[خطبة عيد الفطر]
خطبة العيد بتاريخ: (1428هـ)
(للشيخ المحدث: أبي عبد الرحمن يحيى بن علي الحجوري -حفظه الله تعالى-)===============================
الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.خطبة العيد بتاريخ: (1428هـ)
(للشيخ المحدث: أبي عبد الرحمن يحيى بن علي الحجوري -حفظه الله تعالى-)===============================
﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ﴾[آل عمران:102]، ﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا﴾[النساء:1]، ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا﴾[الأحزاب:70-71].
أما بعد:
فإن أصدق الحديث كتاب الله، وخير الهدي هدي رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم، وإنما توعدون لآت وما أنتم بمعجزين.
يقول الله عز وجل في كتابه الكريم مبيناً الحكمة من وجود عباده ومخلوقاته في هذه الحياة: ﴿وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ * مَا أُرِيدُ مِنْهُمْ مِنْ رِزْقٍ وَمَا أُرِيدُ أَنْ يُطْعِمُونِ * إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ﴾[الذاريات:58:56].
ويقول سبحانه وتعالى: ﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ * الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الأَرْضَ فِرَاشًا وَالسَّمَاءَ بِنَاءً وَأَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَرَاتِ رِزْقًا لَكُمْ فَلا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَندَادًا وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ﴾[البقرة:22:21]، أي: وأنتم تعلمون أن الله هو الذي خلقكم، وهو الذي أنزل لكم من السماء ماء، وأنتم تعلمون أنه لا ند له وأنه خالق كل شيء وهو على كل شيء وكيل.
ويقول الله عز وجل في كتابه الكريم: ﴿وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا وَبِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ﴾[النساء:36].. الآيات، كل هذه الآيات هي مبينة لسر هذه الحياة، وأن الله عز وجل خلقنا وأوجد سائر الحياة والأحياء لعبادته سبحانه، أنزل بذلك كتبه، أرسل بذلك رسله: ﴿وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا أَنِ اُعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ﴾[النحل:36]، ﴿وَاذْكُرْ أَخَا عَادٍ إِذْ أَنْذَرَ قَوْمَهُ بِالأَحْقَافِ وَقَدْ خَلَتِ النُّذُرُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا اللَّهَ إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ﴾[الأحقاف:21].
جميع النذر وكل الرسل كلهم دعاة يبينون سر هذه الحياة للعباد، وأن الله سبحانه وتعالى خلقهم وأوجدهم لعبادته عز وجل: ﴿وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ﴾[الأنبياء:25]، ومن أجل ذلك شرع الشرائع، من أجل ذلك أمر بتوحيده، من أجل ذلك أمر بالصلاة، من أجل ذلك أمر بصيام هذا الشهر المنصرم المبارك الذي يقول الله عز وجل فيه: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ﴾[البقرة:183]، ويقول: ﴿شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لِلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ﴾[البقرة:185]، ويقول: ﴿فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ وَمَنْ كَانَ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ وَلِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ وَلِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ﴾[البقرة:185].
فشرع صيام هذا الشهر لأمور نبيلة من أهمها وأجلها: تحقق تقوى الله سبحانه وتعالى، وتحقق عبادة الله عز وجل عند العبد، فيتعود على الطاعة، يتعود على الطاعة، ويتروض على مرضاة الله سبحانه وتعالى، ومن أجل ذلك أيضاً شرع من أجل الشكر لله: ﴿وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ وَلَئِنْ كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذَابِي لَشَدِيدٌ﴾[إبراهيم:7]، هذا هو سر الحياة: عبادة رب العالمين وأن الله هو الغني ونحن الفقراء، قال عز من قائل: ﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ وَاخْشَوْا يَوْمًا لا يَجْزِي وَالِدٌ عَنْ وَلَدِهِ وَلا مَوْلُودٌ هُوَ جَازٍ عَنْ وَالِدِهِ شَيْئًا إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ فَلا تَغُرَّنَّكُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَلا يَغُرَّنَّكُمْ بِاللَّهِ الْغَرُورُ * إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ وَيُنَزِّلُ الْغَيْثَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الأَرْحَامِ﴾[لقمان:33-34]، وقال: ﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ أَنْتُمُ الْفُقَرَاءُ إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ * إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَأْتِ بِخَلْقٍ جَدِيدٍ * وَمَا ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ بِعَزِيزٍ﴾[فاطر:17:15]، وقال: ﴿فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ مَا أُرْسِلْتُ بِهِ إِلَيْكُمْ وَيَسْتَخْلِفُ رَبِّي قَوْمًا غَيْرَكُمْ وَلا تَضُرُّونَهُ شَيْئًا﴾[هود:57]، وقال: ﴿وَإِنْ تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ ثُمَّ لا يَكُونُوا أَمْثَالَكُمْ﴾[محمد:38].
الله غني عنا، وإنما خلقنا لعبادته عز وجل لما يعود علينا من الخير في ذلك، شرع الشرائع من صلاة وصيام وغير ذلك مما يرضاه الله عز وجل لهذا المعنى.
أيها الناس! يجب أن يعلم الإنسان بيقين حقيقة هذه الحياة وأنها ابتلاء له، أيكون من المصلحين أم من المفسدين، قال رب العزة عز وجل: ﴿تَبَارَكَ الَّذِي بِيَدِهِ الْمُلْكُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ * الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا وَهُوَ الْعَزِيزُ الْغَفُورُ﴾[الملك:1-2]، وقال: ﴿وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ حَتَّى نَعْلَمَ الْمُجَاهِدِينَ مِنْكُمْ وَالصَّابِرِينَ وَنَبْلُوَ أَخْبَارَكُمْ﴾[محمد:31]، وقال: ﴿الم * أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لا يُفْتَنُونَ * وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ﴾[العنكبوت:1-3].
هذه حقيقة الحياة وسر الحياة؛ أن الله أوجد العباد لعبادته ليبلوهم وليختبرهم وليعلم المفسد منهم من المصلح، وهو رب العالمين، وهو بكل شيء عليم.
إذا عُلم ذلك فاعلم عبد الله أن حقيقة هذه الحياة غرور ومتاع وزينة وبلوى وتفاخر وفتنة، أعلمنا ربنا سبحانه وتعالى في كتابه قائلاً: ﴿اعْلَمُوا أَنَّمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَزِينَةٌ وَتَفَاخُرٌ بَيْنَكُمْ وَتَكَاثُرٌ فِي الأَمْوَالِ وَالأَوْلادِ كَمَثَلِ غَيْثٍ أَعْجَبَ الْكُفَّارَ نَبَاتُهُ ثُمَّ يَهِيجُ فَتَرَاهُ مُصْفَرًّا ثُمَّ يَكُونُ حُطَامًا وَفِي الآخِرَةِ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَمَغْفِرَةٌ مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانٌ وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ﴾[الحديد:20]، وقال الله: ﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ فَلا تَغُرَّنَّكُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَلا يَغُرَّنَّكُمْ بِاللَّهِ الْغَرُورُ﴾[فاطر:5].
هذه هي حقيقة الحياة الدنيا، فاعلمها ولا شك أن كل مسلم يعلمها، ولكن تنبيه للغافل وتحذيراً للجاهل.
أيها الناس! إنها كما أخبر الله سبحانه وتعالى في كتابه الكريم: ﴿وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَاءٍ أَنزَلْنَاهُ مِنَ السَّمَاءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَبَاتُ الأَرْضِ فَأَصْبَحَ هَشِيمًا تَذْرُوهُ الرِّيَاحُ وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ مُقْتَدِرًا﴾[الكهف:45]، ﴿إِنَّمَا مَثَلُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَاءٍ أَنْزَلْنَاهُ مِنَ السَّمَاءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَبَاتُ الأَرْضِ مِمَّا يَأْكُلُ النَّاسُ وَالأَنْعَامُ حَتَّى إِذَا أَخَذَتِ الأَرْضُ زُخْرُفَهَا وَازَّيَّنَتْ وَظَنَّ أَهْلُهَا أَنَّهُمْ قَادِرُونَ عَلَيْهَا أَتَاهَا أَمْرُنَا لَيْلًا أَوْ نَهَارًا فَجَعَلْنَاهَا حَصِيدًا كَأَنْ لَمْ تَغْنَ بِالأَمْسِ كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الآيَاتِ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ * وَاللَّهُ يَدْعُوا إِلَى دَارِ السَّلامِ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ﴾[يونس:24-25]، إن من سار في هذه الحياة الدنيا على غير ما خلقه الله سبحانه وتعالى له ومن أجله، لقد أخبر الله سبحانه وتعالى أن هذه الحياة تصير خزياً له في الدنيا، وهو صائر إلى عذاب الله وإلى المشقة يوم القيامة، قال الله: ﴿أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتَابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ فَمَا جَزَاءُ مَنْ يَفْعَلُ ذَلِكَ مِنْكُمْ إِلَّا خِزْيٌ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يُرَدُّونَ إِلَى أَشَدِّ الْعَذَابِ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ﴾[البقرة:85]، وقال الله: ﴿فَأَمَّا عَادٌ فَاسْتَكْبَرُوا فِي الأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَقَالُوا مَنْ أَشَدُّ مِنَّا قُوَّةً أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَهُمْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَكَانُوا بِآيَاتِنَا يَجْحَدُونَ * فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحًا صَرْصَرًا فِي أَيَّامٍ نَحِسَاتٍ لِنُذِيقَهُمْ عَذَابَ الْخِزْيِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَلَعَذَابُ الآخِرَةِ أَخْزَى وَهُمْ لا يُنْصَرُونَ﴾[فصلت:15-16].
هذا ليُعلم أن من لم يعرف حقيقة هذه الحياة ويعبد الله سبحانه وتعالى في ذلك ويسخرها في طاعة الله أنها عليه حياة خزي، أنها عليه حياة شقاوة وضنك وتعاسة: ﴿لَهُمْ عَذَابٌ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَلَعَذَابُ الآخِرَةِ أَشَقُّ وَمَا لَهُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ وَاقٍ﴾[الرعد:34]، ويقول الله سبحانه وتعالى في كتابه الكريم: ﴿فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدًى فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلا يَضِلُّ وَلا يَشْقَى * وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى * قَالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمَى وَقَدْ كُنتُ بَصِيرًا * قَالَ كَذَلِكَ أَتَتْكَ آيَاتُنَا فَنَسِيتَهَا وَكَذَلِكَ الْيَوْمَ تُنسَى﴾[طه:123-126]، قال أهل العلم: النسيان هنا بمعنى الترك، أي: عاملتها معاملة التارك لها، وكذلك اليوم تترك.
هذا حال من سار في هذه الحياة الدنيا على غير ما خلقه الله سبحانه وتعالى من أجله.
اعلموا عباد الله أن ذوي الأعمال الصالحة في هذه الحياة الدنيا أنهم وارثو هذه الأرض، وهم ورثة هذه الحياة حقيقة، قال الله سبحانه فيما بينه أن ذلك مكتوب عنده: ﴿وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِي الزَّبُورِ مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الأَرْضَ يَرِثُهَا عِبَادِيَ الصَّالِحُونَ * إِنَّ فِي هَذَا لَبَلاغًا لِقَوْمٍ عَابِدِينَ * وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ﴾[الأنبياء:105-107].
إن أهل الأعمال الصالحة في هذه الحياة الدنيا هم الذين يمكن الله عز وجل لهم فيها: ﴿وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُم فِي الأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا يَعْبُدُونَنِي لا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا﴾[النور:55]، إن أهل الأعمال الصالحة هم الذين يعتبرون أنفسهم وبحق وبجد أنهم الذين استفادوا هذه الحياة؛ استفادوها واستغلوها في مرضاة الله عز وجل، قال الله سبحانه وتعالى في كتابه الكريم: ﴿مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ﴾[النحل:97].
ثبت من حديث زيد بن ثابت رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم قال: «من جعل الدنيا همه فرق الله عليه شمله وجعل فقره بين عينيه، ولم يأته من الدنيا إلا ما كتب له، ومن جعل الآخرة نيته جعل الله غناه في قلبه وأتته الدنيا وهي راغمة»، هذا ثابت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، مما يدل أن أهل السعادة حقاً الذين يستفيدون ويستغلون الحياة هم أهل الأعمال الصالحة: ﴿قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّمَا أَنَا لَكُمْ نَذِيرٌ مُبِينٌ * فَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ﴾[الحج:50:49]، ويقول الله عز وجل في كتابه الكريم: ﴿إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ يَهْدِيهِمْ رَبُّهُمْ بِإِيمَانِهِمْ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمُ الأَنْهَارُ فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ﴾[يونس:9].
إن أهل الأعمال الصالحة هم الذين عرفوا قدر الحياة واستفادوها في الدنيا والآخرة، ولهم من ذلك فرج عظيم -أعني من كل مشقة وفتنة- قال الله في كتابه الكريم: ﴿وَذَا النُّونِ إِذْ ذَهَبَ مُغَاضِبًا فَظَنَّ أَنْ لَنْ نَقْدِرَ عَلَيْهِ فَنَادَى فِي الظُّلُمَاتِ أَنْ لا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنتُ مِنَ الظَّالِمِينَ * فَاسْتَجَبْنَا لَهُ وَنَجَّيْنَاهُ مِنَ الْغَمِّ وَكَذَلِكَ نُنْجِي الْمُؤْمِنِينَ﴾[الأنبياء:87-88]، هذا وعد رب العالمين أنه ينجي المؤمنين من الكرب والمضايق بسبب إيمانهم، وبسبب سيرهم الصالح في حياتهم الدنيا، وانظر في المقابل إلى فرعون عليه لعائن الله لما سار في حياته حياة الفساد والبوار وحياة ادعاء الربوبية والشرك الأكبر، دعا عند موته وهلكته، وسأل الله عز وجل وتضرع إلى أنه مؤمن ولم يستجب له عند الغرغرة: ﴿قَالَ آمَنْتُ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُوا إِسْرَائِيلَ وَأَنَا مِنَ الْمُسْلِمِينَ﴾[يونس:90]، قال الله: ﴿آلآنَ وَقَدْ عَصَيْتَ قَبْلُ وَكُنْتَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ * فَالْيَوْمَ نُنَجِّيكَ بِبَدَنِكَ لِتَكُونَ لِمَنْ خَلْفَكَ آيَةً وَإِنَّ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ عَنْ آيَاتِنَا لَغَافِلُونَ﴾[يونس:91-92]، أي: نخرجك ببدنك تكون عبرة لغيرك، تكون على نجوة بجانب البحر ينظر إليك الأحياء فيعتبرون وينزجرون مما تصنع أنت وأمثالك.
نعم عباد الله! إن الأعمال الصالحة هي وراثة هذه الحياة الدنيا واستغلال واستفادة هذه الحياة الدنيا، فما قيمة الحياة الدنيا بدونها، وما ميزة هذه الحياة الدنيا بدونها؛ فإن الحيوانات فيها حياة، ولكن الله عز وجل كرم الإنسان وميزه بطاعة الله: ﴿وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلًا﴾[الإسراء:70]، كل ذلك يستفيده الإنسان بالاستمرار في طاعة الله، والمداومة والمثابرة عليها، إياك إياك أيها المسلم عن الانقطاع، ولا يكون عملك موسمياً، أعني: في وقت دون وقت، وتترك العمل الصالح إلى زمن كذا وكذا، فإن هذا ليس دأب الصالحين، روى مسلم في صحيحه من حديث صهيب الرومي رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «عجباً لأمر المؤمن إن أمره كله له خير، إن أصابته سراء شكر فكان خيراً له، وإن أصابته ضراء صبر فكان خيراً له»، أي: أنه دائم على السراء والضراء في الشدة والرخاء، وعلى طاعة الله، روى الإمام البخاري في صحيحه من حديث أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال، فيما يروي عن رب العزة عز وجل أنه قال: «من عادى لي ولياً فقد آذنته بالحرب، وما تقرب إلي عبدي بشيء أحب إلي مما افترضته عليه، ولا يزال»، ولاحظ كلمة (ولا يزال) أي: أنه مستمر ودائب، وليس منقطعاً: «ولا يزال عبدي يتقرب إلي بالنوافل حتى أحبه، فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به، وبصره الذي يبصر به، ويده التي يبطش بها، ورجله التي يمشي بها، ولأن سألني لأعطينه، ولأن استعاذني لأعيذنه».
الله عز وجل ذم أولئك من بني إسرائيل بسبب انقطاعهم عن الطاعة وأنهم يعملون ويفترون، فقال: ﴿أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ وَمَا نَزَلَ مِنَ الْحَقِّ وَلا يَكُونُوا كَالَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلُ فَطَالَ عَلَيْهِمُ الأَمَدُ فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فَاسِقُونَ﴾[الحديد:16]، الله عز وجل حذرنا عن الانقطاع عن الأعمال في ليل أو نهار، فعندك من وظائف اليوم والليلة في كل حين عمل تتقرب به إلى الله عز وجل من صلاة وصيام وذكر ودعاء وفي حركاتك وسكناتك وليلك ونهارك وسائر حياتك: ﴿وَلا تَكُونُوا كَالَّتِي نَقَضَتْ غَزْلَهَا مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ أَنكَاثًا تَتَّخِذُونَ أَيْمَانَكُمْ دَخَلًا بَيْنَكُمْ﴾[النحل:92]، ويقول الله سبحانه وتعالى: ﴿وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّكَ يَضِيقُ صَدْرُكَ بِمَا يَقُولُونَ * فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَكُنْ مِنَ السَّاجِدِينَ * وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ﴾[الحجر:99:97].
ثبت في الصحيحين عن عائشة رضي الله عنها أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «وكان أحب الأعمال إلى الله ما داوم عليه صاحبه»، وهكذا ثبت في صحيح مسلم من حديث عمر بن الخطاب رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «من فاته حزبه من الليل فصلاه ما بين صلاة الفجر والظهر كان كمن صلاه من الليل»، أي: محافظة على العمل ومداومة عليه، ثبت في صحيح مسلم عن أبي أيوب رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «من صام رمضان وأتبعه ستاً من شوال كان كصيام الدهر»، أي: استمراراً على العمل الصالح ومداومة عليه، ثبت من حديث عبد الله بن عمر في الصحيحين أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «يا عبد الله لا تكن مثل فلان كان يقوم الليل فترك قيام الليل، قال: فما ترك عبد الله بن عمر رضي الله عنه قيام الليل»، هذا كله مما يدل على حث رسول الله صلى الله عليه وسلم على المداومة على الأعمال.
فإن هذه الحياة الدنيا هي مزرعة الآخرة، وأن من فرط فيها خسر الدنيا والآخرة: ﴿قُلْ إِنَّ الْخَاسِرِينَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ وَأَهْلِيهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَلا ذَلِكَ هُوَ الْخُسْرَانُ الْمُبِينُ * لَهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ ظُلَلٌ مِنَ النَّارِ وَمِنْ تَحْتِهِمْ ظُلَلٌ ذَلِكَ يُخَوِّفُ اللَّهُ بِهِ عِبَادَهُ يَا عِبَادِ فَاتَّقُونِ﴾[الزمر:16:16]، والحمد لله رب العالمين.