بسم الله الرحمن الرحيم
سؤال: ما معنى الدهر في حديث: «من صام رمضان ثم أتبعه ستا من شوال كان كصيام الدهر»؟ هل هو السَنة أم العمر وطول الزمن؟
الجواب بتوفيق الله وحده: الحديث جاء عن أبي أيوب رضي الله عنه: عن النبي صلى الله عليه و سلم قال: «من صام رمضان ثم أتبعه ستا من شوال كان كصيام الدهر». (أخرجه أحمد (23602) ومسلم (1164) وأبو داود (2433)).
وكم مدة هذا الدهر المذكور؟
فالأحاديث يبين بعضها بعضا.
قال الإمام ابن القيم رحمه الله: فألفاظ الحديث يبين بعضها بعضا وهي تبين مراده فلا يجوز ان يتعلق بلفظ منها ويترك بقيتها. ("الصلاة وحكم تاركها"/ص171).
وقد جاء بيانه في روايات أخرى:
عن أبي أيوب الأنصاري رضي الله عنه، أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «من صام شهر رمضان، وأتبعه بست من شوال، فذلك صيام الدهر»، قلت: لكل يوم عشرة؟ قال: «نعم». (أخرجه أبو عوانة في "المستخرج" /(2177)).
من أجل هذا، بعد أن ذكر طرق الحديث قال الإمام أبو عوانة رحمه الله: في هذا الحديث دليل أن من صام من شوال من أيه كان فقد دخل في هذه الفضيلة، وفيه أيضا أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: الحسنة بعشر أمثالها، رمضان بعشرة أشهر، وستة أيام بشهرين. ("المستخرج"/ لأبي عوانة /(2177)).
وعن ثوبان رضي الله عنه: أن رسول الله صلى الله عليه و سلم قال : «صيام رمضان بعشرة أشهر وصيام الستة أيام بشهرين فذلك صيام السنة»: يعني: رمضان وستة أيام بعده. (أخرجه ابن ماجه (1715) والنسائي في "الكبرى" (2860) وابن خزيمة (2115)/صحيح).
وفي رواية للنسائي: «جعل الله الحسنة بعشر فشهر بعشرة أشهر وستة أيام بعد الفطر تمام السنة». ("السنن الكبرى" للنسائي /(2861)).
فمن أجل هذا الإمام ابن خزيمة رحمه الله: باب : ذكر الدليل على أن النبي صلى الله عليه و سلم إنما أعلم أن صيام رمضان و ستة أيام من شوال يكون كصيام الدهر إذ الله عز و جل جعل الحسنة بعشر أمثالها أو يزيد إن شاء الله جل و عز. ("صحيح ابن خزيمة"/3/ص298).
بهذا تبين لنا أن الدهر هنا بمعنى عام أو حول أو سنة. وبهذا قال كثير من الأئمة رحمهم الله.
قال الطحاوي رحمه الله: قوله : «كان كصيام الدهر» لأن جملة ما صامه برمضان ستة وثلاثون يوما كل يوم بعشر، فهي ثلثمائة وستون يوما، وهي عدد أيام السنة. والمراد: أنه يحصل له ثواب عظيم وإن اختلفت الكيفية فإنه لا شك أن ثواب الصائم بالفعل أكثر لأن صوم كل يوم بعشرة فهي تزيد على ما ذكر بأضعاف كثيرة. ("حاشية الطحاوي على المراقي"/2/ص637).
وقال الإمام النووي رحمه الله: قال العلماء: وإنما كان ذلك كصيام الدهر لأن الحسنة بعشر أمثالها فرمضان بعشرة أشهر والستة بشهرين وقد جاء هذا في حديث مرفوع في كتاب النسائي. ("شرح النووي على مسلم"/8/ص56).
وقال ابن القيم رحمه الله: و لهذا جعل صيام ثلاثة أيام من الشهر وصيام رمضان وإتباعه بست من شوال يعدل صيام ثلاث مئة وستين يوما. ("المنار المنيف"/ص39).
وقال رحمه الله: وكذلك قوله في صيام ستة أيام من شوال إنه يعدل مع صيام رمضان السنة ثم قرأ : ﴿من جاء بالحسنة فله عشر أمثالها﴾ [ الأنعام : 160 ] فهذا صيام ستة وثلاثين يوما تعدل صيام ثلاثمائة وستين يوما. ("زاد المعاد"/2/ص76).
وقال الرعيني رحمه الله: ومعنى قوله: «فكأنما صام الدهر» لأن الحسنة بعشر أمثالها. فالشهر بعشرة أشهر والستة بستين كملت السنة، فإذا تكرر ذلك في السنين فكأنما صام الدهر. ("مواهب الجليل"/5/ص403).
وقال ابن حجر رحمه الله: وإنما المراد حصول الثواب على تقدير مشروعية صيام ثلاثمائة وستين يوما. ("فتح الباري"/4/ص223).
وقال الإمام محمد ابن الأمير الصنعاني رحمه الله: وإنما شبهها بصيام الدهر ؛ لأن الحسنة بعشر أمثالها فرمضان بعشرة أشهر وست من شوال بشهرين. ("سبل السلام"/3/ص354).
وقال السندي رحمه الله: وما جاء: «من أتبع رمضان ستا من شوال فقد صام الدهر» أو نحو ذلك مبني على أن صوم رمضان أيضا يحسب بعشرة والله تعالى أعلم . ("شرح سنن النسائي"/3/ ص452).
هناك إشكال: أن أصل الدهر هو مرور الليالي والأيام، وهو وقت طويل، وهو عمر الدنيا.
قال الراغب الأصفهاني رحمه الله: الدهر في الأصل اسم لمدة العالم من مبدإ وجوده إلى انقضائه، وعلى ذلك قوله تعالى: ﴿هل أتى على الانسان حين من الدهر﴾، ثم يعبر به عن كل مدة كثيرة وهو خلاف الزمان فإن الزمان يقع على المدة القليلة والكثيرة. ("مفردات غريب القرآن"/للأصفهاني/ص173).
من أجل هذا قال بعض العلماء: إن المراد بالدهر في هذا الحديث: عمر الدنيا أو عمر الإنسان، فمن صام هذا الصيام فكأنما صام طول عمره.
قال المناوي رحمه الله بعد ذكر القول الأول: وهذا تقرير يشير إلى أن مراده بالدهر السنة وبه صرح بعضهم لكن استبعده بعض آخر قائلا : المراد الأبد لأن الدهر المعرف باللام للعمر وخص شوال لأنه زمن يستدعي الرغبة فيه إلى الطعام لوقوعه عقب الصوم فالصوم حينئذ أشق فثوابه أكثر وفيه ندب صوم الستة المذكورة وهو مذهب الشافعي. ("فيض القدير"/6/ص161).
ومن أجل هذا ذهب بعض العلماء إلى أن من صام هذا الصيام يحصل له أجر صيام سنة، فإذا كرره كل عام يحصل له أجر صيام الدهر وهو: مدة العمر.
قال الإمام ابن قدامة رحمه الله: ... لكونها تصير مع الشهر ستة وثلاثين يوما والحسنة بعشر أمثالها فيكون ذلك كثلاثمائة وستين يوما وهو السنة كلها .فإذا وجد ذلك في كل سنة صار كصيام الدهر كله. ("المغني"/3/ص112).
وقال القرافي رحمه الله: ومعنى قوله فكأنما صام الدهر أن الحسنة بعشرة، فالشهر بعشرة أشهر والستة بستين كمال السنة، فإذا تكرر ذلك في السنين فأنكا صام الدهر. ("الذخيرة في الفقه المالكي"/2/ص362).
نحن نقول -بتوفيق الله وحده-: إن الدهر لغة كما قاله الراغب الأصفهاني رحمه الله. وكما قال ابن الأثير رحمه الله: والدهرُ اسمٌ للزَّمان الطَّويل ومُدَّة الحياةِ الدُّنيا. ("النهاية في غريب الأثر"/2/ص355).
ولكن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد حدّد المراد، وهو المبلِّغ عن الله عز وجل، وهو أحسن الخلق بياناً، فكلامه هو المعتبر.
قال الإمام ابن القيم رحمه الله في شأن رسول الله صلى الله عليه وسلم: من المعلوم بالاضطرار من حاله أنه كان أحرص الناس على هدى أمته وتعليمهم والبيان لهم فاجتمع في حقه كمال القدرة وكمال الداعي وكمال العلم، فهو أعلم الناس بما يدعو إليه وأقدرهم على أسباب الدعوة وأعظمهم رغبة وأتمهم نصيحة. فإذا كان من هو دونه بمراتب لا تحصى في كل صفة من هذه الصفات قد بين مراده بلفظه كان هو أحق وأولى من كل وجه أن يكون قد استولى على الأمد الأقصى من البيان . ("الصواعق المرسلة على الجهمية والمعطلة"/1/ص220).
والحقيقة الشرعية مقدمة على الحقيقة اللغوية.
قال الإمام سليمان الطوفي رحمه الله: ولهذا كانت الحقيقة الشرعية مقدمة على اللغوية، تقديمًا لاصطلاح الشرع على وضع اللغة. ("شرح مختصر الروضة"/2/ص207).
فقد ثبت البيان من السنة، فلا أحد يتقدم عليه.
قال الإمام النووي رحمه الله: وإذا ثبتت السنة لا تترك لترك بعض الناس، أو أكثرهم، أو كلهم لها. ("شرح النووي على مسلم"/8/ص56).
فالخلاصة: أن الدهر المذكور في الحديث هو السنة أو الحول أو العام. وهذا أيضاً لا يخالف بعض معاني الدهر اللغوي: الوقت الطويل.
ومما يقوّي هذا المعنى مجيء حديث آخر يشبهه:
عن عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال له: «وصم من الشهر ثلاثة أيام فإن الحسنة بعشر أمثالها وذلك مثل صيام الدهر». (أخرجه البخاري (1976) ومسلم (1159)).
فالدهر هنا السنة أو الحول أو العام. فإذا كرر المؤمن هذه الصيام كل عام يصير بتوفيق الله كأنه صام الدهر اللغوي: مدة العمر، وبهذا يتفق تأويل ابن قدامة ومن وافقه، والحمد لله رب العالمين.
إشكال آخر:
جاء من حديث أبي هريرة رضي الله عنه أنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه و سلم: «كل عمل ابن آدم يضاعف الحسنة عشرة أمثالها إلا سبعمائة ضعف. قال الله عز و جل: إلا الصوم فإنه لي وأنا أجزي به، يدع شهوته وطعامه من أجلي. للصائم فرحتان فرحة عند فطره وفرحة عند لقاء ربه ولخلوف فيه أطيب عند الله من ريح المسك». (أخرجه مسلم (1151)).
قد ذكر هنا أن أجر الصوم أكثر من عشرة أمثالها بل أكثر من سبعمائة ضعف. فكيف الجمع بينه وبين الحديث الأول؟
الجواب -بتوفيق الله-: أن هذا الحديث الثاني يدل على عظيم تضعيف أجر الصوم بالنسبة إلى أجر عمل آخر.
قال الإمام الطبري رحمه الله: وأما معنى قوله: «وأنا أجزى به»: فأنا المنفرد بجزائه على عمله ذلك لي بما لا يعلم كنه مبلغه غيرى، إذ كان غير الصيام من أعمال الطاعة قد علم غيرى بإعلامي إياه أن الحسنة فيها بعشر أمثالها إلى سبعمائة ضعف. (نقله ابن بطال في "شرح صحيح البخاري"/12/ص395).
وحكى القرطبي رحمه الله من بعض العلماء: أن الأعمال قد كشفت لبني آدم مقادير ثوابها ، وتضعيفها إلا الصيام فإن الله تعالى يثيب عليه بغير تقدير ، ويشهد لهذا مساق الرواية الأخرى التي فيها : «كل عمل ابن آدم يضاعف ؛ الحسنة بعشر أمثالها إلى سبعمائة ضعف ، قال الله : إلا الصوم ، فإنه لي ، وأنا أجزي به»؛ يعني - والله تعالى أعلم- : أنه يجازي عليه جزاء كثيرًا من غير أن يعين مقداره ، ولا تضعيفه ، وهذا كما قال الله تعالى : ﴿إنما يوفى الصابرون أجرهم بغير حساب﴾، وهم الصائمون في أكثر أقوال المفسرين . وهذا ظاهر قول الحسن. ("المفهم" /10/ص3).
وقال أبو الحسن بن أبي ذر رحمه الله معنى قوله : «أنا أجزي به» ، أي : أن الجزاء به له ، قال أبو الحسن : أي معرفتي في الجزاء له به ، وحسبه ذلك جزاء ، فما شيء يدانيها ولا يبلغها. (كما في "بحر الفوائد" المسمى بـ: "معاني الأخيار" /للكلاباذي/ص 88).
وقال البيضاوي رحمه الله: والمعنى أن الحسنات يضاعف جزاؤها من عشرة أمثالها إلى سبعمائة ضعف إلا الصوم فلا يضاعف إلى هذا القدر، بل ثوابه لا يقدر قدره، ولا يحصيه إلا الله تعالى. ولذلك يتولى الله جزاءه بنفسه ولا يكله إلى غيره. (نقله ابن حجر في "فتح الباري"/4/ص110).
وقال السندي رحمه الله في معنى: «الصوم لي وأنا أجزي به»: قد ذكروا له معاني لكن الموافق للأحاديث أنه كناية عن تعظيم جزائه، وأنه لا حدّ له. وهذا هو الذي تفيده المقابلة في حديث: «ما من حسنة عملها ابن آدم إلا كتب له عشر حسنات إلى سبعمائة ضعف إلا الصيام فإنه لي وأنا أجزي به»، وهذا هو الموافق لقوله تعالى: ﴿إنما يوفى الصابرون أجرهم بغير حساب﴾، -إلى قوله-: ويمكن أن يقال على هذا معنى قوله: «لي» أي: أنا منفرد بعلم مقدار ثوابه وتضعيفه وبه. تظهر المقابلة بينه وبين قوله: «كل عمل ابن آدم له إلا الصيام هو لي» أي كل عمله له باعتبار أنه عالم بجزائه ومقدار تضعيفه إجمالا لما بين الله تعالى فيه إلا الصوم فإنه الصبر الذي لا حد لجزائه جدا بل قال: ﴿إنما يوفى الصابرون أجرهم بغير حساب﴾. ("شرح سنن النسائي"/3/ص378).
فالحديث الثاني يتكلم في عظيم أجر الصوم بالنسبة إلى أجر الأعمال الأخر.
وأما الحديث الأول: عن أبي أيوب الأنصاري رضي الله عنه، أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «من صام شهر رمضان، وأتبعه بست من شوال، فذلك صيام الدهر»، قلت: لكل يوم عشرة؟ قال: «نعم». (أخرجه أبو عوانة في "المستخرج" /(2177)).
هذا الحديث وما في معناه يتكلم على عظيم أجر صوم هذه الأمة بالنسبة إلى أجر صوم الأمم السالفة، لأن أجر عمل هذه الأمة يضعَّف على أجر السوالف عشر أمثالها.
قال أبو الحسن المالكي العدوي رحمه الله: ... لأنه جعل الخمس صلوات بخمسين صلاة . [ قوله : لعباده المؤمنين ] أي من هذه الأمة ، ولم يكن ذلك لغيرهم من الأمم كما قاله ابن عمر . ("حاشية العدوي على شرح كفاية الطالب الرباني"/1/ص223).
فالخلاصة: أن حديث الثاني يتكلم في عظيم أجر الصوم بالنسبة إلى أجر الأعمال الأخر. وأما الحديث الأول يتكلم على عظيم أجر صوم هذه الأمة بالنسبة إلى أجر صوم الأمم السالفة، لأن أجر عمل هذه الأمة يضعَّف على أجر السوالف عشر أمثالها.
وقد أشار إلى ذلك الحافظ ابن حجر رحمه الله فقال: المراد بما أورده أن صيام اليوم الواحد يكتب بعشرة أيام، وأما مقدار ثواب ذلك فلا يعلمه إلا الله تعالى. ("فتح الباري"/4/ص108).
والله تعالى أعلم بالصواب، والحمد لله رب العالمين.
سؤال: ما معنى الدهر في حديث: «من صام رمضان ثم أتبعه ستا من شوال كان كصيام الدهر»؟ هل هو السَنة أم العمر وطول الزمن؟
الجواب بتوفيق الله وحده: الحديث جاء عن أبي أيوب رضي الله عنه: عن النبي صلى الله عليه و سلم قال: «من صام رمضان ثم أتبعه ستا من شوال كان كصيام الدهر». (أخرجه أحمد (23602) ومسلم (1164) وأبو داود (2433)).
وكم مدة هذا الدهر المذكور؟
فالأحاديث يبين بعضها بعضا.
قال الإمام ابن القيم رحمه الله: فألفاظ الحديث يبين بعضها بعضا وهي تبين مراده فلا يجوز ان يتعلق بلفظ منها ويترك بقيتها. ("الصلاة وحكم تاركها"/ص171).
وقد جاء بيانه في روايات أخرى:
عن أبي أيوب الأنصاري رضي الله عنه، أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «من صام شهر رمضان، وأتبعه بست من شوال، فذلك صيام الدهر»، قلت: لكل يوم عشرة؟ قال: «نعم». (أخرجه أبو عوانة في "المستخرج" /(2177)).
من أجل هذا، بعد أن ذكر طرق الحديث قال الإمام أبو عوانة رحمه الله: في هذا الحديث دليل أن من صام من شوال من أيه كان فقد دخل في هذه الفضيلة، وفيه أيضا أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: الحسنة بعشر أمثالها، رمضان بعشرة أشهر، وستة أيام بشهرين. ("المستخرج"/ لأبي عوانة /(2177)).
وعن ثوبان رضي الله عنه: أن رسول الله صلى الله عليه و سلم قال : «صيام رمضان بعشرة أشهر وصيام الستة أيام بشهرين فذلك صيام السنة»: يعني: رمضان وستة أيام بعده. (أخرجه ابن ماجه (1715) والنسائي في "الكبرى" (2860) وابن خزيمة (2115)/صحيح).
وفي رواية للنسائي: «جعل الله الحسنة بعشر فشهر بعشرة أشهر وستة أيام بعد الفطر تمام السنة». ("السنن الكبرى" للنسائي /(2861)).
فمن أجل هذا الإمام ابن خزيمة رحمه الله: باب : ذكر الدليل على أن النبي صلى الله عليه و سلم إنما أعلم أن صيام رمضان و ستة أيام من شوال يكون كصيام الدهر إذ الله عز و جل جعل الحسنة بعشر أمثالها أو يزيد إن شاء الله جل و عز. ("صحيح ابن خزيمة"/3/ص298).
بهذا تبين لنا أن الدهر هنا بمعنى عام أو حول أو سنة. وبهذا قال كثير من الأئمة رحمهم الله.
قال الطحاوي رحمه الله: قوله : «كان كصيام الدهر» لأن جملة ما صامه برمضان ستة وثلاثون يوما كل يوم بعشر، فهي ثلثمائة وستون يوما، وهي عدد أيام السنة. والمراد: أنه يحصل له ثواب عظيم وإن اختلفت الكيفية فإنه لا شك أن ثواب الصائم بالفعل أكثر لأن صوم كل يوم بعشرة فهي تزيد على ما ذكر بأضعاف كثيرة. ("حاشية الطحاوي على المراقي"/2/ص637).
وقال الإمام النووي رحمه الله: قال العلماء: وإنما كان ذلك كصيام الدهر لأن الحسنة بعشر أمثالها فرمضان بعشرة أشهر والستة بشهرين وقد جاء هذا في حديث مرفوع في كتاب النسائي. ("شرح النووي على مسلم"/8/ص56).
وقال ابن القيم رحمه الله: و لهذا جعل صيام ثلاثة أيام من الشهر وصيام رمضان وإتباعه بست من شوال يعدل صيام ثلاث مئة وستين يوما. ("المنار المنيف"/ص39).
وقال رحمه الله: وكذلك قوله في صيام ستة أيام من شوال إنه يعدل مع صيام رمضان السنة ثم قرأ : ﴿من جاء بالحسنة فله عشر أمثالها﴾ [ الأنعام : 160 ] فهذا صيام ستة وثلاثين يوما تعدل صيام ثلاثمائة وستين يوما. ("زاد المعاد"/2/ص76).
وقال الرعيني رحمه الله: ومعنى قوله: «فكأنما صام الدهر» لأن الحسنة بعشر أمثالها. فالشهر بعشرة أشهر والستة بستين كملت السنة، فإذا تكرر ذلك في السنين فكأنما صام الدهر. ("مواهب الجليل"/5/ص403).
وقال ابن حجر رحمه الله: وإنما المراد حصول الثواب على تقدير مشروعية صيام ثلاثمائة وستين يوما. ("فتح الباري"/4/ص223).
وقال الإمام محمد ابن الأمير الصنعاني رحمه الله: وإنما شبهها بصيام الدهر ؛ لأن الحسنة بعشر أمثالها فرمضان بعشرة أشهر وست من شوال بشهرين. ("سبل السلام"/3/ص354).
وقال السندي رحمه الله: وما جاء: «من أتبع رمضان ستا من شوال فقد صام الدهر» أو نحو ذلك مبني على أن صوم رمضان أيضا يحسب بعشرة والله تعالى أعلم . ("شرح سنن النسائي"/3/ ص452).
هناك إشكال: أن أصل الدهر هو مرور الليالي والأيام، وهو وقت طويل، وهو عمر الدنيا.
قال الراغب الأصفهاني رحمه الله: الدهر في الأصل اسم لمدة العالم من مبدإ وجوده إلى انقضائه، وعلى ذلك قوله تعالى: ﴿هل أتى على الانسان حين من الدهر﴾، ثم يعبر به عن كل مدة كثيرة وهو خلاف الزمان فإن الزمان يقع على المدة القليلة والكثيرة. ("مفردات غريب القرآن"/للأصفهاني/ص173).
من أجل هذا قال بعض العلماء: إن المراد بالدهر في هذا الحديث: عمر الدنيا أو عمر الإنسان، فمن صام هذا الصيام فكأنما صام طول عمره.
قال المناوي رحمه الله بعد ذكر القول الأول: وهذا تقرير يشير إلى أن مراده بالدهر السنة وبه صرح بعضهم لكن استبعده بعض آخر قائلا : المراد الأبد لأن الدهر المعرف باللام للعمر وخص شوال لأنه زمن يستدعي الرغبة فيه إلى الطعام لوقوعه عقب الصوم فالصوم حينئذ أشق فثوابه أكثر وفيه ندب صوم الستة المذكورة وهو مذهب الشافعي. ("فيض القدير"/6/ص161).
ومن أجل هذا ذهب بعض العلماء إلى أن من صام هذا الصيام يحصل له أجر صيام سنة، فإذا كرره كل عام يحصل له أجر صيام الدهر وهو: مدة العمر.
قال الإمام ابن قدامة رحمه الله: ... لكونها تصير مع الشهر ستة وثلاثين يوما والحسنة بعشر أمثالها فيكون ذلك كثلاثمائة وستين يوما وهو السنة كلها .فإذا وجد ذلك في كل سنة صار كصيام الدهر كله. ("المغني"/3/ص112).
وقال القرافي رحمه الله: ومعنى قوله فكأنما صام الدهر أن الحسنة بعشرة، فالشهر بعشرة أشهر والستة بستين كمال السنة، فإذا تكرر ذلك في السنين فأنكا صام الدهر. ("الذخيرة في الفقه المالكي"/2/ص362).
نحن نقول -بتوفيق الله وحده-: إن الدهر لغة كما قاله الراغب الأصفهاني رحمه الله. وكما قال ابن الأثير رحمه الله: والدهرُ اسمٌ للزَّمان الطَّويل ومُدَّة الحياةِ الدُّنيا. ("النهاية في غريب الأثر"/2/ص355).
ولكن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد حدّد المراد، وهو المبلِّغ عن الله عز وجل، وهو أحسن الخلق بياناً، فكلامه هو المعتبر.
قال الإمام ابن القيم رحمه الله في شأن رسول الله صلى الله عليه وسلم: من المعلوم بالاضطرار من حاله أنه كان أحرص الناس على هدى أمته وتعليمهم والبيان لهم فاجتمع في حقه كمال القدرة وكمال الداعي وكمال العلم، فهو أعلم الناس بما يدعو إليه وأقدرهم على أسباب الدعوة وأعظمهم رغبة وأتمهم نصيحة. فإذا كان من هو دونه بمراتب لا تحصى في كل صفة من هذه الصفات قد بين مراده بلفظه كان هو أحق وأولى من كل وجه أن يكون قد استولى على الأمد الأقصى من البيان . ("الصواعق المرسلة على الجهمية والمعطلة"/1/ص220).
والحقيقة الشرعية مقدمة على الحقيقة اللغوية.
قال الإمام سليمان الطوفي رحمه الله: ولهذا كانت الحقيقة الشرعية مقدمة على اللغوية، تقديمًا لاصطلاح الشرع على وضع اللغة. ("شرح مختصر الروضة"/2/ص207).
فقد ثبت البيان من السنة، فلا أحد يتقدم عليه.
قال الإمام النووي رحمه الله: وإذا ثبتت السنة لا تترك لترك بعض الناس، أو أكثرهم، أو كلهم لها. ("شرح النووي على مسلم"/8/ص56).
فالخلاصة: أن الدهر المذكور في الحديث هو السنة أو الحول أو العام. وهذا أيضاً لا يخالف بعض معاني الدهر اللغوي: الوقت الطويل.
ومما يقوّي هذا المعنى مجيء حديث آخر يشبهه:
عن عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال له: «وصم من الشهر ثلاثة أيام فإن الحسنة بعشر أمثالها وذلك مثل صيام الدهر». (أخرجه البخاري (1976) ومسلم (1159)).
فالدهر هنا السنة أو الحول أو العام. فإذا كرر المؤمن هذه الصيام كل عام يصير بتوفيق الله كأنه صام الدهر اللغوي: مدة العمر، وبهذا يتفق تأويل ابن قدامة ومن وافقه، والحمد لله رب العالمين.
إشكال آخر:
جاء من حديث أبي هريرة رضي الله عنه أنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه و سلم: «كل عمل ابن آدم يضاعف الحسنة عشرة أمثالها إلا سبعمائة ضعف. قال الله عز و جل: إلا الصوم فإنه لي وأنا أجزي به، يدع شهوته وطعامه من أجلي. للصائم فرحتان فرحة عند فطره وفرحة عند لقاء ربه ولخلوف فيه أطيب عند الله من ريح المسك». (أخرجه مسلم (1151)).
قد ذكر هنا أن أجر الصوم أكثر من عشرة أمثالها بل أكثر من سبعمائة ضعف. فكيف الجمع بينه وبين الحديث الأول؟
الجواب -بتوفيق الله-: أن هذا الحديث الثاني يدل على عظيم تضعيف أجر الصوم بالنسبة إلى أجر عمل آخر.
قال الإمام الطبري رحمه الله: وأما معنى قوله: «وأنا أجزى به»: فأنا المنفرد بجزائه على عمله ذلك لي بما لا يعلم كنه مبلغه غيرى، إذ كان غير الصيام من أعمال الطاعة قد علم غيرى بإعلامي إياه أن الحسنة فيها بعشر أمثالها إلى سبعمائة ضعف. (نقله ابن بطال في "شرح صحيح البخاري"/12/ص395).
وحكى القرطبي رحمه الله من بعض العلماء: أن الأعمال قد كشفت لبني آدم مقادير ثوابها ، وتضعيفها إلا الصيام فإن الله تعالى يثيب عليه بغير تقدير ، ويشهد لهذا مساق الرواية الأخرى التي فيها : «كل عمل ابن آدم يضاعف ؛ الحسنة بعشر أمثالها إلى سبعمائة ضعف ، قال الله : إلا الصوم ، فإنه لي ، وأنا أجزي به»؛ يعني - والله تعالى أعلم- : أنه يجازي عليه جزاء كثيرًا من غير أن يعين مقداره ، ولا تضعيفه ، وهذا كما قال الله تعالى : ﴿إنما يوفى الصابرون أجرهم بغير حساب﴾، وهم الصائمون في أكثر أقوال المفسرين . وهذا ظاهر قول الحسن. ("المفهم" /10/ص3).
وقال أبو الحسن بن أبي ذر رحمه الله معنى قوله : «أنا أجزي به» ، أي : أن الجزاء به له ، قال أبو الحسن : أي معرفتي في الجزاء له به ، وحسبه ذلك جزاء ، فما شيء يدانيها ولا يبلغها. (كما في "بحر الفوائد" المسمى بـ: "معاني الأخيار" /للكلاباذي/ص 88).
وقال البيضاوي رحمه الله: والمعنى أن الحسنات يضاعف جزاؤها من عشرة أمثالها إلى سبعمائة ضعف إلا الصوم فلا يضاعف إلى هذا القدر، بل ثوابه لا يقدر قدره، ولا يحصيه إلا الله تعالى. ولذلك يتولى الله جزاءه بنفسه ولا يكله إلى غيره. (نقله ابن حجر في "فتح الباري"/4/ص110).
وقال السندي رحمه الله في معنى: «الصوم لي وأنا أجزي به»: قد ذكروا له معاني لكن الموافق للأحاديث أنه كناية عن تعظيم جزائه، وأنه لا حدّ له. وهذا هو الذي تفيده المقابلة في حديث: «ما من حسنة عملها ابن آدم إلا كتب له عشر حسنات إلى سبعمائة ضعف إلا الصيام فإنه لي وأنا أجزي به»، وهذا هو الموافق لقوله تعالى: ﴿إنما يوفى الصابرون أجرهم بغير حساب﴾، -إلى قوله-: ويمكن أن يقال على هذا معنى قوله: «لي» أي: أنا منفرد بعلم مقدار ثوابه وتضعيفه وبه. تظهر المقابلة بينه وبين قوله: «كل عمل ابن آدم له إلا الصيام هو لي» أي كل عمله له باعتبار أنه عالم بجزائه ومقدار تضعيفه إجمالا لما بين الله تعالى فيه إلا الصوم فإنه الصبر الذي لا حد لجزائه جدا بل قال: ﴿إنما يوفى الصابرون أجرهم بغير حساب﴾. ("شرح سنن النسائي"/3/ص378).
فالحديث الثاني يتكلم في عظيم أجر الصوم بالنسبة إلى أجر الأعمال الأخر.
وأما الحديث الأول: عن أبي أيوب الأنصاري رضي الله عنه، أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «من صام شهر رمضان، وأتبعه بست من شوال، فذلك صيام الدهر»، قلت: لكل يوم عشرة؟ قال: «نعم». (أخرجه أبو عوانة في "المستخرج" /(2177)).
هذا الحديث وما في معناه يتكلم على عظيم أجر صوم هذه الأمة بالنسبة إلى أجر صوم الأمم السالفة، لأن أجر عمل هذه الأمة يضعَّف على أجر السوالف عشر أمثالها.
قال أبو الحسن المالكي العدوي رحمه الله: ... لأنه جعل الخمس صلوات بخمسين صلاة . [ قوله : لعباده المؤمنين ] أي من هذه الأمة ، ولم يكن ذلك لغيرهم من الأمم كما قاله ابن عمر . ("حاشية العدوي على شرح كفاية الطالب الرباني"/1/ص223).
فالخلاصة: أن حديث الثاني يتكلم في عظيم أجر الصوم بالنسبة إلى أجر الأعمال الأخر. وأما الحديث الأول يتكلم على عظيم أجر صوم هذه الأمة بالنسبة إلى أجر صوم الأمم السالفة، لأن أجر عمل هذه الأمة يضعَّف على أجر السوالف عشر أمثالها.
وقد أشار إلى ذلك الحافظ ابن حجر رحمه الله فقال: المراد بما أورده أن صيام اليوم الواحد يكتب بعشرة أيام، وأما مقدار ثواب ذلك فلا يعلمه إلا الله تعالى. ("فتح الباري"/4/ص108).
والله تعالى أعلم بالصواب، والحمد لله رب العالمين.