إعـــــــلان

تقليص
لا يوجد إعلان حتى الآن.

قصة الزهري مع أمير المؤمنين في شأن الموالي الحافظين الدين

تقليص
X
 
  • تصفية - فلترة
  • الوقت
  • عرض
إلغاء تحديد الكل
مشاركات جديدة

  • قصة الزهري مع أمير المؤمنين في شأن الموالي الحافظين الدين


    قصة الزهري مع أمير المؤمنين
    في شأن الموالي الحافظين الدين



    كتبه الفقير إلى الله:
    أبو فيروز عبد الرحمن بن سوكايا الإندونيسي


    بسم الله الرحمن الرحيم
    مقدمة مؤلف عفا الله عنه

    الحمد لله وأشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا عبده ورسوله اللهم صل وسلم على محمد وآله أجمعين أما بعد:
    فقد تداولت قصة المحادثة بين الإمام الزهري مع الخليفة عبد الملك بن مروان رحمهما الله في شأن الموالي الحافظين للدين فحفظهم الله ورفع قدرهم. وهو أثر مليح متداول عند الكُتاب بل عند بعض الأئمة، ولكنه غير صحيح، بل شديد الضعف كما سيأتي بيانه –بتوفيق الله وحده- . وسأذكر بعض ما ثبت في الدين ما يغني عن هذه القصة. أقول مستعينا بالله وحده:

    الباب الأول: سند الأثر

    قال الحاكم رحمه الله: أخبرنا أبو علي الحافظ قال : أخبرنا أبو عبد الرحمن محمد بن عبد الله البيروتي قال : ثنا محمد بن أحمد بن مطر بن العلاء قال : حدثني محمد بن يوسف بن بشير القرشي قال : حدثني الوليد بن محمد الموقري قال : سمعت محمد بن مسلم بن شهاب الزهري يقول : قدمت على عبد الملك بن مروان ، فقال لي : من أين قدمت يا زهري ؟ قلت : من مكة ، قال : فمن خلفت يسود أهلها ؟ قال : قلت : عطاء بن أبي رباح ، قال : فمن العرب أم من الموالي ؟ قال : قلت : من الموالي ، قال : وبم سادهم ، قال : قلت : بالديانة ، والرواية ، قال : إن أهل الديانة ، والرواية لينبغي أن يسودوا ، فمن يسود أهل اليمن ؟ قال : قلت : طاوس بن كيسان ، قال : فمن العرب أم من الموالي ؟ قال : قلت : من الموالي ، قال : وبم سادهم ، قال : قلت : بما سادهم به عطاء ، قال : إنه لينبغي ، فمن يسود أهل مصر ؟ قال : قلت : يزيد بن أبي حبيب ، قال : فمن العرب أم من الموالي ، قال : قلت : من الموالي ، قال : فمن يسود أهل الشام ؟ قال : قلت : مكحول ، قال : فمن العرب أم من الموالي ؟ قال : قلت : من الموالي عبد نوبي أعتقته امرأة من هذيل ، قال : فمن يسود أهل الجزيرة ؟ قال : قلت : ميمون بن مهران ، قال : فمن العرب أم من الموالي ؟ قال : قلت : من الموالي ، قال : فمن يسود أهل خراسان ؟ قال : قلت : الضحاك بن مزاحم ، قال : فمن العرب أم من الموالي ؟ قال : قلت : من الموالي ، قال : فمن يسود أهل البصرة ؟ قلت : الحسن بن أبي الحسن ، قال : فمن العرب أم من الموالي ؟ قال : قلت : من الموالي ، قال : ويلك ، فمن يسود أهل الكوفة ؟ قال : قلت : إبراهيم النخعي ، قال : فمن العرب أم من الموالي ؟ قال : قلت : من العرب ، قال : ويلك يا زهري ، فرجت عني ، والله ليسودن الموالي على العرب حتى يخطب لها على المنابر ، والعرب تحتها ، قال : قلت : يا أمير المؤمنين ، إنما هو أمر الله ودينه ، من حفظه ، ساد ، ومن ضيعه سقط.
    ("معرفة علوم الحديث"/للحاكم /برقم (419).
    والأثر أخرجه أيضا الحافظ ابن عساكر في "تاريخ دمشق" (71/ 27) فقال: أخبرنا أبو القاسم نصر بن أحمد بن مقاتل أنا أبو الحسن علي بن الحسن بن عبد السلام بن أبي الحزور أنبأ أبو الحسين بن السمسار أنا أبو القاسم بن طعان أنا أبو علي بن حبيب نا أبو بكر الفذاني يعني محمد بن أحمد بن مطر به.
    أبو عبد الرحمن محمد بن عبد الله البيروتي هو مكحول، كما في "طبقات الحفاظ" (ص 67): الحافظ المحدث أبو عبد الرحمن محمد بن عبد الله بن عبد السلام بن أبي أيوب البيروتي.
    ومحمد بن أحمد بن مطر بن العلاء، هو مدار السند، وهو كما في "تاريخ دمشق" (51/ 103): محمد بن أحمد بن محمد بن مطر بن العلاء بن أبي الشعثاء ويقال ابن أبي الأشعث أبو بكر الفزاري الفذائي يعرف بابن الخراط، مجهول الحال.
    ومحمد بن يوسف بن بشير القرشي مجهول الحال أيضاً.
    والوليد بن محمد الموقري هو الوليد بن محمد الموقرى، صاحب الزهري. يكنى أبا بشر البلقاوي، ضعيف جدا على الراجح. قال أبو حاتم: ضعيف الحديث. وقال ابن المدينى: لا يكتب حديثه. وقال ابن خزيمة: لا أحتج به، وكذبه يحيى بن معين. وقال أبو زرعة الدمشقي: لم يزل حديثه مقاربا. وقال النسائي: متروك الحديث. (راجع "ميزان الاعتدال" /4/ص346).
    وأين كبار أصحاب الزهري وثقاتهم من هذه الرواية؟ فالأثر منكر السند.
    وقال الإمام الذهبي رحمه الله في ("سير أعلام النبلاء"/5/ص85-86): الحكاية منكرة، والوليد بن محمد واه. فلعلها تمت للزهري مع أحد أولاد عبدالملك، وأيضا ففيها: من يسود أهل مصر؟ قلت: يزيد بن أبي حبيب، وهو من الموالي. فيزيد كان ذاك الوقت شاباً لا يعرف بعد. والضحاك، فلا يدري الزهري من هو في العالم، وكذا مكحول يصغر عن ذاك اهـ.
    فالأثر منكر السند ومنكر المتن، والله المستعان.

    الباب الثاني: رفعة الإنسان بالعلم النافع والعمل الصالح

    إن الأثر ضعيف جدا. ولكن قد ثبت في الأدلة الكثيرة أن الله يرفع عبده بقدر العلم النافع والعمل الصالح.
    قال الله تعالى: ﴿هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ﴾ [التوبة/33].
    قال شيخ الإسلام رحمه الله: فالهدى كمال العلم، ودين الحق كمال العمل، كقوله: ﴿أُولِي الْأَيْدِي وَالْأَبْصَارِ﴾ [ص/45]. ("مجموع الفتاوى"/2/ص 59).
    هذا واضح أن من أسباب الظهور والعلو: الهدى الذي هو العلم النافع، والدين الحق الذي هو العمل الصالح.
    وبهذا العلم الشرعي رفع الله قدر أهله وأعلى درجتهم في الدنيا والآخرة. قال الله تعالى: ﴿وَتِلْكَ حُجَّتُنَا آَتَيْنَاهَا إِبْرَاهِيمَ عَلَى قَوْمِهِ نَرْفَعُ دَرَجَاتٍ مَنْ نَشَاءُ إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَلِيمٌ﴾ [الأنعام/83].
    وقال الإمام القرطبي رحمه الله: (تلك) إشارة إلى جميع احتجاجاته حتى خاصمهم وغلبهم بالحجة...-إلى قوله:- (نرفع درجات من نشاء) أي بالعلم والفهم والإمامة والملك اهـ. ("الجامع لأحكام القرآن" /17/ص253/دار الكتاب العربي).
    وقال الله سبحانه: ﴿نَرْفَعُ دَرَجَاتٍ مَنْ نَشَاءُ وَفَوْقَ كُلِّ ذِي عِلْمٍ عَلِيمٌ﴾ [يوسف/76].
    وقال الإمام ابن القيم رحمه الله: جاء في تفسيرها نرفع درجات من نشاء بالعلم كما رفعنا درجة يوسف على إخوته بالعلم اهـ. ("مفتاح دار السعادة"/1 / ص 212/المكتبة العصرية).
    ومما يدل على رفعة درجة أهل العلم: عن عامر بن واثلة رضي الله عنه أن نافع ابن عبدالحارث لقي عمر بعسفان، وكان عمر يستعمله على مكة فقال: من استعملت على أهل الوادي؟ فقال: ابن أبزى قال: ومن ابن أبزى؟ قال: مولى من موالينا. قال: فاستخلفت عليهم مولى؟ قال: إنه قارئ لكتاب الله عز وجل، وإنه عالم بالفرائض. قال عمر: أما إن نبيكم صلى الله عليه وسلم قد قال: «إن الله يرفع بهذا الكتاب أقواما ويضع به آخرين». (أخرجه مسلم (817)/دار ابن الجوزي).
    ومما يدل على رفعة أهل العلم الصالح: قول الله جل ذكره: ﴿وَلِكُلٍّ دَرَجَاتٌ مِمَّا عَمِلُوا وَلِيُوَفِّيَهُمْ أَعْمَالَهُمْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ﴾ [الأحقاف/19]، وقول ربنا عز وجل: ﴿وَلِكُلٍّ دَرَجَاتٌ مِمَّا عَمِلُوا وَمَا رَبُّكَ بِغَافِلٍ عَمَّا يَعْمَلُونَ﴾ [الأنعام/132].
    قال الإمام أبو جعفر الطبري رحمه الله: يقول تعالى ذكره: ولكل عامل في طاعة الله أو معصيته، منازل ومراتب من عمله يبلغه الله إياها، ويثيبه بها، إن خيرًا فخيرً وإن شرًا فشرً ﴿وما ربك بغافل عما يعملون﴾، يقول جل ثناؤه: وكل ذلك من عملهم، يا محمد، بعلم من ربِّك، يحصيها ويثبتها لهم عنده، ليجازيهم عليها عند لقائهم إياه ومعادهم إليه اهـ. ("جامع البيان"/12 / ص 125/دار التربية والتراث).
    وأفضل العمل هو الإيمان بالله عز وجل. عن أبي ذر رضي الله عنه قال: سألت النبي صلى الله عليه وسلم أي العمل أفضل؟ قال: «إيمان بالله وجهاد في سبيله». (أخرجه البخاري (2518) ومسلم (84)).
    والمؤمنون حقا هم أهل الدرجات العلا. قال الله تعالى: ﴿إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ الله وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آَيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ * الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ * أُولَئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا لَهُمْ دَرَجَاتٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَمَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ﴾. (الأنفال: 2-4)
    قال الإمام ابن كثير رحمه الله: وقوله: ﴿أُولَئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا﴾ أي: المتصفون بهذه الصفات هم المؤمنون حق الإيمان اهـ. ("تفسير القرآن العظيم" /2/ ص 392/دار الصديق).
    وقال القرطبي رحمه الله في قول الله تعالى: ﴿أُولَئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا﴾: أي الذي استوى في الإيمان ظاهرهم وباطنهم. ودل هذا على أن لكل حق حقيقة،... إلخ ("الجامع لأحكام القرآن" /7/ص322/دار الكتاب العربي).
    وقال الإمام ابن كثير رحمه الله في قول الله: ﴿لَهُمْ دَرَجَاتٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ﴾ أي: منازل ومقامات ودرجات في الجنات، كما قال تعالى: ﴿هُمْ دَرَجَاتٌ عِنْدَ الله وَالله بَصِيرٌ بِمَا يَعْمَلُونَ﴾ [آل عمران: 163]
    ﴿ومغفرة﴾ أي: يغفر لهم السيئات، ويشكر لهم الحسنات. وقال الضحاك في قوله: ﴿لَهُمْ دَرَجَاتٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ﴾ أهل الجنة بعضهم فوق بعض، فيرى الذي هو فوق فضله على الذي هو أسفل منه، ولا يرى الذي هو أسفلُ أنه فُضّل عليه أحد. ولهذا جاء في الصحيحين أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «إن أهل علِّيين ليراهم من أسفل منهم كما ترون الكوكب الغابر في أفق من آفاق السماء»، قالوا: يا رسول الله، تلك منازل الأنبياء، لا ينالها غيرهم؟ فقال: «بلى، والذي نفسي بيده رجال آمنوا بالله وصدقوا المرسلين». ("تفسير القرآن الكريم"/2/ ص 393/دار الصديق).
    عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِي رضي الله عنه عَنِ النَّبِي - صلى الله عليه وسلم – قَالَ: «إِنَّ أَهْلَ الْجَنَّةِ يَتَرَاءَيُونَ أَهْلَ الْغُرَفِ مِنْ فَوْقِهِمْ كَمَا يَتَرَاءَيُونَ الْكَوْكَبَ الدُّرِّىَّ الْغَابِرَ فِى الأُفُقِ مِنَ الْمَشْرِقِ أَوِ الْمَغْرِبِ، لِتَفَاضُلِ مَا بَيْنَهُمْ». قَالُوا: يَا رَسُولَ الله، تِلْكَ مَنَازِلُ الأَنْبِيَاءِ لاَ يَبْلُغُهَا غَيْرُهُمْ. قَالَ: «بَلَى وَالَّذِى نَفْسِي بِيَدِهِ، رِجَالٌ آمَنُوا بِالله وَصَدَّقُوا الْمُرْسَلِينَ». (أخرجه البخارى (3256)/دار الكتب العلمية)، ومسلم (2831)/دار ابن الجوزي)).
    والجمع بين العلم النافع والعمل الصالح هو من أسباب الظهور والرفعة كما في آية الباب، وهو المذكور في قول ربنا جل وعلا: ﴿يَرْفَعِ الله الَّذِينَ آَمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ وَالله بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ﴾ [المجادلة/11].
    وقال الإمام القرطبي رحمه الله: أي في الثواب في الآخرة وفي الكرامة في الدنيا، فيرفع المؤمن على من ليس بمؤمن والعالم على من ليس بعالم. –إلى قوله:- والمعنى أنه يرفع الله الذين أوتوا العلم على الذين آمنوا ولم يؤتوا العلم (درجات) أي درجات في دينهم إذا فعلوا ما أمروا به اهـ. ("الجامع لأحكام القرآن" /17/ص253/دار الكتاب العربي).
    وقال شيخ الإسلام رحمه الله: فصل: وقوله تعالى: ﴿يرفع الله الذين آمنوا منكم والذين أوتوا العلم درجات﴾ خص سبحانه رفعه بالأقدار والدرجات الذين أوتوا العلم والإيمان وهم الذين استشهد بهم فى قوله تعالى: ﴿شهد الله أنه لا إله إلا هو والملائكة وأولوا العلم قائما بالقسط﴾ وأخبر أنهم هم الذين يرون ما أنزل إلى الرسول هو الحق بقوله تعالى: ﴿ويرى الذين أوتوا العلم الذي أنزل إليك من ربك هو الحق﴾ فدل على أن تعلم الحجة والقيام بها يرفع درجات من يرفعها كما قال تعالى: ﴿نرفع درجات من نشاء﴾.
    قال زيد بن أسلم: بالعلم، فرفع الدرجات والأقدار على قدر معاملة القلوب بالعلم والإيمان. فكم ممن يختم القرآن في اليوم مرة، أو مرتين، وآخر لا ينام الليل، وآخر لا يفطر، وغيرهم أقل عبادة منهم وأرفع قدرا في قلوب الأمة فهذا كرز بن وبرة وكهمس وابن طارق يختمون القرآن فى الشهر تسعين مرة، وحال ابن المسيب وابن سيرين والحسن وغيرهم فى القلوب أرفع اهـ.
    (انتهى من "مجموع الفتاوى"/16 / ص 48-49/ط. مكتبة ابن تيمية).

    الباب الثالث: من حفظ دين الله حفظه الله

    قول الإمام الزهري رحمه الله في تلك القصة: (إنما هو أمر الله ودينه ، مَن حفظه ، ساد ، ومن ضيعه سقط). المعنى جيد، ولكن القصة لا تثبت.
    ويغني عنها ما ثبت في الشريعة أن الجزاء من جنس العمل. فمن نصر دين الله وحفظه نصره الله وحفظه ومكنه ورفعه في الدنيا والآخرة. قال تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَنْصُرُوا الله يَنْصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ﴾ [محمد: 7]. وقال تعالى: ﴿وَلَيَنْصُرَنَّ الله مَنْ يَنْصُرُهُ إِنَّ الله لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ﴾ [الحج: 40].
    قال الإمام محمد بن علي القصاب رحمه الله : قول تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَنْصُرُوا الله يَنْصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ﴾ دليل على أن من استشعر التقوى في مقاصده، وأخلص النية لله في أعماله لم يسلمه الله إلى عدوه، ولم يعله عليه، وكان الظفر له على من ناوأه. ("نكت القرآن"/4/ص149-150/دار ابن القيم).
    وقال شيخ الإسلام رحمه الله: وكل من عرف سير الناس وملوكهم رأى كل من كان أنصر لدين الإسلام وأعظم جهادا لأعدائه وأقوم بطاعة الله ورسوله : أعظم نصرة وطاعة وحرمة : من عهد أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه وإلى الآن . ("مجموع الفتاوى"/28/ص640).
    وقال الإمام السعدي رحمه الله: هذا أمر منه تعالى للمؤمنين، أن ينصروا الله بالقيام بدينه، والدعوة إليه، وجهاد أعدائه، والقصد بذلك وجه الله، فإنهم إذا فعلوا ذلك، نصرهم الله وثبت أقدامهم، أي: يربط على قلوبهم بالصبر والطمأنينة والثبات، ويصبر أجسامهم على ذلك، ويعينهم على أعدائهم، فهذا وعد من كريم صادق الوعد، أن الذي ينصره بالأقوال والأفعال سينصره مولاه، وييسر له أسباب النصر، من الثبات وغيره. ("تيسير الكريم الرحمن"/ص 785).
    وعن ابن عباس رضي الله عنهما قال: كنت خلف رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يوما فقال: «يا غلام إنى أعلمك كلمات احفظ الله يحفظك احفظ الله تجده تجاهك إذا سألت فاسأل الله وإذا استعنت فاستعن بالله واعلم أن الأمة لو اجتمعت على أن ينفعوك بشىء لم ينفعوك إلا بشىء قد كتبه الله لك ولو اجتمعوا على أن يضروك بشىء لم يضروك إلا بشىء قد كتبه الله عليك رفعت الأقلام وجفت الصحف». (أخرجه الترمذي (2516)/مكتبة المعارف). قال الإمام الوادعي رحمه الله: صحيح لغيره/"الصحيح المسند" رقم (685)/دار الآثار).
    قال الإمام ابن رجب رحمه الله: فقوله - صلى الله عليه وسلم - : «احفظ الله» يعني : احفظ حدوده ، وحقوقه ، وأوامره ، ونواهيه ، وحفظ ذلك : هو الوقوف عند أوامره بالامتثال ، وعند نواهيه بالاجتناب ، وعند حدوده ، فلا يتجاوز ما أمر به ، وأذن فيه إلى ما نهى عنه ، فمن فعل ذلك ، فهو من الحافظين لحدود الله الذين مدحهم الله في كتابه ، وقال - عز وجل - : ﴿هذا ما توعدون لكل أواب حفيظ من خشي الرحمان بالغيب وجاء بقلب منيب﴾. وفسر الحفيظ هاهنا بالحافظ لأوامر الله ، وبالحافظ لذنوبه ليتوب منها . ("جامع العلوم والحكم"/الحديث تاسع عشر).
    فمن حفظ الدين ورفعه رفعه الله كما مر بنا بيانه في الباب السابق. ذلك لأن هذا الدين سبب الرفعة. وأما من أعرض عنه فقد تباعه عن سبب العلو والرفعة فسقط وهوي إلى المهانة.
    قال الله تعالى: ﴿وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ الَّذِي آتَيْنَاهُ آيَاتِنَا فَانْسَلَخَ مِنْهَا فَأَتْبَعَهُ الشَّيْطَانُ فَكَانَ مِنَ الْغَاوِينَ * وَلَوْ شِئْنَا لَرَفَعْنَاهُ بِهَا وَلَكِنَّهُ أَخْلَدَ إِلَى الْأَرْضِ وَاتَّبَعَ هَوَاهُ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ الْكَلْبِ إِنْ تَحْمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَثْ أَوْ تَتْرُكْهُ يَلْهَثْ ذَلِكَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا فَاقْصُصِ الْقَصَصَ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ﴾ [الأعراف: 175، 176].
    قال الإمام ابن القيم رحمه الله: فشبه سبحانه من آتاه كتابه وعلمه العلم الذي منعه غيره فترك العمل به واتبع هواه وآثر سخط الله على رضاه ودنياه على آخرته، والمخلوق على الخالق بالكلب الذي هو من أخبث الحيوانات و أوضعها قدرا و أخبثها نفسا، وهمته لا تتعدى بطنه، وأشدها شرهاً وحرصاً. ومن حرصه أنه لا يمشي إلا وخطمه في الأرض يتشمم و يتروح حرصاً وشرهاً، ولا يزال يشم دبره دون سائر أجزائه. وإذا رميت له بحجر رجع إليه ليعضه من فرط نهمته، وهو من أمهن الحيوانات وأحملها للهوان وأرضاها بالدنايا. والجيف المروحة أحب إليه من اللحم الطري، والقذرة أحب إليه من الحلوى. وإذا ظفر بميتة تكفي مائة كلب لم يدع كلبا يتناول معه منه شيء إلا هرّ عليه وقهره لحرصه وبخله وشره.
    ومن عجيب أمره وحرصه أنه إذا رأى ذا هيئة رثة وثياب دنية وحال زرية نبحه وحمل عليه، كأنه يتصور مشاركته له ومنازعته في قوته وإذا رأى ذا هيئة حسنة وثياب جميلة ورئاسة وضع له خطمه بالأرض وخضع له، ولم يرفع إليه رأسه. وفي تشبيه من آثر الدنيا وعاجلها على مثل الذي أوتي الكتاب ولم يعمل به الله والدار الآخرة مع وفور علمه بالكلب في لهثه سر بديع وهو أن الذي حاله ما ذكره الله من انسلاخه من آياته واتباعه هواه، إنما كان لشدة لهفه على الدنيا لانقطاع قلبه عن الله والدار الآخرة فهو شديد اللهف عليها ولهفه نظير لهف الكلب الدائم في حال ازعاجه وتركه واللهف واللهث شقيقان وأخوان في اللفظ والمعنى. قال ابن جريج: الكلب منقطع الفؤاد لا فؤاد له أن تحمل عليه يلهث أو تتركه يلهث فهو مثل الذي يترك الهدى لا فؤاد له إنما فؤاده ينقطع. قلت: مراده بانقطاع فؤاده أنه ليس له فؤاد يحمله على الصبر وترك اللهث. وهكذا الذي انسلخ من آيات الله لم يبق معه فؤاد يحمله على الصبر عن الدنيا وترك اللهف عليها، فهذا يلهف على الدنيا من قلة صبره عليها. وهذا يلهث من قلة صبره على الماء. فالكلب من أقل الحيوانات صبرا عن الماء وإذا عطش أكل الثرى من العطش، وإن كان صبر عن الجوع. وعلى كل حال فهو من أشد الحيوانات لهثا يلهث قائما وقاعدا وماشيا وواقفا ذلك لشدة حرصه، فحرارة الحرص في كبده توجب له دوام اللهث فهكذا مشبهه شدة حرارة الشهوة في قلبه توجب له دوام اللهث.
    فإن حملت عليه بالموعظة والنصيحة فهو يلهث وإن تركته ولم تعظه فهو يلهف. –إلى قوله:- وتأمل ما في هذا المثل من الحكم و المعنى، فمنها قوله: ﴿وآتيناه آياتنا﴾ فأخبر سبحانه أنه هو الذي آتاه آياته فإنها نعمة والله هو الذي أنعم بها عليه، فأضافها إلى نفسه ثم قال: ﴿فانسلخ منها﴾ أي خرج منها كما تنسلخ الحية من جلدها وفارقها فراق الجلد ينسلخ عن اللحم ولم يقل: (فسلخناه منها) لأنه هو الذي تسبب إلى انسلاخه منها باتباع هواه. ومنها قوله سبحانه: ﴿فأتبعه الشيطان﴾ أي لحقه وأدركه، كما قال تعالى في قوم فرعون: ﴿فأتبعوهم مشرقين﴾ فكان محفوظا محروسا بآيات الله محمي الجانب بها من الشيطان لا ينال منه شيئا إلا غلى غرة وخطفة. فلما انسلخ من آيات الله ظفر به الشيطان ظفر الأسد بفريسته، ﴿فكان من الغاوين﴾ العاملين بخلاف علمهم الذين يعرفون الحق ويعملون سبب الخلود إلى الأرض بخلافه كعلماء السوء. ومنها أنه سبحانه قال: ﴿ولو شئنا لرفعناه بها﴾ فأخبر سبحانه أن الرفعة عنده ليست بمجرد العلم فإن هذا كان من العلماء، وإنما هي باتباع الحق إيثاره، وقصد مرضاة الله تعالى فإن هذا كان من أعلم أهل زمانه ولم يرفعه الله بعلمه ولم ينفعه به. فتعوذ بالله من علم لا ينفع. وأخبر سبحانه أنه هو الذي يرفع عبده إذا شاء بما آتاه الله من العلم، وإن لم يرفعه الله فهو موضوع لا يرفع أحد به رأسا، فإن الخافض الرافع الله سبحانه خفضه ولم يرفعه. والمعنى: ولو شئنا فضلناه وشرفناه ورفعنا قدره ومنزلته بالآيات التي آتيناه.
    ("الأمثال في القرآن الكريم"/ص 16-19/ط. مكتبة الإيمان).
    فعلى المؤمنين أن يتقوا الله ويراقبوه فإن الله يجزي بحسب عمل العباد، ﴿وَلَا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَدًا﴾ [الكهف: 49].
    قال شيخ الإسلام رحمه الله: وهذا لأن الجزاء من جنس العمل في الخير والشر، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم : «من نفس عن مؤمن كربة من كرب الدنيا نفس الله عنه كربة من كرب يوم القيامة، ومن يسر على معسر يسر الله عليه في الدنيا والآخرة، ومن ستر مسلما ستره الله في الدنيا والآخرة، والله في عون العبد ما كان العبد في عون أخيه، ومن سلك طريقا يلتمس فيه علما سهل الله له به طريقا إلى الجنة، وما اجتمع قوم في بيت من بيوت الله يتلون كتاب، ويتدارسونه بينهم إلا نزلت عليهم السكين، وغشيتهم الرحمة، وحفتهم الملائكة، وذكرهم الله فيمن عنده، ومن بطأ به عمله لم يسرع به نسبه» رواه مسلم في صحيحه، وقال صلى الله عليه وسلم : «الراحمون يرحمهم الرحمن . ارحموا من في الأرض يرحمكم من في السماء» قال الترمذى : حديث صحيح . ("مجموع الفتاوى"/11/ص178-179).
    وقال الإمام ابن القيم رحمه الله: لذلك كان الجزاء مماثلا للعمل من جنسه في الخير والشر، فمن ستر مسلما ستره الله، ومن يسر على معسر يسر الله عليه في الدنيا والآخرة ومن نفس عن مؤمن كربة من كرب الدنيا نفس الله عنه كربة من كرب يوم القيامة، ومن أقال نادما أقاله الله عثرته يوم القيامة، ومن تتبع عورة أخيه تتبع الله عورته، ومن ضارّ مسلما ضارّ الله به، ومن شاق شاق الله عليه، ومن خذل مسلما في موضع يجب نصرته فيه خذله الله في موضع يجب نصرته فيه، -إلى قوله:- فهذا شرع الله وقدره ووحيه وثوابه وعقابه كله قائم بهذا الأصل وهو إلحاق النظير بالنظير واعتبار المثل بالمثل. ("إعلام الموقعين"/1/ص157-158).

    والله تعالى أعلم، والحمد لله رب العالمين.
    صنعاء، 12 جمادى الثانية 1435 هـ.
يعمل...
X