إعـــــــلان

تقليص
لا يوجد إعلان حتى الآن.

باب الحج والعمرة للشيخ الإسلام رحمه اللّه

تقليص
X
 
  • تصفية - فلترة
  • الوقت
  • عرض
إلغاء تحديد الكل
مشاركات جديدة

  • باب الحج والعمرة للشيخ الإسلام رحمه اللّه

    باب الحج والعمرة


    سئل شيخ الإسلام رحمه اللّه ورضي عنه عن العمرة هل هي واجبة‏؟‏ وإن كان فما الدليل عليه‏؟‏

    فأجاب‏ :

    والعمرة في وجوبها قولان للعلماء ، هما قولان في مذهب الشافعي وأحمد ، والمشهور عنهما وجوبها‏ . ‏ والقول الآخر ‏ : ‏ لا تجب ، وهو مذهب أبي حنيفة ، ومالك‏ . ‏

    وهذا القول أرجح ؛ فإن الله إنما أوجب الحج بقوله‏ : ‏ ‏ { ‏وَلِلّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ‏ } ‏ ‏ [ ‏آل عمران‏ : ‏ 97‏ ] ‏ ، لم يوجب العمرة ، وإنما أوجب إتمامهما‏ . ‏ فأوجب إتمامهما لمن شرع فيهما ، وفي الابتداء إنما أوجب الحج‏ . ‏وهكذا سائر الأحاديث الصحيحة ليس فيها إلا إيجاب الحج ؛ ولأن العمرة ليس فيها جنس غير ما في الحج ، فإنها إحرام وإحلال ، وطواف بالبيت ، وبين الصفا والمروة ، وهذا كله داخل في الحج‏ . ‏

    وإذا كان كذلك فأفعال الحج لم يفرض الله منها شيئًا مرتين ، فلم يفرض وقتين ، ولا طوافين ، ولا سعيين ، ولا فرض الحج مرتين‏ . ‏

    وطواف الوداع ليس بركن ، بل هو واجب ، وليس هو من تمام الحج ، ولكن كل من خرج من مكة عليه أن يودع ؛ ولهذا من أقام بمكة لا يودع على الصحيح ، فوجوبه ليكون آخر عهد الخارج بالبيت ، كما وجب الدخول بالإحرام في أحد قولي العلماء لسبب عارض لا كون ذلك واجبًا بالإسلام ، كوجوب الحج‏ . ‏

    ولأن الصحابة المقيمين بمكة لم يكونوا يعتمرون بمكة ، لا على عهد النبي صلى الله عليه وسلم ، ولا على عهد خلفائه ، بل لم يعتمر أحد عمرة بمكة على عهد النبي صلى الله عليه وسلم إلا عائشة وحدها ، لسبب عارض‏ . ‏ وقد بسطنا الكلام على ذلك في غير هذا الموضع‏ . ‏

    وسئل عمن حج ولم يعتمر ، وتركها إما عامدًا أو ناسيا‏ . ‏ فهل تسقط عنه بالحج أم لا‏؟‏ وهل ذكر أحد في ذلك خلافًا أم لا‏؟‏

    فأجاب‏ : ‏

    الحمد لله رب العالمين ، العمرة في وجوبها قولان مشهوران للعلماء ، هما قولان للشافعي ، وروايتان عن أحمد ، والمشهور عن أصحابهما وجوبها ، ولكن القول بعدم وجوبها قول الأكثرين ؛ كمالك ، وأبي حنيفة ، وكلا القولين منقول عن بعض الصحابة‏ . ‏

    والأظهر أن العمرة ليست واجبة ، وأن من حج ولم يعتمر فلا شيء عليه ، سواء ترك العمرة عامدًا ، أو ناسيا ؛ لأن الله إنما فرض في كتابه حج البيت بقوله‏ : ‏ ‏ { ‏وَلِلّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ‏ } ‏ ‏ [ ‏آل عمران‏ : ‏ 97‏ ] ‏ ‏ . ‏ ولفظ الحج في القرآن لا يتناول العمرة ، بل هو سبحانه إذا أراد العمرة ذكرها مع الحج ، كقوله‏ : ‏ ‏ { ‏وَأَتِمُّواْ الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلّهِ‏ } ‏ ‏ [ ‏البقرة‏ : ‏ 196‏ ] ‏ ، وقوله‏ : ‏ ‏ { ‏فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ أَوِ اعْتَمَرَ فَلاَ جُنَاحَ عليه أَن يَطَّوَّفَ بِهِمَا‏ } ‏ ‏ [‏البقرة‏ : ‏ 158‏ ] ‏ ، فلما أمر بالإتمام أمر بإتمام الحج والعمرة ، وهذه الآية نزلت عام الحديبية سنة ست باتفاق الناس‏ . ‏ وآية آل عمران نزلت بعد ذلك ، سنة تسع أو عشر ، وفيها فرض الحج‏ . ‏

    ولهذا كان أصح القولين أن فرض الحج كان متأخرًا‏ . ‏ ومن قال‏ : ‏ إنه فرض سنة ست فإنه احتج بآية الإتمام ، وهو غلط ، فإن الآية إنما أمر فيها بإتمامهما لمن شرع فيهما لم يأمر فيها بابتداء الحج والعمرة‏ . ‏ والنبي صلى الله عليه وسلم اعتمر عمرة الحديبية قبل أن تنزل هذه الآية ، ولم يكن فرض عليه لا حج ولا عمرة ، ثم لما صده المشركون أنزل الله هذه الآية ، فأمر فيها بإتمام الحج والعمرة ، وبين حكم المحصر الذي تعذر عليه الإتمام ؛ ولهذا اتفق الأئمة على أن الحج والعمرة يلزمان بالشروع ، فيجب إتمامهما‏ . ‏ وتنازعوا في الصيام ، والصلاة والاعتكاف‏ . ‏

    وأيضًا ، فإن العمرة ليس فيها جنس من العمل غير جنس الحج ، فإنها إحرام وطواف وسعي وإحلال ، وهذا كله موجود في الحج‏ . ‏ والحج إنما فرضه الله مرة واحدة لم يفرضه مرتين ، ولا فرض شيئًا من فرائضه مرتين ، لم يفرض فيه وقوفين ، ولا طوافين ؛ بل الفرض طواف الإفاضة ، وأما طواف الوداع فليس من الحج ، وإنما هو لمن أراد الخروج من مكة ؛ ولهذا لا يطوف من أقام بمكة ، وليس فرضًا على كل أحد ، بل يسقط عن الحائض ، ولو لم يفعله لأجزأه دم ، ولم يبطل الحج بتركه بخلاف طواف الفرض ، والوقوف‏ . ‏ وكذلك السعي لا يجب إلى مرة واحدة ، والرمي يوم النحر لا يجب إلا مرة واحدة ، ورمي كل جمرة في كل يوم لا يجب إلا مرة واحدة ، وكذلك الحلق والتقصير لا يجب إلا مرة واحدة‏ . ‏

    فإذا كانت العمرة ليس فيها عمل غير أعمال الحج وأعمال الحج إنما فرضها الله مرة ، لا مرتين علم أن الله لم يفرض العمرة‏ . ‏

    والحديث المأثور في ‏ ( ‏أن العمرة هي الحج الأصغر‏ ) ‏ ، قد احتج به بعض من أوجب العمرة ، وهو إنما يدل على أنها لا تجب ؛ لأن هذا الحديث دال على حجين‏ : ‏ أكبر ، وأصغر كما دل على ذلك القرآن في قوله‏ : ‏ ‏ { ‏يَوْمَ الْحَجِّ الأَكْبَرِ‏ } ‏ ‏ [ ‏التوبة‏ : ‏ 3‏ ] ‏ ، وإذا كان كذلك فلو أوجبناها لأوجبنا حجين‏ : ‏ أكبر ، وأصغر‏ . ‏ والله تعالى لم يفرض حجين ، وإنما أوجب حجًا واحدًا ، والحج المطلق إنما هو الحج الأكبر ، وهو الذي فرضه الله على عباده ، وجعل له وقتًا معلومًا ، لا يكون في غيره كما قال‏ : ‏ ‏ { ‏يَوْمَ الْحَجِّ الأَكْبَرِ‏ } ‏ ، بخلاف العمرة فإنها لا تختص بوقت بعينه ، بل تفعل في سائر شهور العام‏ . ‏

    ولأن العمرة مع الحج كالوضوء مع الغسل ، والمغتسل للجنابة يكفيه الغسل ، ولا يجب عليه الوضوء عند جمهور العلماء ، فكذلك الحج ؛فإنهما عبادتان من جنس واحد‏ : ‏ صغري ، وكبري‏ . ‏ فإذا فعل الكبري لم يجب عليه فعل الصغري ، ولكن فعل الصغري أفضل وأكمل كما أن الوضوء مع الغسل أفضل وأكمل‏ . ‏

    وهكذا فعل النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه ، لكنه أمرهم بأمر التمتع وقال‏ : ‏ ‏ ( ‏دخلت العمرة في الحج إلى يوم القيامة‏ ) ‏ ، كما قد بسط في موضع آخر‏ . ‏ والله أعلم‏ . ‏

    وسئل عن امرأة حجت حجة الإسلام ، وما اعتمرت ، وفي العام الثاني قصدت أن تحج عن بنتها ، وكانت بالأول أحرمت بحج وعمرة ، فهل عليها عمرة أخري‏؟‏

    فأجاب‏ : ‏



    لا عمرة عليها لما مضي ، وأما إذا اعتمرت في هذا العام عن نفسها غير العمرة عن بنتها جاز ذلك‏ . ‏
    وسئل رحمه الله‏ : ‏
    ماذا يقول أهل العلم في رجل
    آتاه ذو العرش مالا حج واعتمرا
    فهزه الشوق نحو المصطفى طربا
    أترون الحج أفضل أم إيثاره الفقرا
    أم حجه عن أبيه ذاك أفضل أم
    ماذا الذي ياسادتي ظهرا
    فأفتوا محبا لكم فديتكمو
    وذكركم دأبه إن غاب أو حضرا

    فأجاب رضي الله عنه ‏ :
    نقول فيه ‏ : ‏ بأن الحج أفضل من
    فعل التصدق والإعطاء للفقرا
    والحج عن والديه فيه برهما
    والأم أسبق في البر الذي ذكرا
    لكن إذا الفرض خص الأب كان إذًا
    هو المقدم فيما يمنع الضررا
    كما إذا كان محتاجًا إلى صلة
    وأمه قد كفاها من برى البشرا
    هذا جوابك يا هذا موازنة
    وليس مفتيك معدودًا من الشعرا
    وسئل رحمه الله عن امرأة تملك زيادة عن نحو ألف درهم ، ونَوَتْ أن تهب ثيابها لبنتها ، فهل الأفضل أن تبقي قماشها لبنتها‏؟‏ أو تحج بها‏؟‏

    فأجاب‏ : ‏

    الحمد لله ، نعم ، تحج بهذا المال وهو ألف درهم ، ونحوها‏ . ‏ وتزوج البنت بالباقي إن شاءت ، فإن الحج فريضة مفروضة عليها ، إذا كانت تستطيع إليه سبيلا‏ . ‏ ومن لها هذا المال تستطيع السبيل‏ . ‏

    وسئل عن شيخ كبير وقد انحلت أعضاؤه‏ . ‏ لا يستطيع أن يأكل أو يشرب ، ولا يتحرك ، هل يجوز أن يستأجر من يحج عنه الفرض‏؟‏

    فأجاب‏ : ‏

    أما الحج فإذا لم يستطع الركوب على الدابة ، فإنه يستنيب من يحج عنه‏ . ‏

    وسئل‏ : ‏ هل يجوز أن تحج المرأة بلا مَحْرم‏؟‏

    فأجاب‏ : ‏

    إن كانت من القواعد اللاتي لم يحضن ، وقد يئست من النكاح ، ولامحرم لها ، فإنه يجوز في أحد قولي العلماء أن تحج مع من تأمنه ، وهو إحدى الروايتين عن أحمد ، ومذهب مالك والشافعي‏ . ‏

    وَقَالَ رَحِمهُ الله ‏ :

    يجوز للمرأة أن تحج عن امرأة أخرى باتفاق العلماء ، سواء كانت بنتها ، أو غير بنتها ، وكذلك يجوز أن تحج المرأة عن الرجل عند الأئمة الأربعة ، وجمهور العلماء كما أمر النبي صلى الله عليه وسلم المرأة الخثعمية أن تحج عن أبيها ، لما قالت‏ : ‏ يا رسول الله ، إن فريضة الله في الحج على عباده أدركت أبي ، وهو شيخ كبير‏ . ‏ فأمرها النبي صلى الله عليه وسلم أن تحج عن أبيها ، مع أن إحرام الرجل أكمل من إحرامها‏ . ‏ والله أعلم‏ . ‏

    وقَالَ رَحِمهُ الله‏ : ‏ في الحج عن الميت ، أو المعضوب بمال يأخذه إما نفقة ، فإنه جائز بالاتفاق ، أو بالإجارة أو بالجعالة على نزاع بين الفقهاء في ذلك ، سواء كان المال المحجوج به موصي به لمعين ، أو عينًا مطلقًا ، أو مبذولًا ، أو مخرجًا من صلب التركة‏ . ‏ فمن أصحاب الشافعي من استحب ذلك ، وقال‏ : ‏ هو من أطيب المكاسب ؛ لأنه يعمل صالحًا ويأكل طيبًا‏ . ‏ والمنصوص عن أحمد أنه قال‏ : ‏ لا أعرف في السلف من كان يعمل هذا ، وعَدَّه بدعة ، وكرهه‏ . ‏ ولفظ نصه مكتوب في غير هذا الموضع‏ . ‏ ولم يكره إلا الإجارة والجعالة‏ . ‏

    قلت‏ : ‏ حقيقة الأمر في ذلك‏ : ‏ أن الحاج يستحب له ذلك إذا كان مقصوده أحد شيئين‏ : ‏ الإحسان إلى المحجوج عنه ، أو نفس الحج لنفسه‏ . ‏

    وذلك أن الحج عن الميت إن كان فرضًا فذمته متعلقة به ، فالحج عنه إحسان إليهبا براء ذمته ، بمنزلة قضاء دينه ، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم للخثعمية‏ : ‏ ‏ ( ‏أرأيت لو كان على أبيك دين فقضيتيه أكان يجزي عنه‏؟‏‏ ) ‏ قالت‏ : ‏ نعم ، قال‏ : ‏ ‏ ( ‏فالله أحق بالقضاء‏ ) ‏ ، وكذلك ذكر هذا المعني في عدة أحاديث ، بين أن الله لرحمته وكرمه أحق بأن يقبل قضاء الدين عمن قضي عنه ، فإذا كان مقصود الحاج قضاء هذا الدين الواجب عن هذا ، فهذا محسن إليه ، والله يحب المحسنين ، فيكون مستحبًا ، وهذا غالبًا إنما يكون لسبب يبعثه على الإحسان إليه ، مثل رحم بينهما ، أومودة وصداقة ، أو إحسان له عليه يجزيه به ، ويأخذ من المال ما يستعين به على أداء الحج عنه ، وعلامة ذلك أن يطلب مقدار كفاية حجه ، ولهذا جوزنا نفقة الحج بلا نزاع‏ . ‏ وكذلك لو وصى بحجة مستحبة ، وأحب إيصال ثوابها إليه‏ . ‏

    والموضع الثاني‏ : ‏ إذا كان الرجل مؤثرًا أن يحج محبة للحج وشوقًا إلى المشاعر ، وهو عاجز فيستعين بالمال المحجوج به على الحج ، وهذا قد يعطي المال ليحج به لا عن أحد ، كما يعطي المجاهد المال ليغزو به ، فلا شبهة فيه ، فيكون لهذا أجر الحج ببدنه ، ولهذا أجر الحج بماله ، كما في الجهاد فإنه من جهز غازيا فقد غزا ، وقد يعطي المال ليحج به عن غيره ، فيكون مقصود المعطي الحج عن المعطي عنه‏ . ‏ ومقصود الحاج ما يحصل له من الأجر بنفس الحج لا بنفس الإحسان إلى الغير‏ . ‏

    وهذا يتوجه على أصل أبي حنيفة حيث قال‏ : ‏ الحج يقع عن الحاج ، وللمعطي أجر الإنفاق ، كالجهاد‏ . ‏ وعلى أصلنا فإن المصلي والصائم والمتصدق عن الغير والحاج عن الغير له قصد صالح في ذلك العمل ، وقصد صالح في عمله عن الغير‏ . ‏ وإذا كان النبي صلى الله عليه وسلم قد قال‏ : ‏ ‏ ( ‏الخازن الأمين الذي يعطي ما أمر به كاملًا موفرًا طيبة به نفسه أحد المتصدقين‏ ) ‏ ، فجعل للوكيل مثل الموكل في الصدقة ، وهو نائب ، وقال‏ : ‏ ‏ ( ‏إذا أنفقت المرأة من بيت زوجها غير مفسدة كان لها أجرها بما أنفقت ، وللزوج أجره بما اكتسب ، وللخادم مثل ذلك‏ ) ‏ ، فكذلك النائب في الحج ، وسائر ما يقبل النيابة من الأعمال له أجر ، وللمستنيب أجر‏ . ‏

    وهذا أيضًا إنما يأخذ ما ينفقه في الحج كمالا يأخذ إلا ما ينفقه في الغزو ، فهاتان صورتان مستحبتان ، وهما الجائزتان من أن يأخذ نفقة الحج ويرد الفضل ، وأما إذا كان قصده الاكتساب بذلك ، وهو أن يستفضل مالا ، فهذا صورة الإجارة والجعالة ، والصواب أن هذا لا يستحب ، وإن قيل بجوازه ؛ لأن العمل المعمول للدنيا ليس بعمل صالح في نفسه ، إذا لم يقصد به إلا المال ، فيكون من نوع المباحات‏ . ‏ ومن أراد الدنيا بعمل الآخرة فليس له في الآخرة من خلاق‏ . ‏

    ونحن إذا جوزنا الإجارة والجعالة على أعمال البر التي يختص أن يكون فاعلها من أهل القرب لم نجعلها في هذه الحال إلا بمنزلة المباحات ، لا نجعلها من ‏ [ ‏باب القرب‏ ] ‏ ، فإن الأقسام الثلاثة‏ : ‏ إما أن يعاقب على العمل بهذه النية ، أو يثاب ، أو لا يثاب ولا يعاقب‏ . ‏

    وكذلك المال المأخوذ‏ : ‏ إما منهي عنه ، وإما مستحب ، وإما مباح فهذا هذا والله أعلم‏ . ‏ لكن قد رجحت الإجارة على‏ . ‏‏ . ‏‏ . ‏ إذا كان محتاجًا إلى ذلك المال للنفقة ومدة الحج ، وللنفقة بعد رجوعه أوقضاء دينه ، فيقصد إقامة النفقة وقضاء الدين الواجب عليه فهنا تصير الأقسام ثلاثة‏ : ‏ إما أن يقصد الحج والإحسان فقط ، أو يقصد النفقة المشروعة له فقط ، أو يقصد كلاهما ، فمتي قصد الأول فهو حسن ، وإن قصدهما معا فهو حسن إن شاء الله ؛ لأنهما مقصودان صالحان ، وأما إن لم يقصد إلا الكسب لنفقته فهذا فيه نظر‏ . ‏ والمسألة مشروحة في مواضع‏ . ‏

    وسئل عن امرأة حجت وقصدت أن تحج عن ميتة بأجرة ، فهل لها أن تحج‏؟‏

    فأجاب‏ : ‏

    يجوز أن تحج عن الميت بمال يؤخذ على وجه النيابة بالاتفاق‏ . ‏ وأما على وجه الإجارة ففيه قولان للعلماء ، هما روايتان عن أحمد‏ : ‏

    إحداهما‏ : ‏ يجوز وهو قول الشافعي‏ . ‏

    والثاني‏ : ‏ لا يجوز ، وهو مذهب أبي حنيفة‏ . ‏ ثم هذه الحاجة عن الميت إن كان قصدها الحج ، أو نفع الميت كان لها في ذلك أجر وثواب ، وإن كان ليس مقصودها إلا أخذ الأجرة فما لها في الآخرة من خلاق‏ . ‏

    وسئل عمن حج عن الغير ليوفي دينه‏؟‏

    فأجاب‏ : ‏

    أما الحاج عن الغير لأن يوفي دينه ، فقد اختلف فيها العلماء أيهما أفضل‏ . ‏ والأصح أن الأفضل الترك ، فإن كون الإنسان يحج لأجل أن يستفضل شيئًا من النفقة ليس من أعمال السلف ، حتي قال الإمام أحمد‏ : ‏ ما أعلم أحدًا كان يحج عن أحد بشيء‏ . ‏ ولو كان هذا عملًا صالحًا لكانوا إليه مبادرين ، والارتزاق بأعمال البر ليس من شأن الصالحين‏ . ‏ أعني إذا كان إنما مقصوده بالعمل اكتساب المال ، وهذا المدين يأخذ من الزكاة ما يوفي به دينه خير له من أن يقصد أن يحج ليأخذ دراهم يوفي بها دينه ، ولا يستحب للرجل أن يأخذ مالا يحج به عن غيره ، إلا لأحد رجلين‏ : ‏

    إما رجل يحب الحج ، ورؤية المشاعر ، وهو عاجز‏ . ‏ فيأخذ ما يقضي به وطره الصالح ، ويؤدي به عن أخيه فريضة الحج‏ . ‏

    أو رجل يحب أن يبرئ ذمة الميت عن الحج ، إما لصلة بينهما ، أو لرحمة عامة بالمؤمنين ، ونحو ذلك ، فيأخذ ما يأخذ ليؤدي به ذلك‏ . ‏ وجماع هذا أن المستحب أن يأخذ ليحج لا أن يحج ليأخذ ، وهذا في جميع الأرزاق المأخوذة على عمل صالح ، فمن ارتزق ليتعلم ، أو ليعلم ، أو ليجاهد ، فحسن ، كما جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال‏ : ‏ ‏ ( ‏مثل الذين يغزون من أمتي ، ويأخذون أجورهم ، مثل أم موسي ترضع ابنها وتأخذ أجرها‏ ) ‏ ، شبههم بمن يفعل الفعل لرغبة فيه كرغبة أم موسي في الإرضاع ، بخلاف الظئر المستأجر على الرضاع ، إذا كانت أجنبية‏ . ‏ وأما من اشتغل بصورة العمل الصالح لأن يرتزق فهذا من أعمال الدنيا‏ . ‏

    ففرق بين من يكون الدين مقصوده والدنيا وسيلة ، ومن تكون الدنيا مقصوده والدين وسيلة‏ . ‏ والأشبه أن هذا ليس له في الآخرة من خلاق ، كما دلت عليه نصوص ليس هذا موضعها‏ . ‏

    وسئل رحمه الله عن رجل عليه دين لشخص غائب ببغداد ، والمديون مقيم بمصر وهو معسر ، وقصد شخص أن يحج به من عنده‏ . ‏ فهل يجوز له أن يحج وعليه الدين‏؟‏

    فأجاب‏ :

    نعم ، يجوز أن يحج المدين المعسر ، إذا حججه غيره ، ولم يكن في ذلك إضاعة لحق الدَّين ، إما لكونه عاجزًا عن الكسب ، وإما لكون الغريم غائبًا لا يمكن توفيته من الكسب‏ . ‏ والله أعلم‏ . ‏

    وسئل رحمه الله عن رجل خرج حاجًا إلى بيت الله الحرام بالزاد والراحلة ، فأدركه الموت في الطريق فهل يسقط عنه الفرض‏؟‏ أم لا‏؟‏

    فأجاب‏ :

    الحمد لله رب العالمين ، لا يسقط عنه بذلك ، ثم إن كان خرج إلى الحج حين وجب عليه من غير تفريط مات غير عاص ، وإن فرط بعد الوجوب مات عاصيا ، ويحج عنه من حيث بلغ ، وإن كان قد خلف مالا فالنفقة من ذلك واجبة ، في أظهر قولي العلماء‏ . ‏

    وتفصيل ذلك‏ : ‏ أنه إذا استطاع الحج بالزاد والراحلة وجب عليه الحج بالإجماع ، فإن حج عقب ذلك بحسب الإمكان ومات في الطريق وجب أجره على الله ، ومات وهو غير عاص ، وله أجر نيته وقصده‏ . ‏

    فإن كان فرط ، ثم خرج بعد ذلك ومات قبل أداء الحج ، مات عاصيا آثمًا ، وله أجر ما فعله ، ولم يسقط عنه الفرض بذلك ، بل الحج باق في ذمته ، ويحج عنه من حيث بلغ‏ . ‏ والله أعلم‏ . ‏




    مجموع فتاوي ابن تيمية
يعمل...
X