إعـــــــلان

تقليص
لا يوجد إعلان حتى الآن.

هل شؤون الجرح والتعديل قاطعة؟ وهل مستمرة إلى قيام الساعة؟

تقليص
X
 
  • تصفية - فلترة
  • الوقت
  • عرض
إلغاء تحديد الكل
مشاركات جديدة

  • هل شؤون الجرح والتعديل قاطعة؟ وهل مستمرة إلى قيام الساعة؟

    هل شؤون الجرح والتعديل قاطعة؟
    وهل مستمرّة إلى قيام الساعة؟


    كتبه الفقير إلى الله تعالى:
    أبو فيروز عبد الرحمن بن سوكايا
    آل الطوري الإندونيسي عفا الله عنه

    بسم الله الرحمن الرحيم
    مقدمة
    الحمد لله الذي قال: ﴿وما أمروا إلا ليعبدوا الله مخلصين له الدين حنفاء ويقيموا الصلاة ويؤتوا الزكاة وذلك دين القيمة﴾. وأشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا عبده ورسوله الذي قال: «إنما الأعمال بالنيات، وإنما لكل امرئ ما نوى. فمَنْ كانت هجرته إِلَى الله ورسوله فهجرته إِلَى الله ورسوله، ومن كانت هجرته لدنيا يصيبها أو امرأة ينكحها فهجرته إِلَى ما هاجر إليه».
    اللهم صل وسلم على محمد وآله أجمعين أما بعد:
    فقد سئلت مراراً عن شأن الجرح والتعديل: هل هو من الأمور الاجتهادية فيجوز الخلاف في ذلك، أم من الأمور القطعية فلا يجوز مخالفتها؟
    وجاء سؤال آخر: هل الجرح والتعديل مستمرّ إلى قيام الساعة أم قد انتهى عصره؟
    وقد علمت أني لست أهلاً لأن أسأل عن ذلك، وإنما مرجعه إلى العلماء، ولكن لما أصرّ بعض الإخوة على سماع ما عندي، فأستعين بالله أن أذكر لهم بعض الأدلة وأقوال الأئمة التي رأيتها مناسبة لهذا المقام، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم.

    الباب الأول: بعض الأدلة الدالة على أن الجرح والتعديل من الأمور الشرعية

    قد علم أهل السنة والجماعة أن الجرح والتعديل من الأمور الشرعية، والأدلة على ذلك معروفة. فمن أدلة الجرح والتعديل قول الله تعالى: ﴿وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَيُطِيعُونَ الله وَرَسُولَهُ أُولَئِكَ سَيَرْحَمُهُمُ الله إِنَّ الله عَزِيزٌ حَكِيمٌ * وَعَدَ الله الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَمَسَاكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ وَرِضْوَانٌ مِنَ اللَّهِ أَكْبَرُ ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ﴾ [التوبة: 71، 72]
    وقال سبحانه: ﴿الْمُنَافِقُونَ وَالْمُنَافِقَاتُ بَعْضُهُمْ مِنْ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمُنْكَرِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمَعْرُوفِ وَيَقْبِضُونَ أَيْدِيَهُمْ نَسُوا الله فَنَسِيَهُمْ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ هُمُ الْفَاسِقُونَ * وَعَدَ الله الْمُنَافِقِينَ وَالْمُنَافِقَاتِ وَالْكُفَّارَ نَارَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا هِيَ حَسْبُهُمْ وَلَعَنَهُمُ الله وَلَهُمْ عَذَابٌ مُقِيمٌ﴾ [التوبة: 67، 68].
    انظروا كيف عدّل الله المؤمنين المطيعين وجرّح المنافقين العصاة.
    وقال جل ذكره: ﴿إِنَّ الله اصْطَفَى آدَمَ وَنُوحًا وَآلَ إِبْرَاهِيمَ وَآلَ عِمْرَانَ عَلَى الْعَالَمِينَ﴾ [آل عمران: 33]. وقال تبارك وتعالى: ﴿كَدَأْبِ آلِ فِرْعَوْنَ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَذَّبُوا بِآيَاتِ رَبِّهِمْ فَأَهْلَكْنَاهُمْ بِذُنُوبِهِمْ وَأَغْرَقْنَا آلَ فِرْعَوْنَ وَكُلٌّ كَانُوا ظَالِمِينَ * إِنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ عِنْدَ اللَّهِ الَّذِينَ كَفَرُوا فَهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ﴾ [الأنفال: 54، 55].
    انظروا كيف عدّل الله آل عمران وجرّح آل فرعون.
    وقال جل ذكره: ﴿وَسَيُجَنَّبُهَا الْأَتْقَى * الَّذِي يُؤْتِي مَالَهُ يَتَزَكَّى * وَمَا لِأَحَدٍ عِنْدَهُ مِنْ نِعْمَةٍ تُجْزَى * إِلَّا ابْتِغَاءَ وَجْهِ رَبِّهِ الْأَعْلَى * وَلَسَوْفَ يَرْضَى﴾ [الليل: 17 - 21]. وقال عز من قائل: ﴿إِلَّا تَنْصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ الله إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُوا ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لَا تَحْزَنْ إِنَّ الله مَعَنَا﴾ [التوبة: 40].
    وقال تعالى: ﴿تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ﴾ [المسد: 1].
    انظروا كيف عدّل الله أبا بكر الصديق رضي الله عنه وجرّح أبا لهب لعنه الله.
    عن أبي الدرداء رضي الله عنه، قال: كنت جالسا عند النبي صلى الله عليه وسلم، إذ أقبل أبو بكر آخذا بطرف ثوبه حتى أبدى عن ركبته، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: «أما صاحبكم فقد غامر» فسلم وقال: إني كان بيني وبين ابن الخطاب شيء، فأسرعت إليه ثم ندمت، فسألته أن يغفر لي فأبى علي، فأقبلت إليك، فقال: «يغفر الله لك يا أبا بكر» ثلاثا، ثم إن عمر ندم، فأتى منزل أبي بكر، فسأل: أثم أبو بكر؟ فقالوا: لا، فأتى إلى النبي صلى الله عليه وسلم فسلم، فجعل وجه النبي صلى الله عليه وسلم يتمعر، حتى أشفق أبو بكر، فجثا على ركبتيه، فقال: يا رسول الله، والله أنا كنت أظلم، مرتين، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: «إن الله بعثني إليكم فقلتم كذبت، وقال أبو بكر صدق، وواساني بنفسه وماله، فهل أنتم تاركوا لي صاحبي» مرتين، فما أوذي بعدها. (أخرجه البخاري (3661)).
    وعن أبي هريرة رضي الله عنه: أن رسول الله صلى الله عليه و سلم قضى في امرأتين من هذيل اقتتلتا فرمت إحداهما الأخرى بحجر فأصاب بطنها وهي حامل فقتلت ولدها الذي في بطنها فاختصموا إلى النبي صلى الله عليه و سلم، فقضى أن دية ما في بطنها غرة عبد أو أمة. فقال ولي المرأة التي غرمت: كيف أغرم يا رسول الله من لا شرب ولا أكل، ولا نطق ولا استهل، فمثل ذلك يطل. فقال النبي صلى الله عليه و سلم: «إنما هذا من إخوان الكهان». (أخرجه البخاري (5758)/دار السلام) ومسلم (1681)/دار السلام)).
    وعن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما قال: كان معاذ بن جبل يصلي مع النبي صلى الله عليه و سلم ثم يرجع فيؤم قومه فصلى العشاء فقرأ بالبقرة فانصرف الرجل، فكأن معاذاً تناول منه فبلغ النبي صلى الله عليه و سلم فقال: «فتان فتان فتان». ثلاث مرار أو قال: «فاتنا فاتنا فاتنا» وأمره بسورتين من أوسط المفصل. (أخرجه البخاري (701)/دار السلام) ومسلم (465)).
    هذه من الأدلة في السنة الدالة على مشروعية الجرح والتعديل.
    فمن أراد المزيد من ذلك فليقرأ كتب الأئمة منها: "المخرج من الفتنة" للإمام الوادعي رحمه الله (ص27-35/ط. دار الآثار).
    قال الإمام أبو بكر أحمد بن علي بن ثابت الحافظ البغدادي المعروف بالخطيب رحمه الله: أجمع أهل العلم على أنه لا يقبل إلا خبر العدل ، كما أنه لا تقبل إلا شهادة العدل ، ولما ثبت ذلك وجب متى لم تعرف عدالة المخبر والشاهد أن يسأل عنهما ويستخبر عن أحوالهما أهل المعرفة بهما ، إذ لا سبيل إلى العلم بما هما عليه إلا بالرجوع إلى قول من كان بهما عارفا في تزكيتهما، فدل على أنه لا بد منه. ("الكفاية في علم الرواية"/للخطيب البغدادي /ص 33).
    وقال الإمام ابن عبد البر رحمه الله: فقد استثنى من هذا الباب –باب تحريم الغيبة- من لا غيبة فيه من الفساق المعلنين المجاهرين وأهل البدع المضلين. ("الاستذكار"/8/ص563).
    وقال الإمام النووي رحمه الله: وأما جرح الرواة والشهود والأمناء على الصدقات والأوقاف والأيتام ونحوهم، فيجب جرحهم عند الحاجة، ولا يحل الستر عليهم إذا رأى منهم ما يقدح في أهليتهم، وليس هذا من الغيبة المحرمة بل من النصيحة الواجبة، وهذا مجمع عليه. ("المنهاج"/16 /ص351/دار المعرفة).
    وقال شيخ الإسلام رحمه الله: وهذان النوعان يجوز فيهما الغيبة بلا نزاع بين العلماء . أحدهما : أن يكون الرجل مظهرا للفجور، مثل : الظلم والفواحش والبدع المخالفة للسنة، فإذا أظهر المنكر، وجب الإنكار عليه بحسب القدرة، كما قال النبى صلى الله عليه وسلم : «من رأى منكم منكرا فليغيره بيده، فإن لم يستطع فبلسانه، فإن لم يستطع فبقلبه، وذلك أضعف الإيمان»([1]). رواه مسلم . وفي "المسند" و"السنن" عن أبى بكر الصديق رضى الله عنه أنه قال : أيها الناس، إنكم تقرؤون القرآن وتقرؤون هذه الآية وتضعونها على غير مواضعها ﴿يا أيها الذين آمنوا عليكم أنفسكم لا يضركم من ضل إذا اهتديتم [ المائدة : 105 ] وإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : «إن الناس إذا رأوا المنكر ولم يغيروه، أوشك أن يعمهم الله بعقاب منه»([2]). فمن أظهر المنكر وجب عليه الإنكار، وأن يهجر ويذم على ذلك . فهذا معنى قولهم : من ألقى جلباب الحياء فلا غيبة له . بخلاف من كان مستترا بذنبه مستخفيا، فإن هذا يستر عليه، لكن ينصح سرا، ويهجره من عرف حاله حتى يتوب، ويذكر أمره على وجه النصيحة .
    النوع الثاني : أن يستشار الرجل في مناكحته ومعاملته أو استشهاده، ويعلم أنه لا يصلح لذلك، فينصحه مستشاره ببيان حاله، كما ثبت في الصحيح أن النبي صلى الله عليه وسلم قالت له فاطمة بنت قيس: قد خطبني أبو جهم ومعاوية، فقال لها : «أما أبو جهم فرجل ضراب للنساء، وأما معاوية فصعلوك لا مال له»([3]). فبين النبي صلى الله عليه وسلم الخاطبين للمرأة . فهذا حجة لقول الحسن : أترغبون عن ذكر الفاجر ! اذكروه بما فيه يحذره الناس، فإن النصح في الدين أعظم من النصح فى الدنيا، فإذا كان النبي صلى الله عليه وسلم نصح المرأة فى دنياها، فالنصيحة فى الدين أعظم .
    وإذا كان الرجل يترك الصلوات، ويرتكب المنكرات، وقد عاشره من يخاف أن يفسد دينه، بين أمره له لتتقى معاشرته. وإذا كان مبتدعا يدعو إلى عقائد تخالف الكتاب والسنة، أو يسلك طريقا يخالف الكتاب والسنة، ويخاف أن يضل الرجل الناس بذلك، بين أمره للناس ليتقوا ضلاله ويعلموا حاله . وهذا كله يجب أن يكون على وجه النصح وابتغاء وجه الله تعالى لا لهوى الشخص مع الإنسان: مثل أن يكون بينهما عداوة دنيوية، أو تحاسد، أو تباغض، أو تنازع على الرئاسة، فيتكلم بمساوئه مظهرا للنصح، وقصده في الباطن الغض من الشخص واستيفاؤه منه، فهذا من عمل الشيطان و «إنما الأعمال بالنيات، وإنما لكل أمرئ ما نوى»([4])، بل يكون الناصح قصده أن الله يصلح ذلك الشخص، وأن يكفى المسلمين ضرره فى دينهم ودنياهم، ويسلك فى هذا المقصود أيسر الطرق التي تمكنه . ("مجموع الفتاوى"/28/ص219-221).
    وقال الإمام مقبل بن هاد الوادعي رحمه الله: فالدين النصيحة، وأئمة أهل السنة قد أجمعوا على جواز الجرح والتعديل، فموتوا أيها المفلسون، والسروريون، ويا أصحاب الجمعيات، موتوا بغيظكم، وبحمد الله فأشرطة الجرح والتعديل قد وصلت إلى أمريكا وأنتم تعلمون ذلك ووصلت إلى أقصى بلاد الله. ("تحفة المجيب"/ص277/ط. دار الآثار).

    الباب الثاني: أقسام الأمور الشرعية

    فإذا كان الجرح والتعديل من الشريعة؛ فاعلم أن الأمور الشرعية تنقسم إلى ثلاثة أقسام، منها ما يعلم ثبوته بالضرورة، ومنها ما لم يكن كذلك ولكن له دليل قطعي على ثبوته، ومنها ما لم يعلم نص عليه فهو محلّ الاجتهاد بين العلماء.
    أو نقول كما قال الإمام أبو إسحاق الشيرازي رحمه الله: فأما الأحكام الشرعية فعلى ضربين: ضرب لا يسوغ فيه الاجتهاد، و ضرب يسوغ فيه الاجتهاد. فالذي لا يسوغ فيه الاجتهاد ضربان:
    ضربٌ عُلم من دين الله تعالى ضرورة كوجوب الصلوات والزكاة والحج وتحريم الزنى واللواط والخمر؛ فهذا وأمثاله فقد تعيّن الحق فيه من الخطأ فيجب الأخذ بما ثبت. ومن خالف في شيء منها مع العلم بها يُحكم بكفره لأن ذلك معلوم من دين الله تعالى ضرورة؛ فمن خالف من ذلك العلم فقد كذّب الله تعالى ورسوله في خبرهما، وذلك يوجب الكفر.
    وضربٌ لا يعلم من دين الله تعالى ضرورة؛ غير أن عليه دليلاً قاطعاً وهو ما أجمع عليه الصحابة وفقهاء الأمصار؛ فهذا أيضاً الحق فيه متعيّن فيما أجمعوا عليه، وما سواه باطل؛ ومن خالف في ذلك حكم بفسقه وينقض حكم الحاكم بمخالفته.
    وأما الضرب الذي يسوغ فيه الاجتهاد فهو هذه المسائل التي اختلف فيها فقهاء الأمصار على قولين، ... إلخ.
    (انتهى من "شرح اللمع"/للشيرازي/2/ص1045-1046).
    وهكذا الجرح والتعديل ينقسم إلى ضربين: صرب لا يسوغ فيه الاجتهاد، وهو ينقسم إلى قسمين، وضرب يجوز فيه الاجتهاد.
    فأما الذي لا يسوغ فيه الاجتهاد فهو ينقسم إلى قسمين:
    القسم الأول: ضرب يعلم ضرورة أنه من الدين لتظاهر الأدلة على ذلك، قد انعقد فيه الإجماع المتيقن، فمن تعمد خلافه بعد العلم والفهم فهو كافر، لأنه جحد ما يعلم من الدين بالضرورة.

    مثال ذلك: وجوب الثناء على رسول الله صلى الله عليه وسلم وتوقيره. قال الله تعالى: ﴿فَالَّذِينَ آمَنُوا بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ وَاتَّبَعُوا النُّورَ الَّذِي أُنْزِلَ مَعَهُ أُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ﴾ [الأعراف: 157].
    فمن خالف هذا بل طعن في رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم فهو كافر. قول الله تعالى: ﴿وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ لَيَقُولُنَّ إِنَّمَا كُنَّا نَخُوضُ وَنَلْعَبُ قُلْ أَبِالله وَآيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنْتُمْ تَسْتَهْزِئُونَ * لَا تَعْتَذِرُوا قَدْ كَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ إِنْ نَعْفُ عَنْ طَائِفَةٍ مِنْكُمْ نُعَذِّبْ طَائِفَةً بِأَنَّهُمْ كَانُوا مُجْرِمِينَ﴾ [التوبة/65، 66]).
    قال شيخ الإسلام رحمه الله: و هذا نص في أن الاستهزاء بالله و بآياته و برسوله كفر. ("الصارم المسلول"/1 / ص 37).
    وقال ابن نجيم رحمه الله في بعض أسباب الكفريات: وتكفر بقولها : لا أعرف الله تعالى. الاستهزاء بالأذان : كفر لا بالمؤذن. ("الأشباه والنظائر"/ص191).
    بل نُقل الإجماع في هذا. قال الإمام القرطبي رحمه الله: قال القاضي أبو بكر بن العربي: لا يخلو أن يكون ما قالوه من ذلك جدًّا أو هزلًا، وهو كيفما كان كفر، فإن الهزل بالكفر كفر لا خلاف فيه بين الأمة. ("الجامع لأحكام القرآن" /8/ص 197).
    وقال شيخ الإسلام رحمه الله: و قد دلت هذه الآية على أن كل من تنقّص رسول الله صلى الله عليه و سلم جادًّا أو هازلًا فقد كفر. ("الصارم المسلول"/1 / ص 37).
    هكذا قد حصل الإجماع المتيقن المبني على الأدلة على وجوب توقير القرآن. فمن جحده واستهزأ بالقرآن فهو كافر.
    قال ابن نجيم رحمه الله في بعض أسباب الكفيرات: ويكفر بوضع رجله عى المصحف مستحفا به، وإلا فلا. الاستهزاء بالعلم والعلماء كفر. ("الأشباه والنظائر"/ص191).
    وأمثلة ذلك كثيرة، فلا يجوز أن نقول مثلاً: هذه من الأمور الاجتهادية ساغ فيها خلافه.
    وكذلك جرح اليهود والنصارى و أهل الحلول والاتحاد وتكفيرهم واجب، وليس من الأمور الاجتهادية. فمن تعمد خلافه بل أثنى عليهم بعد العلم بكفرهم فهو كافر.
    قال القاضي عياض رحمه الله: وكذلك وقع الإجماع على تكفير كل من دافع نص الكتاب أو خص حديثا مجمعا على نقله مقطوعا به مجمعا على حمله على ظاهره كتكفير الخوارج بإبطال الرجم ولهذا نكفر من لم يكفر من دان بغير ملة المسلمين من الملل أو وقف فيهم أو شك أو صحح مذهبهم وإن أظهر مع ذلك الإسلام واعتقده واعتقد إبطال كل مذهب سواه فهو كافر بإظهاره ما أظهر من خلاف ذلك. ("الشفا بتعريف حقوق المصطفى"/2 /ص286).
    وقال رحمه الله: ... بالإجماع على كفر من لم يكفر أحداً من النصارى واليهود وكل من فارق دين المسلمين، أو وقف في تكفيرهم، أو شكّ، قال القاضي أبو بكر: لأن التوقيف والإجماع اتفقا على كفرهم. فمن وقف في ذلك فقد كذب النص والتوقيف أو شك فيه. والتكذيب، أو الشك فيه لا يقع إلا من كافر. ("الشفا"/2 /ص281).
    وقال العلامة برهان الدين البقاعي رحمه الله في كفر رؤوس الصوفية: ولا يسع أحدًا أن يقول: (أنا واقف، أو ساكت لا أثبت ولا أنفي)، لأن ذلك يقتضي الكفر، لأن الكافر من أنكر ما علم من الدين بالضرورة. ومن شك في كفر مثل هذا كَفَرَ، ولهذا قال ابن المقري في "مختصر الروضة": (من شكّ في اليهود والنصارى وطائفة ابن عربي فهو كافر).
    وحكى القاضي عياض في الباب الثاني من القسم الرابع من "الشفاء": (الإجماع على كفر من لم يكفّر أحدا من النصارى واليهود، وكل من فارق دين المسلمين، أو وقف في تكفيرهم، أو شكّ. قال القاضي أبو بكر: لأن التوقيف والإجماع اتفقا على كفرهم، فمن وقف في ذلك فقد كذّب النصّ أو التوقيف، أو شك فيه. والتكذيب أو الشك فيه لا يقع إلا مِن كافر). انتهى
    وقال الإمام حافظ الدين النسفي في كتابه "العمدة في أصول الدين" : (التوقّف باطل لاقتضائه الشك، والشك فيما يفترض اعتقاده كالإنكار).
    انتهى جميع النقولات من "تحذير العباد" للبقاعي رحمه الله (ص230-231/دار الإيمان).
    والضرب الثاني: ليس مما يعلم من دين الله تعالى ضرورة؛ غير أن عليه دليلاً قاطعاً وهو ما أجمع عليه الصحابة وفقهاء الأمصار؛ فهذا أيضاً الحق فيه متعيّن فيما أجمعوا عليه، وما سواه باطل؛ ومن خالف في ذلك حكم بفسقه.

    فمن ذلك تعديل الأئمة لهؤلاء الأئمة المشاهير أمثال: مالك، والشافعي، وأحمد، والسفيانين، وسليمان بن طرخان، وشعبة، وإسحاق، وحماد بن زيد، وحماد بن سلمة، وغيرهم عدد هائل.
    ذلك لأن تعديلهم مبني على الأدلة البينة والأصول المتينة. والأصول المتينة المتفق عليها تجري مجرى الدليل السمعي في وجوب اتباعها.
    قال شيخ الإسلام رحمه الله: بل على الناس أن يلتزموا الأصول الجامعة الكلية التي اتفق عليها سلف الأمة وأئمتها. ("مجموع الفتاوى"/12/ص466).
    ومن الأصول التي اتفقت عليها أهل السنة والجماعة: اتباع الصحابة والثناء على من اتبعهم بإحسان. فلما كان هؤلاء الأئمة المذكورون توفرت فيهم هذه الأصول صاروا أئمة في السنة والإسلام، فمن تكلم فيهم فهو مبتدع فاسق ولا يعذر باجتهاده في ذلك، ولا يقال إن الأمر اجتهادي ويسوغ خلافه.
    قال الإمام البربهاري رحمه الله: وإذا رأيت الرجل يحب أيوب، وابن عون، ويونس بن عبيد، وعبد الله بن إدريس الأودي، والشعبي، ومالك بن مغول، ويزيد بن زريغ، ومعاذ بن معاذ، ووهب بن جرير، وحماد بن سلمة، وحماد بن زيد، ومالك بن أنس، والأوزاعي، وزائدة بن قدامة، فاعلم أنه صاحب سنة، وإذا رأيت الرجل يحبّ الحجاج بن المنهال، وأحمد بن حنبل، وأحمد بن نصر، فاعلم أنه صاحب سنة إن شاء الله إذا ذكرهم بخير، وقال بقولهم. ("شرح السنة"/للبربهاري/ص117-119).
    وقال الإمام أحمد بن حنبل: إذا رأيت الرجل يغمز حماد بن سلمة، فاتهمه على الإسلام، فإنه كان شديداً على المبتدعة. ("سير أعلام النبلاء"/7/ص 109).
    ولم يقل الإمام أحمد: من تكلم في حماد بن سلمة فالأمر واسع لأن هذا من الأمور الاجتهادية.
    وقال أسود بن سالم: كان ابن المبارك إماماً يقتدى به، كان من أثبت الناس في السنة، إذا رأيت رجلا يغمز ابن المبارك، فاتهمه على الإسلام. ("سير أعلام النبلاء"/7/ص374).
    ولم يقل أسود بن سالم: من تكلم في ابن المبارك فالأمر واسع لأن هذا من الأمور الاجتهادية.
    هذه الأمثلة من جهة التعديل.
    ومن جهة الجرح: نجزم بكذب رتن الهندي، ومحمد بن سعيد المصلوب، وبدعية الجعد بن درهم، وجهم بن صفوان، وعمرو بن عبيد، وواصل بن عطاء، ومعبد الجهني، وغيلان الدمشقي، حسن البنا، وسيد قطب، ومحمد إلياس الكندهلوي، وأبي الحسن المصري، وغيرهم جملة هائلة من الضالّين المضلّين.
    فمن علم حالهم ويدافع عنهم عمداً فهو منهم، ولا نقول إنه من الأمور الاجتهادية يجوز الخلاف فيها.
    قال شيخ الإسلام رحمه الله: ويجب عقوبة كل من انتسب إليهم أو ذبّ عنهم أو أثنى عليهم أو عظّم كتبهم أو عرف بمساعدتهم ومعاونتهم أو كره الكلام فيهم أو أخذ يعتذر لهم بأن هذا الكلام لا يدرى ما هو أو من قال أنه صنف هذا الكتاب وأمثال هذه المعاذير التى لايقولها إلا جاهل أو منافق بل تجب عقوبة كل من عرف حالهم ولم يعاون على القيام عليهم. فإن القيام على هؤلاء من أعظم الواجبات لأنهم أفسدوا العقول والأديان على خلق من المشايخ والعلماء والملوك والأمراء وهم يسعون في الأرض فسادا ويصدون عن سبيل الله. ("مجموع الفتاوى"/2/ص 132).
    وقال الشيخ أحمد بن يحيى النجمي رحمه الله في علامات حزبية إبراهيم بن حسن الشعبي :.. (الثالث) دفاعك عنهم –إلى قوله:- ما الذي أوجعك من تصريحي في ذلك الحفل عن وجود الفرقة تبيّت للدولة والمجتمع شراً إلا أنك منهم ...إلخ. ("دحر الهجمة"/ص14 /له رحمه الله/دار المنهاج).
    وقال له رحمه الله في ص13: ومما يدل على تورطك في الحزبية: إنكارك علي واستنكارك ما ذكرته عن الحزبيين اهـ.
    وقال الشيخ صالح السحيمي حفظه الله في شأن عبد الرحمن عبد الخالق وأمثاله: وشنوا حملة شعواء على مَن بيَّن أخطاء تلك الجماعات أو ينتقدها أو يرد عليها أو يدعوها لتطهير مناهجها من المخالفات التي لا تتفق مع منهج أهل السنة والجماعة. ("الـنصر العزيز" /للشيخ ربيع بن هادي المدخلي هداه الله/ص48/مكتبة الفرقان).
    مَن نصر بدعة ومبتدعة على علم فإنه منهم. قال الإمام ابن القيم رحمه الله: ومنها أن أهل السنة إنما ينصرون الحديث الصحيح والآثار السلفية، وأهل البدع ينصرون مقالاتهم ومذاهبهم. (كما في "مختصر الصواعق"/ص603/دار الحديث).
    ولم نَقُل إنه جاز لهم الاجتهاد والثناء على جعد بن درهم أو جهم بن صفوان أو غيلان الدمشقي أو غيرهم من أصحاب البدع الواضحة.
    وقد ذكر سماحـة الشيخ عبد المحسن العباد حفظه الله من أباطيل حسن بن فرحان المالكي : ثناؤه على أهل البدع، وقدحه في أهل السنة. وأيضا ثناؤه على المأمون الذي نصر المبتدعة وآذى أهل السنة، وذمه للمتوكل الذي نصر السنة وأنهى المحنة. ("الانتصار لأهل السنة والحديث" /ص 7/دار الفضيلة).
    وقال فضيلة الشيخ أحمد بن يحيى النجمي رحمه الله لإبراهيم بن حسن الشعبي الحزبي المتستر: إن ثناءك عليهم وإعذارك لهم، وإنكارك على من يبين ما عندهم من المخالفات للشرعية الإسلامية عامة، والمنهج السلفي خاصة وذمك له من أعظم الدلائل على أنك حزبي كبير. ("دحر الهجمة" /له /ص 19/دار المنهاج).
    وقد سئـل سماحـة الشيخ عبد العزيز بن باز – رحمه الله – في شرحه لكتاب "فضل الإسلام"، ما نصّه: الذي يثني على أهل البدع ويمدحهم، هل يأخذ حكمهم؟ فأجاب – عفا الله عنه -: " نعم ما فيه شكٌّ، من أثنى عليهم ومـدحهم هو داعٍ لهم، يدعو لهم، هذا من دعاتهم، نسأل الله العافيـة". ("إجماع العلماء على الهجر والتحذير من أهل الأهواء" /لخالد الظفري/ص137).
    وقال الإمام الوادعي رحمه الله: وهنا أمر لا بد من التنبيه عليه، وهو: أن بعض الحزبيين ربما يقسم لك بالله أنه ليس بحزبي، فتبقى متحيّرًا، لكن إذا دعاك للانتخابات، أو رأيته يمجّد الحزبيين ويستقبلهم، فهو موضع ريبة وشك، ينبغي أن تتنبّه له. ("تحفة المجيب" /ص 140).
    وقال الشيخ صالح الفوزان حفظه الله: من خالف منهج السلف، ومدح المناهج المخالفة لمنهج السلف، ومدح أهلها، فإنه يعتبر من أهل المخالفة، تجب دعوته ومناصحته، فإن رجع إلى الحق وإلا فإنه يُهجر ويُقاطع اهـ. ("الأجوبة المفيدة" /الحارثي/ص171/مكتبة الهدي المحمدي).
    فمن علم بدعة هؤلاء المبتدعة وفهِمها فأثنى عليهم أو دافع عنهم؛ فهو منهم لا من أهل السنة.
    ويدخل تحت هذا القسم:
    قول الإمام أبو داود السجستاني رحمه الله: قلت لأبي عبد الله أحمد بن حنبل: أرى رجلا من أهل السنة مع رجل من أهل البدعة أترك كلامه قال: لا أو تعلِّمه أن الرجل الذي رأيته معه صاحب بدعة فإن ترك كلامه فكلمه، وإلا فألحقه به، قال ابن مسعود: المرء بخدنه([5]). ("طبقات الحنابلة"/1 / ص 160/دار المعرفة/سنده صحيح).
    وقول الإمام البربهاري رحمه الله: وإذا رأيت الرجل يجلس مع أهل الأهواء فحذّره وأعرفه، فإن جلس معه بعد ما علم فاتقه فإنه صاحب هوى. ("شرح السنة"/له/ص44/دار الآثار).
    ويدخل تحت هذا القسم أيضا:
    قول الإمام الشوكاني رحمه الله: والحاصل أن العالم العارف بقواعد الشرع إذا مرت به هذه المسائل المدونة في هذه الفصول وأمثالها لم يسعه إلا تكرير الاسترجاع. وربما يقوم في وجهه من يريد تقويم الباطل فيقول له: (لا إنكار في مسائل الاجتهاد). فيقال له: ومتى فوض الله من يدعي الاجتهاد على الشريعة التي أنزلها على رسوله وجعله حاكماً فيها بما شاء وعلى ما شاء؟ فإن هذه نبوة لا اجتهاد، وشريعة حادثة غير الشريعة الأولى. ولم يرسل الله سبحانه إلى هذه الأمة إلا رسولاً واحداً. وأما ما تقدم للمصنف في المقدمة من أن كل مجتهد مصيب فقد قدمنا بيانه، وذكرنا مراد القائل به. وأما ما سيأتي للمصنف في السير من أنه لا إنكار في مختلف فيه على من هو مذهبه، فتلك مقالة تستلزم طي بساط غالب الشريعة. وسيأتي إن شاء الله تعالى بيان بطلانه. ("السيل الجرار"/كتاب الشرعة/الفصل الرابع/للشوكاني).
    وبهذا علمنا أهمية كلام الإمام أبي عمرو ابن الصلاح رحمه الله: ليس كل خلاف يستروح إليه ويعتمد عليه. ومن يتبع ما اختلف فيه العلماء وأخذ بالرخص من أقاويلهم تزندق أو كاد. ("فتاوى ابن الصلاح"/2 /ص79).

    وأما القسم الثالث: أمر ليس فيه دليل قطعي، بل قد تتجاذب فيه الأنظار على حسب قوة علم المجتهدين، فهذا الذي جاز فيه الاجتهاد ولا يبدع من خالفه.

    يدخل في ذلك : اختلاف العلماء في شأن ابن لهيعة: هل يحسن حديثه إذا رواه أحد العبادلة؟ وكذلك في قضية محمد بن عمرو بن علقمة، وغير ذلك.
    قال الإمام ابن القيم رحمه الله في قصة تخلف كعب بن مالك رضي الله عنه عن غزوة تبوك وتكلم أحد الصحابة رضي الله عنه فيه: ومنها : جواز الطعن في الرجل بما يغلب على اجتهاد الطاعن حمية أو ذبا عن الله ورسوله، ومن هذا طعن أهل الحديث فيمن طعنوا فيه من الرواة، ومن هذا طعن ورثة الأنبياء وأهل السنة في أهل الأهواء والبدع لله لا لحظوظهم وأغراضهم. ومنها: جواز الرد على الطاعن إذا غلب على ظن الراد أنه وهم وغلط، كما قال معاذ للذي طعن في كعب: بئس ما قلت، والله يا رسول الله ما علمنا عليه إلا خيرا، ولم ينكر رسول الله صلى الله عليه وسلم على واحد منهما. ("زاد المعاد"/3 /ص503).
    ويدخل في ذلك الخلاف بين تفضيل عثمان على علي وعكسه.
    قال شيخ الإسلام رحمه الله: كانوا قد اختلفوا في عثمان وعلي - رضي الله عنهما بعد اتفاقهم على تقديم أبي بكر وعمر - أيهما أفضل فقدم قوم عثمان وسكتوا أو ربعوا بعلي وقدم قوم عليا وقوم توقفوا؛ لكن استقر أمر أهل السنة على تقديم عثمان وإن كانت هذه المسألة - مسألة عثمان وعلي - ليست من الأصول التي يضلل المخالف فيها عند جمهور أهل السنة. لكن المسألة التي يضلل المخالف فيها هي "مسألة الخلافة" وذلك أنهم يؤمنون بأن الخليفة بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم أبو بكر ثم عمر ثم عثمان ثم علي. ومن طعن في خلافة أحد من هؤلاء الأئمة فهو أضل من حمار أهله. ("مجموع الفتاوى"/3/ص153).
    ومع ذلك: هل يجوز إنكار من خالفنا في هذا القسم؟ نعم، يجوز إذا ظهر لنا دليل مرجح، بدون تبديع ولا تضليل.
    قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: وقولهم: "مسائل الخلاف لا إنكار فيها" ليس بصحيح فإن الإنكار إما أن يتوجه إلى القول بالحكم أو العمل. أما الأول فإذا كان القول يخالف سنة أو إجماعا قديما وجب إنكاره وفاقا. وإن لم يكن كذلك فإنه ينكر بمعنى بيان ضعفه عند من يقول المصيب واحد وهم عامة السلف والفقهاء. وأما العمل فإذا كان على خلاف سنة أو إجماع وجب إنكاره أيضاً بحسب درجات الإنكار كما ذكرناه من حديث شارب النبيذ المختلف فيه وكما ينقض حكم الحاكم إذا خالف سنة وإن كان قد اتبع بعض العلماء. وأما إذا لم يكن في المسألة سنة ولا إجماع وللاجتهاد فيها مساغ لم ينكر على من عمل بها مجتهدا أو مقلدا. اهـ. ("بيان الدليل على بطلان التحليل"/ص159/دار ابن الجوزي).
    وقال الإمام ابن رجب رحمه الله: وقد بالغ الأئمة الوَرِعون في إنكار مقالات ضعيفة لبعض العلماء وردِّها أبلغ الردِّ، كما كان الإمام أحمد ينكر على أبي ثور وغيره مقالات ضعيفة تفردوا بها، ويبالغ في ردها عليهم هذا كله حكم الظاهر. وأما في باطن الأمر : فإن كان مقصوده في ذلك مجرد تبيين الحق ولئلا يغتر الناس بمقالات من أخطأ في مقالاته فلا ريب أنه مثاب على قصده ودخل بفعله هذا بهذه النية في النصح لله ورسوله وأئمة المسلمين وعامتهم. وسواء كان الذي بين الخطأ صغيراً أو كبيراً فله أسوة بمن رد من العلماء مقالات ابن عباس التي يشذ بها وأُنكرت عليه من العلماء مثل المتعة والصرف والعمرتين وغير ذلك. ومن ردَّ على سعيد بن المسيِّب قوله في إباحته المطلقة ثلاثاً بمجرد العقد وغير ذلك مما يخالف السنة الصريحة ، وعلى الحسن في قوله في ترك الإحداد على المتوفى عنها زوجها ، وعلى عطاء في إباحته إعادة الفروج ، وعلى طاووس قوله في مسائل متعددة شذَّ بها عن العلماء ، وعلى غير هؤلاء ممن أجمع المسلمون على هدايتهم ودرايتهم ومحبتهم والثناء عليهم .
    ولم يعدّ أحد منهم مخالفيه في هذه المسائل ونحوها طعناً في هؤلاء الأئمة ولا عيباً لهم ، وقد امتلأت كتب أئمة المسلمين من السلف والخلف بتبيين هذه المقالات وما أشبهها مثل كتب الشافعي وإسحاق وأبي عبيد وأبي ثور ومن بعدهم من أئمة الفقه والحديث وغيرهما ممن ادعوا هذه المقالات ما كان بمثابتها شيء كثير ولو ذكرنا ذلك بحروفه لطال الأمر جداً .
    وأما إذا كان مرادُ الرادِّ بذلك إظهارَ عيب من ردَّ عليه وتنقصَه وتبيينَ جهله وقصوره في العلم ونحو ذلك كان محرماً سواء كان ردُّه لذلك في وجه من ردِّ عليه أو في غيبته، وسواء كان في حياته أو بعد موته، وهذا داخل فيما ذمَّه الله تعالى في كتابه وتوعد عليه في الهمز واللمز وداخل أيضاً في قول النبي صلى الله عليه وسلم: «يا معشر من آمن بلسانه ولم يؤمن بقلبه لا تؤذوا المسلمين ولا تتبعوا عوراتهم فإنه من يتبع عوراتهم يتبع الله عورته ومن يتبع الله عورته يفضحه ولو في جوف بيته»([6]) . وهذا كله في حق العلماء المقتدى بهم في الدين. فأما أهل البدع والضلالة ومن تشبه بالعلماء وليس منهم فيجوز بيان جهلهم وإظهار عيوبهم تحذيراً من الاقتداء بهم. اهـ. ("الفرق بين النصيحة والتعيير"/ص 7).

    الباب الثالث: هل الجرح والتعديل قد انتهى فلا يصلح اليوم؟

    قد بلغني أن بعض أهل الأهواء يقولون: إن الجرح والتعديل قد انتهى أوانه بانتهاء روايات الأحاديث، فلا يصلح القيام به اليوم.
    وهذا الكلام باطل، لقول الله تعالى: ﴿وَلَقَدْ خَلَقْنَاكُمْ ثُمَّ صَوَّرْنَاكُمْ ثُمَّ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ لَمْ يَكُنْ مِنَ السَّاجِدِينَ * قَالَ مَا مَنَعَكَ أَلَّا تَسْجُدَ إِذْ أَمَرْتُكَ قَالَ أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِنْ نَارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ * قَالَ فَاهْبِطْ مِنْهَا فَمَا يَكُونُ لَكَ أَنْ تَتَكَبَّرَ فِيهَا فَاخْرُجْ إِنَّكَ مِنَ الصَّاغِرِينَ * قَالَ أَنْظِرْنِي إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ * قَالَ إِنَّكَ مِنَ الْمُنْظَرِينَ * قَالَ فَبِمَا أَغْوَيْتَنِي لَأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِرَاطَكَ الْمُسْتَقِيمَ * ثُمَّ لَآتِيَنَّهُمْ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ وَعَنْ أَيْمَانِهِمْ وَعَنْ شَمَائِلِهِمْ وَلَا تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شَاكِرِينَ * قَالَ اخْرُجْ مِنْهَا مَذْءُومًا مَدْحُورًا لَمَنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنْكُمْ أَجْمَعِينَ [الأعراف: 11 - 18].
    هذا يدل على شدة حقد إبليس لآدم وذرياته وعظيم عداوته لهم، وهي ممدودة إلى قيام الساعة. قال الإمام ابن كثير رحمه الله: يخبر تعالى أنه لما أنظر إبليس ﴿إلى يوم يبعثون﴾ واستوثق إبليس بذلك، أخذ في المعاندة والتمرد، فقال: ﴿فبما أغويتني لأقعدن لهم صراطك المستقيم﴾ أي: كما أغويتني. قال ابن عباس: كما أضللتني. وقال غيره: كما أهلكتني لأقعدن لعبادك -الذين تخلقهم من ذرية هذا الذي أبعدتني بسببه -على ﴿صراطك المستقيم﴾ أي: طريق الحق وسبيل النجاة، ولأضلنهم عنها لئلا يعبدوك ولا يوحدوك بسبب إضلالك إياي. وقال بعض النحاة: الباء هاهنا قسمية، كأنه يقول: فبإغوائك إياي لأقعدن لهم صراطك المستقيم.
    قال مجاهد: ﴿صراطك المستقيم﴾ يعني: الحق. وقال محمد بن سوقة، عن عون بن عبد الله: يعني طريق مكة. قال ابن جرير: والصحيح أن الصراط المستقيم أعم من ذلك كله.
    قلت: لما روى الإمام أحمد: حدثنا هاشم بن القاسم، حدثنا أبو عقيل-يعني الثقفي عبد الله بن عقيل -حدثنا موسى بن المسيب، أخبرني سالم بن أبي الجعد عن سبرة بن أبي فاكه قال:سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «إن الشيطان قعد لابن آدم بطرقه، فقعد له بطريق الإسلام، فقال: أتسلم وتذر دينك ودين آبائك؟ قال: فعصاه وأسلم. قال: وقعد له بطريق الهجرة فقال: أتهاجر وتدع أرضك وسماءك، وإنما مثل المهاجر كالفرس في الطول؟ فعصاه وهاجر، ثم قعد له بطريق الجهاد، وهو جهاد النفس والمال، فقال: تقاتل فتقتل، فتنكح المرأة ويقسم المال؟ قال: فعصاه، فجاهد». قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «فمن فعل ذلك منهم فمات، كان حقّاً على الله أن يدخله الجنة، أو قتل كان حقاً على الله، عز وجل، أن يدخله الجنة، وإن غرق كان حقاً على الله أن يدخله الجنة، أو وقصته دابة كان حقاً على الله أن يدخله الجنة»([7]).
    وقوله: ﴿ثم لآتينهم من بين أيديهم ومن خلفهم وعن أيمانهم وعن شمائلهم ولا تجد أكثرهم شاكرين﴾ قال علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس: ﴿ثم لآتينهم من بين أيديهم﴾ أشككهم في آخرتهم، ﴿ومن خلفهم﴾ أرغبهم في دنياهم ﴿وعن أيمانهم﴾ أشبه عليهم أمر دينهم ﴿وعن شمائلهم﴾ أشهي لهم المعاصي. وقال علي بن طلحة -في رواية -والعوفي، كلاهما عن ابن عباس: أما ﴿من بين أيديهم﴾ فمن قبل دنياهم، وأما ﴿من خلفهم﴾ فمن آخرتهم، وأما ﴿عن أيمانهم﴾ فمن قبل حسناتهم، وأما ﴿عن شمائلهم﴾ فمن قبل سيئاتهم. -إلى قوله:- واختار ابن جرير أن المراد جميع طرق الخير والشر، فالخير يصدهم عنه، والشر يحببه لهم.
    ("تفسير القرآن العظيم"/3 /ص393-395).
    فالصراع بين الحق والباطل، وبين جنود الرحمن وجنود الشيطان باقٍ إلى أن يرث الله الأرض وما عليها.
    قال فضيلة الشيخ العلامة محمد أمان الجاوي رحمه الله: ... لأن الشرك ظلم عظيم، ويسمى هذا النوع توحيد العبادة، وهو محل المعركة قديما وحديثا ولم تضع الحرب أوزارها إلى الآن ولن تضع أبدا، بل سوف يستمر الصراع بين الشرك والتوحيد وبين الإسلام والجاهلية بجميع صورها حتى يرث الله الأرض ومن عليها، وتلك سنة الله التي لا تتغير، وهي حقيقة يجهلها أو يتجاهلها كثير من الدعاة في هذا الوقت. ("الحكم على الشيء فرع عن تصوره"/ للشيخ محمد الجامي/ص 275).
    وإبليس قد أورث أباطيله ذرياته من شياطين الجن وجنوده من شياطن الإنس، كلهم يتعانون على إغواء عباد الله. قال الله تعالى : ﴿وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا شَيَاطِينَ الْإِنْسِ وَالْجِنِّ يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُورًا﴾ [ الأنعام : 112 ] ).
    إلى أين دعوتهم؟ إلى نارٍ تلظى. قال الله تعالى: ﴿إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمْ عَدُوٌّ فَاتَّخِذُوهُ عَدُوًّا إِنَّمَا يَدْعُو حِزْبَهُ لِيَكُونُوا مِنْ أَصْحَابِ السَّعِيرِ﴾ [فاطر: 6].
    إذا كان كذلك؛ فكيف لم يورث النبي صلى الله عليه وآله وسلم علومه ودعوته إلى ورثته ليقوموا مقامه في إعلاء كلمات الله وكسر رايات الشياطين، وإظهار الحق والتحذير من أهل الشقاق؟
    بل النبي صلى الله عليه وسلم له ورثة في كل زمن يقومون مقامه في إنقاظ عباد الله من شركة جنود إبليس بإذن الله.
    عن أبي الدرداء رضي الله عنه قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وعلى آله وسلم-: «من سلك طريقاً يطلب فيه علما سلك الله به طريقا إلى الجنة، وإن الملائكة لتضع أجنحتها رضا لطالب العلم، وإنه ليستغفر للعالم من في السماوات والأرض حتى الحيتان في الماء. وفضل العالم على العابد كفضل القمر على سائر الكواكب. إن العلماء هم ورثة الأنبياء لم يرثوا دينارًا ولا درهمًا وإنما ورثوا العلم، فمن أخذه أخذ بحظ وافر»([8]).
    وقال الإمام ابن القيم رحمه الله في شأن الرسل وأعدائهم:
    لا بد أن يرث الرسول وضدّه في الناس طائفتان مختلفتان
    فالوارثون له على منهاجه والوارثون لضدّه فئتان
    أحداهما حرب له ولحزبه ما عندهم في ذاك من كتمان
    فرموه من ألقابهم بعظائم هم أهلها لا خيرة الرحمن
    فأتى الألى ورثوهم فرموا بها وراثه بالبغي والعدوان
    هذا يحقق إرث كل منهما فاسمع وعه يا من له أذنان
    والآخرون أولوا النفاق فأضمروا شيئا وقالوا غيره بلسان
    . اهـ ("القصيدة النونية" - 1 / ص 401/ شرح الهراس/دار الكتب العلمية).
    فإذا كان كذلك: لم يزل في أمة محمد صلى الله عليه وآله وسلم قوم يظهرون الحق ويقمعون الباطل، وينصرون أهل الحق ويحذر الناس من أهل الباطل إلى قيام الساعة.
    عن ثوبان رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لا تزال طائفة من أمتي ظاهرين على الحق، لا يضرهم من خذلهم، حتى يأتي أمر الله وهم كذلك». (أخرجه مسلم (1920)).
    وجاء من حديث المغيرة بن شعبة رضي الله عنه. (أخرجه البخاري (7311) ومسلم (1921)).
    وجاء من حديث معاوية بن أبي سفيان رضي الله عنهما. (أخرجه البخاري (7312) ومسلم (7031)).
    وجاء من حديث عمران بن حصين رضي الله عنهما. (أخرجه أبو داود (2484) وصححه الإمام الوادعي رحمه الله في "الصحيح المسند مما ليس في الصحيحين" (1025)).
    وهل يظهرون الحق بدون حجة؟ بل بالحجج النيرة والعلوم الراسخة.
    قال الإمام ابن دقيق العيد رحمه الله في شرح خطبة "الإلمام" : والأرض لا تخلو من قائم لله بالحجة ، والأمة الشريفة لا بد لها من سالك إلى الحق على واضح المحجة ، إلى أن يأتي أمر الله في أشراط الساعة الكبرى. (كما في الغيث الهامع/لأبي زرعة العراقي/3/ص902/ط. الفاروق).
    وهذا كله داخل في ضمن حفظ الله لدينه إلى يوم القيامة.
    قال سبحانه: ﴿إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ﴾ [الحجر: 9].
    قال الإمام ابن القيم رحمه الله: ... وهذا لأن الله سبحانه ضمن حفظ حججه وبيناته وأخبر رسول الله صلى الله عليه و سلم أنه لا تزال طائفة من أمته على الحق لا يضرهم من خذلهم ولا من خالفهم إلى قيام الساعة، فلا يزال غرس الله الذين غرسهم في دينه يغرسون العلم في قلوب مَن أهّلهم الله لذلك، وارتضاهم، فيكونوا ورثة لهم كما كانوا هم ورثة لمن قبلهم فلا تنقطع حجج الله والقائم بها من الأرض وفي الأثر المشهور: «لا يزال الله يغرس في هذا الدين غرسا يستعملهم بطاعته»([9]) وكان من دعاء بعض من تقدم: (اللهم اجعلني من غرسك الذين تستعملهم بطاعتك). ولهذا ما أقام الله لهذا الدين من يحفظه ثم قبضه إليه إلا وقد زرع ما علمه من العلم والحكمة إما في قلوب أمثاله وإما في كتب ينتفع بها الناس بعده. ("مفتاح دار السعادة"/1/ص147-148).
    ومن العلوم الموروثة هي علم الجرح والتعديل قام به من تأهل لذلك بعض استيفاء شروطه، وهذا في غاية من الأهمية لحماية الدين.
    قال شيخ الإسلام رحمه الله قبل ذلك: وإذا كان أقوام ليسوا منافقين لكنهم سماعون للمنافقين قد التبس عليهم أمرهم حتى ظنوا قولهم حقاً وهو مخالف للكتاب وصاروا دعاة إلى بدع المنافقين كما قال تعالى: ﴿لو خرجوا فيكم ما زادوكم إلا خبالا ولأوضعوا خلالكم يبغونكم الفتنة وفيكم سماعون لهم﴾ فلا بد أيضا من بيان حال هؤلاء، بل الفتنة بحال هؤلاء أعظم فإن فيهم إيماناً يوجب موالاتهم وقد دخلوا في بدع من بدع المنافقين التي تفسد الدين فلا بد من التحذير من تلك البدع وإن اقتضى ذلك ذكرهم وتعيينهم، بل ولو لم يكن قد تلقوا تلك البدعة عن منافق لكن قالوها ظانين أنها هدى وأنها خير وأنها دين ولم تكن كذلك لوجب بيان حالها اهـ. ("مجموع الفتاوى" /28 / ص 233/إحالة/دار الوفاء).
    والجرح والتعديل هو من الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، وهو باق إلى قيام الساعة ما دام رحى المعركة بين الحق والباطل يدور.
    قال شيخ الإسلام رحمه الله: والداعي إلى البدعة مستحق العقوبة باتفاق المسلمين، وعقوبته تكون تارة بالقتل، وتارة بما دونه، كما قتل السلف جهم بن صفوان، والجعد بن درهم، وغيلان القدري، وغيرهم. ولو قدر أنه لا يستحق العقوبة أو لا يمكن عقوبته فلابد من بيان بدعته والتحذير منها، فإن هذا من جملة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، الذي أمر الله به ورسوله . ("مجموع الفتاوى"/35 /ص414).
    ومما يؤيد ذلك حديث أبي هريرة رضي الله عنه: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «يكون في آخر الزمان دجالون كذابون، يأتونكم من الأحاديث بما لم تسمعوا أنتم، ولا آباؤكم، فإياكم وإياهم، لا يضلونكم، ولا يفتنونكم». (أخرجه مسلم (7)).
    هذا يدل على أن سعي الدجالين والكذابين في إفساد سنن النبي صلى الله عليه وآله وسلم وتخريب دين أمته مستمرّ إلى قيام الساعة، قال العلامة عبيد الله المباركفري رحمه الله: قوله: (يكون في آخر الزمان) أي آخر زمان هذه الأمة. ("مرعاة المفاتيح شرح مشكاة المصابيح"/1/ص252).
    وإفكهم وزروهم كثيرة لا تحصى.
    قال عبد السلام بن يزيد بن غياث الإشبيلي رحمه الله:
    وما كان من إفك وزور ... فإنه كعدة رمل تحتويه زرود
    وليس له حد وفي كل ساعة ... يزيد جديدا يقتضيه جديد
    (كما في "جامع بيان العلم وفضله"/لابن عبد البر/2/ص 1018).
    فحذّر النبي صلى الله عليه وآله وسلم الناس من هؤلاء المفسدين.
    فكيف يستمرّ الأكاذب على الله ورسوله إلى قيام الساعة مع أن علم الجرح والتعديل وتطبيقه مُنْتَهٍ أوانه في هذا الزمن؟ هذا كلام باطل.
    قال عبد السلام بن يزيد بن غياث الإشبيلي رحمه الله:
    ولو لم يقم أهل الحديث بديننا ... فمن كان يروي علمه ويفيد
    هم ورثوا علم النبوة واحتووا ... من الفضل ما عنه الأنام رقود
    وهم كمصابيح الدجى يهتدى بهم ... وما لهم بعد الممات خمود
    (كما في "جامع بيان العلم وفضله"/لابن عبد البر/2/ص 1018).
    بل الجرح والتعديل مستمرّ إلى هبوب الريح تقبض أرواح المؤمنين في آخر الدهر.
    قال الإمام ابن أبي حاتم رحمه الله: فإن قيل فبماذا تعرف الآثار الصحيحة والسقيمة؟ قيل: بنقد العلماء الجهابذة الذين خصهم الله عزوجل بهذه الفضيلة، ورقهم هذه المعرفة، في كل دهر وزمان. ("الجرح والتعديل"/لابن أبي حاتم /1/ص 2).
    بعد أن ذكر حديث وجود طائفة تظهر الحق إلى قيام الساعة؛ قال الحافظ أبو بكر الخطيب البغدادي رحمه الله: فقد جعل رب العالمين الطائفة المنصورة حراس الدين، وصرف عنهم كيد المعاندين؛ لتمسكهم بالشرع المتين، واقتفائهم آثار الصحابة والتابعين. فشأنهم حفظ الآثار وقطع المفاوز والقفار، وركوب البراري والبحار في اقتباس ما شرع الرسول المصطفى، لا يعرجون عنه إلى رأي ولا هوى. قبلوا شريعته قولا وفعلا، وحرسوا سنته حفظا ونقلا حتى ثبتوا بذلك أصلها، وكانوا أحق بها وأهلها. وكم من ملحد يروم أن يخلط بالشريعة ما ليس منها. والله تعالى يذب بأصحاب الحديث عنها. فهم الحفاظ لأركانها والقوامون بأمرها وشأنها. إذا صدف عن الدفاع عنها فهم دونها يناضلون، ﴿أولئك حزب الله ألا إن حزب الله هم المفلحون﴾ [المجادلة: 22]. ("شرف أصحاب الحديث"/للخطيب البغدادي/ص10).
    وكيف نعرف الخبر الصحيح والباطل؟ بمعرفة حامله: إن كان ثقة أو صدوقاً مع استيفاء شروط الصحيح أو الحسن فحديثه مقبول، وإلا فلا. فهذا يدل على أهمية علم الجرح والتعديل.
    ولما كان الكذب على رسول الله صلى الله عليه وسلم دائم في كل عصر إلى قيام الساعة؛ فكذلك علم الجرح والتعديل وتطبيقه.
    قال العلامة المناوي رحمه الله في شرح حديث أبي هريرة رضي الله عنه المتقدم: ففيه إشارة إلى أن الحديث ينبغي أن لا يتلقى إلا عن ثقة عرف بالحفظ والضبط وشهر بالصدق والأمانة عن مثله حتى ينتهي الخبر إلى الصحابي وهذا علم من أعلام نبوته ومعجزة من معجزاته فقد يقع في كل عصر من الكذابين كثير ووقع ذلك لكثير من جهلة المتدينة المتصوفة. ("فيض القدير"/4/ص132).
    ولو فرض أن زمن الروايات قد انتهى، فزمن الفتيا مستمرّ إلى قيام الساعة، فلا بد من بيان الغلط والغالط لئلا ينسب غلطه إلى الدين. وهذا من الجرح والتعديل.
    قال شيخ الإسلام رحمه الله: وجب بيان حال من يغلط في الحديث والرواية، ومن يغلط في الرأي والفتيا، ومن يغلط في الزهد والعبادة، وإن كان المخطئ المجتهد مغفورًا له خطؤه، وهو مأجور على اجتهاده، فبيان القول والعمل الذي يدل عليه الكتاب والسنة واجب، وإن كان في ذلك مخالفة لقوله وعمله . ومن علم منه الاجتهاد السائغ، فلا يجوز أن يذكر على وجه الذم والتأثيم له، فإن الله غفر له خطأه، بل يجب لما فيه من الإيمان والتقوى موالاته ومحبته، والقيام بما أوجب الله من حقوقه : من ثناء ودعاء وغير ذلك اهـ. ("مجموع الفتاوى"/28/ص233-234).
    وكذلك: أن الفاسق المفسد في معاملة الناس موجود إلى يوم القيامة؛ فالجرح مهمّ ليسلم الناس من شرّهم، كما أن تعديل صالح مهمّ ليحصل حق الاحترام والإكرام وغير ذلك.
    قال الإمام ابن رجب رحمه الله في شرح حديث (ومن ستر مسلماً ستره الله في الدنيا والآخرة):
    واعلم أن الناس على ضربين: أحدهما: من كان مستورا لا يعرف بشيء من المعاصي، فإذا وقعت منه هفوة، أو زلة، فإنه لا يجوز كشفها، ولا هتكها، ولا التحدث بها، لأن ذلك غيبة محرمة، وهذا هو الذي وردت فيه النصوص، وفي ذلك قد قال الله تعالى: ﴿إن الذين يحبون أن تشيع الفاحشة في الذين آمنوا لهم عذاب أليم في الدنيا والآخرة﴾ –إلى قوله:- من كان مشتهرا بالمعاصي، معلنا بها لا يبالي بما ارتكب منها، ولا بما قيل له فهذا هو الفاجر المعلن، وليس له غيبة، كما نص على ذلك الحسن البصري وغيره، ومثل هذا لا بأس بالبحث عن أمره لتقام عليه الحدود. صرح بذلك بعض أصحابنا، واستدل بقول النبي صلى الله عليه وسلم: «واغد يا أنيس على امرأة هذا، فإن اعترفت، فارجمها». ومثل هذا لا يشفع له إذا أخذ، ولو لم يبلغ السلطان، بل يترك حتى يقام عليه الحد لينكف شره، ويرتدع به أمثاله. قال مالك: من لم يعرف منه أذى للناس، وإنما كانت منه زلة، فلا بأس أن يشفع له ما لم يبلغ الإمام، وأما من عرف بشر أو فساد، فلا أحب أن يشفع له أحد، ولكن يترك حتى يقام عليه الحد، حكاه ابن المنذر وغيره. ("جامع العلوم والحكم"/ص590-591/ط. دار ابن رجب).
    فشرعية الجرح والتعديل باقية إلى قيام الساعة لمن تأهّل لها ولو كره المبطلون.
    وقال الإمام الوادعي رحمه الله: أما الجرح والتعديل فلن أتركه ولو لم يأتني واحد، وما "المصارعة" إلا من هذا الباب. ("غارة الأشرطة"/1/ص235/مكتبة صنعاء الأثرية).
    متى ينتهى زمن الرواية؟ لعلهم يريدون أنه ينتهى في عهد السيوطي والسخاوي أو نحو ذلك، فلا جرح ولا تعديل بعد ذلك. وهذا باطل عند أئمة السنة، بل الجرح والتعديل مستمرّان إلى زمن الإمام الوادعي رحمه الله فقال رحمه الله تلك المقالة الجليلة.
    بل كما سمعت من كلام شيخنا الإمام العلامة يحيى بن علي الحجوري رحمه الله: إن الناس يحتاجون إلى الجرح والتعديل حتى في مستوى البصل. انتهى.
    فكيف بما هو أعظم من ذلك؟ فلا شك أن ذلك مستمرّ إلى قيام الساعة، ولم يزل في الأرض من أكرمه الله بالقيام به كما ينبغي.
    قال النووي رحمه الله في شرح (لا تزال طائفة ...): وفي هذا الحديث معجزة ظاهرة فإن هذا الوصف ما زال بحمد الله تعالى من زمن النبي صلى الله عليه وسلم إلى الآن ولا يزال حتى يأتي أمر الله المذكور –أي: مجيء الريح تقبض أرواح المؤمنين-. ("شرح النووي على مسلم"/13/ص67).
    وقوله صلى الله عليه وآله وسلم: (لا يضرهم) (وهم ظاهرون) يدل على أنهم منصورون.
    قال الإمام أبو شامة رحمه الله: وأصحاب الحديث جند الله ورسوله لاعتنائهم بنشر شريعته وإعلاء كلمته، فالفأل لهم بالفوز والنصر والغلبة من كلام رب العالمين قوله سبحانه: ﴿ولقد سبقت كلمتنا لعبادنا المرسلين إنهم لهم المنصورون وإن جندنا لهم الغالبون﴾. ("شرح الحديث المقتفى في مبعث النبي المصطفى"/ص 54).
    وقال العلامة ابن عقيل الحنبلي رحمه الله: إذا قصد إظهار الحق لأجل الله عز وجل فالله تعالى يعصمه، ويسلمه وما رأينا من رد البدع إلا السلامة. (نقله الإمام ابن مفلح رحمه الله في "الآداب الشرعية" /ص178).
    وقال الإمام ابن القيم رحمه الله: فإن العبد إذا خلصت نيته لله تعالى، وكان قصده، وهمّه، وعمله لوجهه سبحانه، كان الله معه فإنه سبحانه ﴿مع الذين اتقوا والذين هم محسنون﴾. ورأس التقوى والإحسان: خلوص النية لله في إقامة الحق. والله سبحانه لا غالب له، فمن كان معه فمن ذا الذي يغلبه أو يناله بسوء؟ فإن كان الله مع العبد فمن يخاف؟ وإن لم يكن معه فمن يرجو؟ وبمن يثق؟ ومن ينصره من بعده؟ فإذا قام العبد بالحق على غيره وعلى نفسه أولا، وكان قيامه بالله ولله لم يقم له شيء، ولو كادته السماوات والأرض والجبال لكفاه الله مؤنتها، وجعل له فرجاً مخرجاً. ("إعلام الموقعين" /2/ص412/دار الكتاب العربي).
    وقال العلامة السندي رحمه الله: قوله: (من خذلهم) أي لم يعاونهم ولم ينصرهم من الخلق فإنهم منصورون بالله لما فيهم من الخير ﴿إن الله مع الذين اتقوا والذين هم محسنون﴾ [النحل: 128] أي: فلا يضرّهم عدم نصر الغير قوله: (حتى تقوم الساعة) أي: ساعة موت المؤمنين بمجيء الريح التي تقبض روح كل مؤمن وهي الساعة في حق المؤمنين، وإلا فالساعة لا تقوم إلا على شرار خلق الله. ("حاشية السندي على سنن ابن ماجه"/1/ص7).


    والله تعالى أعلم، والحمد لله رب العالمين.
    صنعاء، 5 ربيع الأول 1436 هـ.








    ([1]) أخرجه مسلم (49) عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه.

    ([2]) أخرجه الإمام أحمد (16) وأبو داود (4338) والترمذي (2168) وصححه الإمام الوادعي رحمه الله في "الصحيح المسند مما ليس في الصحيحين" (707).

    ([3]) أخرجه مسلم (1480) عن فاطمة بنت قيس رضي الله عنها.

    ([4]) أخرجه البخاري (1) ومسلم (1907) عن عمر رضي الله عنه.

    ([5]) أخرجه ابن بطة في "الإبانة الكبرى" رقم (505)، والبيهقي في "شعب الإيمان" رقم (8994)، وعبد الرزاق في "المصنف" رقم(7894)، بسند جيد عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه بلفظ: « اعتبروا الرجل بمن يصاحب ، فإنما يصاحب من هو مثله ».

    ([6]) الحديث جيد. أخرجه الإمام أحمد بن حنبل في مسنده (4 / ص 420) عن أبي برزة رضي الله عنه، وفي سنده سعيد بن عبد الله بن جريج وهو مجهول الحال.
    وأخرجه الترمذي (كتاب البر والصلة، باب ما جاء في تعظيم المؤمن) وغيره من حديث ابن عمر رضي الله عنهما بلفظ: «من أسلم بلسانه»، وحسنه، ووافقه الإمام الوادعي رحمه الله في "الجامع الصحيح" ((3601)/دار الآثار).

    ([7]) أخرجه الإمام أحمد (16000) وابن أبي شيبة (19329) والنسائي في "الكبرى" (4342) وغيرهم بسند حسن.

    ([8]) أخرجه الإمام أحمد بن حنبل (21763) وأبو داود (3641) وابن عبد البر في جامع بيان العلم (139) وغيرهم، والحديث حسن لغيره.

    ([9]) أخرجه ابن ماجه (8) وابن حبان (326) عن أبي عنبة الخولاني رضي الله عنه. وفي سنده الجراح بن مليح، فيه ضعف. ولكن الحديث بشواهده في الباب حسن، والله أعلم.
يعمل...
X