطرق؟
    قد سئل الإمام ابن باز رحمه الله: قال الله تعالى في كتابه الكريم: ﴿وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا﴾ وقد ورد في بعض الأحاديث أن الرسول صلى الله عليه وسلم أخبر بأن والديه في النار .
    السؤال : ألم يكونا من أهل الفترة وأن القرآن صريح بأنهم ناجون؟ أفيدونا أفادكم الله .
    فأجاب رحمه الله : أهل الفترة ليس في القرآن ما يدل على أنهم ناجون أو هالكون ، إنما قال الله جل وعلا: ﴿وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا﴾ ، فالله جل وعلا من كمال عدله لا يعذب أحداً إلا بعد أن يبعث إليه رسولا ، فمن لم تبلغه الدعوة فليس بمعذب حتى تقام عليه الحجة ، وقد أخبر سبحانه أنه لا يعذبهم إلا بعد إقامة الحجة ، والحجة قد تقوم عليهم يوم القيامة ، كما جاءت السنة بأن أهل الفترات يمتحنون ذلك اليوم ، فمن أجاب وامتثل نجا ومن عصى دخل النار ، والنبي صلى الله عليه وسلم قال: «إن أبي وأباك في النار» لما سأله رجل عن أبيه قال: «إن أباك في النار»، فلما رأى ما في وجهه من التغير قال: «إن أبي وأباك في النار» خرجه مسلم في صحيحه .
    وإنما قال له النبي صلى الله عليه وسلم ذلك ليتسلى به ويعلم أن الحكم ليس خاصا بأبيه ، ولعل هذين بلغتهما الحجة؛ أعني أبا الرجل وأبا النبي صلى الله عليه وسلم ، فلهذا قال النبي عليه السلام : «إن أبي وأباك في النار» قالهما عن علم عليه الصلاة والسلام؛ لأنه لا ينطق عن الهوى ، قال الله سبحانه وتعالى : ﴿وَالنَّجْمِ إِذَا هَوَى مَا ضَلَّ صَاحِبُكُمْ وَمَا غَوَى وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى إِنْ هُوَ إِلا وَحْيٌ يُوحَى﴾، فلعل عبد الله بن عبد المطلب والد النبي صلى الله عليه وسلم قد قامت عليه الحجة لما قال في حقه النبي ما قال ، عليه الصلاة والسلام ، وكان علم ذلك مما عرفته قريش من دين إبراهيم عليه الصلاة والسلام فإنها كانت على ملة إبراهيم حتى أحدث ما أحدث عمرو بن لحي الخزاعي حين تولى مكة وسرى في الناس ما أحدثه عمرو المذكور من بث الأصنام والدعوة إلى عبادتها من دون الله ، فلعل عبد الله قد بلغه ما يدل على أن هذا باطل وهو ما سارت عليه قريش من عبادة الأصنام فتابعهم في باطلة ، فلهذا قامت عليه الحجة ، وقد ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : «رأيت عمرو بن لحي يجر قصبه في النار لأنه أول من سيب السوائب وغير دين إبراهيم». ومن هذا ما جاء في الحديث أنه صلى الله عليه وسلم استأذن أن يستغفر لأمه فلم يؤذن له فاستأذن أن يزورها فأذن له، أخرجه مسلم في صحيحه .
    فلعله بلغها ما تقوم به الحجة عليها من بطلان دين قريش كما بلغ زوجها عبد الله ، فلهذا نُهي صلى الله عليه وسلم عن الاستغفار لها ، ويمكن أن يقال : إن أهل الجاهلية يعاملون معاملة الكفرة في الدنيا فلا يدعى لهم ولا يستغفر لهم؛ لأنهم يعملون أعمال الكفرة فيعاملون معاملتهم وأمرهم إلى الله في الآخرة .
    فالذي لم تقم عليه الحجة في الدنيا لا يعذب حتى يُمتحن يوم القيامة؛ لأن الله سبحانه قال : ﴿وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا﴾ فكل من كان في فترة لم تبلغهم دعوة نبي فإنهم يمتحنون يوم القيامة ، فإن أجابوا صاروا إلى الجنة وإن عصوا صاروا إلى النار ، وهكذا الشيخ الهرم الذي ما بلغته الدعوة ، والمجانين الذين ما بلغتهم الدعوة وأشباههم كأطفال الكفار؛ لأن الرسول صلى الله عليه وسلم لما سئل عنهم قال : «الله أعلم بما كانوا عاملين» فأولاد الكفار يمتحنون يوم القيامة كأهل الفترة ، فإن أجابوا جوابا صحيحا نجوا وإلا صاروا مع الهالكين . وقال جمع من أهل العلم : إن أطفال الكفار من الناجين؛ لكونهم ماتوا على الفطرة؛ ولأن النبي صلى الله عليه وسلم رآهم حين دخل الجنة في روضة مع إبراهيم عليه السلام هم وأطفال المسلمين . وهذا قول قوي لوضوح دليله . أما أطفال المسلمين فهم من أهل الجنة بإجماع أهل السنة والجماعة . والله أعلم وأحكم .
    (انتهى من "مجموع فتاوى و مقالات ابن باز"/5/ ص173-175).
    هذا هو الجواب الصحيح.
    فما يمنع إمكانية بلوغ الحجة إلى عبد الله بن عبد المطلب؟
    فالرسول حق، وخبره حق، وهو أفصح الناس في البيان وتبليغ مراد الله تعالى، فلا يحتاج إلى صرف كلامه من (الأب) إلى (العمّ) وهو قادر على تعبيره بالعمّ.
    قال شيخ الإسلام رحمه الله: والتحقيق أن كلام رسوله حق، وليس أحد أعلم بالله من رسوله، ولا أنصح للأمة منه، ولا أفصح ولا أحسن بيانًا منه. ("مجموع الفتاوى"/18/ ص129).
    وقال الإمام ابن القيم رحمه الله في شأن رسول الله صلى الله عليه وسلم: من المعلوم بالاضطرار من حاله أنه كان أحرص الناس على هدى أمته وتعليمهم والبيان لهم فاجتمع في حقه كمال القدرة وكمال الداعي وكمال العلم، فهو أعلم الناس بما يدعو إليه وأقدرهم على أسباب الدعوة وأعظمهم رغبة وأتمهم نصيحة. فإذا كان من هو دونه بمراتب لا تحصى في كل صفة من هذه الصفات قد بين مراده بلفظه كان هو أحق وأولى من كل وجه أن يكون قد استولى على الأمد الأقصى من البيان . ("الصواعق المرسلة على الجهمية والمعطلة"/1/ص220).
    وإذا قيل: إن الأدلة تدل على عموم الخبر بأن هؤلاء أهل الجاهلية لم تبلغهم الدعوة، كقول الله تعالى: ﴿لتُنذِرَ قَوْماً مَّا أُنذِرَ آبَاؤُهُمْ فَهُمْ غَافِلُونَ﴾ الآية. وقوله تعالى : ﴿وَلَكِن رَّحْمَةً مِّن رَّبِّكَ لِتُنذِرَ قَوْماً مَّا أَتَاهُم مِّن نَّذِيرٍ مِّن قَبْلِكَ﴾ الآية ] القصص: 46[.
    الجواب بتوفيق الله وحده: نعم، هي من الأدلة العامة. وكم من عامٍّ يدخله التخصيص؟ ليس بقليل، وليس هذا بغريب. حتى قال الإمام ابن قدامة رحمه الله: وما من عموم إلا وقد تطرق إليه التخصيص إلا اليسير، كقوله تعالى: ﴿وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ إِلَّا عَلَى الله رِزْقُهَا[هود: 6] و: ﴿إِنَّ الله بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيم[الأنفال: 75]. ("روضة الناظر"/ص 238).
    وقد نصره عليه بعض الأئمة، منهم الإمام الشوكاني رحمه الله في ("إرشاد الفحول"/1 /ص600-601/دار الفضيلة).
    ولعل هذا الكلام انتقده بعض الأئمة أيضا، ولكن الشاهد هنا: أن خروج بعض أفراد العام عن دائرة دلالة العموم إما بنص وإما باقتضاء دليل آخر: ليس بغريب.
    ونقتبس من كلام الإمام القرطبي رحمه الله: فإن زعموا أن اللفظ عام فالعام يجوز تخصيصه. ("الجامع لأحكام القرآن"/8/ص536).
    ومما يقوي احتمال بلوغ الحجة إلى بعض أفراد أهل عصر الجاهلية قصة سلمان الفارسي رضي الله عنه، وكان في عصر الجاهلية، وكان من أهل الفترة، وقد عرف الحق قبل مجيء نبوة النبي محمد صلى الله عليه وسلم. وهذا كاف في الرد على من منع بلوغ الحجة إلى أهل الفترة البتة.
    ومما يقوي هذا: قصة زيد بن عمر بن نفيل رحمه الله، وكان من أهل الفترة.
    عن أسماء بنت أبي بكر رضي الله عنهما قالت: رأيت زيد بن عمرو بن نفيل قائماً مسنداً ظهره إلى الكعبة يقول: يا معاشر قريش والله ما منكم على دين إبراهيم غيري. وكان يحيي الموءودة يقول للرجل إذا أراد أن يقتل ابنته: لا تقتلها أنا أكفيكها مئونتها فيأخذها، فإذا ترعرعت قال لأبيها: إن شئت دفعتها إليك وإن شئت كفيتك مئونتها. (أخرجه البخاري (3828)).
    هذا يدل على أن زيد بن عمرو له دعوة إلى دين الحنيف بقدر ما يعلم، فما المانع من بلوغها أبوي رسول الله صلى الله عليه وسلم؟



    الباب السادس: إن لم تبلغ عبد الله بن عبد المطلب الحجة، فإنه سيمتحن في الآخرة وليس من الناجين

    الوجه الثاني من الجواب بتوفيق الله:
    يحتمل أنه كما قال الشيخ محمد الأمين الشنقيطي رحمه الله: إن عبد الله بن عبد المطلب من أهل الفترة ولم تبلغه الحجة، فهو من الممتحنين يوم القيامة.
    عن الأسود بن سريع عن النبي صلى الله عليه و سلم قال : «أربعة يوم القيامة يدلون بحجة أصم لا يسمع ورجل أحمق ورجل هرم ومن مات في الفترة فأما الأصم فيقول : يا رب جاء والصبيان يقذفوني بالبعر وأما الهرم فيقول : لقد جاء الإسلام وما أعقل وأما الذي مات في الفترة فيقول : رب ما أتاني رسولك فيأخذ مواثيقهم ليطيعنه فيرسل إليهم رسولا أن ادخلوا النار» قال : «فوالذي نفسي بيده لو دخلوها لكانت عليهم بردا وسلاما». (أخرجه الطبراني في "المعجم الكبير" (841) وغيره، وصححه الإمام الوادعي رحمه الله كما في "الجامع الصحيح"/(94)).
    وأما قول قائل: إن القيامة ليست دار الامتحان ولا التكليف.
    فالجواب بتوفيق الله وحده: أنه قد صحت أدلة من القرآن والحديث في بعض الامتحانات والتكاليف بحكمته في عرصات القيامة، فهو الحق. وسيأتي ذكر بعض الأدلة من خلال أقوال الأئمة.
    قال شيخ الإسلام رحمه الله: فهؤلاء لا يهلكهم الله ويعذبهم حتى يرسل إليهم رسولًا . وقد رويت آثار متعددة في أن من لم تبلغه الرسالة في الدنيا، فإنه يُبْعَثُ إليه رَسَولٌ يوم القيامة في عَرَصَات القيامة . وقد زعم بعضهم أن هذا يخالف دين المسلمين؛ فإن الآخرة لا تكليف فيها، وليس كما قال، إنما ينقطع التكليف إذا دخلوا دار الجزاء الجنة أو النار وإلا فهم في قبورهم ممتحنون ومفتونون، يقال لأحدهم : من ربك ؟ وما دينك ؟ ومن نبيك ؟ وكذلك في عرصات القيامة يقال : «ليتبع كل قوم ما كانوا يعبدون، فيتبع من كان يعبد الشمسَ الشمسَ، ومن كان يعبد القمرَ القمرَ، ومن كان يعبد الطواغيتَ الطواغيتَ، وتبقي هذه الأمة فيها منافقوها، فيأتيهم الله في صورة غير الصورة التي رأوه فيها أول مرة، ويقول : أنا ربكم، فيقولون : نعوذ بالله منك، هذا مكاننا حتى يأتينا ربنا». وفي رواية : «فيسألهم ويثبتهم»، وذلك امتحان لهم، هل يتبعون غير الرب الذي عرفوا أنه الله الذي تجلى لهم أول مرة ؟ فيثبتهم الله تعالى عند هذه المحنة، كما يثبتهم في فتنة القبر، فإذا لم يتبعوه لكونه أتى في غير الصورة التي يعرفون، أتاهم حينئذ في الصورة التي يعرفون فيكشف عن ساق، فإذا رأوه خروا له سجدًا، إلا من كان منافقًا، فإنه يريد السجود فلا يستطيعه، يبقى ظهره مثل الطبق . وهذا المعنى مستفيض عن النبي صلى الله عليه وسلم في عدة أحاديث ثابتة من حديث أبي هريرة، وأبي سعيد، وقد أخرجاهما في الصحيحين، ومن حديث جابر . وقد رواه مسلم من حديث ابن مسعود، وأبي موسى، وهو معروف من رواية أحمد وغيره، فدل ذلك على أن المحنة إنما تنقطع إذا دخلوا دار الجزاء، وأما قبل دار الجزاء امتحان وابتلاء .
    (انتهى من "مجموع الفتاوى"/17/ ص308-310).
    وقال الإمام ابن القيم رحمه الله: فإن قيل: فالآخرة دار جزاء وليست دار تكليف، فكيف يمتحنون في غير دار التكليف؟ فالجواب: أن التكليف إنما ينقطع بعد دخول دار القرار، وأما في البرزخ وعرصات القيامة فلا ينقطع. وهذا معلوم بالضرورة من الدين من وقوع التكليف بمسألة الملكين في البرزخ وهي تكليف. وأما في عرصة القيامة فقال تعالى: ﴿يوم يكشف عن ساق ويدعون إلى السجود فلا يستطيعون﴾ صريح في أن الله يدعو الخلائق إلى السجود يوم القيامة، وأن الكفار يحال بينهم وبين السجود إذ ذاك ويكون هذا التكليف بما لا يطاق حينئذ حسا عقوبة لهم لأنهم كلفوا به الدنيا وهم يطيقونه، فلما امتنعوا منه وهو مقدور لهم كلفوا به وهم لا يقدرون عليه حسرة عليهم عقوبة لهم. ولهذا قال تعالى: ﴿وقد كانوا يدعون إلى السجود وهم سالمون﴾، دعوا إليه في وقت حيل بينهم وبينه كما في الصحيح من حديث زيد بن أسلم عن عطاء عن أبي سعيد رضي الله عنه أن ناسا قالوا: يا رسول الله هل نرى بنا فذكر الحديث بطوله إلى أن قال: فيقول: تتبع كل أمة ما كانت تعبد فيقول المؤمنون فارقنا الناس في الدنيا أفقر ما كنا إليهم ولم نصاحبهم فيقول أنا ربكم فيقولون نعوذ بالله منك لا شريك بالله شيئا مرتين أو ثلاثا حتى إن بعضهم ليكاد أن ينقلب فيقول هل بينكم وبينه آية تعرفونها بها فيقولون نعم فيكشف عن ساق فلا يبقى من كان يسجد لله تلقاء نفسه إلا أذن الله له بالسجود ولا يبقى من كان يسجد اتقاء ورياء إلا جعل الله ظهره طبقا واحدا، كلما أراد أن يسجد اتقاء ورياء إلا جعل الله ظهره طبقا واحدا كلما أراد أن يسجد خر على قفاه ثم يرفعون رؤوسهم» وذكر الحديث. وهذا التكليف نظير تكليف البرزخ بالمسألة فمن أجاب في الدنيا طوعا واختيارا أجاب في البرزخ ومن امتنع من الإجابة في الدنيا منع منها في البرزخ. ولم يكن تكليفه في الحال وهو غير قادر قبيحا بل هو مقتضى الحكمة الإلهية لأنه مكلف وقت القدرة وأبى فإذا كلف وقت العجز وقد حيل بينه وبين الفعل كان عقوبة له وحسرة. والمقصود أن التكليف لا ينقطع إلا بعد دخول الجنة أو النار. وقد تقدم أن حديث الأسود بن سريع صحيح وفيه التكليف في عرصة القيامة، فهو مطابق لما ذكرنا من النصوص الصحيحة الصريحة، فعلم أن الذي تدل عليه الأدلة الصحيحة وتأتلف به النصوص ومقتضى الحكمة هذا القول والله أعلم.
    ("طريق الهجرتين"/ص594-595).
    وقال الإمام ابن كثير رحمه الله في رده على من قال بعدم الابتلاء في القيامة: أن أحاديث هذا الباب منها ما هو صحيح، كما قد نص على ذلك غير واحد من أئمة العلماء، ومنها ما هو حسن، ومنها ما هو ضعيف يقوى بالصحيح والحسن. وإذا كانت أحاديث الباب الواحد متعاضدة على هذا النمط، أفادت الحجة عند الناظر فيها، وأما قوله: (إن الآخرة دار جزاء). فلا شك أنها دار جزاء، ولا ينافي التكليف في عرصاتها قبل دخول الجنة أو النار، كما حكاه الشيخ أبو الحسن الأشعري عن مذهب أهل السنة والجماعة، من امتحان الأطفال، وقد قال الله تعالى: ﴿يَوْمَ يُكْشَفُ عَنْ سَاقٍ وَيُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ﴾ [ ن: 42 ] وقد ثبتت السنة في الصحاح وغيرها: أن المؤمنين يسجدون لله يوم القيامة، وأما المنافق فلا يستطيع ذلك ويعود ظهره طبقًا واحدًا كلما أراد السجود خَرَّ لقفاه.
    وفي الصحيحين في الرجل الذي يكون آخر أهل النار خروجًا منها أن الله يأخذ عهوده ومواثيقه ألا يسأل غير ما هو فيه، ويتكرر ذلك مرارًا، ويقول الله تعالى: «يا ابن آدم، ما أغدرك!» ثم يأذن له في دخول الجنة.
    وأما قوله: (وكيف يكلفهم دخول النار، وليس ذلك في وسعهم؟)، فليس هذا بمانع من صحة الحديث، فإن الله يأمر العباد يوم القيامة بالجواز على الصراط، وهو جسر على جهنم أحدّ من السيف وأدق من الشعرة، ويمر المؤمنون عليه بحسب أعمالهم، كالبرق، وكالريح، وكأجاويد الخيل والركاب، ومنهم الساعي ومنهم الماشي، ومنهم من يحبو حبوًا، ومنهم المكدوش على وجهه في النار، وليس ما ورد في أولئك بأعظم من هذا بل هذا أطم وأعظم، وأيضًا فقد ثبتت السنة بأن الدجال يكون معه جنة ونار، وقد أمر الشارع المؤمنين الذين يدركونه أن يشرب أحدهم من الذي يرى أنه نار، فإنه يكون عليه بردًا وسلامًا، فهذا نظير ذلك، وأيضًا فإن الله تعالى قد أمر بني إسرائيل أن يقتلوا أنفسهم، فقتل بعضهم بعضًا حتى قتلوا فيما قيل في غداة واحدة سبعين ألفًا، يقتل الرجل أباه وأخاه وهم في عماية غمامة أرسلها الله عليهم، وذلك عقوبة لهم على عبادتهم العجل، وهذا أيضًا شاق على النفوس جدًا لا يتقاصر عما ورد في الحديث المذكور، والله أعلم.
    (انتهى من "تفسير القرآن العظيم"/ 5/ص58-59).
    فيحتمل أن أبا رسول الله صلى الله عليه وسلم من أهل الفترة ولم تبلغه الحجة فيمتحن في عرصات القيامة فعصى الله عز وجل فاستحق النار، فصار حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم يخبر عن مآل والده أنه في النار: «إن أبي وأباك في النار».
    فلا منافاة بين الأدلة، والحمد لله رب العالمين.

    الباب السابع: حال أم رسول الله صلى الله عليه وسلم

    مما يقوي أن أبا رسول الله صلى الله عليه وسلم الداخل في النار هو والده حقيقيا، وهو عبد الله بن عبد المطلب : قصة أم رسول الله صلى الله عليه وسلم آمنة بنت وهب.
    قال الإمام مسلم رحمه الله: حدثنا يحيى بن أيوب ومحمد بن عباد ( واللفظ ليحيى ) قالا حدثنا مروان بن معاوية عن يزيد ( يعني ابن كيسان ) عن أبي حازم عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : «استأذنت ربي أن أستغفر لأمي فلم يأذن لي واستأذنته أن أزور قبرها فأذن لي». (أخرجه مسلم (976)).
    ولا سبيل للطاعنين في هذا الحديث لأن السند صحيح.
    يحيى بن أيوب هو أبو زكريا المقابري البغدادي، ثقة سني. ("تهذيب التهذيب"/11/ ص165).
    ومحمد بن عباد هو ابن الزبرقان المكي، صدوق يهم، من رجال البخاري ومسلم. ("تهذيب التهذيب"/9/ص 216).
    مروان بن معاوية هو ابن الحارث بن أسماء الفزاري، ثبت حافظ. ("تهذيب التهذيب"/10/ ص88).
    يزيد بن كيسان هو أبو إسماعيل اليشكري ويقال أبو منين، صدوق يخطئ. ("تهذيب التهذيب"/11/ ص311).
    أبو حازم هو سلمان الأشجعي. ذكره ابن عبد البر: أجمعوا على أنه ثقة. ("تهذيب التهذيب"/4/ ص123).
    أبو هريرة هو عبد الرحمن بن صخر الدوسي رضي الله عنه. قال الذهبي رحمه الله: والحفاظ طبقات : في ذروتها أبو هريرة رضي الله عنه . ("الموقظة في علم مصطلح الحديث"/ص 16).
    وهذا الحديث في "صحيح مسلم" بدون انتقاد من أئمة العلل، فهو صحيح ومما تلقته الأمة بالقبول، فلا نشك في صحته، ولا نستريب في دلالته.
    وقال الحافظ البيهقي رحمه الله: روينا في الحديث الثابت، ... –ثم ذكر هذا الحديث- ("معرفة السنن والآثار"/للبيهقي /(2360)).
    وقال الإمام الحافظ أبو عمرو بن الصلاح رحمه الله: القول بأن ما انفرد به البخاري أو مسلم مندرج في قبيل ما يقطع بصحته لتلقي الأمة كل واحد من كتابيهما بالقبول على الوجه الذي فصلناه من حالهما فيما سبق سوى أحرف يسيرة تكلم عليها بعض أهل النقد من الحفاظ كالدارقطني وغيره وهي معروفة عند أهل هذا الشأن والله أعلم. ("مقدمة ابن الصلاح"/ص 10).
    ثم تابع مروان بن معاوية: محمد بن عبيد فرواه عن يزيد بن كيسان به بلفظ: زار النبي صلى الله عليه وسلم قبر أمه فبكى وأبكى من حوله . فقال: «استأذنت ربي في أن أستغفر لها فلم يأذن لي. واستأذنت ربي في أن أزور قبرها فأذن لي فزوروا القبور . فإنها تذكركم الموت». (أخرجه ابن ماجه (1572)/صحيح).
    ومحمد بن عبيد هو ابن عبد الرحمن الكوفي، ثقة كثير الحديث صاحب سنة. ("تهذيب التهذيب"/9/ ص291).
    وتابعه يعلى بن عبيد فرواه عن يزيد بن كيسان بلفظ: رأى رسول الله صلى الله عليه و سلم قبر أمه فبكى وأبكى من حوله ثم قال: «استأذنت ربي في زيارة قبر أمي فأذن لي واستأذنته في الاستغفار فلم يأذن لي فزوروها فإنها تذكركم الآخرة». ("مسند إسحاق بن راهويه"/(205)/صحيح).
    ويعلى بن عبيد ثقة بل أحفظ من محمد بين عبيد. قال محمد بن عثمان بن أبي شيبة: سمعت يحيى بن معين وسئل عن ولد عبيد محمد وعمر ويعلى فقال: كانوا ثقات وأثبتهم يعلى. وقال المفضل الغلابي عن يحيى: بنو عبيد ثقات. وقال ابن عمار: كلهم ثبت وأحفظهم يعلى، وأبصرهم بالحديث محمد، وعمر ألحنهم. ("تهذيب التهذيب"/9/ ص291).
    وإذا تفرد أبو هريرة رضي الله عنه بحديث فحديثه حجة، فكيف وقد عاضده عليه بعض الصحابة رضي الله عنهم؟ منهم بريدة بن الحصيب رضي الله عنه.
    قال الإمام ابن أبي شيبة رحمه الله: حدثنا محمد بن عبد الله الأسدي عن سفيان عن علقمة بن مرثد عن سليمان بن بريدة عن أبيه قال: لما فتح رسول الله صلى الله عليه و سلم مكة أتى حرم قبر فجلس إليه فجعل كهيئة المخاطب وجلس الناس حوله، فقام وهو يبكي، فتلقاه عمر وكان من أجرأ الناس عليه، فقال: بأبي أنت وأمي يا رسول الله ما الذي أبكاك؟ قال: «هذا قبر أمي سألت ربي الزيارة فأذن لي وسألته الإستغفار فلم يأذن لي فذكرتها فذرفت نفسي فبكيت». قال: فلم ير يوما كان أكثر باكيا منه يومئذ. ("مصنف ابن أبي شيبة"/ (11808)/صحيح).
    محمد بن عبد الله الأسدي هو ابن الزبير بن الأسدي مولاهم أبو أحمد الزبيري، ثقة ثبت، وقد يخطئ في روايته عن سفيان الثوري. ("تهذيب التهذيب"/9/ ص227).
    وروايته عن سفيان الثوري في الأصل صحيحة إلا أن ينص أحد الحفاظ على أنه أخطأ فيها.
    سفيان هو الثوري جبل الحفظ، أمير المؤمنين في الحديث.
    علقمة بن مرثد هو أبو الحارث الكوفي، ثقة ثبت. ("تهذيب التهذيب"/7/ ص246).
    سليمان بن بريدة هو سليمان بن بريدة بن الحصيب، أخو عبد الله. هو ثقة وأوثق من عبد الله. قال وكيع: يقولون إن سليمان كان أصح حديثا من أخيه وأوثق. وقال ابن عيينة: وحديث سليمان بن بريدة أحب إليهم من حديث عبد الله. ("تهذيب التهذيب"/4/ ص153).
    وأبوه بريدة بن الحصيب رضي الله عنه صحابي مشهور.
    فالحديث صحيح.
    ويزيده صحة أن محمد بن عبد الله الأسدي تابعه قبيصة بن عقبة فرواه عن سفيان الثوري به. (أخرجه الفاكهي في "أخبار مكة" (2308)).
    وقبيصة بن عقبة روايته عن سفيان الثوري فيها ضعف ولكنه في الشواهد.
    وتابعه أيضا معاوية بن هشام فقال: حدثنا سفيان عن علقمة به. (أخرجه ابن شاهين في " ناسخ الحديث ومنسوخه"/(653)).
    ومعاوية بن هشام القصار الأزدي، صدوق له أوهام. ("تهذيب التهذيب"/10/ص 196).
    ولم أجد من ينصّ على أن هذا الحديث من أوهامه، فالحديث صحيح.
    ويزيد الحديث صحة أن علقمة بن مرثد قد تابعه محارب بن دثار فرواه عن ابن بريدة عن أبيه به. (أخرجه أحمد بن حنبل في "المسند" (23053)، والبيهقي في "الكبرى" (4/ص76)، والطحاوي في "مشكل الآثار" (4130)/صحيح).
    ومحارب بن دثار ثقة معروف. وقال سماك بن حرب : كان أهل الجاهلية إذا كان في الرجل ست خصال سودوه: الحلم والصبر والسخاء والشجاعة والبيان والتواضع، ولا يكملن في الإسلام إلا بالعفاف.وقد كملن في هذا الرجل. يعني: محارب بن دثار. ("تهذيب التهذيب"/10/ ص45).
    هذا دليل صريح أن أمّ رسول الله صلى الله عليه وسلم في النار كافراً فلم يؤذن له أن يستغفر لها. قال الله تعالى: ﴿مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ وَلَوْ كَانُوا أُولِي قُرْبَى مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُمْ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ﴾. [التوبة: 113].
    فأمّ رسول الله صلى الله عليه وسلم ماتت كافرة، كزوجها.
    قال الحافظ البيهقي رحمه الله: وأبواه كانا مشركين بدليل ... –ثم ذكر حديث أنس رضي الله عنه-. ("السنن الكبرى"/للبيهقي /7/ص 190).
    وقال النووي رحمه الله: فيه جواز زيارة المشركين في الحياة وقبورهم بعد الوفاة لأنه إذا جازت زيارتهم بعد الوفاة ففي الحياة أولى وقد قال الله تعالى: ﴿وصاحبهما في الدنيا معروفا﴾، وفيه النهى عن الاستغفار للكفار. ("شرح النووي على مسلم"/7/ ص45).
    وقال شيخ الإسلام رحمه الله: وأما زيارة قبر الكافر فرخص فيها لأجل تذكار الآخرة، ولا يجوز الاستغفار لهم . وقد ثبت في الصحيحين عن النبي صلى الله عليه وسلم : أنه زار قبر أمه فبكى وأبكى من حوله . وقال : «استأذنت ربي في أن أزور قبرها فأذن لي واستأذنته في أن أستغفر لها فلم يأذن لي فزوروا القبور فإنها تذكركم الآخرة». ("الجواب الباهر في زوار المقابر"/ص 46).
    وقال شمس الحق آبادي رحمه الله: بكاؤه صلى الله عليه وسلم على ما فاتها من إدراك أيامه والإيمان به أو على عذابها «فلم يأذن لي» لأنها كافرة والاستغفار للكافرين لا يجوز «فأذن لي» بناء على المجهول أو يكون بصيغة الفاعل «فإنها» أي القبور أو زيارتها «تذكر بالموت» وذكر الموت يزهد في الدنيا ويرغب في العقبى. فيه جواز زيارة قبور المشركين، والنهي عن الاستغفار للكفار. ("عون المعبود"/9/ص40-41).
    وقال ملا علي القاري رحمه الله: ثم الجمهور على أن والديه ماتا كافرين. وهذا الحديث أصح ما ورد في حقهما. ("مرقاة المفاتيح شرح مشكاة المصابيح"/6/ص 28).
    ولا يصح أن يقال: إنه يريد بالأم هنا العمة أو الخالة. كيف يكون رسول الله صلى الله عليه وسلم في كلٍّ من هذين الموضعين يقول: (إبي في النار) وهو يضمر في الباطن: العم، خلافا لما فهمه السامع، ويقول: (استأذنت ربي أن أستغفر لأمي فلم يأذن لي) وهو ينوي في القلب: الخالة، خلافا لما فهمه أبو هريرة وغيره من السامعين، ويقول: «هذا قبر أمي ...» وهو يقصد الخالة، خلافا لما فهمه عمر بن الخطاب وبريدة بن الحصيب وغيرهما من الحاضرين، وهو أفصح الناس وأقدرهم على الوضوح وأنصحهم وأصدقهم؟
    وأي مانع يمنع بلوغ الحجة إلى آمنة بنت وهب، إما من طريق ورقة بن نوفل أو رجل من بقايا أهل الكتاب أو غيرهم ممن ثبت على دين التوحيد ، إما في مكة وإما في بعض أسفارها وقد ثبت أنها أحيانا تسافر إلى مكان بعيد؟
    وما الدليل على أن دين إبراهيم عليه الصلاة والسلام لا يعرفه أحد من الناس في الأرض بعد رفع عيسى عليه الصلاة والسلام البتة؟ بل علمه بقايا أهل الكتاب كما في قصة سلمان رضي الله عنه، وعندهم شيء من دعوة الناس إليه مع ضعفها.
    وقد بينت أن عموم قول الله تعالى: ﴿لتُنذِرَ قَوْماً مَّا أُنذِرَ آبَاؤُهُمْ فَهُمْ غَافِلُونَ﴾ الآية. ] يس: 6[ خُصّ بأدلة آخرى.
    وأما قول الشيخ محمد الأمين الشنقيطي رحمه الله: (لا يمكن تخصيص عموم قوله تعالى : ﴿وما كنا معذبين حتى نبعث رسولا﴾ ]الإسراء: 10[ بتعذيب بعض الأعيان قبل الإنذار، لإن هذا التخصيص لو قلنا به لأبطل ذلك حكمة العام ؛ لأن الله تعالى تمدح بكمال الإنصاف ، وأنه لا يعذب أحداً حتى يقطع حجة المعذب بإنذار الرسل له في دار الدنيا)، فهذا صواب.
    وإنما قولنا يكون في تخصيص عموم قول الله تعالى: ﴿لتُنذِرَ قَوْماً مَّا أُنذِرَ آبَاؤُهُمْ فَهُمْ غَافِلُونَ﴾ الآية. ] يس: 6[ خُصّ بقضايا عبد الله بن عبد المطلب، وآمنة بنت وهب، وسلمان الفارسي، وعمرو بن عامر الخزاعي، وورقة بن نوفل، وزيد بن عمرو بن نفيل وأمثالهم أنهم قد بلغتهم دعوة التوحيد.

    ورسول الله صلى الله عليه وسلم هو الصادق المصدوق، وقد صرح بأن الله لم يأذن له أن يستغفر لأمه –ربه أرحم الراحمين وأحكم الحاكمين-، فهذا يدل على أن أمه لا تستحق المغفرة، وهذا يدل على أنها ماتت كافرة مشركة شركا أكبر. قال الله تعالى: ﴿إِنَّ الله لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُشْرِكْ بِالله فَقَدِ افْتَرَى إِثْمًا عَظِيمًا﴾ [النساء: 48]، وصارت من أهل النار، كما قال تعالى: ﴿إِنَّهُ مَنْ يُشْرِكْ بِالله فَقَدْ حَرَّمَ الله عَلَيْهِ الْجَنَّةَ وَمَأْوَاهُ النَّارُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصَارٍ﴾ [المائدة: 72]، وكانت من الخالدين في النار، كما قال تعالى: ﴿إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَالْمُشْرِكِينَ فِي نَارِ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا أُولَئِكَ هُمْ شَرُّ الْبَرِيَّةِ﴾ [البينة: 6]. فأنى للمشركين الفلاح وهم ماتوا كفاراً؟ قال الله تعالى: ﴿وَمَنْ يَدْعُ مَعَ الله إِلَهًا آخَرَ لَا بُرْهَانَ لَهُ بِهِ فَإِنَّمَا حِسَابُهُ عِنْدَ رَبِّهِ إِنَّهُ لَا يُفْلِحُ الْكَافِرُونَ﴾ [المؤمنون: 117].
    فإما أنها قد بلغتها الحجة وأعرضت عنها فاستحقت العذاب، وإما أنها سوف تمتحن يوم القيامة فلم تطع الله فاستحقت النار. فكلام رسول الله صلى الله عليه وسلم حق.
    فلا يجوز تأويل هذه الأحاديث أو توهينها أو تضعيف دلالتها مع إمكان الجمع بينها وبين الآيات السابقة.
    عن ابن عباس رضي الله عنهما رفعه قال : «ليس أحد إلا يؤخذ من قوله ويدع غير النبي -صلى الله عليه و سلم-». (أخرجه الطبراني/"المعجم الكبير"/رقم (11941)/صحيح).
    وقال مجاهد رحمه الله: ليس أحد من خلق الله إلا وهو يؤخذ من قوله ويترك إلا النبي صلى الله عليه وسلم. (أخرجه ابن عبد البر في "جامع بيان العلم وفضله"/(1084)/صحيح).
    وقال الحكم بن عتيبة رحمه الله : ليس أحد من خلق الله إلا يؤخذ من قوله ويترك إلا النبي صلى الله عليه وسلم. (أخرجه ابن عبد البر في "جامع بيان العلم وفضله"/(1083)/صحيح).
    وقال أبو حنيفة رحمه الله: إذا صح الحديث فهو مذهبي. (نقله ابن عابدين في "حاشية ردّ المحتار"/ 6 / 293 ).
    وقال الإمام الشافعي رحمه الله : أجمع المسلمون على أن من استبابت له سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يكن له أن يدعه لقول أحد من الناس. (نقله ابن القيم في "إعلام الموقعين"/1/ص 7).
    وقال رحمه الله: إذا صح الحديث فهو مذهبي. (نقله النووي في "المجموع شرح المهذب"/1 /ص92).
    وقال أحمد بن حنبل رحمه الله : من رد حديث رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فهو على شفا هلكة . (أخرجه أبو الحسين الفراء في "طبقات الحنابلة"/2/ص14).
    فهذا البيان كله كاف في رد تلك الشبهات، وهي تعتبر تقوّلا على رسول الله صلى الله عليه وسلم.
    والأب هو الوالد الحقيقي، والأمّ هي الوالدة الحققية، كما سبق بيان ذلك.
    وكم مرة يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: (الأب) ويريد به حقيقة الأبوية؟ كثير جدا، وهذا هو الأصل.
    وكم مرة يقول: (الأب) ويريد به العم؟ هذا نادر.
    وهكذا الكلام في (الأم).
    فعرف من هذا أن من جعل النادر هو مراد رسول الله صلى الله عليه وسلم مع قدرته على الإفصاح ومع كمال نصحه وصدقه مع أمته فقد تقوّل على رسول الله صلى الله عليه وسلم، شعر أم لم يشعر.
    قال الإمام ابن القيم رحمه الله: مدعى صرف اللفظ عن ظاهره وحقيقته إلى مجازه يتضمن دعواه الإخبار عن مراد المتكلم ومراد الواضع. أما المتكلم فكونه أراد ذلك المعنى الذي عينه الصارف وأما الواضع فكونه وضع اللفظ المذكور دالا على هذا المعنى فإن لم تكن دعواه مطابقة كان كاذبا على المتكلم بخلاف مدعي الحقيقة فإنه إذا تضمنت دعواه إرادة المتكلم للحقيقة وإرادة الواضع كان صادقا. أما صدقه على الواضع فظاهر، وأما صدقة على المتكلم معرفة مراد المتكلم إنما يحصل بإعادته من كلامه، وأنه إنما يخاطب غيره للتفهيم والبيان. فمتى عرف ذلك من عادته وخاطبنا لما هو المفهوم من ذلك الخطاب علمنا أنه مراده منه، وهذا بحمد بين لا خفاء فيه. ("بدائع الفوائد"/4/ص1009).
    وقد جاء التصريح باسمها في حديث آخر أنها أمنة بنت وهب :
    أخرجه عبد الرزاق عن بن جريج قال: حُدِّثْتُ عن مسروق بن الأجدع عن بن مسعود قال خرج رسول الله صلى الله عليه و سلم يوما فخرجنا معه حتى انتهينا إلى المقابر فأمرنا فجلسنا، ثم تخطينا القبور حتى انتهينا إلى قبر منها، فجلس إليه، فناجاه طويلا ثم ارتفع نحيب رسول الله صلى الله عليه و سلم باكيا، فبكينا لبكائه، ثم إن النبي صلى الله عليه و سلم أقبل فلقيه عمر بن الخطاب فقال: ما الذي أبكاك يا رسول الله؟ قال: لقد أبكانا وأفزعنا ، فأخذ بيد عمر ثم أومأ إلينا فأتيناه فقال: «أفزعكم بكائي؟» فقلنا: نعم يا رسول الله. قال: «فإن القبر الذي رايتموني عنده قبر أمي آمنة بنت وهب وإني استأذنت ربي في زيارتها فأذن لي ثم أستأذنته في الإستغفار لها فلم يأذن لي وأنزل: ﴿ما كان للنبي والذين آمنوا أن يستغفروا للمشركين الآية وما كان استغفار إبراهيم لأبيه﴾، فأخذني ما يأخذ الولد للوالد من الرأفة فذلك أبكاني ألا إني نهيتكم عن ثلاث عن زيارة القبور وعن أكل لحوم الأضاحي فوق ثلاث ليسعكم وعن نبيذ الأوعية فزوروها فإنها تزهد في الدنيا وتذكر الآخرة وكلوا لحوم الأضاحي وأنفقوا منها ما شئتم، فإنما نهيتكم إذا الخير قليل وتوسعة على الناس ألا وإن الوعاء لا يحرم شيئا كل مسكر حرام». ("مصنف عبد الرزاق" (6714)/ ومحمد الفاكهي في "أخبار مكة" (32300) ضعيف).
    في السند رواية ابن جريج وهو ثقة مدلس ولم يصرح بالسماع عن مسروق. وابن جريج مشهور بتدليس الضعفاء. قال ابن حجر رحمه الله: عبد الملك بن عبد العزيز بن جريج المكي فقيه الحجاز مشهور بالعلم والثبت كثير الحديث، وصفه النسائي وغيره بالتدليس. قال الدارقطني: شر التدليس تدليس بن جريج، فإنه قبيح التدليس، لا يدلس إلا فيما سمعه من مجروح. ("طبقات المدلسين"/ص 41/الطبقة الثالثة).
    ومما يدل على ضعف الراوي الذي دلسه ابن جريج رواية ابن حبان رحمه الله.
    قال رحمه الله: أخبرنا عمران بن موسى بن مجاشع قال : حدثنا أحمد بن عيسى المصري قال : حدثنا ابن وهب قال : حدثنا ابن جريج عن أيوب بن هانئ عن مسروق بن الأجدع عن ابن مسعود به. ("صحيح ابن حبان (381)/ضعيف).
    ورواها أيضا الحاكم في "المستدرك" (3292)، والطحاوي في "مشكل الآثار" (2071).
    رواها ابن جريج عن أيوب بن هانئ. قال فيه أبو حاتم: شيخ صالح. وقال الدارقطني: يعتبر به. وقال بن معين: ضعيف. وقال ابن عدي: لا أعرفه. وذكره بن حبان في "الثقات". ("تهذيب التهذيب"/1/ ص362).
    ولكن تدليس ابن جريج يجوز الاعتضاد به.
    ويمكن أن يكون له شاهد من حديث بريدة رضي الله عنه، أخرجه ابن مردويه في تفسيره.
    ففي تفسير ابن مردويه من حديث ابن بريدة عن أبيه صلى النبي ركعتين بعسفان وقال: «استأذنت في الاستغفار لآمنة فنهيت فبكيت ثم عدت فصليت ركعتين واستأذنت في الاستغفار لها فزجرت»، ثم دعا ناقته، فما استطاعته القيام لنقل الوحي فأنزل الله: ﴿ما كان للنبي﴾ ( التوبة: 311 ) الآية. (نقله العيني "عمدة القاري" /13/ ص52).
    ولم نتمكن من النظر في سند ابن مردويه لأن تفسيره في حكم المفقود.
    ويكفينا الاستدلال بما ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم، في أن أمّه ماتت كافرة مشركة شركا أكبر حتى منع الله من الاستغفار لها.
    ونستفيد من كلام الحافظ ابن حجر رحمه الله: وقد ثبت أن النبي صلى الله عليه و سلم أتى قبر أمه لما اعتمر فاستأذن ربه أن يستغفر لها فنزلت هذه الآية. والأصل عدم تكرر النزول. وقد أخرج الحاكم وابن أبي حاتم من طريق أيوب بن هانئ عن مسروق عن ابن مسعود قال: خرج رسول الله صلى الله عليه و سلم يوما إلى المقابر فاتبعناه فجاء حتى جلس إلى قبر منها، فناجاه طويلا ثم بكى فبكينا لبكائه فقال: «إن القبر الذي جلست عنده قبر أمي واستأذنت ربي في الدعاء لها فلم يأذن لي فانزل علي: ﴿ما كان للنبي والذين آمنوا أن يستغفروا للمشركين﴾. وأخرج أحمد من حديث ابن بريدة عن أبيه نحوه وفيه نزل بنا ونحن معه قريب من ألف راكب، ولم يذكر نزول الآية. وفي رواية الطبري من هذا الوجه لما قدم مكة أتى رسم قبر. ومن طريق فضيل بن مرزوق عن عطية لما قدم مكة وقف على قبر أمه حتى سخنت عليه الشمس رجاء أن يؤذن له فيستغفر لها فنزلت. وللطبراني من طريق عبد الله بن كيسان عن عكرمة عن ابن عباس نحو حديث بن مسعود وفيه لما هبط من ثنية عسفان، وفيه نزول الآية في ذلك فهذه طرق يعضد بعضها بعضا. ("فتح الباري"/8/ ص508).
    فآمنة بنت وهب لم تكن مؤمنة بل هي مشركة على دين مشركي أهل الجاهلية، وهي من أهل النار، والله عليم حكيم.


    الباب الثامن: ليس كل أهل الجاهلية معذورا بجهلهم

    نشرع في الوجه الثالث في الجواب عن سؤال: هل عبد الله بن عبد المطلب والد رسول الله صلى الله عليه وسلم قد بلغته الحجة حتى يحكم عليه أنه في النار؟
    الوجه الثالث: لا شك أن الجهل عذر من الأعذار، ولكن الله عليم بذات الصدور يعلم من يحب الحق في قلبه ويسعى في طلبه فيستحق العذر والعفو عند عدم الاهتداء، ومن لم يحب الحق ولم يحدث نفسه لطلبه ولم يبال: هل الحق موجود ممكن الطلب أم منعدم لا يمكن طلبه فلا يستحق هذا الصنف العفو والعذر.
    عن ابن عمر رضي الله عنهما: أن زيد بن عمرو بن نفيل خرج إلى الشأم يسأل عن الدين ويتبعه فلقي عالما من اليهود فسأله عن دينهم فقال: إني لعلي أن أدين دينكم، فأخبرني فقال: لا تكون على ديننا حتى تأخذ بنصيبك من غضب الله. قال زيد: ما أفرّ إلا من غضب الله ولا أحمل من غضب الله شيئا أبدا وأنى أستطيعه؟ فهل تدلني على غيره؟ قال: ما أعلمه إلا أن يكون حنيفاً. قال زيد: وما الحنيف؟ قال: دين إبراهيم لم يكن يهوديا ولا نصرانيا ولا يعبد إلا الله فخرج زيد فلقي عالما من النصارى فذكر مثله فقال: لن تكون على ديننا حتى تأخذ بنصيبك من لعنة الله. قال: ما أفرّ إلا من لعنة الله ولا أحمل من لعنة الله ولا من غضبه شيئا أبدا، وأنى أستطيع؟ فهل تدلني على غيره؟ قال: ما أعلمه إلا أن يكون حنيفاً. قال: وما الحنيف؟ قال: دين إبراهيم لم يكن يهودياً ولا نصرانياً، ولا يعبد إلا الله. فلما رأى زيد قولهم في إبراهيم عليه السلام خرج. فلما برز رفع يديه فقال: اللهم إني أشهد أني على دين إبراهيم. (أخرجه البخاري (3827)).
    هذا يدل على أن معرفة دين الحنيف باقية في أهل الكتاب مع إعراضهم عنه.
    وهذا أيضا يدل على أن الدعوة الحنيفية بلغت زيد بن عمرو، فلا يبعد أنها تبلغ أبوي رسول الله صلى الله عليه وسلم. فنجا المستجيب وهلك المعرض.
    قال السهيلي رحمه الله: وإنما كان عند أهل الجاهلية بقايا من دين إبراهيم. ("فتح الباري"/ لابن حجر /7/ص144).
    وهذا الحديث يدل على أن من بذل جهده في طلب الحق يهدى إليه. قال الله تعالى: ﴿وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ الله لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ﴾ [العنكبوت: 69].
    وانظروا إلى شأن زيد بن عمرو هذا: أنه حريص على اتباع دين إبراهيم بحسب ما علمه، وكان يحيي الموءودة، ولا يأكل مما يذبحون على أنصابهم، ولا يأكل إلا ما ذكر اسم الله عليه، كما سيأتي الدليل على ذلك. هذا يدل على أن من اتبع الهدى الذي علمه الله زاده الله هدى بعده.
    قال شيخ الإسلام رحمه الله: فمن عمل بما علم أورثه الله علم ما لم يعلم كما قال تعالى : ﴿وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا زَادَهُمْ هُدًى وَآتَاهُمْ تَقْواهُمْ﴾ [ محمد : 17 ] ، وقال تعالى : ﴿وَلَوْ أَنَّهُمْ فَعَلُوا مَا يُوعَظُونَ بِهِ لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ وَأَشَدَّ تَثْبِيتًا * وَإِذًا لَآتَيْنَاهُمْ مِنْ لَدُنَّا أَجْرًا عَظِيمًا * وَلَهَدَيْنَاهُمْ صِرَاطًا مُسْتَقِيمًا﴾ [ النساء : 66 -68 ] ، وقال تعالى : ﴿يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا الله وَآمِنُوا بِرَسُولِهِ يُؤْتِكُمْ كِفْلَيْنِ مِنْ رَحْمَتِهِ وَيَجْعَلْ لَكُمْ نُورًا تَمْشُونَ بِهِ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَالله غَفُورٌ رَحِيمٌ﴾ [ الحديد : 28 ] ، وقال تعالى : ﴿الله وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا يُخْرِجُهُمْ مِنْ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ﴾ [ البقرة : 257 ] ، وقال تعالى : ﴿قَدْ جَاءَكُمْ مِنْ الله نُورٌ وَكِتَابٌ مُبِينٌ . يَهْدِي بِهِ الله مَنْ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ سُبُلَ السَّلَامِ وَيُخْرِجُهُمْ مِنْ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِهِ وَيَهْدِيهِمْ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ﴾ [ المائدة : 15، 16 ] . وشواهد هذا كثيرة في الكتاب والسنة . ("مجموع الفتاوى"/10/ ص10).
    وأما من لم يهتم بالحق ولم يطلبه ويؤثر البقاء على الجهل والباطل، فلا يلومن إلا نفسه.
    وعن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما: أن النبي صلى الله عليه وسلم لقي زيد بن عمرو بن نفيل بأسفل بلدح قبل أن ينزل على النبي صلى الله عليه وسلم الوحي، فقدمت إلى النبي صلى الله عليه وسلم سفرة فأبى أن يأكل منها، ثم قال زيد: إني لست آكل مما تذبحون على أنصابكم، ولا آكل إلا ما ذكر اسم الله عليه، وأن زيد بن عمرو كان يعيب على قريش ذبائحهم ويقول: الشاة خلقها الله وأنزل لها من السماء الماء وأنبت لها من الأرض ثم تذبحونها على غير اسم الله، إنكاراً لذلك وإعظاماً له. (أخرجه البخاري (3826)).
    قال الداودي رحمه الله: كان النبي صلى الله عليه و سلم قبل المبعث يجانب المشركين في عاداتهم لكن لم يكن يعلم ما يتعلق بأمر الذبح، وكان زيد قد علم ذلك من أهل الكتاب الذين لقيهم. ("فتح الباري"/ لابن حجر /7/ص144).
    يحتمل أن زيدا رحمه الله يعلم هذه التعاليم الحنيفية من أهل الكتاب مع إعراضهم عنها، ويحتمل أن الله هداه إلى التوحيد والفطرة لحرصه على اتباع الحق.
    وهذا الحديث دليل واضح على دعوة زيد بن عمرو ومحاجّته قريشاً. فما المانع من بلوغ الحجة أبوي النبي صلى الله عليه وسلم؟
    وعن زيد بن حارثة رضي الله عنهما قال: خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو مردفي إلى نصب من الأنصاب فذبحنا له شاة، ثم صنعناها له حتى إذا نضجت جعلناها في سفرتنا، ثم أقبل رسول الله صلى الله عليه وسلم يسير وهو مردفي في يوم حار من أيام مكة، حتى إذا كنا بأعلى الوادي لقيه زيد بن عمرو بن نفيل فحيا أحدهما الآخر بتحية الجاهلية، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ما لي أرى قومك قد شنفوا لك؟» فقال: أما والله إن ذلك لغير ثائرة كانت مني إليهم، ولكني أراهم على ضلالة، فخرجت أبتغي هذا الدين حتى قدمت على أحبار يثرب، فوجدتهم يعبدون الله ويشركون به فقلت: ما هذا بالدين الذي أبتغي، فخرجت حتى أقدم على أحبار خيبر، فوجدتهم يعبدون الله ويشركون به فقلت: ما هذا بالدين الذي أبتغي، فخرجت حتى قدمت على أحبار فدك، فوجدتهم يعبدون الله ويشركون به فقلت: ما هذا بالدين الذي أبتغي، خرجت حتى أقدم على أحبار أيلة فوجدتهم يعبدون الله ويشركون به فقلت: ما هذا بالدين الذي أبتغي. فقال لي حبر من أحبار الشام: أتسأل عن دين ما تعلم أحدا يعبد الله به إلا شيخا بالجزيرة. فخرجت فقدمت عليه فأخبرته بالذي خرجت له فقال: إن كل من رأيت في ضلال إنك تسأل عن دين هو دين الله ودين ملائكته، وقد خرج في أرضك نبي، أو هو خارج يدعو إليه ارجع فصدقه واتبعه وآمن بما جاء به. فلم أحس نبيا بعد وأناخ رسول الله صلى الله عليه وسلم البعير الذي تحته، ثم قدمنا إليه السفرة التي كان فيه الشواء فقال: ما هذا؟ قلنا: هذه الشاة ذبحناه النصب كذا وكذا. فقال: إني لا آكل شيئا ذبح لغير الله. ثم تفرقنا، وكان صنمان منحاس يقال لهما إساف ونائلة فطاف رسول الله صلى الله عليه وسلم. وطفت معه فلما مررت مسحت به فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لا تمسه». وطفنا، فقلت في نفسي: لأمسنه أنظر ما يقول، فمسحته. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لا تمسه ألم تنه». قال: فوالذي أكرمه وأنزل عليه الكتاب ما استلم صنما حتى أكرمه الله بالذي أكرمه وأنزل عليه الكتاب. قال: ومات زيد بن عمرو بن نفيل قبل أن يبعث النبي صلى الله عليه وسلم. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «يأتي يوم القيامة أمة وحده». (أخرجه النسائي في "السنن الكبرى" (8188)، والحاكم في "المستدرك" (4956)، والبزار في "المسند" (1188) وحسنه الإمام الوادعي رحمه الله في "الجامع الصحيح" (2587)).
    هذا دليل واضح على وجود دين إبراهيم في بقايا أهل الأرض الثابتين.
    وهذا دليل واضح أيضا على معرفة الكتابيين المنحرفين دين إبراهيم.
    وانظروا في شدة حرص زيد بن عمرو رحمه الله على طلب الحق وسعيه في نيله، فالله لا يضيع أجر المحسنين، وإن لم يلق مبعث النبي صلى الله عليه وسلم.
    قال ابن حجر رحمه الله: وهو والد سعيد بن زيد أحد العشرة وكان ممن طلب التوحيد وخلع الأوثان وجانب الشرك لكنه مات قبل المبعث. ("فتح الباري"/7/ ص143).
    وقال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: من يتحرّ الخير يعطه، ومن يتوقّ الشرّ يوقه. ("اقتضاء الصراط المستقيم"/2/ص270).
    وقال الإمام ابن القيم رحمه الله: وعلى قدر نية العبد وهمته ومراده ورغبته في ذلك يكون توفيقه سبحانه، وإعانته. فالمعونة من الله تنزل على العباد على قدر هممهم وثباتهم ورغبتهم ورهبتهم. والخذلان ينزل عليهم على حسب ذلك. فالله سبحانه أحكم الحاكمين وأعلم العالمين يضع التوفيق في مواضعه اللائقة به، والخذلان في مواضعه اللائقة به، هو العليم الحكيم. وما أتي مَن أتي إلا مِن قِبل إضاعة الشكر، وإهمال الافتقار والدعاء. ولا ظفر من ظفر بمشيئة الله وعونه إلا بقيامة بالشكر، وصدق الافتقار، والدعاء. ("الفوائد"/ص 106/دار المؤيد).
    فمن تحرى الحق يزيده الله هدى وإيماناً وثواباً ويعذر له ما جهله. ومن أعرض عن الحق ولم يهتمّ بطلبه فلا يعذر بجهله، فصار من المعذبين بعد بلوغه الحجة في الدنيا، أو في عرصات القيامة.
    فهذا بيان مهمّ جدا في حلّ الإشكالات في شأن أبوي النبي صلى الله عليه وسلم.
    قال الإمام ابن القيم رحمه الله: بل الواجب على العبد أن يعتقد أن كل من دان بدين غير دين الإسلام فهو كافر، وأن الله سبحانه وتعالى لا يعذب أحدًا إلا بعد قيام الحجة عليه بالرسول هذا في الجملة. والتعيين موكول إلى علم الله وحكمه. هذا في أحكام الثواب والعقاب. وأما في أحكام الدنيا فهي جارية على ظاهر الأمر فأطفال الكفار ومجانينهم كفار في أحكام الدنيا، لهم حكم أوليائهم. وبهذا التفصيل يزول الإشكال في المسألة وهو مبني على أربعة أصول.
    أحدها: أن الله سبحانه وتعالى لا يعذب أحدا إلا بعد قيام الحجة عليه كما قال تعالى وما كنا معذبين حتى نبعث رسولا وقال تعالى: ﴿Wxß tûïÎŽÅe³t6B tûïÍÉYãBur žxy¥Ï9 tbqä3tƒ Ĩ$¨Z=Ï9 n?tã «!$# 8p¤fãm y÷èt/ È@ߍ9$# [النساء/165]. وقال تعالى: ﴿ß!$yJ¯=ä. uÅ+ø9é& $pkŽÏù Ólöqsù öNçlm;r'y !$pkçJtRtyz óOs9r& ö/ä3Ï?ù'tƒ ֍ƒÉtR ÇÑÈ (#qä9$s% 4n?t/ ôs% $tRuä!%y` ֍ƒÉtR $uZö/¤s3sù $uZù=è%ur $tB tA¨tR ª!$# `ÏB >äóÓx« [الملك/8، 9]، وقال تعالى: ﴿(#qèùuŽtIôã$$sù öNÍkÈ:/RxÎ/ $Z)ósÝ¡sù É=»ysô¹X{ ÎŽÏè¡¡9$# [الملك/11]، وقال تعالى: ﴿uŽ|³÷èyJ»tƒ Çd`Ågø:$# ħRM}$#ur óOs9r& öNä3Ï?ù'tƒ ×@ßâ öNä3ZÏiB tbqÁà)tƒ öNà6øn=tæ ÓÉL»tƒ#uä ö/ä3tRrâÉYãƒur uä!$s)Ï9 öNä3ÏBöqtƒ #x»yd 4 (#qä9$s% $tRôÍky* #n?tã $uZÅ¡àÿRr& ( ÞOßgø?§sïur äo4quysø9$# $u÷R9$# (#rßÍky*ur #n?tã öNÍkŦàÿRr& óOßg¯Rr& (#qçR%x. šúï̍Ïÿ»Ÿ2 [الأنعام/130]. وهذا كثير في القرآن يخبر أنه إنما يعذّب من جاءه الرسول وقامت عليه الحجة، وهو المذنب الذي يعترف بذنبه. وقال تعالى: ﴿$tBur öNßg»oYôJn=sß `Å3»s9ur (#qçR%x. ãNèd tûüÏJÎ=»©à9$#﴾ [الزخرف/76]. والظالم من عرف ما جاء به الرسول، أو تمكّن من معرفته بوجه.
    وأما من لم يعرف ما جاء به الرسول وعجز عن ذلك فكيف يقال إنه ظالم؟
    الأصل الثاني: أن العذاب يستحق بسببين، أحدهما: الإعراض عن الحجة وعدم إرادتها والعمل بها وبموجبها. الثاني: العناد لها بعد قيامها وترك إرادة موجبها. فالأول كفر إعراض، والثاني كفر عناد. وأما كفر الجهل مع عدم قيام الحجة وعدم التمكن من معرفتها فهذا الذي نفى الله التعذيب عنه حتى تقوم حجة الرسل.
    والأصل الثالث: أن قيام الحجة يختلف باختلاف الأزمنة والأمكنة والأشخاص. فقد تقوم حجة الله على الكفار في زمان دون زمان، وفي بقعة وناحية دون أخرى. كما أنها تقوم على شخص دون آخر، إما لعدم عقله وتمييزه كالصغير، والمجنون، وإما لعدم فهمه كالذي لا يفهم الخطاب ولم يحضر ترجمان يترجم له، فهذا بمنزلة الأصمّ الذي لا يسمع شيئًا، ولا يتمكن من الفهم، وهو أحد الأربعة الذين يُدْلون على الله بالحجة يوم القيامة كما تقدم في حديث الأسود وأبي هريرة وغيرهما.
    الأصل الرابع: أن أفعال الله سبحانه وتعالى تابعة لحكمته التي لا يخلّ بها وأنها مقصودة لغايتها المحمودة وعواقبها الحميدة. وهذا الأصل هو أساس الكلام في هذه الطبقات ...إلخ. ("طريق الهجرتين"/مراتب المكلفين /1/ص 612).
    بعد هذا البيان من الإمام ابن القيم رحمه الله إن شاء الله لا يبقى شك في صحة دلالة قول رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إن أبي وأباك في النار «، وقوله: »استأذنت ربي أن أزور أمي فأذن لي، واستأذنته أن أستغفر لهما فلم يأذن لي« أنهما كافران، وأن هذا القول لا يخالف أصول الشريعة البتة.


    الباب التاسع: ضعف حديث إيمان أبوي النبي صلى الله عليه وسلم بعد وفاتهما

    قد جاءت رواية أن الله أحيا أبوي النبي صلى الله عليه وسلم فآمنا به ثم أماتهما مرة أخرى.
    قال ابن شاهين رحمه الله: حدثنا محمد بن الحسن بن زياد مولى الأنصار قال: حدثنا أحمد بن يحيى الحضرمي بمكة قال: حدثنا أبو غزية محمد بن يحيى الزهري قال: حدثنا عبد الوهاب بن موسى الزهري: حدثنا عبد الرحمن بن أبي الزناد عن هشام بن عروه عن أبيه: عن عائشه رضي الله عنها أن النبي صلى الله عليه وسلم نزل إلى الحجون كئيبا حزينا فأقام به ما شاء ربه عز و جل ثم رجع مسروراً فقلت: يا رسول الله نزلت إلى الحجون كئيبا حزينا فأقمت به ما شاء الله ثم رجعت مسروراً. قال: «سألت ربي عز و جل فأحيا لي أمي فآمنت بي ثم ردها». ("ناسخ الحديث ومنسوخه"/ (656)).
    الجواب بتوفيق الله وحده:
    الحديث ضعيف جدا.
    وقد اعترف السهيلي رحمه الله أن في سنده مجاهيل حيث قال: وجدته بخط جدي أبي عمران أحمد بن أبي الحسن القاضي - رحمه الله - بسند فيه مجهولون ذكر أنه نقله من كتاب انتسخ من كتاب معوذ بن داود بن معوذ الزاهد يرفعه إلى [عبد الرحمن بن] أبي الزناد عن [هشام بن] عروة، عن [أبيه عن] عائشة - رضي الله عنها - أخبرت أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - سأل ربه أن يحيي أبويه فأحياهما له وآمنا به ثم أماتهما". ("الروض الأنف"/2/ص121).
    ثم حاول السهيلي رحمه الله أن يدافع عن هذا الحديث الضعيف باحتجاجٍ غير مناسب.
    وقد اعترف أيضا القرطبي رحمه الله بأن في سنده مجاهيل حيث قال رحمه الله: و هو ما خرجه أبو بكر أحمد بن علي الخطيب في كتاب "السابق و اللاحق" و أبو حفص عمر بن شاهين في "الناسخ و المنسوخ" له في الحديث بإسناديهما عن عائشة رضي الله عنها –فذكر الحديث ثم قال:- لفظ الخطيب، وقد ذكر السهيلي في "الروض الأنف" بإسناد فيه مجهولون أن الله تعالى أحيا له أباه و أمه و آمنا به. ("التذكرة"/للقرطبي /ص 12).
    ثم حاول القرطبي رحمه الله الجمع بين الحديث الصحيح المتقدم وبين هذا الضعيف، فلا يجدي شيئاً.
    وسند ابن شاهين ضعيف.
    محمد بن الحسن بن زياد مولى الأنصار
    أحمد بن يحيى الحضرمي لعله أحمد بن يحيى بن زكريا. أبو جعفر الحضرمي الصواف. قال ابن يونس: ثقة. ("تاريخ الإسلام"/ للإمام الذهبي /23/ص 84).
    أبو غزية محمد بن يحيى الزهري، قال ابن حجر: وأما محمد بن يحيى فليس بمجهول بل هو معروف له ترجمة جيدة في تاريخ مصر لأبي سعيد بن يونس ورماه الدارقطني بالوضع وهو أبو غزية محمد بن يحيى الزهري. ("لسان الميزان"/4/ص 91).
    عبد الوهاب بن موسى الزهري، قال فيه الدارقطني: عبد الوهاب بن موسى ثقة. ("لسان الميزان"/4/ص 91).
    وقال الذهبي رحمه الله: عبد الوهاب بن موسى عن ابن عبدالرحمن بن أبى الزناد بحديث: إن الله أحيى لى أمي، فآمنت بي ..الحديث. لا يدرى من ذا الحيوان الكذاب، فإن هذا الحديث كذب مخالف لما صح أنه عليه السلام استأذن ربه في الاستغفار لها فلم يأذن له. ("ميزان الاعتدال"/2/ص 684).
    قال ابن حجر رحمه الله: وأورده بن عساكر في "غرائب مالك" من طريق الحسين بن علي بن محمد بن إسحاق الحلبي حدثنا أبو طالب عمر بن الربيع الخشاب حدثنا علي بنأيوب الكعبي من ولد كعب بن مالك حدثني محمد بن يحيى الزهري أبو غزية حدثني مالك عن أبي الزناد عن هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة رضي الله عنها –ثم ذكر الحديث- قال بن عساكر: حديث منكر من حديث عبد الوهاب بن موسى الزهري المدني عن مالك والكعبي مجهول والحلبي صاحب غرائب. ("لسان الميزان" /4/ص 305).
    ثم قال ابن حجر: ولم ينبه على عمر بن الربيع ولا على محمد بن يحيى وهما أولى أن يلصق بهما هذا الحديث من الكعبي وغيره. ("لسان الميزان" /4/ص 305).
    وعبد الرحمن بن أبي الزناد صدوق تغير حفظه لما قدم بغداد. ("تقريب التهذيب"/2/ص 340).
    نعم، قد حكم غير واحد من الحفاظ على الحديث بالوضع.
    قال ابن الجوزي رحمه الله: باب إسلام آمنة بنت وهب. أنبأنا يحيى بن على المدبر قال: أنبأنا أبو بكر أحمد بن على بن ثابت قال: أنبأنا القاضى أبو العلاء الواسطي قال: حدثنا الحسين بن على بن محمد الحنفي قال: حدثنا أبو طالب عمر بن الربيع الزاهد قال: حدثنا عمر بن أيوب الكعبي قال: حدثنى محمد بن يحيى الزهري أبو غزنة قال: حدثني عبد الوهاب بن موسى قال: حدثني مالك بن أنس عن أبى الزناد عن هشام بن عروة عن عائشة قالت : حج بنا رسول الله صلى الله عليه وسلم حجة الوداع فمر بى على عقبة الحجون وهو باك حزين مغتم . فبكيت لبكاء رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ثم إنه نزل فقال : «يا حميراء استمسكي» فاستندت إلى جنب البعير فمكث عنى طويلا ثم إنه عاد إلى وهو فرح مبتسم ، فقلت له: بأبي أنت وأمى يا رسول الله نزلت من عندي وأنت باك حزين مغتم فبكيت لبكائك ثم إنك عدت إلى وأنت فرح مبتسم، فعمّ ذا يا رسول الله ؟ فقال: «ذهبت لقبر أتي آمنة فسألت الله أن يحييها فأحياها فآمنت بي وردها الله عزوجل » . هذا حديث موضوع بلا شك. والذى وضعه قليل الفهم عديم العلم، إذ لو كان له علم لعلم أن من مات كافراً لا ينفعه أن يؤمن بعد الرجعة لا بل لو آمن عند المعاينة لم ينتفع ، ويكفي في رد هذا الحديث قوله تعالى : ﴿فيمت وهو كافر﴾ وقوله في الصحيح : «استأذنت ربى أن أستغفر لابي فلم يأذن لي». ومحمد بن زياد هو النقاش وليس بثقة. وأحمد بن يحيى ومحمد بن يحيى مجهولان. وقد كان أقوام يضعون أحاديث ويدسّونها في كتب المغفلين فيرويها أولئك . قال شيخنا أبو الفضل بن ناصر : هذا حديث موضوع، وأم رسول الله صلى الله عليه وسلم ماتت بالأبواء بين مكة والمدينة ودفنت هناك، وليست بالحجون. ("الموضوعات"/لابن الجوزي /1/ص283-284).
    وقد سئل شيخ الإسلام رحمه الله: هل صح عن النبي صلى الله عليه وسلم أن الله تبارك وتعالى أحيا له أبويه حتى أسلما على يديه، ثم ماتا بعد ذلك ؟
    فَأَجَاب رحمه الله: لم يصح ذلك عن أحد من أهل الحديث، بل أهل المعرفة متفقون على أن ذلك كذب مختلق، وإن كان قد روى في ذلك أبو بكر يعني الخطيب في كتابه "السابق واللاحق" ، وذكره أبو القاسم السهيلي في "شرح السيرة" بإسناد فيه مجاهيل، وذكره أبو عبد الله القرطبي في "التذكرة"، وأمثال هذه المواضع، فلا نزاع بين أهل المعرفة أنه من أظهر الموضوعات كذبًا، كما نص عليه أهل العلم، وليس ذلك في الكتب المعتمدة في الحديث، لا في الصحيح ولا في السنن ولا في المسانيد ونحو ذلك من كتب الحديث المعروفة، ولا ذكره أهل كتب المغازي والتفسير، وإن كانوا قد يروون الضعيف مع الصحيح؛ لأن ظهور كذب ذلك لا يخفى على متدين، فإن مثل هذا لو وقع لكان مما تتوافر الهمم والدواعي على نقله، فإنه من أعظم الأمور خرقًا للعادة من وجهين :
    من جهة إحياء الموتى، ومن جهة الإيمان بعد الموت، فكان نقل مثل هذا أولى من نقل غيره، فلما لم يروه أحد من الثقات علم أنه كذب .
    والخطيب البغدادي هو في كتاب "السابق واللاحق" مقصوده أن يذكر من تقدم ومن تأخر من المحدثين عن شخص واحد، سواء كان الذي يروونه صدقًا أو كذبًا، وابن شاهين يروي الغَثَّ والسَّمِين، والسهيلي إنما ذكر ذلك بإسناد فيه مجاهيل .
    ثم هذا خلاف الكتاب، والسنة الصحيحة والإجماع . قال الله تعالى : ﴿إِنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى الله لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السُّوَءَ بِجَهَالَةٍ ثُمَّ يَتُوبُونَ مِن قَرِيبٍ فَأُوْلَئِكَ يَتُوبُ الله عَلَيْهِمْ وَكَانَ الله عَلِيماً حَكِيماً وَلَيْسَتِ التَّوْبَةُ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ حَتَّى إِذَا حَضَرَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ إِنِّي تُبْتُ الآنَ وَلاَ الَّذِينَ يَمُوتُونَ وَهُمْ كُفَّارٌ﴾ [ النساء : 17، 18 ] .
    فبين الله تعالى : أنه لا توبة لمن مات كافرًا، وقال تعالى : ﴿فَلَمْ يَكُ يَنفَعُهُمْ إِيمَانُهُمْ لَمَّا رَأَوْا بَأْسَنَا سُنَّتَ الله الَّتِي قَدْ خَلَتْ فِي عِبَادِهِ وَخَسِرَ هُنَالِكَ الْكَافِرُونَ﴾ [ غافر : 85 ] .
    فأخبر أن سنته في عباده أنه لا ينفع الإيمان بعد رؤية البأس؛ فكيف بعد الموت ؟ ونحو ذلك من النصوص .
    وفي صحيح مسلم : أن رجلًا قال للنبي صلى الله عليه وسلم : أين أبي ؟ قال : «إن أباك في النار». فلما أدبر دعاه فقال : «إن أبي وأباك في النار».
    وفي صحيح مسلم أيضًا أنه قال : «استأذنت ربي أن أزور قبر أمي، فأذن لي، واستأذنته في أن أستغفر لها فلم يأذن لي، فزوروا القبور، فإنها تُذكِّر الآخرة ». وفي الحديث الذي في المسند وغيره قال : «إن أمي مع أمك في النار».
    فإن قيل : هذا في عام الفتح والإحياء كان بعد ذلك في حجة الوداع؛ ولهذا ذكر ذلك من ذكره، وبهذا اعتذر صاحب "التذكرة"، وهذا باطل لوجوه :
    الأول : أن الخبر عما كان ويكون لا يدخله نسخ، كقوله في أبي لهب : ﴿سَيَصْلَى نَارًا ذَاتَ لَهَبٍ﴾ [ المسد : 3 ] ، وكقوله في الوليد : ﴿سَأُرْهِقُهُ صَعُودًا﴾ [ المدثر : 17 ] . وكذلك في : «إن أبي وأباك في النار». و «إن أمي وأمك في النار»، وهذا ليس خبرًا عن نار يخرج منها صاحبها كأهل الكبائر؛ لأنه لو كان كذلك لجاز الاستغفار لهما، ولو كان قد سبق في علم الله إيمانهما لم ينهه عن ذلك، فإن الأعمال بالخواتيم، ومن مات مؤمنا فإن الله يغفر له، فلا يكون الاستغفار له ممتنعًا.
    الثاني : أن النبي صلى الله عليه وسلم زار قبر أمه؛ لأنها كانت بطريقه بالحَجُون عند مكة عام الفتح، وأما أبوه فلم يكن هناك، ولم يزره؛ إذ كان مدفونًا بالشام في غير طريقه، فكيف يقال : أحيى له ؟
    الثالث : أنهما لو كانا مؤمنين إيمانًا ينفع، كانا أحق بالشهرة والذكر من عميه : حمزة والعباس، وهذا أبعد مما يقوله الجهال من الرافضة ونحوهم، من أن أبا طالب آمن، ويحتجون بما في السيرة من الحديث الضعيف، وفيه أنه تكلم بكلام خفي وقت الموت .
    ولو أن العباس ذكر أنه آمن لما كان قال للنبي صلى الله عليه وسلم : عمك الشيخ الضال كان ينفعك فهل نفعته بشىء ؟ فقال : «وجدته في غمرة من نار فشفعت فيه حتى صار في ضحضاح من نار، في رجليه نعلان من نار يغلي منهما دماغه، ولولا أنا لكان في الدرك الأسفل من النار ».
    هذا باطل مخالف لما في الصحيح وغيره، فإنه كان آخر شىء قاله : هو على ملة عبد المطلب، وأن العباس لم يشهد موته، مع أن ذلك لو صح لكان أبو طالب أحق بالشهرة من حمزة والعباس، فلما كان من العلم المتواتر المستفيض بين الأمة خلفًا عن سلف أنه لم يذكر أبو طالب ولا أبواه في جملة من يذكر من أهله المؤمنين، كحمزة، والعباس، وعلي، وفاطمة، والحسن والحسين رضي الله عنهم كان هذا من أبين الأدلة على أن ذلك كذب .
    الرابع : أن الله تعالى قال : ﴿قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْرَاهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ إِذْ قَالُوا لِقَوْمِهِمْ إِنَّا بُرَاء مِنكُمْ﴾ إلى قوله: ﴿لَأَسْتَغْفِرَنَّ لَكَ وَمَا أَمْلِكُ لَكَ مِنَ الله مِن شَيْءٍ﴾ الآية [ الممتحنة : 4 ] ، وقال تعالى : ﴿وَمَا كَانَ اسْتِغْفَارُ إِبْرَاهِيمَ لِأَبِيهِ إِلاَّ عَن مَّوْعِدَةٍ وَعَدَهَا إِيَّاهُ فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّهُ عَدُوٌّ لله تَبَرَّأَ مِنْهُ﴾ [ التوبة : 114 ] .
    فأمر بالتأسى بإبراهيم والذين معه، إلا في وعد إبراهيم لأبيه بالاستغفار، وأخبر أنه لما تبين له أنه عدو للّه تبرأ منه . والله أعلم .
    (انتهى من "مجموع الفتاوى"/4/ص324-327).
    وأما حديث أبي رزين رضي الله عنه قال: قلت : يا رسول الله أين أمي؟ قال: «أمك في النار». قال: قلت: فأين من مضى من أهلك؟ قال: «أما ترضى أن تكون أمك مع أمي؟». (أخرجه أحمد بن حنبل في "المسند" (16234)، والطبراني في "الكبير" (471) وابن أبي عاصم في "السنة" (516)).
    في سنده وكيع بن حدس. قال ابن قتيبة في "اختلاف الحديث": غير معروف. وقال ابن القطان: مجهول الحال. ("تهذيب التهذيب"/11/ص115).
    فالخلاصة: نؤمن بأن أبوي رسول الله صلى الله عليه وسلم في النار، تصديقاً لكلام رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو الصادق المصدوق. وهذا الدين مبني على الأدلة الثابتة لا الضعيفة.





    الباب السابع: حب الرسول وتعظيمه لا يحمل المؤمن الفقيه على رد الحق

    بعد أن علمنا صحة أخبار رسول الله صلى الله عليه وسلم عن أبويه أنهما في النار، وعلمنا صواب قول من قال بمقتضى تلك الأخبار الصحيحة ننبه الإخوة على أن محبتنا لرسول الله صلى الله عليه وسلم وتعظيمنا إياه وإجلالنا وتوقيرنا وتعزيرنا إياه لا يحملنا على ردّ الأخبار الصادقة في حق أبويه، لأن الإنسان يقدسه عمله لا نسبه ولا ماله ولا جاهه، فالله حكم مقسط: من عمل خيرا فله خيره وإن كان من أوضع الناس نسبا، ومن أعرض عن الحق فقد أهان نفسه وإن كان من أهل بيت النبوة.
    قال الله تعالى: ﴿تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ (1) مَا أَغْنَى عَنْهُ مَالُهُ وَمَا كَسَبَ (2) سَيَصْلَى نَارًا ذَاتَ لَهَبٍ﴾ [المسد: 1 - 3].
    وقال جل ذكره: ﴿ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا لِلَّذِينَ كَفَرُوا امْرَأَتَ نُوحٍ وَامْرَأَتَ لُوطٍ كَانَتَا تَحْتَ عَبْدَيْنِ مِنْ عِبَادِنَا صَالِحَيْنِ فَخَانَتَاهُمَا فَلَمْ يُغْنِيَا عَنْهُمَا مِنَ اللَّهِ شَيْئًا وَقِيلَ ادْخُلَا النَّارَ مَعَ الدَّاخِلِينَ﴾ [التحريم: 10].
    عن عمرو بن العاص رضي الله عنه قال: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم جهارا غير سر يقول إن آل أبي فلان ليسوا بأوليائي إنما وليي الله وصالح المؤمنين. (أخرجه البخاري (5990) ومسلم (215)).
    قال النووي رحمه الله: ومعناه: إنما وليي من كان صالحاً وإن بعد نسبه مني، وليس وليي من كان غير صالح وإن كان نسبه قريبا. ("المنهاج"/3/ص 88).
    وعن معاذ بن جبل رضي الله عنه قال: لما بعثه رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى اليمن خرج معه رسول الله صلى الله عليه وسلم، يوصيه ومعاذ راكب، ورسول الله صلى الله عليه وسلم يمشي تحت راحلته، فلما فرغ قال: «يا معاذ إنك عسى أن لا تلقاني بعد عامي هذا أو لعلك أن تمر بمسجدي هذا أو قبري» فبكى معاذ جشعا لفراق رسول الله صلى الله عليه وسلم. ثم التفت فأقبل بوجهه نحو المدينة فقال: «إن أولى الناس بي المتقون من كانوا وحيث كانوا». (أخرجه الإمام أحمد (22052) وصححه الإمام الوادعي رحمه الله في "الصحيح المسند مما ليس في الصحيحين" (1108)).
    فليس حال أبي طالب –مثلا- كحال سلمان الفارسي ، لأن أبا طالب لم يقبل دعوة التوحيد ورسول الله صلى الله عليه وسلم من أقرب الناس إليه وفي جانبه يدعوه إليها ليلا ونهارا، وأما سلمان فهو في بداية أمره من أهل الفترة في بطن بلاد الفرس، فتلقا دعوة التوحيد من بقايا أهل الكتاب بالقبول، وكان يحرص على طلب الحق فينتقل من بلد إلى بلد لأجله حتى يقاسي رق العبودية حتى يلبغه الله مناه فيلقى النبي صلى الله عليه وسلم فأكبّه باكياً من شدة فرحه بلقاء خاتم النبيين.
    قال الإمام ابن القيم رحمه الله في شأن سلمان الفارسي رضي الله عنه: ... فسمع أن ركبا على نية السفر، فسرق نفسه من أبيه ولا قطع فركب راحلة العزم يرجو إدراك مطلب السعادة، فغاص في بحر البحث ليقع بدرة الوجود، فوقف نفسه على خدمة الأدلاء وقوف الأذلاء، فلما أحسّ الرهبان بانقراض دولتهم سلموا إليه إعلام الأعلام على نبوة نبينا، وقالوا: إن زمانه قد أظل فأحذر أن تضلّ، فرحل مع رفقة لم يرفقوا به فشروه بثمن بخس دراهم معدودة فبتاعه يهودى بالمدينة. فلما رأى الحره توقّد حرّاً شوقه، ولم يعلم رب المنزل بوجد النازل، فبينا هو يكابد ساعات الانتظار قدم البشير بقدوم البشير وسلمان في رأس نخلة وكاد القلق يلقيه لولا أن الحزم أمسكه كما جرى يوم: ﴿إن كادت لتبدي به لولا أن ربطنا علي قلبها﴾ فعجل النزول لتلقي ركب البشارة ولسان حاله يقول:
    خليلي من نجد قفا بي على الربا ... فقد هب من تلك الديار نسيم
    فصاح به سيده: ما لك؟ انصرف إلى شغلك. فقال:
    كيف انصرافي ولي في داركم شغل
    ثم أخذ لسان حاله يترنم:
    لو سمع الأطروش خليلي لا والله ما أنا منكما ... إذا علم من آل ليلى بداليا
    فلما لقى الرسول عارض نسخة الرهبان بكتاب الأصل فوافقه: يا محمد أنت تريد أبا طالب ونحن نريد سلمان. أبو طالب إذا سئل عن اسمه قال: عبد مناف، وإذا انتسب افتخر بالآباء، وإذا ذكرت الأموال عبد الإبل. وسلمان إذا سئل عن اسمه قال: عبد الله، وعن نسبه قال: ابن الإسلام، وعن ماله قال: الفقر، وعن حانوته قال: المسجد، وعن كسبه قال: الصبر، وعن لباسه قال: التقوى والتواضع، وعن وساده قال: السهر ، ... إلى آخره.
    (انتهى من "الفوائد"/ص40-41).
    فالعبرة باتباع الحق والاستسلام للدليل، لا العصبية ولا الفخر بالأنساب.
    فلنستفد من كلام الإمام الألباني رحمه الله.
    قال الإمام الألباني رحمه الله: واعلم أيها الأخ المسلم أن بعض الناس اليوم و قبل اليوم لا استعداد عندهم لقبول هذه الأحاديث الصحيحة ، و تبنى ما فيها من الحكم بالكفر على والدي الرسول صلى الله عليه وسلم ، بل إن فيهم من يظن أنه من الدعاة إلى الإسلام ليستنكر أشد الاستنكار التعرض لذكر هذه الأحاديث ودلالتها الصريحة !
    وفي اعتقادي أن هذا الاستنكار إنما ينصب منهم على النبي صلى الله عليه وسلم الذي قالها إن صدقوا بها . و هذا - كما هو ظاهر - كفر بواح ، أو على الأقل : على الأئمة الذين رووها و صححوها ، و هذا فسق أو كفر صراح ، لأنه يلزم منه تشكيك المسلمين بدينهم ، لأنه لا طريق لهم إلى معرفته و الإيمان به ، إلا من طريق نبيهم صلى الله عليه وسلم كما لا يخفى على كل مسلم بصير بدينه.
    فإذا لم يصدقوا بها لعدم موافقتها لعواطفهم و أذواقهم و أهوائهم - و الناس في ذلك مختلفون أشد الاختلاف - كان في ذلك فتح باب عظيم جدا لرد الأحاديث الصحيحة ، و هذا أمر مشاهد اليوم من كثير من الكتاب الذين ابتلي المسلمون بكتاباتهم كالغزالي و الهويدي و بليق و ابن عبد المنان و أمثالهم ممن لا ميزان عندهم لتصحيح الأحاديث و تضعيفها إلا أهواؤهم !
    واعلم أيها المسلم - المشفق على دينه أن يهدم بأقلام بعض المنتسبين إليه - أن هذه الأحاديث و نحوها مما فيه الإخبار بكفر أشخاص أو إيمانهم ، إنما هو من الأمور الغيبية التي يجب الإيمان بها وتلقيها بالقبول ، لقوله تعالى : ﴿ألم . ذلك الكتاب لا ريب فيه هدى للمتقين . الذين يؤمنون بالغيب﴾ (البقرة : 1 - 3 ) و قوله : ﴿وما كان لمؤمن و لا مؤمنة إذا قضى الله و رسوله أمرا أن يكون لهم الخيرة من أمرهم .. ﴾ (الأحزاب: 36 ) ، فالإعراض عنها و عدم الإيمان بها يلزم منه أحد أمرين لا ثالث لهما - وأحلاهما مر - : إما تكذيب النبي صلى الله عليه وسلم ، و إما تكذيب رواتها الثقات كما تقدم .
    وأنا حين أكتب هذا أعلم أن بعض الذين ينكرون هذه الأحاديث أو يتأولونها تأويلا باطلا كما فعل السيوطي - عفا الله عنا و عنه - في بعض رسائله ، إنما يحملهم على ذلك غلوهم في تعظيم النبي صلى الله عليه وسلم ، وحبّهم إياه ، فينكرون أن يكون أبواه صلى الله عليه وسلم كما أخبر هو نفسه عنهما، فكأنهم أشفق عليهما منه صلى الله عليه وسلم !! و قد لا يتورع بعضهم أن يركن في ذلك إلى الحديث المشهور على ألسنة بعض الناس الذي فيه أن النبي صلى الله عليه وسلم أحيا الله له أمه ، و في رواية : أبويه ، و هو حديث موضوع باطل عند أهل العلم كالدارقطني و الجورقاني ، و ابن عساكر و الذهبي و العسقلاني ، وغيرهم كما هو مبين في موضعه ، و راجع له إن شئت كتاب "الأباطيل والمناكير" للجورقاني بتعليق الدكتور عبد الرحمن الفريوائي ( 1 / 222 - 229 ).
    و قال ابن الجوزي في "الموضوعات" ( 1 / 284 ) : هذا حديث موضوع بلا شك ، و الذي وضعه قليل الفهم ، عديم العلم ، إذ لو كان له علم لعلم أن من مات كافرا لا ينفعه أن يؤمن بعد الرجعة ، لا بل لو آمن عند المعاينة ، و يكفي في رد هذا الحديث قوله تعالى : ﴿فيمت و هو كافر﴾ ، و قوله صلى الله عليه وسلم في "الصحيح" : «استأذنت ربي أن أستغفر لأمي فلم يأذن لي».
    و لقد أحسن القول في هؤلاء بعبارة ناصعة وجيزة الشيخ عبد الرحمن اليماني رحمه الله في تعليقه على "الفوائد المجموعة في الأحاديث الموضوعة" للإمام الشوكاني ، فقال ( ص 322 ) : كثيرا ما تجمح المحبة ببعض الناس ، فيتخطى الحجة و يحاربها ، و من وفق علم أن ذلك مناف للمحبة الشرعية . و الله المستعان .
    قلت : و ممن جمحت به المحبة السيوطي عفا الله عنه ، فإنه مال إلى تصحيح حديث الإحياء الباطل عند كبار العلماء كما تقدم ، و حاول في كتابه "اللآلىء" ( 1 / 265 - 268 ) التوفيق بينه و بين حديث الاستئذان و ما في معناه ، بأنه منسوخ ، و هو يعلم من علم الأصول أن النسخ لا يقع في الأخبار و إنما في الأحكام ! و ذلك أنه لا يعقل أن يخبر الصادق المصدوق عن شخص أنه في النار ثم ينسخ ذلك بقوله : إنه في الجنة ! كما هو ظاهر معروف لدى العلماء . و من جموحه في ذلك أنه أعرض عن ذكر حديث مسلم عن أنس المطابق لحديث الترجمة إعراضا مطلقا ، و لم يشر إليه أدنى إشارة ، بل إنه قد اشتط به القلم وغلا ، فحكم عليه بالضعف متعلقا بكلام بعضهم في رواية حماد بن سلمة ! و هو يعلم أنه من أئمة المسلمين و ثقاتهم ، و أن روايته عن ثابت صحيحة ، بل قال ابن المديني و أحمد و غيرهما : أثبت أصحاب ثابت حماد ، ثم سليمان ، ثم حماد بن زيد ، و هي صحاح . و تضعيفه المذكور كنت قرأته قديما جدا في رسالة له في حديث الإحياء - طبع الهند - و لا تطولها يدي الآن لأنقل كلامه ، و أتتبع عواره ، فليراجعها من شاء التثبت . و لقد كان من آثار تضعيفه إياه أنني لاحظت أنه أعرض عن ذكره أيضا في شيء من كتبه الجامعة لكل ما هب و دب، مثل "الجامع الصغير" و "زيادته" و "الجامع الكبير" ! و لذلك خلا منه "كنز العمال" و الله المستعان ، و لا حول و لا قوة إلا بالله .
    و تأمل الفرق بينه و بين الحافظ البيهقي الذي قدم الإيمان و التصديق على العاطفة و الهوى ، فإنه لما ذكر حديث : «خرجت من نكاح غير سفاح»، قال عقبه : و أبواه كانا مشركين ، بدليل ما أخبرنا .. . ، ثم ساق حديث أنس هذا وحديث أبي هريرة المتقدم في زيارة قبر أمه صلى الله عليه وسلم .
    (انتهى من "سلسلة الأحاديث الصحيحة"/8/ ص131-134).
    فخلاصة الكلام: أننا نؤمن بمقتضى كلام رسول الله صلى الله عليه وسلم الصادق المصدوق الناصح الأمين المبلغ المبين الذي لا ينطق عن الهوى إن هو إلا وحي يوحى أن أبويه كافران، فالحجة قامت عليهما في حياتهما فأعرضا عنها، أو ستقوم عليهما في عرصات القيامة فأبايا أن يطيعا الله عز وجل فاستحقا النار. وحسبنا الله ونعم الوكيل.

    والله تعالى أعلم، والحمد لله رب العالمين.
    4 ذو القعدة 1435 من الهجرة.


    ([1]) عن ابن شهاب قال أخبرني أنس بن مالك - رضى الله عنه - أنه كان ابن عشر سنين مقدم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - المدينة، فكان أمهاتي يواظبنني على خدمة النبي صلى الله عليه وسلم فخدمته عشر سنين، وتوفي النبي صلى الله عليه وسلم وأنا ابن عشرين سنة، فكنت أعلم الناس بشأن الحجاب حين أنزل الحديث. (أخرجه البخاري (5166)، ومسلم (2309) من وجه آخر).

    ([2]) عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: إني لتحت ناقة رسول الله صلى الله عليه وسلم يسيل علي لعابها فسمعته يقول: «إن الله قد أعطى كل ذي حق حقه، ألا لا وصية لوارث». (أخرجه ابن ماجه (كتاب الوصايا/باب لا وصية لوارث/(2714) بسند صحيح).
    وجاء هذا الحديث عن عمرو بن خارجة الخشني رضي الله عنه، أخرجه الإمام أحمد (17669/ ط الرسالة)، وأبو داود الطيالسي (1313) وغيرهما وفي سندهم شهر بن حوشب، وهو ضعيف.
يعمل...
X