من فوائد هذا الحديث:
1- أن حجة النبي صلى الله عليه وسلم كانت في السنة العاشرة من الهجرة لقوله « ثم أذن في الناس في العاشرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم حاج » فإن قال قائل لماذا لم يحج النبي صلى الله عليه وسلم في السنة التاسعة أو في السنة الثامنة أو في السنة السابعة مثلا ؟ قلنا أما ما قبل الثامنة فلا يمكن أن يحج لأنها قبل الفتح وكانت مكة تحت سيطرة المشركين وقد ردوه عن العمرة فكيف عن الحج ؟!.
وأما في السنة الثامنة بعد الفتح فكان مشتغلا عليه الصلاة والسلام بالجهاد فإنه لم يفرغ من ثقيف إلا في آخر ذي القعدة .
وأما في السنة التاسعة فقيل إنه لم يحج لأن هذا العام كان عام الوفود . فإن العرب كانوا ينتظرون فتح مكة ولما فتحت مكة انتظروا أيضا القضاء على ثقيف لأنهم أمة لهم قوة فلما قضى عليهم عليه الصلاة والسلام أذعنت العرب وصاروا يأتون أفواجا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم في المدينة فكان في المدينة ليلتقي هؤلاء الوفود يعلمهم دينهم عليه الصلاة والسلام .
وسبب آخر أنه في السنة التاسعة حج المشركون مع المسلمين فأراد النبي صلى الله عليه وسلم أن يكون حجه خالصاً للمسلمين ولهذا أذن في التاسعة ألا يحج بعد العام مشرك ولا يطوف بالبيت عريان . هذا إذا ما قلنا إن الحج فرض في التاسعة وإن قلنا إنه فرض في العاشرة فلا إشكال.
2- أن ميقات أهل المدينة ذا الحليفة . لقوله ( فخرجنا معه حتى أتينا ذا الحليفة ) .
3- أن الصحابة رضي الله عنهم من أحرص الناس على طلب العلم ذكورهم وإناثهم لقوله: (فولدت أسماء بنت عميس محمد بن أبي بكر فأرسلت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم كيف أصنع ) .
4- أن طلب العلم لا يختص بالرجال فكما أن الرجل يشرع له طلب العلم بل يتعين عليه إذا كانت عبادته لا تقوم إلا به فإنه يتعين عليه فكذلك المرأة ولا فرق .
5- أنه يستحب الغسل للإحرام للرجال والنساء حتى من لا تصلي فإنها تغتسل لقوله صلى الله عليه وسلم لأسماء بنت عميس : « اغتسلي » فأمرها أن تغتسل . وإذا كانت النفساء وهي لا تصلي تؤمر بالغسل فكذلك من سواها.
فإذا لم يجد المحرم الماء أو تعذر عليه استعماله لمرض أو غيره فهل يتيمم ؟
المشهور عند أهل العلم رحمهم الله أنه يتيمم قالوا لأن هذه طهارة مشروعه فإذا تعذرت عدلنا إلى التيمم كالاغتسال للواجب وقال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله لا يسن التيمم لأن هذا اغتسال ليس عن جنابة حتى يحتاج الإنسان فيه إلى رفع الحدث إنما هو اغتسال للتنظف والتنشط لهذا العمل فإذا لم يجد الماء فإنه لا يتيمم . وعلى كل حال إن تيمم الإنسان فلا بأس لأنه قال به من قال من أهل العلم .
6- أن الحيض أو النفاس لا يمنع انعقاد الإحرام كما لا يمنع دوامه بدليل قوله : « وأحرمي » . وبناء على ذلك فإن المرأة إذا وصلت إلى الميقات وهي حائض أو أصابها حيض فلا تقل : لن أحرم حتى أطهر بل نقول : أحرمي .
7- جواز الإحرام ممن عليه جنابة. وجه ذلك أنه أمر النفساء أن تحرم والنفاس موجب للغسل.
8- أنه ينبغي التلبية إذا استوى على البيداء لقوله : ( حتى إذا استوت به على البيداء أهل بالتوحيد).وهذه المسألة اختلف فيها العلماء رحمهم الله فمنهم من أخذ بحديث جابر رضي الله عنه وقال لا يلبي إلا إذا استوت به على البيداء .
ومنهم من قال : يلبي إذا صلى قبل أن يركب(79).
ومنهم من قال : بل يلبي إذا ركب كما دل عليه حديث ابن عمر رضي الله عنهما الثابت في الصحيح(80)
وللعلماء في هذه المسألة ثلاثة أقوال سلكوا منها مسلكين : فمنهم من سلك مسلك الترجيح ومنهم من سلك مسلك الجمع.
فالذين سلكوا مسلك الترجيح بعضهم رجح الإحرام من حين أن يصلي وبعضهم رجح الإحرام إذا استوى على ناقته إذا ركب وبعضهم قال : إذا استوت به على البيداء.
أما من سلك مسلك الجمع وهو المروي عن عبد الله بن عباس رضي الله عنهما كما رواه الحاكم وغيره فقال : إنه لا منافاة بين هذه الأمور الثلاثة لأن من الناس من سمع النبي صلى الله عليه وسلم يلبي حين صلى فقال : إنه لبى حين صلى ومنهم من سمعه يلبي حين ركب فقال : لبى حين ركب ومنهم من سمعه يلبي حين استوت به على البيداء فقال : لبى حين استوت به على البيداء )(81).
ولولا ما قيل في سند هذا الحديث لكان وجهه ظاهراً , لأنه يجمع بين الروايات .
ولكن الأحسن والأرفق بالناس أن لا يلبي حتى يستوي على ناقته لأنه قد يحتاج إلى شيء فقد يكون نسي أن يتطيب مثلا وقد يتأخر في الميقات بعد أن يصلي الركعتين ( ركعتي الوضوء ) أو الصلاة المفروضة مثلا فالأرفق به أن تكون تلبيته إذا استوى على ناقته وإن لبى قبل ذلك فلا حرج.
9- أن الإنسان لا ينقل إلا ما بلغه علمه فإن جابراً رضي الله عنه لم ينقل ما نقله عبد الله بن عمر رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم أهل حين استوى على ناقته بل قال حتى إذا استوت به على البيداء وهذا بعد ما ذكره عبد الله بن عمر رضي الله عنهما.
10- مشروعية رفع الصوت بالتلبية لقول النبي صلى الله عليه وسلم « أتاني جبريل فأمرني أن آمر أصحابي أن يرفعوا أصواتهم بالإهلال »(82) فينبغي للرجل أن يرفع صوته امتثالاً لأمر النبي صلى الله عليه وسلم واتباعاً لسنته وسنة أصحابه فقد قال جابر رضي الله عنه كنا نصرخ بذلك صراخاً(83) ولا يسمع صوت الملبي من حجر ولا مدر ولا شجر إلا شهد له يوم القيامة فيقول : أشهد أن هذا حج ملبياً . ومع الأسف أن كثيراً من الحجاج لا يرفعون أصواتهم بالتلبية إلا نادراً فإن قال قائل : أليس النبي صلى الله عليه وسلم قال لأصحابه وقد كبروا في سفر معه « أيها الناس اربعوا على أنفسكم – أي : هونوا عليها - فإنكم لا تدعون أصم ولا غائبا إن الذي تدعونه أقرب إلى أحدكم من عنق راحلته »(84).
قلنا : لكن التلبية لها شأن خاص لأنها من شعائر الحج فيصوت بها. أو يقال إن أمر النبي صلى الله عليه وسلم أن يهونوا على أنفسهم لأنهم كانوا يرفعون رفعاً شديداً يشق عليهم . وأما المرأة فتسر بها, لأن المرأة مأمورة بخفض الصوت في مجامع الرجال , فلا ترفع صوتها بذلك , كما أنها مأمورة إذا نابها شيء في الصلاة مع الرجال أن تصفق , لئلا يظهر صوتها , فصوت المرأة – وإن لم يكن عورة – يخشى منه الفتنة , ولهذا نقول : المرأة تلبي سراً بقدر ما تسمع رفيقتها ولا تعلن .
وهذا من الأحكام التي تخالف فيه المرأة الرجل . وهي كثيرة , لأنها كما خالفته خلقة وفطرة خالفته حكماً , والله عز وجل – حكيم , أحكامه الشرعية مناسبة لأحكامه القدرية .
مسألة : اختلف العلماء – رحمهم الله – هل يلبي وهو ماكث أو لا يلبي إلا وهو سائر ؟
الجواب : من العلماء من قال إنه يلبي وهو سائر فقط . وأما إذا كان ماكثاً أي : نازلاً في عرفات أو مزدلفة أو منى فإنه لا يلبي , لأن التلبية معناها الإجابة وهي لا تتناسب مع المكث , إذ إن المجيب ينبغي أن يتقدم إلى من يجيبه لا أن يجيب وهو باق , وهذا هو اختيار شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله وأنه لا يلبي إلا في حال السير بين المشاعر , ومنهم من: يقول يلبي حتى يرمي جمرة العقبة , سواءً كان ماكثاً أم سائراً .
11- مشروعية رفع الصوت بالتلبية من حين الإحرام . وقد اختلف أهل العلم رحمهم الله في التلبية ورفع الصوت بها جمهور العلماء إلى أنها سنة . وقال بعض العلماء إنها أي التلبية واجبة ؛ وهل يجب بتركها دم على قولين وقال آخرون إنها ركن لا ينعقد الإحرام إلا بها كتكبيرة الإحرام في الصلاة . وقال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله ينعقد بالنية مع التلبية أو سوق الهدي وهو قول الإمام أبي حنيفة ورواية عن الإمام أحمد وقال ابن حزم إن التلبية ورفع الصوت بها فرض فمن لم يلب في شيء من حجه أو عمرته أو لبى ولم يرفع صوته فلا حج له ولا عمرة .
12- مشروعية تعيين النسك في التلبية فإذا كان في العمرة يقول : لبيك اللهم عمرة , وفي الحج يقول : لبيك اللهم حجاً , وفي القران يقول : لبيك اللهم عمرة وحجاً .
13- أنه ينبغي للإنسان أن يستحضر أنه في مجيئه إلى مكة وإحرامه أنه إنما يفعل ذلك تلبية لدعـاء الله قال الله تعالى ) وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالاً وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِنْ كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ ((85) فالأذان بأمر الله يعتبر أذاناً من الله فإذا كان الله هو الذي أذن فأنا أجيبه وأقول : لبيك اللهم لبيك ….. الخ .
14- أن التلبية توحيد خالص لأن الإنسان يقول لبيك اللهم لبيك , ولبيك هذه جواب . جواب دعوة ولهذا إذا دعي أحدنا فقيل يا فلان قال للداعي لبيك وهي بصيغة التثنية ولكن المراد التكرار ومن ثم يقول النحويون إنها ملحقة بالمثنى لأن لفظها لفظ تثنيه ومعناها التكثير . والتلبية هي الإجابة فكأنك تقول يا رب إجابة لك بعد إجابة . وتكرر توكيداً .
15- الثناء على الله عز وجل بالحمد والنعمة فإنه هو المتفضل عز وجل بذلك ) وَمَا بِكُمْ مِنْ نِعْمَةٍ فَمِنَ اللَّهِ (.
16- انفراد الله بالملك لقوله (لك والملك لا شريك لك ).
17- جواز الزيادة على تلبية النبي صلى الله عليه وسلم لأنه صلى الله عليه وسلم كان يسمعهم يزيدون ولا ينكر عليهم . وممن زاد في التلبية عمر وابنه رضي الله عنهما لبيك وسعديك والرغباء إليك والعمل , وكما قال أنس رضي الله عنه منا المهل ومنا المكبر وكان النبي صلى الله عليه وسلم يسمعهم ولا يرد عليهم شيئا . لكن لزوم تلبية النبي صلى الله عليه وسلم أفضل وأتم في التأسي.
18- أن الناس كانوا لا يعرفون العمرة في أشهر الحج بل إن العرب في الجاهلية يرونها من أفجر الفجور ويقولون لا يمكن أن تأتي إلى مكة بعمرة وحج بل لا بد أن تأتي بعمرة في سفر وحج في سفر وهم ينظرون إلى ذلك من ناحية اقتصادية حتى يكثر الزوار والحجاج وتكون الأسواق أكثر اشتغالا.
19- أنه ينبغي للإنسان الحاج أو المعتمر أن يبادر حين الوصول إلى مكة إلى الذهاب إلى المسجد ليطوف لأن هذا هو المقصود ولا ينبغي أن يجعل غير المقصود مقدماً بل المقصود ينبغي أن يكون مقدماً على كل شيء .
20 – حرص الصحابة رضي الله عنهم على العلم بأفعال النبي صلى الله عليه وسلم ليتبعوه فيها .
21 – مشروعية البداءة في الطواف بالحجر الأسود فإن بدأ بدونه مما يلي الباب لم يعتد بالشوط.
22 – مشروعية استلام الحجر الأسود عند ابتداء الطواف لقوله (حتى إذا أتينا البيت معه استلم الركن) .
23 – مشروعية تقبيل الحجر الأسود في الطواف . وأما تقبيل غيره من الجمادات والأحجار فبدعة .
24 – مشروعية استلام الحجر الأسود والركن اليماني في الطواف بالبيت . ولا يشرع استلام غيرهما من أركان الكعبة أو جدرانها سوى هذين الركنين .
25 – أن السنة كما تكون بالفعل تكون كذلك بالترك فإذا وجد سبب الفعل في عهد النبي صلى الله عليه وسلم ولم يفعله دل هذا على أن السنة تركه .
26 – مشروعية الأضطباع في جميع الطواف وهل يبقى مضطبعاً بعد الطواف أو لا ؟ الصحيح أنه لا يبقى مضطبعاً . وأن الإنسان يستر منكبه من حين أن يفرغ من طوافه .
وقال بعض العلماء رحمهم الله : بل إنه يبقى مضطبعاً في السعي . ولكن الصحيح الأول .
27 – مشروعية الرمل في الأشواط الثلاثة الأولى من طواف القدوم دون الأربعة الباقية .
فإن قلت : ما الحكمة من الرمل في الطواف في الأشواط الثلاثة الأولى دون الأربعة الباقية ؟
فالجواب : أن الحكمة في ذلك تذكير المؤمنين بأصل هذا الرمل لأن أصله أن النبي صلى الله عليه وسلم قاضى أهل مكة في غزوة الحديبية على أن يرجع من العام القادم معتمرا . وأهل مكة أعداء للرسول صلى الله عليه وسلم وأصحابه، والعدو يحب الشماتة بعدوه فلما قدم النبي صلى الله عليه وسلم للعمرة قال بعضهم لبعض دعونا نجلس هنا ننظر إلى هؤلاء القوم الذين وهنتهم حمى يثرب كيف يطوفون . لأن عندهم أن هؤلاء قوم أصابهم المرض وأنهك قواهم يريدون بذلك الشماتة وجلسوا في شمالي الكعبة من جهة الشمال وهم ينظرون فأمر النبي صلى الله عليه وسلم أصحابه أن يرملوا ليظهروا الجلد والقوة والنشاط ليغيظوا الكفار وإغاظة الكفار أمر مقصود لله عز وجل كما قال تعالى :) مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ تَرَاهُمْ رُكَّعاً سُجَّداً يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَاناً سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِنْ أَثَرِ السُّجُودِ ذَلِكَ مَثَلُهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَمَثَلُهُمْ فِي الْأِنْجِيلِ كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ فَآزَرَهُ فَاسْتَغْلَظَ فَاسْتَوَى عَلَى سُوقِهِ يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفَّارَ ( (86) وقال تعالى :) وَلا يَطَأُونَ مَوْطِئاً يُغِيظُ الْكُفَّارَ وَلا يَنَالُونَ مِنْ عَدُوٍّ نَيْلاً إِلَّا كُتِبَ لَهُمْ بِهِ عَمَلٌ صَالِحٌ ( (87) أراد النبي صلى الله عليه وسلم من قومه أن يغيظوا الكفار لكنه أمرهم أن
يرملوا من الحجر إلى الركن اليماني دون ما بين الركنين لأنهم بين الركنين يختفون عن المشركين وأراد الرسول صلى الله عليه وسلم أن يرفق بأصحابه ولهذا جعل الرمل في الأشواط الثلاثة الأولى لأن الثلاثة أقل من الأربعة فاعتبر الأقل في جانب الصعوبة ثم إن اختيار الثلاثة دون الأربعة فيه القطع على وتر والله سبحانه وتعالى إذا تأملنا مشروعاته وجدنا غالبها مقطوعاً على وتر . ففي كون الرمل خاصاً بالأشواط الثلاثة الأولى فائدتان :
الأولى : اعتبار الأخف في باب المشقة .
الثانية : القطع على وتر .
أما في حجة الوداع فقد رمل النبي صلى الله عليه وسلم في الأشواط الثلاثة كلها من الحجر إلى الحجر لأن العلة التي من أجلها شرع الحكم وهو إغاظة الكفار الذين كانوا يشاهدون قد انقطعت فصار الرمل من الحجر إلى الحجر عبادة محضة ولم يكن القصد منه الإغاظة لأن الإغاظة انتهت.
ولكن هل الطائف يذكر في هذه الحال حال النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه حين قدموا في عمرة القضاء أو يذكر المعنى الأصلي المقصود وهو إغاظة الكفار أو الأمرين ؟
إذا تذكر الأمرين فهو خير، يعني يتذكر أن الرسول صلى الله عليه وسلم وأصحابه فعلوا ذلك فيقتدي بهم ولا سيما فعله في حجة الوداع وأيضا يذكر أن من شأن المسلم أن يفعل ما يغيظ الكفار
28 – مشروعية الرمل في الأشواط الثلاثة الأولى من الحجر إلى الحجر لأن النبي صلى الله عليه وسلم فعل ذلك وأن السنة المشي في الأربعة الباقية. فإن قال قائل: إذا دار الأمر بين أن أرمل مع البعد عن الكعبة وبين أن أمشي مع القرب فأيهما أقدم ؟
الجواب: قدم الأول فارمل ولو بعدت عن الكعبة ( لأن مراعاة الفضيلة المتعلقة بذات العبادة أولى من مراعاة الفضيلة المتعلقة بزمانها أو مكانها ) وهذه القاعدة لها أمثلة :
مثال ذلك : لو أن رجلاً حين دخل عليه وقت الصلاة وهو حاقن أو بحضرة طعام فهل الأولى أن يقضي حاجته ويأكل طعامه ولو أدى ذلك إلى تأخير الصلاة عن أول وقتها ؟ أو العكس ؟
الجواب: الأول فهنا راعينا نفس العبادة دون أول الوقت لأنه إذا صلى فارغ القلب مقبلاً على صلاته كانت الصلاة أكمل.
مثال آخر : لو أن شخصاً أراد أن يصلي في الصف الأول وحوله ضوضاء وتشويش أو حوله رجل له رائحة كريهة تشغله فهل الأولى أن يتجنب الضوضاء والرائحة الكريهة ولو أدى ذلك إلى ترك الصف الأول ؟ أو أن يصف في الصف الأول مع وجود التشويش أو الرائحة الكريهة ؟
فالجواب : لاشك أن الأولى تجنب التشويش وترك الصف الأول لأن هذا يتعلق بذات العبادة.
29 – أن الطواف بالبيت سبعة أشواط كاملة . فلو نقص خطوة واحدة من أوله أو آخره لم يصح . كما لو نقص شيئاً من الصلاة فإنها لا تصح .
30 – أنه تسن الصلاة خلف المقام بعد الطواف ومعلوم أن الركعتين خلف المقام قريباً منه أفضل من كونها بعيداً عنه أو ليست خلفه . لكن إذا لم يتيسر للإنسان أن يصلي خلف المقام قريباً منه فليصل خلف المقام بعيداً منه فإن لم يتيسر فليصل في أي مكان من المسجد لأن المطلوب منه شيئان : الأول: الصلاة والثاني : كونها خلف المقام .
فإن تعذر المكان بقيت مشروعية الصلاة وليس من شرط الصلاة أن تكون خلف المقام حتى نقول إذا تعذر خلف المقام سقطت الصلاة .
31 – أنه ينبغي للإنسان بعد أن يصلي الركعتين أن يرجع إلى الركن فيستلمه لفعل النبي صلى الله عليه وسلم .
ولكن هل هذا مشروط بما إذا أراد السعي بعد الطواف ؟
الجواب : نعم هذا في الطواف الذي يكون بعده سعي ينبغي أن يتقدم إلى الركن بعد الركعتين فيستلمه أما الطواف الذي ليس بعده سعي كطواف الوداع مثلا وطواف الإفاضة لمن سعى بعد طواف القدوم فإنه لم يرد عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه رجع إلى الركن فاستلمه .
32 – أنه ينبغي المبادرة بالسعي بعد الطواف بدون تأخير وهذا على سبيل الأفضلية وليس على سبيل الوجوب ولهذا قال العلماء رحمهم الله : إن الموالاة بين الطواف والسعي سنة وليست بشرط فلو طاف في أول النهار وسعى في آخره فلا بأس لكن الأفضل الموالاة .
33 – أنه ينبغي أن يخرج من باب الصفا لأنه أيسر، ولو كان المسجد الحرام فيما سبق له أبواب دون المسعى يخرج منه الناس وأما الآن فيتجه إلى جهة الصفا .
34 – أنه ينبغي إذا دنا من الصفا أن يتلو الآية ) إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ ((88) اقتداء برسول الله صلى الله عليه وسلم وليشعر نفسه أنه إنما سعى لأنه من شعائر الله وتعظيماً لشعائر الله عز وجل وحرماته .
35 – أنه ينبغي أن يقول : أبدأ بما بدأ الله به ليتحقق بذلك الامتثال . ولا يقال هذا الذكر إلا إذا أقبل على الصفا من بعد الطواف فلا يقال بعد ذلك لا عند المروة ولا عند الصفا في المرة الثانية لأنه ليس ذكرا يختص بالصعود وإنما هو ذكر يبين أن ابتداء الإنسان من الصفا إنما هو لتقديم الله له .
36 – أن ما بدأ الله به فهو أولى بالتقديم ولهذا بدأ النبي صلى الله عليه وسلم بالصفا لأن الله بدأ به.
37 – أنه ينبغي صعود الصفا حتى يرى البيت فيستقبله وهو واضح من قوله : «فرقي الصفا حتى رأى البيت » .
38 – أنه ينبغي في هذه الحال أن يوحد الله ويكبره ويقول الذكر ويدعو بين الأذكار التي يقولها ثلاث مرات وقد ورد عن النبي صلى الله عليه وسلم حينئذ رفع يديه رفع دعاء وليس رفع إشارة كما يفعل في الصلاة .
39 – أن السنة أن يمشي ما بين الصفا إلى طرف الوادي الشرقي ثم يسعى من طرف الوادي الشرقي إلى طرفه الشمالي ثم يمشي إلى المروة .
40 – أن الإسراع في كل المسعي ليس بمشروع .
41 – أنه ينبغي الإسراع في بطن الوادي لفعل الرسول صلى الله عليه وسلم وبطن الوادي الآن جعل له علم منصوب ( عمود أخضر ) فإذا وصلته فابدأ بالإسراع .
42 – أنه ينبغي لك وأنت تسعى أن تستشعر بأنك في ضرورة إلى رحمة الله عز وجل كما كانت أم إسماعيل رضي الله عنها في ضرورة إلى رحمة الله سبحانه وتعالى فكأنك تستغيث به تبارك وتعالى من آثار الذنوب وأوصابها .
43 – أن الإسراع في السعي مشروع في كل الأشواط السبعة لأن جابراً رضي الله عنه لم يستثن شيئاً منه بخلاف الرمل في الطواف فمشروع في الثلاثة الأولى .
وفرق آخر هو أن الإسراع في السعي في جزء منه والرمل في الطواف في جميع الأشواط الثلاثة فهذان فرقان .
الفرق الثالث : أن الإسراع في السعي أشد من الرمل في الطواف لأن الرسول صلى الله عليه وسلم كان يسرع جداً بخلاف الطواف فإنه يرمل والرمل إسراع المشي دون الخبب يعني : دون الركض الشديد .
44 – أن اختتام الأشواط السبعة يكون بالمروة. وعند الاختتام هل يقف ويدعو ؟
الجواب : لا ؛ لأن الدعاء والذكر إنما هو في ابتداء الشوط وليس في انتهائه فإذا انتهى من المروة فلينصرف ولا يقف للدعاء , كما قلنا في الطواف فإن التكبير يكون عند ابتداء الشوط لا عند انتهائه.
45 – أن الأيدي لا ترفع حال الذكر والدعاء لا في السعي ولا في الطواف لأن الذين وصفوا طواف النبي صلى الله عليه وسلم ودعاءه فيه ( ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار ) لم يذكروا رفع اليدين وكونهم يذكرون رفع اليدين على الصفا وعلى المروة يدل على أن ما عدا ذلك ليس فيه رفع .
46 – جواز قول (لو) إذا كان لقصد الإخبار لقوله ( لو أني استقبلت من أمري ما استدبرت ) .
47 - حسن تعليم النبي صلى الله عليه وسلم ودعوته إلى الحق.
48 – مشروعية فسخ نية الحج إلى عمرة ليصير متمتعاً إلا أن يسوق الهدي .
49 – أن من فسخ نية الحج إلى عمرة ليصير متمتعاً فإنه يتحلل بالعمرة تحللاً كاملاً .
فإن قلت : هل يجوز أن يفسخ الإنسان الحج إلى عمرة ليتحلل منها وينصرف إلى أهله .
فالجواب : لا . لأنه إنما أمر بفسخ الحج إلى عمرة ليصير متمتعاً . والمتمتع أفضل ولم يرخص له أن يفسخ الحج إلى عمرة ليتحلل عن قرب ويرجع إلى أهله .
50- أن الحج يمتاز عن غيره من العبادات بجواز تغيير النية فيه . فنجد الرجل يحرم بالحج ثم يقلبه إلى عمرة ليصير متمتعاً ويصح ويحرم بالعمرة أولاً ثم يضيق عليه الوقت فيدخل الحج عليها ليصير قارناً ويصح .
كما أن الحج يخالف غيره في النية بأنه لو نوى الخروج منه لم يخرج منه بينما العبادات الأخرى يخرج منها . وإذا فعل محرماً في العبادات الأخرى تبطل العبادة كما لو أكل أو شرب في الصلاة أو تكلم فيها . لكن في الحج , المحظورات فيه لا تبطله إلا الجماع قبل التحلل الأول يفسده ويجب المضي فيه وقضاؤه من السنة الأخرى بخلاف غيره من العبادات .
51 - أن التمتع أفضل الأنساك لأن النبي صلى الله عليه وسلم أمر به من لم يسق الهدي ولأنه أكثر عملاً لأنه يأتي بأفعال العمرة كاملة وأفعال الحج كاملة ولأنه أيسر لمن قدم مكة في وقت مبكر حيث يتمتع بالحل فيما بين العمرة والحج . إلا لمن ساق الهدي فالقران أفضل لتعذر التمتع في حقه فالتمتع في حق من ساق الهدي لا يمكن لأنه لا يمكن أن يحل .
ولكن هل الأفضل أن يسوق الهدي ويقرن أو الأفضل أن لا يسوق الهدي ويتمتع ؟
في هذا خلاف بين العلماء رحمهم الله منهم من قال الأفضل أن لا يسوق الهدي ويتمتع لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال لأصحابه : لو استقبلت من أمري ما استدبرت ما سقت الهدي ولأحللت معكم .
ومنهم من قال سوق الهدي والقران أفضل لأن هذا فعل النبي صلى الله عليه وسلم ولأنه أظهر في إظهار الشعائر . لأن الإنسان يأتي بالهدي معه يسوقه وهذا لا شك أن فيه من إظهار الشعائر ما ليس فيمن لم يسق الهدي . وأجابوا عن قوله : لو استقبلت من أمري ما استدبرت أنه قال ذلك من أجل أن يطيب قلوب أصحابه وأنه يقول لو علمت بأن الأمر سيبلغ منكم ما بلغ حتى يشق عليكم هذه المشقة ما سقت الهدي ولأحللت معكم . وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يترك الاختيار مراعاة لأصحابه كما ترك الجهاد عليه الصلاة والسلام في كل سرية مراعاة لأصحابه الذين لا يستطيعون أن يصاحبوه في كل سرية وليس عنده ما يحملهم عليه . وكما ترك الصيام مراعاة لأصحابه فقالوا إن قوله : لو استقبلت من أمري ما استدبرت لهذا المعنى .
وعندي أن الأقرب في هذا التفصيل فإن كانت السنة في سوق الهدي مندثرة فالقران أفضل وإلا فالتمتع أفضل .
52 – أن من ساق الهدي ليس له إلا القران .
53 – أنه لا يشترط لسوق الهدي أن يكون من بلده .
54 – أن التعليم يكون بالقول وبالفعل لقوله :« فشبك رسول الله صلى الله عليه وسلم أصابعه واحدة في الأخرى وقال:« دخلت العمرة في الحج »» وأخذ منه بعض المعاصرين التعليم على السبورة لأن السبورة ترسم للإنسان العلم. والعلم إذا رسم للإنسان يكون أدعى لثباته في النفس إذ الإنسان لا يزال يستحضر هذه الصورة فتبقى في ذهنه .
55 – أنه ينبغي للمحلين بمكة أن يدفعوا إلى منى في اليوم الثامن محرمين بالحج لأن النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه دفعوا إليها ولا ينبغي أن يدفع إليها قبل اليوم الثامن على طريق التنسك والعبادة لأن الرسول صلى الله عليه وسلم وأصحابه لم يدفعوا قبل اليوم الثامن .
56 – أن أعمال الحج تبتدئ من ضحى اليوم الثامن ويتفرع على ذلك ثلاث فوائد :
57 – منها أنه فيما نرى لا يشرع التمتع لمن قدم مكة بعد أوان أعمال الحج فمثلا لو جئت بعد الظهر في اليوم الثامن فليس هناك تمتع لأن الله يقول : ) فَمَنْ تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ ((89) فمنتهى التمتع الحج وأفعال الحج تبتدئ باليوم الثامن إذاً فلا حاجة للتمتع ونقول : إن شروعك في الحج ودخولك فيه في هذه الحال أفضل من العمرة فإما أن تفرد وإما أن تقرن أما التمتع فقد زال وقته الآن.
58 – ومنها أنه لا يشرع لمن أراد الإحرام يوم التروية أن يذهب إلى البيت أي المسجد الحرام ويحرم من المسجد بدليل أن الصحابة رضي الله عنهم لم يفعلوا ذلك والترك مع وجود السبب سنة يعني إذا وجد سبب الشيء في عهد الرسول صلى الله عليه وسلم ولم يفعل كانت السنة تركه وهذا سببه موجود ولم يذهب واحد من الصحابة ليحرم من المسجد فدل ذلك على أن السنة أن يحرموا من أماكنهم التي هم نازلون فيها.
59 – ومنها أنه ينبغي أن تكون صلاة الظهر يوم التروية في منى هذا هو الأفضل ويتفرع على ذلك ثلاث فوائد :
60 – منها أنه يتبين حرمان قوم من الناس يريدون الحج ويبقون في أماكنهم فإذا كان بعد العصر أحرموا بالحج وخرجوا إلى منى نقول هذا وإن كان جائزاً لكن الإنسان حرم نفسه لأن بقاءه في منى في ذلك اليوم أفضل من بقائه في المسجد الحرام وغيره.
ولهذا لما كان يوم التروية هذا العام يوم الجمعة صار كثير من الحجاج يتساءلون هل الأفضل أن نصلي الجمعة في المسجد الحرام ثم نخرج إلى منى أو الأفضل أن نخرج إلى منى في الصباح في الضحى ونصلي الظهر في منى ؟
والجواب : الثاني أفضل لأن بقاءك في منى عبادة وأنت ما جئت من بلادك إلا لأجل هذه العبادة.
61 – ومنها أن الصلاة في منى لا تجمع لأن جابراً رضي الله عنه لم يذكر أن النبي صلى الله عليه وسلم جمع فدل هذا على أنه صلاها على الأصل أي بدون جمع .
وهل يستفاد من حديث جابر رضي الله عنه أن الصلاة في منى تقصر؟
الـجواب : لا يستفاد لكن نستفيده من حديث أنس بن مالك رضي الله عنه(90).
62 – ومنها أنه ينبغي المكث في منى حتى تطلع الشمس ولا يسن الدفع قبل طلوع الشمس لقوله : « ثم مكث قليلا حتى طلعت الشمس » وهو كذلك فإن دفع بعد صلاة الفجر قبل طلوع الشمس فلا إثم عليه لكن الأفضل أن يتأخر .
63 – قوة النبي صلى الله عليه وسلم في دين الله حيث لم يتبع قومه في الوقوف في مزدلفة بل أجاز حتى أتى عرفة .
64 – أن الدين شَرْع وتوقيف وليس عادة ؛ دليله أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يتبع العادة في ذلك بل اتبع ما اقتضته شريعة الله سبحانه وتعالى.
65 – أن نمرة من عرفة بناء على أحد القولين ويتفرع على ذلك فائدتان :
66 – منها أنه لو وقف أحد بنمرة بعد زوال الشمس ولم يدفع إلا بعد الغروب أجزأه الحج ولم أر من صرح به مع أن هذا هو مقتضى هذا القول ولازمه . أما إذا قلنا إن نمرة ليست من عرفة وهو الصحيح كما قلنا فالأمر فيها واضح أنه من وقف فيها لا يجزئه ولا حج له .
67 – أنه ينبغي أن ينزل الحاج بنمرة قبل الوقوف بعرفة والدليل فعل النبي صلى الله عليه وسلم فلو قال قائل : أفلا يمكن أن يكون النبي صلى الله عليه وسلم نزل بها من باب السهولة لأنه أسمح لوقوفه حتى يستريح ويستعد للوقوف كما قالت عائشة رضي الله عنها في نزوله في المحصب (91) بعد الحج؟
قلنا : الأصل التعبد في جميع أفعال الحج إلا ما قام الدليل على أنه ليس من باب التعبد وأيضا فيمكن أن الرسول صلى الله عليه وسلم يستريح إذا نزل في عرفة .
68 – جواز استخدام الإنسان غيره لا سيما إذا كان كبيراً أو ذا سلطة والدليل : « أمر بالقصواء فرحلت له » فإن قوله أمر ... فرحلت يدل على أنه صلى الله عليه وسلم ما باشر ترحيلها وإنما أمر فرحلت له , وهذا لا ينافي نهي النبي صلى الله عليه وسلم أن يسأل الناس شيئاً لأن هناك فرقاً بين أن تسأل شخصاً شيئاً ويرى أن له منّة عليك وبين أن تسأل شخصاً شيئاً ويرى أن المنّة منك عليه وما يجري من النبي صلى الله عليه وسلم من هذا الباب كل يفرح أن النبي صلى الله عليه وسلم يأمره ثم هو زعيم أمته عليه الصلاة والسلام فيأمر على وجه السلطة وعلى وجه الإمرة.
69– إعلان الأحكام الشرعية عن طريق الخطابة . والخطابة أحد المجالات التي بها تنشر الدعوة فإن الدعوة تنشر بطرق متعددة منها الخطابة والكتابة والمشافهة وغير ذلك .
70 – حرص النبي صلى الله عليه وسلم على تبليغ أمته فإنه كان لا يخفي تبليغ الأحكام بل يعلنها إعلاناً بواسطة الخطابة .
71 – استحباب الخطبة يوم عرفة لأن النبي صلى الله عليه وسلم خطب الناس فيستحب أن يخطب الإمام أو نائبه الناس يوم عرفة ويستحب أن يحرص على الأقوال التي قالها النبي صلى الله عليه وسلم في تلك الخطبة ليقتدي بالرسول صلى الله عليه وسلم في أصل الخطبة وفي موضوعها وكلماتها.
72 – أن الخطبة يوم عرفة قبل الأذان لقوله:« ثم أذن ثم أقام » .
73 – أن الربا موضوع كله ولا يؤخذ مهما كان فالربا الثابت في ذمم الناس يجب وضعه ولا يجوز أخذه حتى وإن عقد قبل إسلام العاقد أو قبل جهله . أما ما قبض من قبل من ربا وأكل وأتى الإنسان موعظة من الله فلا يلزمه تقويمه والتخلص منه لكن ما بقي في ذمم الناس فإنه لا تتم التوبة منه إلا إذا تركه ولم يقبضه.
74 – بيان عدل النبي صلى الله عليه وسلم وهو ظاهر من قوله « وربا الجاهلية موضوع وأول ربا أضع ربانا ربا عباس بن عبد المطلب فإنه موضوع »فأول ما قضى عليه من أمر الجاهلية ما كان يتصل بأقاربه وهذا كما قال في الحديث الصحيح « وأيم الله لو أن فاطمة بنت محمد سرقت لقطعت يدها »(92) وهكذا يجب على الإنسان أن يكون قائما لله بالعدل لا يفرق بين قريب وبعيد أو غني وفقير أو قوي وضعيف . الناس في حكم الله واحـد لا يتميز أحد منهم بشيء إلا بما ميزه الله به .
75 – وفيه الإشارة إلى أن الذي يتولى طلب الرزق وحصول الكسوة هو الرجل لقوله ( ولهن عليكم رزقهن وكسوتهن بالمعروف ) . أما المرأة فشأنها أن تبقى في بيتها لإصلاح حالها وحال زوجها وحال أولادها وهذا ما كان عليه السلف الصالح رضوان الله عليهم .
76 – أن القرآن عصمة ؛ إذا اعتصم به الإنسان عصم من الضلال في الدنيا والشقاء في الآخرة كما قال تعالى :) فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلا يَضِلُّ وَلا يَشْقَى( (93) أي لا يضل في الدنيا ولا يشقى في الآخرة.
77 – وفيه الحث على الاعتصام بكتاب الله والرجوع إليه وأن به العصمة من كل سوء فإن قال قائل : ما تقولون في السنة التي لم تكن موجودة في القرآن بعينها ؟
قلنا : كل سنة سنها الرسول صلى الله عليه وسلم فهي موجودة في القرآن قال تعالى :) لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ ((94) وقـال تعالى : ) وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ ((95) وقال تعالى :) قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ ((96) وقال تعالى :) النَّبِيِّ الْأُمِّيِّ الَّذِي يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَكَلِمَاتِهِ وَاتَّبِعُوهُ ((97) فكل سنة سنها الرسول صلى الله عليه وسلم فهي من القرآن لكن ليس من اللازم أن ينص عليها بعينها .
78 – اعتراف الصحابة رضي الله عنهم بالجميل للنبي صلى الله عليه وسلم لقوله « نشهد أنك قد بلغت وأديت ونصحت » وهذه الشهادة التي شهدها الصحابة رضي الله عنهم يجب على كل مؤمن أن يشهدها فنحن نشهد أنه قد بلغ وأدى ونصح عليه الصلاة والسلام .
79 – استشهاد الله تعالى على العباد بأن الرسول صلى الله عليه وسلم بلغ.
80 - إثبات علو الله عز وجل . وجه الدلالة الإشارة إلى السماء وعلو الله الـذاتي قد دل عليه الكتاب والسنة والإجماع والعقل والفطرة .
81 – جواز الإشارة إلى مكان الله عز وجل وهو في السماء ولكن هل هذا المكان محيط به ؟
الجواب: لا . بل وسع كرسيه السموات والأرض ، فهو سبحانه وتعالى فوق سماواته ، على عرشه ، عليٌّ على خلقه بذاته وصفاته ، لقوله تعالى : ) وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ ((98).
82 – إثبات علم الله عز وجل وسمعه وبصره حيث كان يرفع إصبعه إلى السماء ثم ينكتها إلى الناس.
83 – تكرار الأمر الهام ثلاث مرات حتى وإن كان المخاطب قد سمع فإنه يكرر لا من أجل إفهام المخاطب ولكن من أجل الاهتمام بهذا الشيء .
84 – أنه لا يشرع للمسافر أن يصلي راتبة الظهر لقوله : « ولم يصل بينهما شيئا » .
85 – أن الصلاتين المجموعتين المشروع فيهما أن تكونا متواليتين لقوله : « ثم أقام فصلى الظهر ثم أقام فصلى العصر ولم يصل بينهما شيئا » والموالاة بين المجموعتين إذا كان الجمع جمع تقديم شرط عند أكثر الفقهاء رحمهم الله إلا أنه لا بأس أن يفصل بوضوء خفيف أو استراحة قصيرة ثم يستأنف الصلاة ثانية أما إذا كان الجمع جمع تأخير فالموالاة ليست بشرط .
وذهب شيخ الإسلام ابن تيمية (99) رحمه الله إلى أن الموالاة بين المجموعتين ليست بشرط لا في جمع التقديم ولا في جمع التـأخير وقال : يجوز في جمع التقديم أن يصلي الظهر مثلاً ثم يتوضأ أو يستريح أو يتغدى ونحوه ثم يصلي العصر وقال : إن الجمع هو من باب ضم الصلاة إلى الأخرى في الوقت لا في الفعل فإذا جاز الجمع صار الوقتان وقتاً واحداً وليس معنى الجمع ضم إحدى الصلاتين إلى الأخرى بالفعل بل ضمها إلى الأخرى بالوقت وعلى هذا فلا تشترط الموالاة في جمع التقديم كما لا تشترط في جمع التأخير ولكن لا شك أن الموالاة بينهما مشروعة كما دل عليه هذا الحديث .
86 – استحباب الوقوف للإمام في موقف النبي صلى الله عليه وسلم لأن النبي صلى الله عليه وسلم وقف عند الصخرات خلف جبل عرفة لقوله « ثم ركب حتى أتى الموقف » وأما غير الإمام فإنهم يقفون في أماكنهم لقـول النبي صلى الله عليه وسلم:« وقفت هاهنا وعرفة كلها موقف »(100) ولأن الأصل الاقتداء بالنبي صلى الله عليه وسلم في كيفية العبادة وزمانها ومكانها وجه ذلك : أن نبه على أن وقوفه في هذه الأماكن لا يسن فيه الأسوة أو لا تجب فيه الأسوة لقوله ( وقفت ها هنا وعرفة كلها موقف ) وكذلك يقال في مزدلفة .
87 – بيان تيسير النبي صلى الله عليه وسلم على أمته حيث لم يلزمهم بل ولم يندبهم إلى أن يتحروا مكان وقوفه ونحره لا في عرفة ومزدلفة ولا في منى .
88 – أنه لا يشرع صعود الجبل ولا الصلاة فيه ولا الصلاة عنده لأن النبي صلى الله عليه وسلم لم يفعل ذلك والأصل في العبادات التوقيف حتى يقوم دليل على مشروعيتها .
وبه نعرف ضلال كثير من الناس الذين يقصدون الجبل ويصعدون عليه ويصلون وربما يضعون الحجارة بعضها على بعض لتكون علماً وربما يعلقون الخرق ويكتبون الأوراق لإثبات أنهم بلغوا هذا المكان وكل هذا من البدع والواجب على طلبة العلم أن ينبهوا الناس على ذلك وأن يبينوا أنهم إلى الوزر أقرب منهم إلى الأجر في مثل هذه الأعمال .
89 – أن الركوب في الوقوف بعرفة أفضل لأن النبي صلى الله عليه وسلم وقف راكباً وقال : « خذوا عني مناسككم »(101).
وقال بعض العلماء رحمهم الله : بل الوقوف على غير الراحلة أفضل .
واختار شيخ الإسلام ابن تيمية (102) رحمه الله التفصيل في ذلك وقال : إنه يختلف باختلاف الحاج وما ذهب إليه هو الصحيح فإذا كان الإنسان يحتاج إلى أن يكون راكباً ليراه الناس ويسألوه وينتفعوا بعلمه وقف راكباً أفضل وكذلك إن كان أخشع له وأحضر لقلبه فيقف راكباً أفضل وإذا كان الأمر بالعكس صار الحكم بالعكس أيضا فهو يختلف باختلاف أحوال الناس.
90 – مشروعية استقبال القبلة حال الدعاء يوم عرفة ورفع اليـدين والإكثار من الدعاء ومـن الذكر لقول النبي صلى الله عليه وسلم « خير الدعاء دعاء يوم عرفة وأفضل ما قـلت أنا والنبيون من قبلي:لا إله إلا الله وحـده لا شريك له, له الملـك وله الحمد وهو على كل شيء قدير »(103)، وينبغي له أن يحرص على الأذكار والأدعية الواردة عن النبي صلى الله عليه وسلم ، فإنها من أجمع الأدعية وأنفعها فيقول :
اللهم لك الحمد كالذي نقول وخيراً مما نقول ، اللهم لك صلاتي ونسكي ومحياي ومماتي وإليك رب مآبي ولك رب تراثي .
اللهم إني أعوذ بك من عذاب القبر ووسوسة الصدر وشتات الأمر .
اللهم إني أعوذ بك من شر ما تجيء به الريح .
اللهم إنك تسمع كلامي ، وترى مكاني ، وتعلم سري وعلانيتي، لا يخفى عليك شيءٌ من أمري ، أنا البائس الفقير المستغيث المستجير الوجل المشفق المقر المعترف بذنوبي ، أسألك مسألة المسكين ، وأبتهل إليك ابتهال المذنب الذليل ، وأدعوك دعاء من خضعت لك رقبته وفاضت لك عيناه ، وذل لك جسده ، ورغم لك أنفه .
اللهم لا تجعلني بدعائك ربي شقيا ، وكن بي رؤوفاً رحيماً يا خير المسؤولين ويا خير المعطين .
اللهم اجعل في قلبي نوراً ، وفي سمعي نوراً ، وفي بصري نوراً .
اللهم اشرح لي صدري ويسر لي أمري ، اللهم إني أعوذ بك من شر ما يلج في الليل ، وشر ما يلج في النهار ، وشر ما تهب به الرياح، وشر بوائق الدهر .
اللهم ربـنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار .
اللهم إني ظلمت نفسي فاغفر لي إنك أنت الغفور الرحيم . اللهم إني أعوذ بك من جهد البلاء ومن درك الشقاء ومن سوء القضاء ، ومن شماتة الأعداء .
اللهم إني أعوذ بك من الهم والحزن ، والعجز والكسل ، والجبن والبخل ، وضلع الدين وغلبة الرجال ، وأعوذ بك من أن أرد إلى أرذل العمر ، وأعوذ بك من فتنة الدنيا .
اللهم إني أعوذ بك من المأثم والمغرم ، ومن شر فتنة الغنى , وأعوذ بك من فتنة الفقر .
اللهم غسل عني خطاياي بماء الثلج والبرد ، ونق قلبي من الخطايا كما نقيت الثوب الأبيض من الدنس ، وباعد بيني وبين خطاياي كما باعدت بين المشرق والمغرب .
فالدعاء يوم عرفة خير الدعاء .
قال النبي صلى الله عليه وسلم : « خير الدعاء دعاء يوم عرفة » . كما في الحديث السابق . وإذا لم يحط بالأدعية الواردة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ، دعا بما يعرف من الأدعية المباحة .
فإن قال قائل: الوقت طويل لا سيما في أيام الصيف وربما يلحق الإنسان ملل , لأنه لو بقي يدعو من بعد صلاة الظهر والعصر المجموعة إليها إلى الغروب لحقه ملل . فهل اشتغاله بغير الدعاء والذكر مما هو مباح جائز ؟
الجواب: نعم وربما يكون مطلوباً إذا كان وسيلة للنشاط والإنسان بشر يلحقه الملل , فلا حرج أن يستريح إما بنوم أو بقراءة قرآن أو بمذاكرة مع إخوانه أو بمدارسة القرآن أو في أحاديث تتعلق بالرحمة والرجاء والبعث والنشور وأحوال الآخرة حتى يلين ويرق قلبه والإنسان طبيب نفسه في هذا المكان , لكن ينبغي أن يغتنم آخر النهار بالدعاء ويتفرغ له تفرغاً كاملاً .
91 – وجوب الوقوف بعرفة حتى تغرب الشمس لأن النبي صلى الله عليه وسلم وقف حتى غربت الشمس وقال : « لتأخذوا عني مناسككم » (104) ولأن الدفع قبل غروب الشمس مخالفة لهدي النبي صلى الله عليه وسلم وموافقة لهدي المشركين لأن المشركين كانوا ينتظرون فإذا قربت الشمس إلى الغروب دفعوا من عرفة فخالفهم النبي صلى الله عليه وسلم. ولأن في ذلك نقصاً في الوقوف الذي هو الركن ومعلوم أن الأركان أفضل من الواجبات والواجبات أفضل من السنن لأنه كلما تأكدت العبادة كانت أفضل لقوله تعالى في الحديث القدسي « وما تقرب إلي عبدي بشيء أحب إلي مما افترضته عليه »(105) .
ويدل أيضاً على أن ذلك للوجوب تأخر النبي صلى الله عليه وسلم حتى تغرب الشمس لأنه لو دفع قبل أن تغرب لكان أيسر فلما عدل عن ذلك إلى البقاء حتى غربت الشمس دل على أن الدفع قبل هذا محرم ولو كان جائزاً لفعله النبي صلى الله عليه وسلم لأنه أيسر.
92 – أنه ينبغي لإمام الناس أو من ينيبه أن يحث الناس على السكينة فرجال المرور مثلاً ينوبون مناب الإمام في تدبير الناس وتنظيم السير والأمر بالسكينة لأن النبي صلى الله عليه وسلم نظم السير في قوله : « السكينة السكينة » فإن هذا نوع من تنظيم السير.
93 – أنه ينبغي للإمام بل يجب على الإمام أن يكون أول من يبادر إلى ما يأمر به ودليله أن الرسول صلى الله عليه وسلم دفع وقد شنق للقصواء الزمام وما كان ليقول للناس السكينة السكينة وهو تاركها تمشي بسرعة، بل هو أول من يفعل ذلك عليه الصلاة والسلام وهكذا الإمام الذي يقتدي به سواء كان إماماً في التنفيذ أو إماماً في العلم فإنه يجب عليه أن يتحرى اتباع الرسول صلى الله عليه وسلم لأنه يقتدى به فأي فعل يفعله سوف يقتدى به الناس، والناس في هذا المقام بالنسبة إلى القدوة بين أمرين بين محتج بفعله على ما يهواه وبين محتج عليه بمخالفته وبينهما فرق فالإنسان الذي له هوى ولا يريد اتباع السنة يحتج بتقصير القدوة على تقصيره فيقول مثلاً : هذا فلان لا يفعل هذا وهذا فلان فعل هذا مثلا والإنسان الذي يريد من المقتدى به أن يتبع السنة يحتج بفعله وتهاونه بالسنة عليه ولا يحتج بفعله على ما يفعله هذا المتكاسل فهذا أمر ينبغي لطلبة العلم أن يتفطنوا له لأن طالب العلم يقتدى به ويؤخذ عليه ما لا يؤخذ على غيره ليس كعامة الناس ولهذا كثير ما تأمر الناس بشيء ثم يقولون لك فلان يفعله من طلبة العلم يحتج بفعله حتى وإن كان هذا الرجل قد تبين له أن الحق بخلافه، لكن يريد أن يدافع عن نفسه ولو بالباطل كما هو ظاهر .
94 – حسن رعاية النبي صلى الله عليه وسلم لما استرعاه الله حتى في البهائم ؛ وجه ذلك أنه كلما أتى حبلاً من الحبال أرخى لناقته قليلاً فإن هذا من حسن رعايته لها ورأفته بها صلى الله عليه وسلم فرسول الله صلى الله عليه وسلم أحسن الرعاية في البشر حيث يقول السكينة السكينة وأحسن الرعاية في البهيمة حيث يرخي لها قليلاً حتى تصعد إذا أتى حبلاً من الحبال .
95 – أن المشروع للحاج أن لا يصلى المغرب والعشاء إلا في مزدلفة . لأن النبي صلى الله عليه وسلم أخر ذلك إلى مزدلفة ووجه هذا : أن المشروع في حق المسافر إذا جد به السير ألا يقف فيقطع سيره . ولهذا كان من هدي الرسول صلى الله عليه وسلم أنه إذا ارتحل قبل أن تزيغ الشمس أخر الظهر إلى العصر . وإن ارتحل بعد أن تزيغ الشمس قدم العصر إلى الظهر حتى يكون سيره مستمرا متواصلا .
نقول : هذا هو السنة حتى لو تأخر الإنسان . إلا إذا تأخر حتى انتصف الليل فإنه يجب عليه أن يصلي صلاة العشاء قبل منتصف الليل وصلاة المغرب أيضاً وذلك لأن منتهى صلاة العشاء نصف الليل فلا يجوز أن يؤخرها إلى ما بعد نصف الليل .
فإن قال قائل : افرض أنني حبست في سير السيارات ولم أستطع الرجوع ولا التقدم ولا الخروج يمينا أو شمالا ؟
نقول : من أمكنه أن ينزل من الركاب فلينزل ويصلي يميناً أو شمالاً قبل أن يخرج الوقت , ومن لم يمكنه فليصل ولو على ظهر السيارة ويأتي بما يستطيع من الواجبات على حسب حاله . ولا يجوز أن يؤخر الصلاة إلى ما بعد نصف الليل ، لأن القول الراجح أنه لا وقت للعشاء بعد منتصف الليل .
96 – أن الجمع يكون جمع تأخير لأن النبي صلى الله عليه وسلم جَمَعَ جَمْعَ تأخير ولكن هل هذا مراد ؟ أو لأن سير النبي صلى الله عليه وسلم كان متواصلاً إلى أن دخل وقت العشاء ؟
الذي يظهر الثاني ، لأن هذا هو هدي النبي صلى الله عليه وسلم وبناء على ذلك لو أن الإنسان وقف في أثناء الطريق وصلى فإن القول الذي عليه جمهور أهل العلم أن صلاته صحيحة خلافاً لبعض الظاهرية كابن حزم (106) رحمه الله حيث قال : لا تصح صلاة المغرب والعشاء في ليلة مزدلفة إلا بمزدلفة ، واستدل بقول النبي صلى الله عليه وسلم لأسامة رضي الله عنه ، لما توضأ النبي صلى الله عليه وسلم قال : يا رسول الله ، الصلاة ؟ قال : « الصلاة أمامك » (107) .
ولكن رأي الجمهور هو الصحيح .
فإن وصل في وقت صلاة المغرب فما المشروع في حقه ؟
قيل : المشروع أن يؤخر أيضاً لأن النبي صلى الله عليه وسلم أخر الصلاة .
وقيل : المشروع أن يقدم الجمع بين الصلاتين لأن النبي صلى الله عليه وسلم صلى من حين وصل إلى مزدلفة , وكون الجمع يكون تأخيراً لأن هذا وقع اتفاقاً ، لأن سير الرسول صلى الله عليه وسلم كان بعيداً وبطيئاً، لأنه على الإبل، فأما إذا كان في السيارات وقد وصل في وقت المغرب فليصل متى وصل ولو كان تقديماً ، والحقيقة أن الدليلين متجاذبان .
فقد نقول : إن المشروع أن يبادر بالصلاة متى وصل ، لأن هذا كالتحية لمزدلفة كما قلنا في منى أن التحية لها الرمي .
وقد يقال : إن الإنسان يؤخر اقتداء برسول الله صلى الله عليه وسلم .
ولكن قد روى البخاري عن عبدالله بن مسعود رضي الله عنه أنه قدم مزدلفة عشاءً أو قريباً من العشاء فأذن وصلى المغرب ، ثم دعا بعشائه فتعشى ثم أذن فصلى العشاء (108) وهذا يدل على أنه رضي الله عنه لما وصل في هذا الوقت رأى ألا يجمع وأن يصلي المغرب ويتعشى ثم يصلي العشاء وحدها ، والدليل على أنه صلى العشاء وحدها أنه أذن لها ، ولو كانت مجموعة إلى الأولى لم يؤذن . وبناء على هذا الذي ورد عن ابن مسعود رضي الله عنه نقول : من وصل مبكراً فليصل المغرب ثم لينتظر حتى يأتي العشاء فيؤذن ويصلي العشاء ؟
فإن قال الحاج: الأيسر لي والأسهل عليّ أن أصلي المغرب من حين أن أصل وأصلي معها العشاء وأستريح فهل تبيحون لي ذلك ؟
فالجواب : نعم نبيح له ذلك لأنه مسافر ، والصحيح أن المسافر له الجمع ، وإن كان نازلاً فنقول : لك أن تجمع الآن إذا كان أيسر لك كما هو الغالب ، لأن بعض الناس يكون محتاجاً إلى البول ، فيحب أن يصلي المغرب والعشاء ويستريح فإذا كان هذا أريح له أو أريح لأصحابه أيضا حتى لو فرضنا أنه هو بنفسه يحب أن يصلي المغرب وحدها ، والعشاء وحدها في الوقت ، ولكن رأى أن أصحابه أيسر لهم فلا حرج أن يتبع أصحابه في الأيسر اقتداء برسول الله صلى الله عليه وسلم حيث اتبع الأيسر لأصحابه في الصيام مع محبته للصيام .
97 – أنه لا يشرع للمسافر أن يصلي راتبة المغرب، لأن النبي صلى الله عليه وسلم لم يصل راتبة المغرب في السفر كما لم يصل للظهر ، وكذلك للعشاء . أما راتبة الفجر فلم يكن يدعها لا حضراً ولا سفراً .
98 – أنه لا يشرع ليلة مزدلفة تهجد ولا قراءة ولا شيء من العبادات التي تمنع من النوم ، إذ لو كان هذا مشروعاً لفعله النبي صلى الله عليه وسلم تبليغاً للشرع أو لأرشد الأمة إليه بقوله ، فلما لم يحصل هذا ولا ذاك علم بأنه ليس بمشروع .
فإن قال قائل : إذا لم يستطع الإنسان أن ينام في مزدلفة ليلة العيد بسبب إزعاج السيارات – مثلاً – هل له أن يشتغل بالذكر والدعاء والصلاة ؟
نقول له : نعم اذكر الله , وأما الصلاة فإن كان لا يراه أحد فلا بأس , وإن كان يرى فلا , لأنه لو رآه أحد وهي ليلة مباركة اقتدى به , ولا يعلم أنه معذور ولا سيما إذا كان طالب علم ومحل اقتداء .
99 – أنه لا تجوز صلاة الفجر ولا غيرها حتى يتبين دخول الوقت . لقوله : « صلى الفجر حين تبين له الصبح » .
100 – أنه ينبغي المبادرة في صلاة الفجر ليلة المزدلفة ، دليله « حتى تبين » يعني من حين ما تبين صلى ، وهو دليل على أن المشروع في الفجر ليلة المزدلفة أن يبادر بها مبادرة غير المبادرة المعتادة المعروفة .
أما ما يفعله بعض الناس اليوم من كونهم يؤذنون إذا مضى ثلثا الليل ، من حين يمضي ثلثا الليل تسمع المؤذنين للفجر ، فهذا خطأ عظيم والحكومة وفقها الله لم تقصر ، كانت تطلق المدفع في تلك الليلة فلا عذر لأحد لكن هؤلاء المساكين تجد الواحد منهم ينام قليلاً ثم يمل من النوم ووقت الفجر عنده إذا قام من النوم ، متى ما قام فهذا وقت الفجر ، أو أنهم يحبون أن يتعجلوا ويمشوا إلى منى ، وأيا كان فإن الواحد منا إذا سمع أحداً يؤذن للفجر قبل الوقت يجب أن ينبهه حتى لا يصلي الفجر قبل وقتها فتفوت عليه فريضة من فرائض الصلوات لكن الغالب على هؤلاء الجهل .
101 – مشروعية الأذان والإقامة في الحضر وفي السفر ، وهل هذه المشروعية على سبيل الوجوب ؟
الجواب : نعم على سبيل الوجوب ، فيجب الأذان في السفر والحضر ، والإقامة في الحضر والسفر وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم لمالك بن الحويرث رضي الله عنه ومن معه : « إذا حضرت الصلاة فليؤذن لكم أحدكم » (109) وهم وافدون إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم مسافرون فأمرهم بالأذان ، مع أنهم مسافرون ، فالمسافرون عليهم الأذان كما على المقيمين .
وهل عليهم صلاة الجماعة ؟
الجواب : نعم ، ومن هنا نأخذ فائدة أيضاً :
102 – مشروعية صلاة الجماعة في الحضر والسفر ، وهي على الوجوب ، فيجب على المسافر صلاة الجماعة كما يجب على المقيم ولا فرق ، بل قد أوجب الله صلاة الجماعة في حال القتال ، وقتال الرسول صلى الله عليه وسلم كان كله في السفر .
103 – قصد المشعر الحرام (110) والوقوف عنده في صبيحة يوم العيد ؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم ركب وقصد المشعر الحرام ، ولكن هل هذا على سبيل الوجوب ؟
الجواب : لا ؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: « وقفت هاهنا وجمع كلها موقف »(111) فكل مزدلفة موقف ، ولا يلزمك أن تشد الرحل إلى المشعر الحرام لتقف عنده .
104 – أنه ينبغي التفرغ بعد صلاة الفجر يوم العيد للدعاء والتكبير والتهليل والذكر إلى أن يقرب طلوع الشمس ، والدليل : « فدعاه وكبره وهلله ولم يزل واقفا حتى أسفر جداً » إذاً فيسن التفرغ للدعاء والذكر في هذه المدة إلى أن يسفر جداً .
105 – تواضع النبي صلى الله عليه وسلم حيث أردف الفضل بن عباس رضي الله عنهما دون أشراف القوم وأردف في دفعه من عرفة إلى مزدلفة أسامة بن زيد رضي الله عنه وهو مولى .
106 – جواز الإرداف على الدابة ، لأن الإرداف لو كان حراماً ما أردف النبي صلى الله عليه وسلم الفضل بن عباس ولكن يشترط لذلك أن تكون الدابة قوية وقادرة على تحمل الرديف ، فإن كانت هزيلة ضعيفة والإرداف يشق عليها فإن ذلك لا يجوز لقول النبي صلى الله عليه وسلم : « إن الله كتب الإحسان على كل شيء »(112) .
107 – عدم جواز نظر الرجل إلى المرأة الأجنبية كما استدل به النووي وغيره من أهل العلم لأن النبي صلى الله عليه وسلم صرف وجه الفضل إلى الشق الآخر .ولكن إذا كان لشهوة فهو حرام بلا شك وإذا كان لغير شهوة فإن الذي تدل عليه النصوص الأخرى أنه لا يجوز له النظر إليها وأنه يجب عليها أن تحتجب لئلا ينظر إليها .
108 – مشروعية تغيير المنكر باليد لقوله : « فجعل النبي صلى الله عليه وسلم يصرف وجه الفضل إلى الشق الآخر » .
109 – جواز التغيير قبل الأمر لأن الرسول صلى الله عليه وسلم جعل يصرف وجهه دون أن يقول له التفت أو اصرف وجهك . وعلى هذا فينظر الإنسان هل الأصلح أن يأمر أولاً ثم يغير أو أن يغير أولاً قبل أن يأمر فيرجع ذلك إلى ما فيه المصلحة .
110 – أنه ينبغي الإسراع في بطن محسر ، وهو الوادي الذي بين مزدلفة ومنى ؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم أسرع فيه . والأصل فيما فعله في هذه العبادة أنه من التعبد وليس من العادة حتى يتبين أنه عادة . والظاهر أنه لا يمكن الإسراع الآن ؛ لأن الإنسان محبوس بالسيارات فلا يمكن أن يتقدم أو يتأخر وربما ينحبس في نفس المكان فيعجز أن يمشي ولكن نقول : هذا شيء بغير اختيار الإنسان فينوي بقلبه أنه لو تيسر له أن يسرع لأسرع وإذا علم الله من نيته هذا فإنه قد يثيبه على ما فاته من الأجر والثواب .
111 – أنه ينبغي للإنسان القادم إلى منى من مزدلفة أن يسلك أقرب الطرق إلى جمرة العقبة ، لفعل النبي صلى الله عليه وسلم ، وهكذا ينبغي للإنسان في أسفاره أن يسلك أقرب الطرق إلى حصول مقصوده .
112 – أنه ينبغي المبادرة برمي الجمرة بحيث لا يقدم عليها نسكاً ولا تنزيل رحل ولا نزولاً في مكان ، بل يبادر بها أول ما يقدم وهذا هو الأفضل .
113 – أن من رخص له أن يدفع من مزدلفة في آخر الليل له أن يبدأ بالجمرة جمرة العقبة فيرميها حين وصوله ،وأما ما ورد عن النبي صلى الله عليه وسلم من النهي عن هذا في قوله: « أبني لا ترموا حتى تطلع الشمس » (113) فقد ضعفه كثير من أهل العلم رحمهم الله ، وإن صح فإنه يحمل على الاستحباب لا على الوجوب . وإلا فكل من جاز له الدفع من مزدلفة جاز له الرمي ، وإلا لما استفاد شيئا ، فكيف يرخص له أن يدع نسكاً من المناسك التي نص القرآن عليها ويبقى في منى ساكناً حتى طلوع الشمس .
114 – أن غسل حصى رمي الجمار بدعة لأن النبي صلى الله عليه وسلم لم يغسله ولم يأمر به أصحابه .
115 – أنه لا رمي في يوم العيد إلا لجمرة العقبة ، لأن النبي صلى الله عليه وسلم لم يرم سواها ، فلو رمى الإنسان الثلاث لكان مبتدعاً ، وإن رماها جهلاً فليس عليه شيء.
116 – مشروعية الرمي راكباً ما لم يكن في ذلك أذية .
117 – أنه يجب أن يرمي الجمار رمياً ، فلا يجزئ الوضع بل لا بد من الرمي .
وهل يشترط أن يرفع يده حتى يرى بياض إبطه ؟
الجواب : لا ، ولكن يرمي قذفا فلو أخذ الحصاة ووضعها في الحوض وضعاً فإن ذلك لا يجزئ .
118 – أنه لا بد من سبع حصيات لقوله « فرماها بسبع حصيات » فلو رمى بخمس أو بثلاث أو بأربع لم يجزئ .
ولكن رخص بعض أهل العلم رحمهم الله (114) بجواز الرمي بخمس أو ست ، قال : لأن الصحابة رضي الله عنهم كانوا ينصرفون من الرمي ، فيقول بعضهم رميت بخمس ، وبعضهم بست ، وبعضهم بسبع ، ولا ينكر أحد على أحد ، ولكن لا شك أن الأحوط أن لا يقتصر على ما دون السبع ، لأن هذا هو هدي النبي صلى الله عليه وسلم .
119 – أنه لا يجوز الزيادة على السبع لقوله : « فرماها بسبع حصيات ».
120 – أنه لا بد أن تكون السبع متعاقبات لقوله : « رماها بسبع » فإن ظاهره أن كل واحدة تكون مرمية ، فلابد أن تكون متعاقبات ولهذا قال « يكبر مع كل حصاة » وهذا كالنص الصريح على أنه لابد من التعاقب ، فلو رماها دفعة واحدة لم يجزئه إلا واحدة ولا يجزئه السبع هذا ما لم يكن قصد التعبد وهو يعلم أن الرسول صلى الله عليه وسلم رمى سبعا متعاقبة ، فإن نوى التعبد مع علمه بأن الرسول صلى الله عليه وسلم رمى بسبع متعاقبة فإن ذلك لا يجزئ لأنه صريح بمخالفة السنة ، فيكون عملا ليس عليه أمر الله ورسوله فيكون مردودا ، ولو رماها سبعاً من شدة الزحام دفعة واحدة تكون واحدة
فإن قال قائل : ألستم في الحدود تقولون إن المريض إذا كان لا يحتمل أن يضرب ضرباً متعاقباً بالسوط فإنه يجمع ضغثاً من النخل ويضرب به مرة واحدة ؟
فالجواب : أن هذا قام عليه الدليل ، وهو أيضا من باب العقوبة ، والعقوبة ينبغي فيها التخفيف إذا لم يستطع ، بخلاف هذا ، فهو عبادة ، ولهذا لا يجوز للمريض الذي يشق عليه أن يصلي أربعا أن يصلي ركعتين .
121 – أنه يستحب التكبير عند الرمي وأن يكون مع كل حصاة .
122 – أنه لا يستحب البسملة هنا ، وإن كان بعض الناس يسمي فيقول : بسم الله والله أكبر .
123 – أنه لا يسن أن يقول ما يقوله العامة اللهم رضا للرحمن وغضباً للشيطان ؛ فإن هذا لم يرد عن النبي صلى الله عليه وسلم , ومن باب أولى أنه لا يسن في هذه الحال سب الشيطان ولعنه وما أشبه ذلك من الكلمات التي يقولها جهال الناس .
124 – ضلال من يرمي بالأحجار الكبيرة أو بالنعال أو بالمظلات أو ما أشبه ذلك مما يفعله الجهال , وكل هذا من اعتقادهم أنهم يرمون الشيطان .
125 – أنه لا يجزئ الرمي بغير الحصى ، فلو رمى بذهب لم يجزئه ؛ لأن العبادات مبناها على التوقيف والاتباع ، ولو رمى بمدر ( وهو الطين المجفف ) لم يجزئه ، ولو رمى بقطعة من الإسمنت فإنه لا يجزئ ، ولو رمى بجص أو بخشب أو بأي مادة من المواد أو معدن من المعادن سوى الحصى فإنه لا يجزئ ، لأن النبي صلى الله عليه وسلم رمى بحصى .
126 – أنه لا يجزئ الرمي بالحصاة الكبيرة ولا الصغيرة جداً ، أما الصغيرة التي دون حصى الخذف لكن ليست صغيرة جداً فإنها تجزئ ، والكبيرة لا تجزئ لقوله : « كل حصاة منها مثل حصى الخذف » فالنبي صلى الله عليه وسلم رمى بهذا وقال: « خذوا عني مناسككم » (115) بل رفع إليه ابن عباس رضي الله عنهما حصيات فأخذها بكفه وجعل يحركها ويقول: « بأمثال هؤلاء فارموا وإياكم والغلو في الدين »(116).
127 – أنه يسن رمي جمرة العقبة من بطن الوادي لقوله : « رمى من بطن الوادي ».
128 – أنه يسن استقبال جمرة العقبة لا القبلة عند الرمي ، خلافاً لمن قال: إنه يستقبل القبلة ويجعل الجمرة عن يمينه ويرمي من اليمين ، فإن هذا ليس بصحيح ، لأنه خلاف موقف رسول الله صلى الله عليه وسلم من وجه ، ومن وجه آخر أنه في زمننا هذا متعذر .
فإن قال قائل : أليس الأصل في العبادات استقبال القبلة ؟
فالجواب : إن سلمنا أن هذا هو الأصل فقد دل الدليل على عدمه في هذه المسألة .
129 – أنه لا يشرع الوقوف للدعاء بعد رمي جمرة العقبة .
130 – أن النحر بعد الرمي لقوله : « ثم انصرف إلى المنحر فنحر » .
131 – أنه ينبغي لذوي الأمر أن يرتبوا المكان للحجاج بحيث يجعلوا للنحر مكاناً خاصاً لقوله : « ثم انصرف إلى المنحر » لأنه إذا جعل للنحر مكاناً خاصاً سلم الناس من الروائح الكريهة والتلويث والأذى وغير ذلك فإذا جعل للنحر منحر خاص ، فذلك أسلم وأقرب إلى الإحاطة بهذا الأذى والقذر .
132 – أنه ينبغي للإنسان أن ينحر هديه بيده لقوله : « فنحر » فإذا قال قائل : ألا يمكن أن يكون قوله : « فنحر » أي أمر من ينحر ؟
قلنا : هذا ممكن ، ولكن الأصل في إضافة الفعل إلى فاعله أن يكون الفاعل مباشراً للفعل ، ولهذا جاء التفصيل في حديث جابر رضي الله عنه المذكور أنه صلى الله عليه وسلم نحر ثلاثاً وستين بيده وأعطى علياً رضي الله عنه فنحر الباقي ، وهكذا ينبغي للإنسان أن ينحر هديه وأضحيته بيده ، لأن ذلك أتبع للسنة وأشد طمأنينة للقلب أن تكون ذبحتها على الوجه المشروع ولأن هذا عبادة فينبغي للإنسان أن يفعله بنفسه ويتفرع منها :
133 – خطأ الفكرة السائدة بين الناس اليوم وهو أن المقصود من الأضحية هو اللحم ولهذا تجدهم يرسلون الدراهم إلى البلاد النائية البعيدة بدلاً عن الأضحية ويقولون هم أحوج منا.
نقول : ليس المقصود من الأضحية هو اللحم ، المقصود هو التقرب إلى الله بالذبح هذا أهم شيء في الأضحية أن تذبحها أنت بنفسك تذللاً لله عز وجل وتعظيماً له وتقرباً إليه فإن لم تستطع فوكل من يذبح كما وكل النبي صلى الله عليه وسلم ابن عمه علي بن أبي طالب رضي الله عنه أن يذبح ما بقي من هديه ، ثم إذا ذبحت وتقربت إلى الله فإن شئت فكل وإن شئت فتصدق بها كلها .
ولهذا لما نزلت بالمسلمين فاقة في إحدى السنوات لم يقل تصدقوا بالطعام أو تصدقوا بالدراهم بل قال : اذبحوا لكن لا تدخروا فوق ثلاث . وفي العام الثاني لما زالت الفاقه قال : كلوا وادخروا ما شئتم .
فالمهم أنه يجب على طلبة العلم أن ينبهوا الناس على أن الذبح نفسه عبادة عظيمة ؛ ولهذا قرنه الله بالصلاة في قوله « فصل لربك وانحر » فلا ينبغي أن ترسل الشعائر تقام هناك وتترك الشعيرة هنا ولهذا كان من حكمة الله أن البلاد غير مكة تقام فيها هذه الشعيرة وهي التقرب إلى الله بالذبح لكن في مكة هدي وفي غيرها أضاحٍ.
وإذا كان يحب أن ينفع إخوانه في الجهة الأخرى فليرسل إليهم دراهم صدقة تطوعاً لله عز وجل .فهذه مسألة ينبغي أن يتنبه لها .
134 – وفيه دليل على تأكد الأكل من الهدي، لأنه عليه الصلاة والسلام أمر من كل بدنه بقطعة وكان يكفيه أن يأخذ من بدنه واحدة يأكل ما شاء لكن تحقيقا لقوله تعالى : { فكلوا منها } (117) .
135 – أنه يجوز التوكيل في ذبح الهدي ، لأن الرسول صلى الله عليه وسلم وكل علي بن أبي طالب رضي الله عنه أن ينحر الباقي ، ولكن لا ينبغي التوكيل إلا إذا دعت الحاجة إليه ،إما لكثرة الهدي أو لكون الذبح يشغله عما هو أهم ، لأن الرسول عليه الصلاة والسلام لا شك أن حاجات الناس تتعلق به في الاستفتاء وغيره ، فلهذا لما نحر ثلاثاً وستين أعطى علياً رضي الله عنه فنحر الباقي وهو سبع وثلاثون بعيراً.
136 – مشروعية إهداء الإبل لأن النبي صلى الله عليه وسلم أهدى إبلاً مائة بعير وأشرك علياً رضي الله عنه في هديه .
137 – وفيه دليل على كرم النبي صلى الله عليه وسلم حيث أهدى مائة بدنة عن سبعمائة شاة. وكثير من الناس اليوم يشق عليه إهداء شاة واحدة حتى إنه يختار النسك المفضول على الفاضل تفادياً للهدي .
138 – أنه ينبغي أن يفيض إلى مكة ليطوف ضحى يوم النحر ، لأن الرسول صلى الله عليه وسلم أفاض ضحى يوم النحر قبل أن يصلي الظهر بعد أن أكل من لحم هديه، لأنه أمر من كل بدنة بقطعة فجعلت في قدر فطبخت فأكل من لحمها وشرب من مرقها .
139 – أنه ينبغي أن يصلي الظهر يوم العيد بمكة ؛ لأن الرسول صلى الله عليه وسلم صلى الظهر بمكة، لكن قد ثبت في الصحيحين أنه صلاها بمنى (118) ، فاختلف العلماء في هذا :
فمنهم من سلك طريق الترجيح ، ومنهم من سلك طريق الجمع ، والصحيح سلوك طريق الجمع، لأن الحديثين كلاهما صحيح بلا شك ، وإذا صح الحديثان وأمكن الجمع لم يعدل إلى الترجيح . والجمع بينهما ممكن بأن يقال : إن الرسول صلى الله عليه وسلم صلى الظهر بمكة ثم خرج إلى منى فوجد بعض أصحابه لم يصل فصلى بهم إماماً، فتكون صلاته في منى معادة ، كما كان يفعل معاذ رضي الله عنه مع قومه ، يصلي مع النبي صلى الله عليه وسلم العشاء ثم يرجع إلى قومه فيصلي بهم تلك الصلاة (119).
140 – أن الله تعالى قد ينزل البركة للإنسان في وقته ، بحيث يفعل في الوقت القصير ما لا يفعل في الوقت الكثير ، وهذا شيء مشاهد ، ومن أعظم ما يعينك على هذا أن تستعين بالله عز وجل في جميع أفعالك بأن تجعل أفعالك مقرونة بالاستعانة بالله حتى لا توكل إلى نفسك لأنك إن وكلت إلى نفسك وكلت إلى ضعف وعجز ، وإن أعانك الله فلا تسأل عما يحصل لك من العمل والبركة فيه .
141 – أنه ينبغي الشرب من ماء زمزم ، لأن النبي صلى الله عليه وسلم شرب من ماء زمزم .
فإن قال قائل : هل يفعل شيئا آخر غير الشرب كالرش على البدن أو على الثوب أو أن يغسل به أثواباً يجعلها لكفنه كما كان الناس يفعلون ذلك من قبل ؟
فالجواب : لا. فنحن لا نتجاوز في التبرك ما ورد عن النبي صلى الله عليه وسلم وهذا لم يرد عن النبي صلى الله عليه وسلم فلا نتجاوز إليه بل ما ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أخذنا به وإلا فلا.
142 – أنه ينبغي على من شرب من ماء زمزم أن يتضلع منه لأن هذا الماء خير , وقد ورد حديث في ذلك لكن فيه نظر وهو ( أن آية ما بين أهل الإيمان والنفاق التضلع من ماء زمزم) (120) وذلك لأن ماء زمزم ليس عذباً حلواً بل يميل إلى الملوحة والإنسان المؤمن لا يشرب من هذا الماء الذي يميل إلى الملوحة إلا إيماناً بما فيه من البركة فيكون التضلع منه دليلاً على الإيمان .
143 – وفيه أن أفعال النبي صلى الله عليه وسلم أسوة ؛ لقوله لبني عبد المطلب : « انزعوا بني عبد المطلب فلولا أن يغلبكم الناس على سقايتكم لنزعت معكم » لأنه لو نزع لكان سنة يأخذ بها الناس وحينئذ يغلبونهم على السقاية .
144 – وفيه تواضع النبي صلى الله عليه وسلم حين شرب من الدلو الذي يشرب منه الناس ، ناولوه دلواً فشرب منه عليه الصلاة والسلام وظاهر الحال أنه شرب قائماً فقيل شرب قائماً لضيق المكان وقيل إنه شرب قائماً من أجل أن يتضلع منه أي من ماء زمزم لأن الإنسان إذا شرب قائما تضلع من الماء أكثر والله أعلم .
المهم أن هذا الحديث من أطول الأحاديث في صفة حج النبي صلى الله عليه وسلم ولهذا جعله الشيخ الألباني(121) - حفظه الله - أصلاً لصفة حج النبي صلى الله عليه وسلم وبنى منسكه المعروف المشهور على هذا وزاد فيه ما زاد .
والحمد لله رب العالمين , وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين
------------------
(79) " لأن النبي صلى الله عليه وسلم أهل دبر الصلاة" أخرجه الإمام أحمد 1/285 والترمذي في الحج / باب ما جاء متى أحرم النبي صلى الله عليه وسلم 819، والنسائي في الحج / باب العمل في الإهلال 5/162 عن ابن عباس رضي الله عنهما .
(80) أخرجه البخاري في كتاب الحج / باب من أهل حين إستوت به راحلته قائمة (1552) ولفظه (أهل النبي صلى الله عليه وسلم حين استوت به راحلته قائمة). وأخرجه مسلم في الحج / باب التلبية وصفتها ووقتها (1184) ولفظه : (ثم استوت به الناقة قائمة عند مسجد الحليفة أهل بهؤلاء الكلمات ).
(81) أخرجه الإمام أحمد 1/260 وأبو دادو في المناسك / باب في وقت الإحرام (1770) وضعفه المنذري في تهذيب السنن (1696).
(82) أخرجه أبو داود في المناسك / باب كيفية التلبية (1814) والترمذي في الحج / باب ما جاء في رفع الصوت بالتلبية (829) والنسائي في المناسك / باب رفع الصوت بالإهلال (2753) وابن ماجه في المناسك / باب رفع الصوت بالتلبية (2922) .
(83) أخرجه مسلم في الحج / باب التقصير في العمرة (1248) عن جابر وأبي سعيد الخدري رضي الله عنهما ولفظه : (قالا : قدمنا مع النبي صلى الله عليه وسلم ونحن نصرخ بالحج صراخاً) .
(84) أخرجه البخاري في الجهاد / باب ما يكره من رفع الصوت في التكبير وأخرجه مسلم في الذكر والدعاء / باب استحباب خفض الصوت بالذكر (2704) عن أبي موسى رضي الله عنه واللفظ لمسلم .
(85) سورة الحج : آية 27 .
(86) سورة الفتح : آية 29.
(87) سورة التوبة : آية 120.
(88) سورة البقرة آية 158.
(89) سورة البقرة آية 196.
(90) سبق تخريجه رقم 42 .
(91) المحصب : بالضم ثم الفتح وصاد مهملة مشددة ، اسم مفعول من الحصباء أو الحصب وهو الرمي بالحصى وهي صغار الحصى وكباره: وهو موضع فيما بين مكة ومنى وهو إلى منى أقرب . معجم البلدان 5/74.
(92) أخرجه البخاري في الحدود / باب كراهية الشفاعة في الحد إذا رفع (6788) ومسلم في الحدود / باب قطع يد السارق الشريف (1688) عن عائشة رضي الله عنها .
(93) سورة طه : آية 123.
(94) سورة الأحزاب : آية 21.
(95) سورة الحشر : آية 7 .
(96) سورة آل عمران : آية 31.
(97) سورة الأعراف : آية 158.
(98) سورة البقرة : آية 255.
(99) الفتاوى 24/54.
(100) سبق تخريجه رقم 56 .
(101) أخرجه مسلم في كتاب الحج / باب استحباب رمي جمرة العقبة 2/943 وابو داود كتاب المناسك / باب رمي الجمار 1/456 والنسائي في المناسك / باب الركوب إلى الجمار 5/ 219.وابن ماجه في المناسك / باب الوقوف بجمع 2/1006.
(102) أنظر الفتاوى 26/132.
(103) أخرجه الترمذي في الدعوات / باب في دعاء يوم عرفة (3585) عن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما والإمام أحمد 2/210 عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما ولفظه :"كان دعاء رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم عرفة لا إله إلا الله ..." وقال الترمذي : حسن غريب من هذا الوجه .
(104) سبق تخريجه رقم 102.
(105) أخرجه البخاري في الرقائق / باب التواضع (6502).
(106) أنظر المحلي 5/121.
(107) سبق تخريجه رقم 61.
(108) أخرجه البخاري في كتاب الحج / باب من أذن وأقام لكل واحدة من الصلاتين (1675).
(109) أخرجه البخاري في كتاب الأذان / باب الأذان للمسافرين (631) ومسلم في كتاب المساجد / باب من أحق بالإمامة (674)
(110) المشعر الحرام : هو في قوله تعالى : "فاذكروا الله عند المشعر الحرام" وهو في مزدلفة وجمع يسمى بهما جميعاً . معجم البلدان 5/156.
(111) سبق تخريجه رقم (56).
(112) أخرجه مسلم في الصيد والذبائح / باب الأمر بإحسان الذبح والقتل وتحديد الشفرة (1955).
(113) أخرجه أبو داود في كتاب المناسك / باب التعجيل من جمع 1/450.والنسائي في كتاب المناسك / باب النهي عن رمي جمرة العقبة قبل طلوع الشمس 5/220 وابن ماجه في كتاب المناسك / باب من تقدم من جمع 2/1007 وأحمد 1/234 – 311 – 343 .
(114) انظر المغني 5/330.
(115) سبق تخريجه رقم 102 .
(116) سبق تخريجه رقم 69 .
(117) سورة الحج : آية 28.
(118) اخرجه مسلم في الحج / باب استحباب طواف الإفاضة يوم النحر (1308) عن ابن عمر رضي الله عنهما ولفظه : "أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أفاض يوم النحر . ثم رجع فصلى الظهر بمنى".
(119) أخرجه البخاري في الأدب / باب من لم ير إكفار من قال ذلك متأولاً أو جاهلاً (6106) وأخرجه مسلم في الصلاة / باب القراءة في العشاء (465) عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما .
(120) أخرجه ابن ماجه في المناسك / باب الشرب من ماء زمزم (1017).
(121) هو العلامة المحدث المحقق محمد بن ناصر الدين الألباني ولد عام 1332هـ في مدينة أشقودرة عاصمة ألبانيا آنذاك ونشأ في أسرة فقيرة ومن بيت علم ، وكان رحمه الله تعالى حريصاً جداً على العمل بالسنة ومحاربة البدعة ودعوة الناس إلى منهج السلف الصالح توفي رحمه الله عصر يوم السبت الثاني والعشرون من جمادى الآخرة لعام 1420هـ
1- أن حجة النبي صلى الله عليه وسلم كانت في السنة العاشرة من الهجرة لقوله « ثم أذن في الناس في العاشرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم حاج » فإن قال قائل لماذا لم يحج النبي صلى الله عليه وسلم في السنة التاسعة أو في السنة الثامنة أو في السنة السابعة مثلا ؟ قلنا أما ما قبل الثامنة فلا يمكن أن يحج لأنها قبل الفتح وكانت مكة تحت سيطرة المشركين وقد ردوه عن العمرة فكيف عن الحج ؟!.
وأما في السنة الثامنة بعد الفتح فكان مشتغلا عليه الصلاة والسلام بالجهاد فإنه لم يفرغ من ثقيف إلا في آخر ذي القعدة .
وأما في السنة التاسعة فقيل إنه لم يحج لأن هذا العام كان عام الوفود . فإن العرب كانوا ينتظرون فتح مكة ولما فتحت مكة انتظروا أيضا القضاء على ثقيف لأنهم أمة لهم قوة فلما قضى عليهم عليه الصلاة والسلام أذعنت العرب وصاروا يأتون أفواجا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم في المدينة فكان في المدينة ليلتقي هؤلاء الوفود يعلمهم دينهم عليه الصلاة والسلام .
وسبب آخر أنه في السنة التاسعة حج المشركون مع المسلمين فأراد النبي صلى الله عليه وسلم أن يكون حجه خالصاً للمسلمين ولهذا أذن في التاسعة ألا يحج بعد العام مشرك ولا يطوف بالبيت عريان . هذا إذا ما قلنا إن الحج فرض في التاسعة وإن قلنا إنه فرض في العاشرة فلا إشكال.
2- أن ميقات أهل المدينة ذا الحليفة . لقوله ( فخرجنا معه حتى أتينا ذا الحليفة ) .
3- أن الصحابة رضي الله عنهم من أحرص الناس على طلب العلم ذكورهم وإناثهم لقوله: (فولدت أسماء بنت عميس محمد بن أبي بكر فأرسلت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم كيف أصنع ) .
4- أن طلب العلم لا يختص بالرجال فكما أن الرجل يشرع له طلب العلم بل يتعين عليه إذا كانت عبادته لا تقوم إلا به فإنه يتعين عليه فكذلك المرأة ولا فرق .
5- أنه يستحب الغسل للإحرام للرجال والنساء حتى من لا تصلي فإنها تغتسل لقوله صلى الله عليه وسلم لأسماء بنت عميس : « اغتسلي » فأمرها أن تغتسل . وإذا كانت النفساء وهي لا تصلي تؤمر بالغسل فكذلك من سواها.
فإذا لم يجد المحرم الماء أو تعذر عليه استعماله لمرض أو غيره فهل يتيمم ؟
المشهور عند أهل العلم رحمهم الله أنه يتيمم قالوا لأن هذه طهارة مشروعه فإذا تعذرت عدلنا إلى التيمم كالاغتسال للواجب وقال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله لا يسن التيمم لأن هذا اغتسال ليس عن جنابة حتى يحتاج الإنسان فيه إلى رفع الحدث إنما هو اغتسال للتنظف والتنشط لهذا العمل فإذا لم يجد الماء فإنه لا يتيمم . وعلى كل حال إن تيمم الإنسان فلا بأس لأنه قال به من قال من أهل العلم .
6- أن الحيض أو النفاس لا يمنع انعقاد الإحرام كما لا يمنع دوامه بدليل قوله : « وأحرمي » . وبناء على ذلك فإن المرأة إذا وصلت إلى الميقات وهي حائض أو أصابها حيض فلا تقل : لن أحرم حتى أطهر بل نقول : أحرمي .
7- جواز الإحرام ممن عليه جنابة. وجه ذلك أنه أمر النفساء أن تحرم والنفاس موجب للغسل.
8- أنه ينبغي التلبية إذا استوى على البيداء لقوله : ( حتى إذا استوت به على البيداء أهل بالتوحيد).وهذه المسألة اختلف فيها العلماء رحمهم الله فمنهم من أخذ بحديث جابر رضي الله عنه وقال لا يلبي إلا إذا استوت به على البيداء .
ومنهم من قال : يلبي إذا صلى قبل أن يركب(79).
ومنهم من قال : بل يلبي إذا ركب كما دل عليه حديث ابن عمر رضي الله عنهما الثابت في الصحيح(80)
وللعلماء في هذه المسألة ثلاثة أقوال سلكوا منها مسلكين : فمنهم من سلك مسلك الترجيح ومنهم من سلك مسلك الجمع.
فالذين سلكوا مسلك الترجيح بعضهم رجح الإحرام من حين أن يصلي وبعضهم رجح الإحرام إذا استوى على ناقته إذا ركب وبعضهم قال : إذا استوت به على البيداء.
أما من سلك مسلك الجمع وهو المروي عن عبد الله بن عباس رضي الله عنهما كما رواه الحاكم وغيره فقال : إنه لا منافاة بين هذه الأمور الثلاثة لأن من الناس من سمع النبي صلى الله عليه وسلم يلبي حين صلى فقال : إنه لبى حين صلى ومنهم من سمعه يلبي حين ركب فقال : لبى حين ركب ومنهم من سمعه يلبي حين استوت به على البيداء فقال : لبى حين استوت به على البيداء )(81).
ولولا ما قيل في سند هذا الحديث لكان وجهه ظاهراً , لأنه يجمع بين الروايات .
ولكن الأحسن والأرفق بالناس أن لا يلبي حتى يستوي على ناقته لأنه قد يحتاج إلى شيء فقد يكون نسي أن يتطيب مثلا وقد يتأخر في الميقات بعد أن يصلي الركعتين ( ركعتي الوضوء ) أو الصلاة المفروضة مثلا فالأرفق به أن تكون تلبيته إذا استوى على ناقته وإن لبى قبل ذلك فلا حرج.
9- أن الإنسان لا ينقل إلا ما بلغه علمه فإن جابراً رضي الله عنه لم ينقل ما نقله عبد الله بن عمر رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم أهل حين استوى على ناقته بل قال حتى إذا استوت به على البيداء وهذا بعد ما ذكره عبد الله بن عمر رضي الله عنهما.
10- مشروعية رفع الصوت بالتلبية لقول النبي صلى الله عليه وسلم « أتاني جبريل فأمرني أن آمر أصحابي أن يرفعوا أصواتهم بالإهلال »(82) فينبغي للرجل أن يرفع صوته امتثالاً لأمر النبي صلى الله عليه وسلم واتباعاً لسنته وسنة أصحابه فقد قال جابر رضي الله عنه كنا نصرخ بذلك صراخاً(83) ولا يسمع صوت الملبي من حجر ولا مدر ولا شجر إلا شهد له يوم القيامة فيقول : أشهد أن هذا حج ملبياً . ومع الأسف أن كثيراً من الحجاج لا يرفعون أصواتهم بالتلبية إلا نادراً فإن قال قائل : أليس النبي صلى الله عليه وسلم قال لأصحابه وقد كبروا في سفر معه « أيها الناس اربعوا على أنفسكم – أي : هونوا عليها - فإنكم لا تدعون أصم ولا غائبا إن الذي تدعونه أقرب إلى أحدكم من عنق راحلته »(84).
قلنا : لكن التلبية لها شأن خاص لأنها من شعائر الحج فيصوت بها. أو يقال إن أمر النبي صلى الله عليه وسلم أن يهونوا على أنفسهم لأنهم كانوا يرفعون رفعاً شديداً يشق عليهم . وأما المرأة فتسر بها, لأن المرأة مأمورة بخفض الصوت في مجامع الرجال , فلا ترفع صوتها بذلك , كما أنها مأمورة إذا نابها شيء في الصلاة مع الرجال أن تصفق , لئلا يظهر صوتها , فصوت المرأة – وإن لم يكن عورة – يخشى منه الفتنة , ولهذا نقول : المرأة تلبي سراً بقدر ما تسمع رفيقتها ولا تعلن .
وهذا من الأحكام التي تخالف فيه المرأة الرجل . وهي كثيرة , لأنها كما خالفته خلقة وفطرة خالفته حكماً , والله عز وجل – حكيم , أحكامه الشرعية مناسبة لأحكامه القدرية .
مسألة : اختلف العلماء – رحمهم الله – هل يلبي وهو ماكث أو لا يلبي إلا وهو سائر ؟
الجواب : من العلماء من قال إنه يلبي وهو سائر فقط . وأما إذا كان ماكثاً أي : نازلاً في عرفات أو مزدلفة أو منى فإنه لا يلبي , لأن التلبية معناها الإجابة وهي لا تتناسب مع المكث , إذ إن المجيب ينبغي أن يتقدم إلى من يجيبه لا أن يجيب وهو باق , وهذا هو اختيار شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله وأنه لا يلبي إلا في حال السير بين المشاعر , ومنهم من: يقول يلبي حتى يرمي جمرة العقبة , سواءً كان ماكثاً أم سائراً .
11- مشروعية رفع الصوت بالتلبية من حين الإحرام . وقد اختلف أهل العلم رحمهم الله في التلبية ورفع الصوت بها جمهور العلماء إلى أنها سنة . وقال بعض العلماء إنها أي التلبية واجبة ؛ وهل يجب بتركها دم على قولين وقال آخرون إنها ركن لا ينعقد الإحرام إلا بها كتكبيرة الإحرام في الصلاة . وقال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله ينعقد بالنية مع التلبية أو سوق الهدي وهو قول الإمام أبي حنيفة ورواية عن الإمام أحمد وقال ابن حزم إن التلبية ورفع الصوت بها فرض فمن لم يلب في شيء من حجه أو عمرته أو لبى ولم يرفع صوته فلا حج له ولا عمرة .
12- مشروعية تعيين النسك في التلبية فإذا كان في العمرة يقول : لبيك اللهم عمرة , وفي الحج يقول : لبيك اللهم حجاً , وفي القران يقول : لبيك اللهم عمرة وحجاً .
13- أنه ينبغي للإنسان أن يستحضر أنه في مجيئه إلى مكة وإحرامه أنه إنما يفعل ذلك تلبية لدعـاء الله قال الله تعالى ) وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالاً وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِنْ كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ ((85) فالأذان بأمر الله يعتبر أذاناً من الله فإذا كان الله هو الذي أذن فأنا أجيبه وأقول : لبيك اللهم لبيك ….. الخ .
14- أن التلبية توحيد خالص لأن الإنسان يقول لبيك اللهم لبيك , ولبيك هذه جواب . جواب دعوة ولهذا إذا دعي أحدنا فقيل يا فلان قال للداعي لبيك وهي بصيغة التثنية ولكن المراد التكرار ومن ثم يقول النحويون إنها ملحقة بالمثنى لأن لفظها لفظ تثنيه ومعناها التكثير . والتلبية هي الإجابة فكأنك تقول يا رب إجابة لك بعد إجابة . وتكرر توكيداً .
15- الثناء على الله عز وجل بالحمد والنعمة فإنه هو المتفضل عز وجل بذلك ) وَمَا بِكُمْ مِنْ نِعْمَةٍ فَمِنَ اللَّهِ (.
16- انفراد الله بالملك لقوله (لك والملك لا شريك لك ).
17- جواز الزيادة على تلبية النبي صلى الله عليه وسلم لأنه صلى الله عليه وسلم كان يسمعهم يزيدون ولا ينكر عليهم . وممن زاد في التلبية عمر وابنه رضي الله عنهما لبيك وسعديك والرغباء إليك والعمل , وكما قال أنس رضي الله عنه منا المهل ومنا المكبر وكان النبي صلى الله عليه وسلم يسمعهم ولا يرد عليهم شيئا . لكن لزوم تلبية النبي صلى الله عليه وسلم أفضل وأتم في التأسي.
18- أن الناس كانوا لا يعرفون العمرة في أشهر الحج بل إن العرب في الجاهلية يرونها من أفجر الفجور ويقولون لا يمكن أن تأتي إلى مكة بعمرة وحج بل لا بد أن تأتي بعمرة في سفر وحج في سفر وهم ينظرون إلى ذلك من ناحية اقتصادية حتى يكثر الزوار والحجاج وتكون الأسواق أكثر اشتغالا.
19- أنه ينبغي للإنسان الحاج أو المعتمر أن يبادر حين الوصول إلى مكة إلى الذهاب إلى المسجد ليطوف لأن هذا هو المقصود ولا ينبغي أن يجعل غير المقصود مقدماً بل المقصود ينبغي أن يكون مقدماً على كل شيء .
20 – حرص الصحابة رضي الله عنهم على العلم بأفعال النبي صلى الله عليه وسلم ليتبعوه فيها .
21 – مشروعية البداءة في الطواف بالحجر الأسود فإن بدأ بدونه مما يلي الباب لم يعتد بالشوط.
22 – مشروعية استلام الحجر الأسود عند ابتداء الطواف لقوله (حتى إذا أتينا البيت معه استلم الركن) .
23 – مشروعية تقبيل الحجر الأسود في الطواف . وأما تقبيل غيره من الجمادات والأحجار فبدعة .
24 – مشروعية استلام الحجر الأسود والركن اليماني في الطواف بالبيت . ولا يشرع استلام غيرهما من أركان الكعبة أو جدرانها سوى هذين الركنين .
25 – أن السنة كما تكون بالفعل تكون كذلك بالترك فإذا وجد سبب الفعل في عهد النبي صلى الله عليه وسلم ولم يفعله دل هذا على أن السنة تركه .
26 – مشروعية الأضطباع في جميع الطواف وهل يبقى مضطبعاً بعد الطواف أو لا ؟ الصحيح أنه لا يبقى مضطبعاً . وأن الإنسان يستر منكبه من حين أن يفرغ من طوافه .
وقال بعض العلماء رحمهم الله : بل إنه يبقى مضطبعاً في السعي . ولكن الصحيح الأول .
27 – مشروعية الرمل في الأشواط الثلاثة الأولى من طواف القدوم دون الأربعة الباقية .
فإن قلت : ما الحكمة من الرمل في الطواف في الأشواط الثلاثة الأولى دون الأربعة الباقية ؟
فالجواب : أن الحكمة في ذلك تذكير المؤمنين بأصل هذا الرمل لأن أصله أن النبي صلى الله عليه وسلم قاضى أهل مكة في غزوة الحديبية على أن يرجع من العام القادم معتمرا . وأهل مكة أعداء للرسول صلى الله عليه وسلم وأصحابه، والعدو يحب الشماتة بعدوه فلما قدم النبي صلى الله عليه وسلم للعمرة قال بعضهم لبعض دعونا نجلس هنا ننظر إلى هؤلاء القوم الذين وهنتهم حمى يثرب كيف يطوفون . لأن عندهم أن هؤلاء قوم أصابهم المرض وأنهك قواهم يريدون بذلك الشماتة وجلسوا في شمالي الكعبة من جهة الشمال وهم ينظرون فأمر النبي صلى الله عليه وسلم أصحابه أن يرملوا ليظهروا الجلد والقوة والنشاط ليغيظوا الكفار وإغاظة الكفار أمر مقصود لله عز وجل كما قال تعالى :) مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ تَرَاهُمْ رُكَّعاً سُجَّداً يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَاناً سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِنْ أَثَرِ السُّجُودِ ذَلِكَ مَثَلُهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَمَثَلُهُمْ فِي الْأِنْجِيلِ كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ فَآزَرَهُ فَاسْتَغْلَظَ فَاسْتَوَى عَلَى سُوقِهِ يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفَّارَ ( (86) وقال تعالى :) وَلا يَطَأُونَ مَوْطِئاً يُغِيظُ الْكُفَّارَ وَلا يَنَالُونَ مِنْ عَدُوٍّ نَيْلاً إِلَّا كُتِبَ لَهُمْ بِهِ عَمَلٌ صَالِحٌ ( (87) أراد النبي صلى الله عليه وسلم من قومه أن يغيظوا الكفار لكنه أمرهم أن
يرملوا من الحجر إلى الركن اليماني دون ما بين الركنين لأنهم بين الركنين يختفون عن المشركين وأراد الرسول صلى الله عليه وسلم أن يرفق بأصحابه ولهذا جعل الرمل في الأشواط الثلاثة الأولى لأن الثلاثة أقل من الأربعة فاعتبر الأقل في جانب الصعوبة ثم إن اختيار الثلاثة دون الأربعة فيه القطع على وتر والله سبحانه وتعالى إذا تأملنا مشروعاته وجدنا غالبها مقطوعاً على وتر . ففي كون الرمل خاصاً بالأشواط الثلاثة الأولى فائدتان :
الأولى : اعتبار الأخف في باب المشقة .
الثانية : القطع على وتر .
أما في حجة الوداع فقد رمل النبي صلى الله عليه وسلم في الأشواط الثلاثة كلها من الحجر إلى الحجر لأن العلة التي من أجلها شرع الحكم وهو إغاظة الكفار الذين كانوا يشاهدون قد انقطعت فصار الرمل من الحجر إلى الحجر عبادة محضة ولم يكن القصد منه الإغاظة لأن الإغاظة انتهت.
ولكن هل الطائف يذكر في هذه الحال حال النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه حين قدموا في عمرة القضاء أو يذكر المعنى الأصلي المقصود وهو إغاظة الكفار أو الأمرين ؟
إذا تذكر الأمرين فهو خير، يعني يتذكر أن الرسول صلى الله عليه وسلم وأصحابه فعلوا ذلك فيقتدي بهم ولا سيما فعله في حجة الوداع وأيضا يذكر أن من شأن المسلم أن يفعل ما يغيظ الكفار
28 – مشروعية الرمل في الأشواط الثلاثة الأولى من الحجر إلى الحجر لأن النبي صلى الله عليه وسلم فعل ذلك وأن السنة المشي في الأربعة الباقية. فإن قال قائل: إذا دار الأمر بين أن أرمل مع البعد عن الكعبة وبين أن أمشي مع القرب فأيهما أقدم ؟
الجواب: قدم الأول فارمل ولو بعدت عن الكعبة ( لأن مراعاة الفضيلة المتعلقة بذات العبادة أولى من مراعاة الفضيلة المتعلقة بزمانها أو مكانها ) وهذه القاعدة لها أمثلة :
مثال ذلك : لو أن رجلاً حين دخل عليه وقت الصلاة وهو حاقن أو بحضرة طعام فهل الأولى أن يقضي حاجته ويأكل طعامه ولو أدى ذلك إلى تأخير الصلاة عن أول وقتها ؟ أو العكس ؟
الجواب: الأول فهنا راعينا نفس العبادة دون أول الوقت لأنه إذا صلى فارغ القلب مقبلاً على صلاته كانت الصلاة أكمل.
مثال آخر : لو أن شخصاً أراد أن يصلي في الصف الأول وحوله ضوضاء وتشويش أو حوله رجل له رائحة كريهة تشغله فهل الأولى أن يتجنب الضوضاء والرائحة الكريهة ولو أدى ذلك إلى ترك الصف الأول ؟ أو أن يصف في الصف الأول مع وجود التشويش أو الرائحة الكريهة ؟
فالجواب : لاشك أن الأولى تجنب التشويش وترك الصف الأول لأن هذا يتعلق بذات العبادة.
29 – أن الطواف بالبيت سبعة أشواط كاملة . فلو نقص خطوة واحدة من أوله أو آخره لم يصح . كما لو نقص شيئاً من الصلاة فإنها لا تصح .
30 – أنه تسن الصلاة خلف المقام بعد الطواف ومعلوم أن الركعتين خلف المقام قريباً منه أفضل من كونها بعيداً عنه أو ليست خلفه . لكن إذا لم يتيسر للإنسان أن يصلي خلف المقام قريباً منه فليصل خلف المقام بعيداً منه فإن لم يتيسر فليصل في أي مكان من المسجد لأن المطلوب منه شيئان : الأول: الصلاة والثاني : كونها خلف المقام .
فإن تعذر المكان بقيت مشروعية الصلاة وليس من شرط الصلاة أن تكون خلف المقام حتى نقول إذا تعذر خلف المقام سقطت الصلاة .
31 – أنه ينبغي للإنسان بعد أن يصلي الركعتين أن يرجع إلى الركن فيستلمه لفعل النبي صلى الله عليه وسلم .
ولكن هل هذا مشروط بما إذا أراد السعي بعد الطواف ؟
الجواب : نعم هذا في الطواف الذي يكون بعده سعي ينبغي أن يتقدم إلى الركن بعد الركعتين فيستلمه أما الطواف الذي ليس بعده سعي كطواف الوداع مثلا وطواف الإفاضة لمن سعى بعد طواف القدوم فإنه لم يرد عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه رجع إلى الركن فاستلمه .
32 – أنه ينبغي المبادرة بالسعي بعد الطواف بدون تأخير وهذا على سبيل الأفضلية وليس على سبيل الوجوب ولهذا قال العلماء رحمهم الله : إن الموالاة بين الطواف والسعي سنة وليست بشرط فلو طاف في أول النهار وسعى في آخره فلا بأس لكن الأفضل الموالاة .
33 – أنه ينبغي أن يخرج من باب الصفا لأنه أيسر، ولو كان المسجد الحرام فيما سبق له أبواب دون المسعى يخرج منه الناس وأما الآن فيتجه إلى جهة الصفا .
34 – أنه ينبغي إذا دنا من الصفا أن يتلو الآية ) إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ ((88) اقتداء برسول الله صلى الله عليه وسلم وليشعر نفسه أنه إنما سعى لأنه من شعائر الله وتعظيماً لشعائر الله عز وجل وحرماته .
35 – أنه ينبغي أن يقول : أبدأ بما بدأ الله به ليتحقق بذلك الامتثال . ولا يقال هذا الذكر إلا إذا أقبل على الصفا من بعد الطواف فلا يقال بعد ذلك لا عند المروة ولا عند الصفا في المرة الثانية لأنه ليس ذكرا يختص بالصعود وإنما هو ذكر يبين أن ابتداء الإنسان من الصفا إنما هو لتقديم الله له .
36 – أن ما بدأ الله به فهو أولى بالتقديم ولهذا بدأ النبي صلى الله عليه وسلم بالصفا لأن الله بدأ به.
37 – أنه ينبغي صعود الصفا حتى يرى البيت فيستقبله وهو واضح من قوله : «فرقي الصفا حتى رأى البيت » .
38 – أنه ينبغي في هذه الحال أن يوحد الله ويكبره ويقول الذكر ويدعو بين الأذكار التي يقولها ثلاث مرات وقد ورد عن النبي صلى الله عليه وسلم حينئذ رفع يديه رفع دعاء وليس رفع إشارة كما يفعل في الصلاة .
39 – أن السنة أن يمشي ما بين الصفا إلى طرف الوادي الشرقي ثم يسعى من طرف الوادي الشرقي إلى طرفه الشمالي ثم يمشي إلى المروة .
40 – أن الإسراع في كل المسعي ليس بمشروع .
41 – أنه ينبغي الإسراع في بطن الوادي لفعل الرسول صلى الله عليه وسلم وبطن الوادي الآن جعل له علم منصوب ( عمود أخضر ) فإذا وصلته فابدأ بالإسراع .
42 – أنه ينبغي لك وأنت تسعى أن تستشعر بأنك في ضرورة إلى رحمة الله عز وجل كما كانت أم إسماعيل رضي الله عنها في ضرورة إلى رحمة الله سبحانه وتعالى فكأنك تستغيث به تبارك وتعالى من آثار الذنوب وأوصابها .
43 – أن الإسراع في السعي مشروع في كل الأشواط السبعة لأن جابراً رضي الله عنه لم يستثن شيئاً منه بخلاف الرمل في الطواف فمشروع في الثلاثة الأولى .
وفرق آخر هو أن الإسراع في السعي في جزء منه والرمل في الطواف في جميع الأشواط الثلاثة فهذان فرقان .
الفرق الثالث : أن الإسراع في السعي أشد من الرمل في الطواف لأن الرسول صلى الله عليه وسلم كان يسرع جداً بخلاف الطواف فإنه يرمل والرمل إسراع المشي دون الخبب يعني : دون الركض الشديد .
44 – أن اختتام الأشواط السبعة يكون بالمروة. وعند الاختتام هل يقف ويدعو ؟
الجواب : لا ؛ لأن الدعاء والذكر إنما هو في ابتداء الشوط وليس في انتهائه فإذا انتهى من المروة فلينصرف ولا يقف للدعاء , كما قلنا في الطواف فإن التكبير يكون عند ابتداء الشوط لا عند انتهائه.
45 – أن الأيدي لا ترفع حال الذكر والدعاء لا في السعي ولا في الطواف لأن الذين وصفوا طواف النبي صلى الله عليه وسلم ودعاءه فيه ( ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار ) لم يذكروا رفع اليدين وكونهم يذكرون رفع اليدين على الصفا وعلى المروة يدل على أن ما عدا ذلك ليس فيه رفع .
46 – جواز قول (لو) إذا كان لقصد الإخبار لقوله ( لو أني استقبلت من أمري ما استدبرت ) .
47 - حسن تعليم النبي صلى الله عليه وسلم ودعوته إلى الحق.
48 – مشروعية فسخ نية الحج إلى عمرة ليصير متمتعاً إلا أن يسوق الهدي .
49 – أن من فسخ نية الحج إلى عمرة ليصير متمتعاً فإنه يتحلل بالعمرة تحللاً كاملاً .
فإن قلت : هل يجوز أن يفسخ الإنسان الحج إلى عمرة ليتحلل منها وينصرف إلى أهله .
فالجواب : لا . لأنه إنما أمر بفسخ الحج إلى عمرة ليصير متمتعاً . والمتمتع أفضل ولم يرخص له أن يفسخ الحج إلى عمرة ليتحلل عن قرب ويرجع إلى أهله .
50- أن الحج يمتاز عن غيره من العبادات بجواز تغيير النية فيه . فنجد الرجل يحرم بالحج ثم يقلبه إلى عمرة ليصير متمتعاً ويصح ويحرم بالعمرة أولاً ثم يضيق عليه الوقت فيدخل الحج عليها ليصير قارناً ويصح .
كما أن الحج يخالف غيره في النية بأنه لو نوى الخروج منه لم يخرج منه بينما العبادات الأخرى يخرج منها . وإذا فعل محرماً في العبادات الأخرى تبطل العبادة كما لو أكل أو شرب في الصلاة أو تكلم فيها . لكن في الحج , المحظورات فيه لا تبطله إلا الجماع قبل التحلل الأول يفسده ويجب المضي فيه وقضاؤه من السنة الأخرى بخلاف غيره من العبادات .
51 - أن التمتع أفضل الأنساك لأن النبي صلى الله عليه وسلم أمر به من لم يسق الهدي ولأنه أكثر عملاً لأنه يأتي بأفعال العمرة كاملة وأفعال الحج كاملة ولأنه أيسر لمن قدم مكة في وقت مبكر حيث يتمتع بالحل فيما بين العمرة والحج . إلا لمن ساق الهدي فالقران أفضل لتعذر التمتع في حقه فالتمتع في حق من ساق الهدي لا يمكن لأنه لا يمكن أن يحل .
ولكن هل الأفضل أن يسوق الهدي ويقرن أو الأفضل أن لا يسوق الهدي ويتمتع ؟
في هذا خلاف بين العلماء رحمهم الله منهم من قال الأفضل أن لا يسوق الهدي ويتمتع لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال لأصحابه : لو استقبلت من أمري ما استدبرت ما سقت الهدي ولأحللت معكم .
ومنهم من قال سوق الهدي والقران أفضل لأن هذا فعل النبي صلى الله عليه وسلم ولأنه أظهر في إظهار الشعائر . لأن الإنسان يأتي بالهدي معه يسوقه وهذا لا شك أن فيه من إظهار الشعائر ما ليس فيمن لم يسق الهدي . وأجابوا عن قوله : لو استقبلت من أمري ما استدبرت أنه قال ذلك من أجل أن يطيب قلوب أصحابه وأنه يقول لو علمت بأن الأمر سيبلغ منكم ما بلغ حتى يشق عليكم هذه المشقة ما سقت الهدي ولأحللت معكم . وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يترك الاختيار مراعاة لأصحابه كما ترك الجهاد عليه الصلاة والسلام في كل سرية مراعاة لأصحابه الذين لا يستطيعون أن يصاحبوه في كل سرية وليس عنده ما يحملهم عليه . وكما ترك الصيام مراعاة لأصحابه فقالوا إن قوله : لو استقبلت من أمري ما استدبرت لهذا المعنى .
وعندي أن الأقرب في هذا التفصيل فإن كانت السنة في سوق الهدي مندثرة فالقران أفضل وإلا فالتمتع أفضل .
52 – أن من ساق الهدي ليس له إلا القران .
53 – أنه لا يشترط لسوق الهدي أن يكون من بلده .
54 – أن التعليم يكون بالقول وبالفعل لقوله :« فشبك رسول الله صلى الله عليه وسلم أصابعه واحدة في الأخرى وقال:« دخلت العمرة في الحج »» وأخذ منه بعض المعاصرين التعليم على السبورة لأن السبورة ترسم للإنسان العلم. والعلم إذا رسم للإنسان يكون أدعى لثباته في النفس إذ الإنسان لا يزال يستحضر هذه الصورة فتبقى في ذهنه .
55 – أنه ينبغي للمحلين بمكة أن يدفعوا إلى منى في اليوم الثامن محرمين بالحج لأن النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه دفعوا إليها ولا ينبغي أن يدفع إليها قبل اليوم الثامن على طريق التنسك والعبادة لأن الرسول صلى الله عليه وسلم وأصحابه لم يدفعوا قبل اليوم الثامن .
56 – أن أعمال الحج تبتدئ من ضحى اليوم الثامن ويتفرع على ذلك ثلاث فوائد :
57 – منها أنه فيما نرى لا يشرع التمتع لمن قدم مكة بعد أوان أعمال الحج فمثلا لو جئت بعد الظهر في اليوم الثامن فليس هناك تمتع لأن الله يقول : ) فَمَنْ تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ ((89) فمنتهى التمتع الحج وأفعال الحج تبتدئ باليوم الثامن إذاً فلا حاجة للتمتع ونقول : إن شروعك في الحج ودخولك فيه في هذه الحال أفضل من العمرة فإما أن تفرد وإما أن تقرن أما التمتع فقد زال وقته الآن.
58 – ومنها أنه لا يشرع لمن أراد الإحرام يوم التروية أن يذهب إلى البيت أي المسجد الحرام ويحرم من المسجد بدليل أن الصحابة رضي الله عنهم لم يفعلوا ذلك والترك مع وجود السبب سنة يعني إذا وجد سبب الشيء في عهد الرسول صلى الله عليه وسلم ولم يفعل كانت السنة تركه وهذا سببه موجود ولم يذهب واحد من الصحابة ليحرم من المسجد فدل ذلك على أن السنة أن يحرموا من أماكنهم التي هم نازلون فيها.
59 – ومنها أنه ينبغي أن تكون صلاة الظهر يوم التروية في منى هذا هو الأفضل ويتفرع على ذلك ثلاث فوائد :
60 – منها أنه يتبين حرمان قوم من الناس يريدون الحج ويبقون في أماكنهم فإذا كان بعد العصر أحرموا بالحج وخرجوا إلى منى نقول هذا وإن كان جائزاً لكن الإنسان حرم نفسه لأن بقاءه في منى في ذلك اليوم أفضل من بقائه في المسجد الحرام وغيره.
ولهذا لما كان يوم التروية هذا العام يوم الجمعة صار كثير من الحجاج يتساءلون هل الأفضل أن نصلي الجمعة في المسجد الحرام ثم نخرج إلى منى أو الأفضل أن نخرج إلى منى في الصباح في الضحى ونصلي الظهر في منى ؟
والجواب : الثاني أفضل لأن بقاءك في منى عبادة وأنت ما جئت من بلادك إلا لأجل هذه العبادة.
61 – ومنها أن الصلاة في منى لا تجمع لأن جابراً رضي الله عنه لم يذكر أن النبي صلى الله عليه وسلم جمع فدل هذا على أنه صلاها على الأصل أي بدون جمع .
وهل يستفاد من حديث جابر رضي الله عنه أن الصلاة في منى تقصر؟
الـجواب : لا يستفاد لكن نستفيده من حديث أنس بن مالك رضي الله عنه(90).
62 – ومنها أنه ينبغي المكث في منى حتى تطلع الشمس ولا يسن الدفع قبل طلوع الشمس لقوله : « ثم مكث قليلا حتى طلعت الشمس » وهو كذلك فإن دفع بعد صلاة الفجر قبل طلوع الشمس فلا إثم عليه لكن الأفضل أن يتأخر .
63 – قوة النبي صلى الله عليه وسلم في دين الله حيث لم يتبع قومه في الوقوف في مزدلفة بل أجاز حتى أتى عرفة .
64 – أن الدين شَرْع وتوقيف وليس عادة ؛ دليله أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يتبع العادة في ذلك بل اتبع ما اقتضته شريعة الله سبحانه وتعالى.
65 – أن نمرة من عرفة بناء على أحد القولين ويتفرع على ذلك فائدتان :
66 – منها أنه لو وقف أحد بنمرة بعد زوال الشمس ولم يدفع إلا بعد الغروب أجزأه الحج ولم أر من صرح به مع أن هذا هو مقتضى هذا القول ولازمه . أما إذا قلنا إن نمرة ليست من عرفة وهو الصحيح كما قلنا فالأمر فيها واضح أنه من وقف فيها لا يجزئه ولا حج له .
67 – أنه ينبغي أن ينزل الحاج بنمرة قبل الوقوف بعرفة والدليل فعل النبي صلى الله عليه وسلم فلو قال قائل : أفلا يمكن أن يكون النبي صلى الله عليه وسلم نزل بها من باب السهولة لأنه أسمح لوقوفه حتى يستريح ويستعد للوقوف كما قالت عائشة رضي الله عنها في نزوله في المحصب (91) بعد الحج؟
قلنا : الأصل التعبد في جميع أفعال الحج إلا ما قام الدليل على أنه ليس من باب التعبد وأيضا فيمكن أن الرسول صلى الله عليه وسلم يستريح إذا نزل في عرفة .
68 – جواز استخدام الإنسان غيره لا سيما إذا كان كبيراً أو ذا سلطة والدليل : « أمر بالقصواء فرحلت له » فإن قوله أمر ... فرحلت يدل على أنه صلى الله عليه وسلم ما باشر ترحيلها وإنما أمر فرحلت له , وهذا لا ينافي نهي النبي صلى الله عليه وسلم أن يسأل الناس شيئاً لأن هناك فرقاً بين أن تسأل شخصاً شيئاً ويرى أن له منّة عليك وبين أن تسأل شخصاً شيئاً ويرى أن المنّة منك عليه وما يجري من النبي صلى الله عليه وسلم من هذا الباب كل يفرح أن النبي صلى الله عليه وسلم يأمره ثم هو زعيم أمته عليه الصلاة والسلام فيأمر على وجه السلطة وعلى وجه الإمرة.
69– إعلان الأحكام الشرعية عن طريق الخطابة . والخطابة أحد المجالات التي بها تنشر الدعوة فإن الدعوة تنشر بطرق متعددة منها الخطابة والكتابة والمشافهة وغير ذلك .
70 – حرص النبي صلى الله عليه وسلم على تبليغ أمته فإنه كان لا يخفي تبليغ الأحكام بل يعلنها إعلاناً بواسطة الخطابة .
71 – استحباب الخطبة يوم عرفة لأن النبي صلى الله عليه وسلم خطب الناس فيستحب أن يخطب الإمام أو نائبه الناس يوم عرفة ويستحب أن يحرص على الأقوال التي قالها النبي صلى الله عليه وسلم في تلك الخطبة ليقتدي بالرسول صلى الله عليه وسلم في أصل الخطبة وفي موضوعها وكلماتها.
72 – أن الخطبة يوم عرفة قبل الأذان لقوله:« ثم أذن ثم أقام » .
73 – أن الربا موضوع كله ولا يؤخذ مهما كان فالربا الثابت في ذمم الناس يجب وضعه ولا يجوز أخذه حتى وإن عقد قبل إسلام العاقد أو قبل جهله . أما ما قبض من قبل من ربا وأكل وأتى الإنسان موعظة من الله فلا يلزمه تقويمه والتخلص منه لكن ما بقي في ذمم الناس فإنه لا تتم التوبة منه إلا إذا تركه ولم يقبضه.
74 – بيان عدل النبي صلى الله عليه وسلم وهو ظاهر من قوله « وربا الجاهلية موضوع وأول ربا أضع ربانا ربا عباس بن عبد المطلب فإنه موضوع »فأول ما قضى عليه من أمر الجاهلية ما كان يتصل بأقاربه وهذا كما قال في الحديث الصحيح « وأيم الله لو أن فاطمة بنت محمد سرقت لقطعت يدها »(92) وهكذا يجب على الإنسان أن يكون قائما لله بالعدل لا يفرق بين قريب وبعيد أو غني وفقير أو قوي وضعيف . الناس في حكم الله واحـد لا يتميز أحد منهم بشيء إلا بما ميزه الله به .
75 – وفيه الإشارة إلى أن الذي يتولى طلب الرزق وحصول الكسوة هو الرجل لقوله ( ولهن عليكم رزقهن وكسوتهن بالمعروف ) . أما المرأة فشأنها أن تبقى في بيتها لإصلاح حالها وحال زوجها وحال أولادها وهذا ما كان عليه السلف الصالح رضوان الله عليهم .
76 – أن القرآن عصمة ؛ إذا اعتصم به الإنسان عصم من الضلال في الدنيا والشقاء في الآخرة كما قال تعالى :) فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلا يَضِلُّ وَلا يَشْقَى( (93) أي لا يضل في الدنيا ولا يشقى في الآخرة.
77 – وفيه الحث على الاعتصام بكتاب الله والرجوع إليه وأن به العصمة من كل سوء فإن قال قائل : ما تقولون في السنة التي لم تكن موجودة في القرآن بعينها ؟
قلنا : كل سنة سنها الرسول صلى الله عليه وسلم فهي موجودة في القرآن قال تعالى :) لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ ((94) وقـال تعالى : ) وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ ((95) وقال تعالى :) قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ ((96) وقال تعالى :) النَّبِيِّ الْأُمِّيِّ الَّذِي يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَكَلِمَاتِهِ وَاتَّبِعُوهُ ((97) فكل سنة سنها الرسول صلى الله عليه وسلم فهي من القرآن لكن ليس من اللازم أن ينص عليها بعينها .
78 – اعتراف الصحابة رضي الله عنهم بالجميل للنبي صلى الله عليه وسلم لقوله « نشهد أنك قد بلغت وأديت ونصحت » وهذه الشهادة التي شهدها الصحابة رضي الله عنهم يجب على كل مؤمن أن يشهدها فنحن نشهد أنه قد بلغ وأدى ونصح عليه الصلاة والسلام .
79 – استشهاد الله تعالى على العباد بأن الرسول صلى الله عليه وسلم بلغ.
80 - إثبات علو الله عز وجل . وجه الدلالة الإشارة إلى السماء وعلو الله الـذاتي قد دل عليه الكتاب والسنة والإجماع والعقل والفطرة .
81 – جواز الإشارة إلى مكان الله عز وجل وهو في السماء ولكن هل هذا المكان محيط به ؟
الجواب: لا . بل وسع كرسيه السموات والأرض ، فهو سبحانه وتعالى فوق سماواته ، على عرشه ، عليٌّ على خلقه بذاته وصفاته ، لقوله تعالى : ) وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ ((98).
82 – إثبات علم الله عز وجل وسمعه وبصره حيث كان يرفع إصبعه إلى السماء ثم ينكتها إلى الناس.
83 – تكرار الأمر الهام ثلاث مرات حتى وإن كان المخاطب قد سمع فإنه يكرر لا من أجل إفهام المخاطب ولكن من أجل الاهتمام بهذا الشيء .
84 – أنه لا يشرع للمسافر أن يصلي راتبة الظهر لقوله : « ولم يصل بينهما شيئا » .
85 – أن الصلاتين المجموعتين المشروع فيهما أن تكونا متواليتين لقوله : « ثم أقام فصلى الظهر ثم أقام فصلى العصر ولم يصل بينهما شيئا » والموالاة بين المجموعتين إذا كان الجمع جمع تقديم شرط عند أكثر الفقهاء رحمهم الله إلا أنه لا بأس أن يفصل بوضوء خفيف أو استراحة قصيرة ثم يستأنف الصلاة ثانية أما إذا كان الجمع جمع تأخير فالموالاة ليست بشرط .
وذهب شيخ الإسلام ابن تيمية (99) رحمه الله إلى أن الموالاة بين المجموعتين ليست بشرط لا في جمع التقديم ولا في جمع التـأخير وقال : يجوز في جمع التقديم أن يصلي الظهر مثلاً ثم يتوضأ أو يستريح أو يتغدى ونحوه ثم يصلي العصر وقال : إن الجمع هو من باب ضم الصلاة إلى الأخرى في الوقت لا في الفعل فإذا جاز الجمع صار الوقتان وقتاً واحداً وليس معنى الجمع ضم إحدى الصلاتين إلى الأخرى بالفعل بل ضمها إلى الأخرى بالوقت وعلى هذا فلا تشترط الموالاة في جمع التقديم كما لا تشترط في جمع التأخير ولكن لا شك أن الموالاة بينهما مشروعة كما دل عليه هذا الحديث .
86 – استحباب الوقوف للإمام في موقف النبي صلى الله عليه وسلم لأن النبي صلى الله عليه وسلم وقف عند الصخرات خلف جبل عرفة لقوله « ثم ركب حتى أتى الموقف » وأما غير الإمام فإنهم يقفون في أماكنهم لقـول النبي صلى الله عليه وسلم:« وقفت هاهنا وعرفة كلها موقف »(100) ولأن الأصل الاقتداء بالنبي صلى الله عليه وسلم في كيفية العبادة وزمانها ومكانها وجه ذلك : أن نبه على أن وقوفه في هذه الأماكن لا يسن فيه الأسوة أو لا تجب فيه الأسوة لقوله ( وقفت ها هنا وعرفة كلها موقف ) وكذلك يقال في مزدلفة .
87 – بيان تيسير النبي صلى الله عليه وسلم على أمته حيث لم يلزمهم بل ولم يندبهم إلى أن يتحروا مكان وقوفه ونحره لا في عرفة ومزدلفة ولا في منى .
88 – أنه لا يشرع صعود الجبل ولا الصلاة فيه ولا الصلاة عنده لأن النبي صلى الله عليه وسلم لم يفعل ذلك والأصل في العبادات التوقيف حتى يقوم دليل على مشروعيتها .
وبه نعرف ضلال كثير من الناس الذين يقصدون الجبل ويصعدون عليه ويصلون وربما يضعون الحجارة بعضها على بعض لتكون علماً وربما يعلقون الخرق ويكتبون الأوراق لإثبات أنهم بلغوا هذا المكان وكل هذا من البدع والواجب على طلبة العلم أن ينبهوا الناس على ذلك وأن يبينوا أنهم إلى الوزر أقرب منهم إلى الأجر في مثل هذه الأعمال .
89 – أن الركوب في الوقوف بعرفة أفضل لأن النبي صلى الله عليه وسلم وقف راكباً وقال : « خذوا عني مناسككم »(101).
وقال بعض العلماء رحمهم الله : بل الوقوف على غير الراحلة أفضل .
واختار شيخ الإسلام ابن تيمية (102) رحمه الله التفصيل في ذلك وقال : إنه يختلف باختلاف الحاج وما ذهب إليه هو الصحيح فإذا كان الإنسان يحتاج إلى أن يكون راكباً ليراه الناس ويسألوه وينتفعوا بعلمه وقف راكباً أفضل وكذلك إن كان أخشع له وأحضر لقلبه فيقف راكباً أفضل وإذا كان الأمر بالعكس صار الحكم بالعكس أيضا فهو يختلف باختلاف أحوال الناس.
90 – مشروعية استقبال القبلة حال الدعاء يوم عرفة ورفع اليـدين والإكثار من الدعاء ومـن الذكر لقول النبي صلى الله عليه وسلم « خير الدعاء دعاء يوم عرفة وأفضل ما قـلت أنا والنبيون من قبلي:لا إله إلا الله وحـده لا شريك له, له الملـك وله الحمد وهو على كل شيء قدير »(103)، وينبغي له أن يحرص على الأذكار والأدعية الواردة عن النبي صلى الله عليه وسلم ، فإنها من أجمع الأدعية وأنفعها فيقول :
اللهم لك الحمد كالذي نقول وخيراً مما نقول ، اللهم لك صلاتي ونسكي ومحياي ومماتي وإليك رب مآبي ولك رب تراثي .
اللهم إني أعوذ بك من عذاب القبر ووسوسة الصدر وشتات الأمر .
اللهم إني أعوذ بك من شر ما تجيء به الريح .
اللهم إنك تسمع كلامي ، وترى مكاني ، وتعلم سري وعلانيتي، لا يخفى عليك شيءٌ من أمري ، أنا البائس الفقير المستغيث المستجير الوجل المشفق المقر المعترف بذنوبي ، أسألك مسألة المسكين ، وأبتهل إليك ابتهال المذنب الذليل ، وأدعوك دعاء من خضعت لك رقبته وفاضت لك عيناه ، وذل لك جسده ، ورغم لك أنفه .
اللهم لا تجعلني بدعائك ربي شقيا ، وكن بي رؤوفاً رحيماً يا خير المسؤولين ويا خير المعطين .
اللهم اجعل في قلبي نوراً ، وفي سمعي نوراً ، وفي بصري نوراً .
اللهم اشرح لي صدري ويسر لي أمري ، اللهم إني أعوذ بك من شر ما يلج في الليل ، وشر ما يلج في النهار ، وشر ما تهب به الرياح، وشر بوائق الدهر .
اللهم ربـنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار .
اللهم إني ظلمت نفسي فاغفر لي إنك أنت الغفور الرحيم . اللهم إني أعوذ بك من جهد البلاء ومن درك الشقاء ومن سوء القضاء ، ومن شماتة الأعداء .
اللهم إني أعوذ بك من الهم والحزن ، والعجز والكسل ، والجبن والبخل ، وضلع الدين وغلبة الرجال ، وأعوذ بك من أن أرد إلى أرذل العمر ، وأعوذ بك من فتنة الدنيا .
اللهم إني أعوذ بك من المأثم والمغرم ، ومن شر فتنة الغنى , وأعوذ بك من فتنة الفقر .
اللهم غسل عني خطاياي بماء الثلج والبرد ، ونق قلبي من الخطايا كما نقيت الثوب الأبيض من الدنس ، وباعد بيني وبين خطاياي كما باعدت بين المشرق والمغرب .
فالدعاء يوم عرفة خير الدعاء .
قال النبي صلى الله عليه وسلم : « خير الدعاء دعاء يوم عرفة » . كما في الحديث السابق . وإذا لم يحط بالأدعية الواردة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ، دعا بما يعرف من الأدعية المباحة .
فإن قال قائل: الوقت طويل لا سيما في أيام الصيف وربما يلحق الإنسان ملل , لأنه لو بقي يدعو من بعد صلاة الظهر والعصر المجموعة إليها إلى الغروب لحقه ملل . فهل اشتغاله بغير الدعاء والذكر مما هو مباح جائز ؟
الجواب: نعم وربما يكون مطلوباً إذا كان وسيلة للنشاط والإنسان بشر يلحقه الملل , فلا حرج أن يستريح إما بنوم أو بقراءة قرآن أو بمذاكرة مع إخوانه أو بمدارسة القرآن أو في أحاديث تتعلق بالرحمة والرجاء والبعث والنشور وأحوال الآخرة حتى يلين ويرق قلبه والإنسان طبيب نفسه في هذا المكان , لكن ينبغي أن يغتنم آخر النهار بالدعاء ويتفرغ له تفرغاً كاملاً .
91 – وجوب الوقوف بعرفة حتى تغرب الشمس لأن النبي صلى الله عليه وسلم وقف حتى غربت الشمس وقال : « لتأخذوا عني مناسككم » (104) ولأن الدفع قبل غروب الشمس مخالفة لهدي النبي صلى الله عليه وسلم وموافقة لهدي المشركين لأن المشركين كانوا ينتظرون فإذا قربت الشمس إلى الغروب دفعوا من عرفة فخالفهم النبي صلى الله عليه وسلم. ولأن في ذلك نقصاً في الوقوف الذي هو الركن ومعلوم أن الأركان أفضل من الواجبات والواجبات أفضل من السنن لأنه كلما تأكدت العبادة كانت أفضل لقوله تعالى في الحديث القدسي « وما تقرب إلي عبدي بشيء أحب إلي مما افترضته عليه »(105) .
ويدل أيضاً على أن ذلك للوجوب تأخر النبي صلى الله عليه وسلم حتى تغرب الشمس لأنه لو دفع قبل أن تغرب لكان أيسر فلما عدل عن ذلك إلى البقاء حتى غربت الشمس دل على أن الدفع قبل هذا محرم ولو كان جائزاً لفعله النبي صلى الله عليه وسلم لأنه أيسر.
92 – أنه ينبغي لإمام الناس أو من ينيبه أن يحث الناس على السكينة فرجال المرور مثلاً ينوبون مناب الإمام في تدبير الناس وتنظيم السير والأمر بالسكينة لأن النبي صلى الله عليه وسلم نظم السير في قوله : « السكينة السكينة » فإن هذا نوع من تنظيم السير.
93 – أنه ينبغي للإمام بل يجب على الإمام أن يكون أول من يبادر إلى ما يأمر به ودليله أن الرسول صلى الله عليه وسلم دفع وقد شنق للقصواء الزمام وما كان ليقول للناس السكينة السكينة وهو تاركها تمشي بسرعة، بل هو أول من يفعل ذلك عليه الصلاة والسلام وهكذا الإمام الذي يقتدي به سواء كان إماماً في التنفيذ أو إماماً في العلم فإنه يجب عليه أن يتحرى اتباع الرسول صلى الله عليه وسلم لأنه يقتدى به فأي فعل يفعله سوف يقتدى به الناس، والناس في هذا المقام بالنسبة إلى القدوة بين أمرين بين محتج بفعله على ما يهواه وبين محتج عليه بمخالفته وبينهما فرق فالإنسان الذي له هوى ولا يريد اتباع السنة يحتج بتقصير القدوة على تقصيره فيقول مثلاً : هذا فلان لا يفعل هذا وهذا فلان فعل هذا مثلا والإنسان الذي يريد من المقتدى به أن يتبع السنة يحتج بفعله وتهاونه بالسنة عليه ولا يحتج بفعله على ما يفعله هذا المتكاسل فهذا أمر ينبغي لطلبة العلم أن يتفطنوا له لأن طالب العلم يقتدى به ويؤخذ عليه ما لا يؤخذ على غيره ليس كعامة الناس ولهذا كثير ما تأمر الناس بشيء ثم يقولون لك فلان يفعله من طلبة العلم يحتج بفعله حتى وإن كان هذا الرجل قد تبين له أن الحق بخلافه، لكن يريد أن يدافع عن نفسه ولو بالباطل كما هو ظاهر .
94 – حسن رعاية النبي صلى الله عليه وسلم لما استرعاه الله حتى في البهائم ؛ وجه ذلك أنه كلما أتى حبلاً من الحبال أرخى لناقته قليلاً فإن هذا من حسن رعايته لها ورأفته بها صلى الله عليه وسلم فرسول الله صلى الله عليه وسلم أحسن الرعاية في البشر حيث يقول السكينة السكينة وأحسن الرعاية في البهيمة حيث يرخي لها قليلاً حتى تصعد إذا أتى حبلاً من الحبال .
95 – أن المشروع للحاج أن لا يصلى المغرب والعشاء إلا في مزدلفة . لأن النبي صلى الله عليه وسلم أخر ذلك إلى مزدلفة ووجه هذا : أن المشروع في حق المسافر إذا جد به السير ألا يقف فيقطع سيره . ولهذا كان من هدي الرسول صلى الله عليه وسلم أنه إذا ارتحل قبل أن تزيغ الشمس أخر الظهر إلى العصر . وإن ارتحل بعد أن تزيغ الشمس قدم العصر إلى الظهر حتى يكون سيره مستمرا متواصلا .
نقول : هذا هو السنة حتى لو تأخر الإنسان . إلا إذا تأخر حتى انتصف الليل فإنه يجب عليه أن يصلي صلاة العشاء قبل منتصف الليل وصلاة المغرب أيضاً وذلك لأن منتهى صلاة العشاء نصف الليل فلا يجوز أن يؤخرها إلى ما بعد نصف الليل .
فإن قال قائل : افرض أنني حبست في سير السيارات ولم أستطع الرجوع ولا التقدم ولا الخروج يمينا أو شمالا ؟
نقول : من أمكنه أن ينزل من الركاب فلينزل ويصلي يميناً أو شمالاً قبل أن يخرج الوقت , ومن لم يمكنه فليصل ولو على ظهر السيارة ويأتي بما يستطيع من الواجبات على حسب حاله . ولا يجوز أن يؤخر الصلاة إلى ما بعد نصف الليل ، لأن القول الراجح أنه لا وقت للعشاء بعد منتصف الليل .
96 – أن الجمع يكون جمع تأخير لأن النبي صلى الله عليه وسلم جَمَعَ جَمْعَ تأخير ولكن هل هذا مراد ؟ أو لأن سير النبي صلى الله عليه وسلم كان متواصلاً إلى أن دخل وقت العشاء ؟
الذي يظهر الثاني ، لأن هذا هو هدي النبي صلى الله عليه وسلم وبناء على ذلك لو أن الإنسان وقف في أثناء الطريق وصلى فإن القول الذي عليه جمهور أهل العلم أن صلاته صحيحة خلافاً لبعض الظاهرية كابن حزم (106) رحمه الله حيث قال : لا تصح صلاة المغرب والعشاء في ليلة مزدلفة إلا بمزدلفة ، واستدل بقول النبي صلى الله عليه وسلم لأسامة رضي الله عنه ، لما توضأ النبي صلى الله عليه وسلم قال : يا رسول الله ، الصلاة ؟ قال : « الصلاة أمامك » (107) .
ولكن رأي الجمهور هو الصحيح .
فإن وصل في وقت صلاة المغرب فما المشروع في حقه ؟
قيل : المشروع أن يؤخر أيضاً لأن النبي صلى الله عليه وسلم أخر الصلاة .
وقيل : المشروع أن يقدم الجمع بين الصلاتين لأن النبي صلى الله عليه وسلم صلى من حين وصل إلى مزدلفة , وكون الجمع يكون تأخيراً لأن هذا وقع اتفاقاً ، لأن سير الرسول صلى الله عليه وسلم كان بعيداً وبطيئاً، لأنه على الإبل، فأما إذا كان في السيارات وقد وصل في وقت المغرب فليصل متى وصل ولو كان تقديماً ، والحقيقة أن الدليلين متجاذبان .
فقد نقول : إن المشروع أن يبادر بالصلاة متى وصل ، لأن هذا كالتحية لمزدلفة كما قلنا في منى أن التحية لها الرمي .
وقد يقال : إن الإنسان يؤخر اقتداء برسول الله صلى الله عليه وسلم .
ولكن قد روى البخاري عن عبدالله بن مسعود رضي الله عنه أنه قدم مزدلفة عشاءً أو قريباً من العشاء فأذن وصلى المغرب ، ثم دعا بعشائه فتعشى ثم أذن فصلى العشاء (108) وهذا يدل على أنه رضي الله عنه لما وصل في هذا الوقت رأى ألا يجمع وأن يصلي المغرب ويتعشى ثم يصلي العشاء وحدها ، والدليل على أنه صلى العشاء وحدها أنه أذن لها ، ولو كانت مجموعة إلى الأولى لم يؤذن . وبناء على هذا الذي ورد عن ابن مسعود رضي الله عنه نقول : من وصل مبكراً فليصل المغرب ثم لينتظر حتى يأتي العشاء فيؤذن ويصلي العشاء ؟
فإن قال الحاج: الأيسر لي والأسهل عليّ أن أصلي المغرب من حين أن أصل وأصلي معها العشاء وأستريح فهل تبيحون لي ذلك ؟
فالجواب : نعم نبيح له ذلك لأنه مسافر ، والصحيح أن المسافر له الجمع ، وإن كان نازلاً فنقول : لك أن تجمع الآن إذا كان أيسر لك كما هو الغالب ، لأن بعض الناس يكون محتاجاً إلى البول ، فيحب أن يصلي المغرب والعشاء ويستريح فإذا كان هذا أريح له أو أريح لأصحابه أيضا حتى لو فرضنا أنه هو بنفسه يحب أن يصلي المغرب وحدها ، والعشاء وحدها في الوقت ، ولكن رأى أن أصحابه أيسر لهم فلا حرج أن يتبع أصحابه في الأيسر اقتداء برسول الله صلى الله عليه وسلم حيث اتبع الأيسر لأصحابه في الصيام مع محبته للصيام .
97 – أنه لا يشرع للمسافر أن يصلي راتبة المغرب، لأن النبي صلى الله عليه وسلم لم يصل راتبة المغرب في السفر كما لم يصل للظهر ، وكذلك للعشاء . أما راتبة الفجر فلم يكن يدعها لا حضراً ولا سفراً .
98 – أنه لا يشرع ليلة مزدلفة تهجد ولا قراءة ولا شيء من العبادات التي تمنع من النوم ، إذ لو كان هذا مشروعاً لفعله النبي صلى الله عليه وسلم تبليغاً للشرع أو لأرشد الأمة إليه بقوله ، فلما لم يحصل هذا ولا ذاك علم بأنه ليس بمشروع .
فإن قال قائل : إذا لم يستطع الإنسان أن ينام في مزدلفة ليلة العيد بسبب إزعاج السيارات – مثلاً – هل له أن يشتغل بالذكر والدعاء والصلاة ؟
نقول له : نعم اذكر الله , وأما الصلاة فإن كان لا يراه أحد فلا بأس , وإن كان يرى فلا , لأنه لو رآه أحد وهي ليلة مباركة اقتدى به , ولا يعلم أنه معذور ولا سيما إذا كان طالب علم ومحل اقتداء .
99 – أنه لا تجوز صلاة الفجر ولا غيرها حتى يتبين دخول الوقت . لقوله : « صلى الفجر حين تبين له الصبح » .
100 – أنه ينبغي المبادرة في صلاة الفجر ليلة المزدلفة ، دليله « حتى تبين » يعني من حين ما تبين صلى ، وهو دليل على أن المشروع في الفجر ليلة المزدلفة أن يبادر بها مبادرة غير المبادرة المعتادة المعروفة .
أما ما يفعله بعض الناس اليوم من كونهم يؤذنون إذا مضى ثلثا الليل ، من حين يمضي ثلثا الليل تسمع المؤذنين للفجر ، فهذا خطأ عظيم والحكومة وفقها الله لم تقصر ، كانت تطلق المدفع في تلك الليلة فلا عذر لأحد لكن هؤلاء المساكين تجد الواحد منهم ينام قليلاً ثم يمل من النوم ووقت الفجر عنده إذا قام من النوم ، متى ما قام فهذا وقت الفجر ، أو أنهم يحبون أن يتعجلوا ويمشوا إلى منى ، وأيا كان فإن الواحد منا إذا سمع أحداً يؤذن للفجر قبل الوقت يجب أن ينبهه حتى لا يصلي الفجر قبل وقتها فتفوت عليه فريضة من فرائض الصلوات لكن الغالب على هؤلاء الجهل .
101 – مشروعية الأذان والإقامة في الحضر وفي السفر ، وهل هذه المشروعية على سبيل الوجوب ؟
الجواب : نعم على سبيل الوجوب ، فيجب الأذان في السفر والحضر ، والإقامة في الحضر والسفر وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم لمالك بن الحويرث رضي الله عنه ومن معه : « إذا حضرت الصلاة فليؤذن لكم أحدكم » (109) وهم وافدون إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم مسافرون فأمرهم بالأذان ، مع أنهم مسافرون ، فالمسافرون عليهم الأذان كما على المقيمين .
وهل عليهم صلاة الجماعة ؟
الجواب : نعم ، ومن هنا نأخذ فائدة أيضاً :
102 – مشروعية صلاة الجماعة في الحضر والسفر ، وهي على الوجوب ، فيجب على المسافر صلاة الجماعة كما يجب على المقيم ولا فرق ، بل قد أوجب الله صلاة الجماعة في حال القتال ، وقتال الرسول صلى الله عليه وسلم كان كله في السفر .
103 – قصد المشعر الحرام (110) والوقوف عنده في صبيحة يوم العيد ؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم ركب وقصد المشعر الحرام ، ولكن هل هذا على سبيل الوجوب ؟
الجواب : لا ؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: « وقفت هاهنا وجمع كلها موقف »(111) فكل مزدلفة موقف ، ولا يلزمك أن تشد الرحل إلى المشعر الحرام لتقف عنده .
104 – أنه ينبغي التفرغ بعد صلاة الفجر يوم العيد للدعاء والتكبير والتهليل والذكر إلى أن يقرب طلوع الشمس ، والدليل : « فدعاه وكبره وهلله ولم يزل واقفا حتى أسفر جداً » إذاً فيسن التفرغ للدعاء والذكر في هذه المدة إلى أن يسفر جداً .
105 – تواضع النبي صلى الله عليه وسلم حيث أردف الفضل بن عباس رضي الله عنهما دون أشراف القوم وأردف في دفعه من عرفة إلى مزدلفة أسامة بن زيد رضي الله عنه وهو مولى .
106 – جواز الإرداف على الدابة ، لأن الإرداف لو كان حراماً ما أردف النبي صلى الله عليه وسلم الفضل بن عباس ولكن يشترط لذلك أن تكون الدابة قوية وقادرة على تحمل الرديف ، فإن كانت هزيلة ضعيفة والإرداف يشق عليها فإن ذلك لا يجوز لقول النبي صلى الله عليه وسلم : « إن الله كتب الإحسان على كل شيء »(112) .
107 – عدم جواز نظر الرجل إلى المرأة الأجنبية كما استدل به النووي وغيره من أهل العلم لأن النبي صلى الله عليه وسلم صرف وجه الفضل إلى الشق الآخر .ولكن إذا كان لشهوة فهو حرام بلا شك وإذا كان لغير شهوة فإن الذي تدل عليه النصوص الأخرى أنه لا يجوز له النظر إليها وأنه يجب عليها أن تحتجب لئلا ينظر إليها .
108 – مشروعية تغيير المنكر باليد لقوله : « فجعل النبي صلى الله عليه وسلم يصرف وجه الفضل إلى الشق الآخر » .
109 – جواز التغيير قبل الأمر لأن الرسول صلى الله عليه وسلم جعل يصرف وجهه دون أن يقول له التفت أو اصرف وجهك . وعلى هذا فينظر الإنسان هل الأصلح أن يأمر أولاً ثم يغير أو أن يغير أولاً قبل أن يأمر فيرجع ذلك إلى ما فيه المصلحة .
110 – أنه ينبغي الإسراع في بطن محسر ، وهو الوادي الذي بين مزدلفة ومنى ؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم أسرع فيه . والأصل فيما فعله في هذه العبادة أنه من التعبد وليس من العادة حتى يتبين أنه عادة . والظاهر أنه لا يمكن الإسراع الآن ؛ لأن الإنسان محبوس بالسيارات فلا يمكن أن يتقدم أو يتأخر وربما ينحبس في نفس المكان فيعجز أن يمشي ولكن نقول : هذا شيء بغير اختيار الإنسان فينوي بقلبه أنه لو تيسر له أن يسرع لأسرع وإذا علم الله من نيته هذا فإنه قد يثيبه على ما فاته من الأجر والثواب .
111 – أنه ينبغي للإنسان القادم إلى منى من مزدلفة أن يسلك أقرب الطرق إلى جمرة العقبة ، لفعل النبي صلى الله عليه وسلم ، وهكذا ينبغي للإنسان في أسفاره أن يسلك أقرب الطرق إلى حصول مقصوده .
112 – أنه ينبغي المبادرة برمي الجمرة بحيث لا يقدم عليها نسكاً ولا تنزيل رحل ولا نزولاً في مكان ، بل يبادر بها أول ما يقدم وهذا هو الأفضل .
113 – أن من رخص له أن يدفع من مزدلفة في آخر الليل له أن يبدأ بالجمرة جمرة العقبة فيرميها حين وصوله ،وأما ما ورد عن النبي صلى الله عليه وسلم من النهي عن هذا في قوله: « أبني لا ترموا حتى تطلع الشمس » (113) فقد ضعفه كثير من أهل العلم رحمهم الله ، وإن صح فإنه يحمل على الاستحباب لا على الوجوب . وإلا فكل من جاز له الدفع من مزدلفة جاز له الرمي ، وإلا لما استفاد شيئا ، فكيف يرخص له أن يدع نسكاً من المناسك التي نص القرآن عليها ويبقى في منى ساكناً حتى طلوع الشمس .
114 – أن غسل حصى رمي الجمار بدعة لأن النبي صلى الله عليه وسلم لم يغسله ولم يأمر به أصحابه .
115 – أنه لا رمي في يوم العيد إلا لجمرة العقبة ، لأن النبي صلى الله عليه وسلم لم يرم سواها ، فلو رمى الإنسان الثلاث لكان مبتدعاً ، وإن رماها جهلاً فليس عليه شيء.
116 – مشروعية الرمي راكباً ما لم يكن في ذلك أذية .
117 – أنه يجب أن يرمي الجمار رمياً ، فلا يجزئ الوضع بل لا بد من الرمي .
وهل يشترط أن يرفع يده حتى يرى بياض إبطه ؟
الجواب : لا ، ولكن يرمي قذفا فلو أخذ الحصاة ووضعها في الحوض وضعاً فإن ذلك لا يجزئ .
118 – أنه لا بد من سبع حصيات لقوله « فرماها بسبع حصيات » فلو رمى بخمس أو بثلاث أو بأربع لم يجزئ .
ولكن رخص بعض أهل العلم رحمهم الله (114) بجواز الرمي بخمس أو ست ، قال : لأن الصحابة رضي الله عنهم كانوا ينصرفون من الرمي ، فيقول بعضهم رميت بخمس ، وبعضهم بست ، وبعضهم بسبع ، ولا ينكر أحد على أحد ، ولكن لا شك أن الأحوط أن لا يقتصر على ما دون السبع ، لأن هذا هو هدي النبي صلى الله عليه وسلم .
119 – أنه لا يجوز الزيادة على السبع لقوله : « فرماها بسبع حصيات ».
120 – أنه لا بد أن تكون السبع متعاقبات لقوله : « رماها بسبع » فإن ظاهره أن كل واحدة تكون مرمية ، فلابد أن تكون متعاقبات ولهذا قال « يكبر مع كل حصاة » وهذا كالنص الصريح على أنه لابد من التعاقب ، فلو رماها دفعة واحدة لم يجزئه إلا واحدة ولا يجزئه السبع هذا ما لم يكن قصد التعبد وهو يعلم أن الرسول صلى الله عليه وسلم رمى سبعا متعاقبة ، فإن نوى التعبد مع علمه بأن الرسول صلى الله عليه وسلم رمى بسبع متعاقبة فإن ذلك لا يجزئ لأنه صريح بمخالفة السنة ، فيكون عملا ليس عليه أمر الله ورسوله فيكون مردودا ، ولو رماها سبعاً من شدة الزحام دفعة واحدة تكون واحدة
فإن قال قائل : ألستم في الحدود تقولون إن المريض إذا كان لا يحتمل أن يضرب ضرباً متعاقباً بالسوط فإنه يجمع ضغثاً من النخل ويضرب به مرة واحدة ؟
فالجواب : أن هذا قام عليه الدليل ، وهو أيضا من باب العقوبة ، والعقوبة ينبغي فيها التخفيف إذا لم يستطع ، بخلاف هذا ، فهو عبادة ، ولهذا لا يجوز للمريض الذي يشق عليه أن يصلي أربعا أن يصلي ركعتين .
121 – أنه يستحب التكبير عند الرمي وأن يكون مع كل حصاة .
122 – أنه لا يستحب البسملة هنا ، وإن كان بعض الناس يسمي فيقول : بسم الله والله أكبر .
123 – أنه لا يسن أن يقول ما يقوله العامة اللهم رضا للرحمن وغضباً للشيطان ؛ فإن هذا لم يرد عن النبي صلى الله عليه وسلم , ومن باب أولى أنه لا يسن في هذه الحال سب الشيطان ولعنه وما أشبه ذلك من الكلمات التي يقولها جهال الناس .
124 – ضلال من يرمي بالأحجار الكبيرة أو بالنعال أو بالمظلات أو ما أشبه ذلك مما يفعله الجهال , وكل هذا من اعتقادهم أنهم يرمون الشيطان .
125 – أنه لا يجزئ الرمي بغير الحصى ، فلو رمى بذهب لم يجزئه ؛ لأن العبادات مبناها على التوقيف والاتباع ، ولو رمى بمدر ( وهو الطين المجفف ) لم يجزئه ، ولو رمى بقطعة من الإسمنت فإنه لا يجزئ ، ولو رمى بجص أو بخشب أو بأي مادة من المواد أو معدن من المعادن سوى الحصى فإنه لا يجزئ ، لأن النبي صلى الله عليه وسلم رمى بحصى .
126 – أنه لا يجزئ الرمي بالحصاة الكبيرة ولا الصغيرة جداً ، أما الصغيرة التي دون حصى الخذف لكن ليست صغيرة جداً فإنها تجزئ ، والكبيرة لا تجزئ لقوله : « كل حصاة منها مثل حصى الخذف » فالنبي صلى الله عليه وسلم رمى بهذا وقال: « خذوا عني مناسككم » (115) بل رفع إليه ابن عباس رضي الله عنهما حصيات فأخذها بكفه وجعل يحركها ويقول: « بأمثال هؤلاء فارموا وإياكم والغلو في الدين »(116).
127 – أنه يسن رمي جمرة العقبة من بطن الوادي لقوله : « رمى من بطن الوادي ».
128 – أنه يسن استقبال جمرة العقبة لا القبلة عند الرمي ، خلافاً لمن قال: إنه يستقبل القبلة ويجعل الجمرة عن يمينه ويرمي من اليمين ، فإن هذا ليس بصحيح ، لأنه خلاف موقف رسول الله صلى الله عليه وسلم من وجه ، ومن وجه آخر أنه في زمننا هذا متعذر .
فإن قال قائل : أليس الأصل في العبادات استقبال القبلة ؟
فالجواب : إن سلمنا أن هذا هو الأصل فقد دل الدليل على عدمه في هذه المسألة .
129 – أنه لا يشرع الوقوف للدعاء بعد رمي جمرة العقبة .
130 – أن النحر بعد الرمي لقوله : « ثم انصرف إلى المنحر فنحر » .
131 – أنه ينبغي لذوي الأمر أن يرتبوا المكان للحجاج بحيث يجعلوا للنحر مكاناً خاصاً لقوله : « ثم انصرف إلى المنحر » لأنه إذا جعل للنحر مكاناً خاصاً سلم الناس من الروائح الكريهة والتلويث والأذى وغير ذلك فإذا جعل للنحر منحر خاص ، فذلك أسلم وأقرب إلى الإحاطة بهذا الأذى والقذر .
132 – أنه ينبغي للإنسان أن ينحر هديه بيده لقوله : « فنحر » فإذا قال قائل : ألا يمكن أن يكون قوله : « فنحر » أي أمر من ينحر ؟
قلنا : هذا ممكن ، ولكن الأصل في إضافة الفعل إلى فاعله أن يكون الفاعل مباشراً للفعل ، ولهذا جاء التفصيل في حديث جابر رضي الله عنه المذكور أنه صلى الله عليه وسلم نحر ثلاثاً وستين بيده وأعطى علياً رضي الله عنه فنحر الباقي ، وهكذا ينبغي للإنسان أن ينحر هديه وأضحيته بيده ، لأن ذلك أتبع للسنة وأشد طمأنينة للقلب أن تكون ذبحتها على الوجه المشروع ولأن هذا عبادة فينبغي للإنسان أن يفعله بنفسه ويتفرع منها :
133 – خطأ الفكرة السائدة بين الناس اليوم وهو أن المقصود من الأضحية هو اللحم ولهذا تجدهم يرسلون الدراهم إلى البلاد النائية البعيدة بدلاً عن الأضحية ويقولون هم أحوج منا.
نقول : ليس المقصود من الأضحية هو اللحم ، المقصود هو التقرب إلى الله بالذبح هذا أهم شيء في الأضحية أن تذبحها أنت بنفسك تذللاً لله عز وجل وتعظيماً له وتقرباً إليه فإن لم تستطع فوكل من يذبح كما وكل النبي صلى الله عليه وسلم ابن عمه علي بن أبي طالب رضي الله عنه أن يذبح ما بقي من هديه ، ثم إذا ذبحت وتقربت إلى الله فإن شئت فكل وإن شئت فتصدق بها كلها .
ولهذا لما نزلت بالمسلمين فاقة في إحدى السنوات لم يقل تصدقوا بالطعام أو تصدقوا بالدراهم بل قال : اذبحوا لكن لا تدخروا فوق ثلاث . وفي العام الثاني لما زالت الفاقه قال : كلوا وادخروا ما شئتم .
فالمهم أنه يجب على طلبة العلم أن ينبهوا الناس على أن الذبح نفسه عبادة عظيمة ؛ ولهذا قرنه الله بالصلاة في قوله « فصل لربك وانحر » فلا ينبغي أن ترسل الشعائر تقام هناك وتترك الشعيرة هنا ولهذا كان من حكمة الله أن البلاد غير مكة تقام فيها هذه الشعيرة وهي التقرب إلى الله بالذبح لكن في مكة هدي وفي غيرها أضاحٍ.
وإذا كان يحب أن ينفع إخوانه في الجهة الأخرى فليرسل إليهم دراهم صدقة تطوعاً لله عز وجل .فهذه مسألة ينبغي أن يتنبه لها .
134 – وفيه دليل على تأكد الأكل من الهدي، لأنه عليه الصلاة والسلام أمر من كل بدنه بقطعة وكان يكفيه أن يأخذ من بدنه واحدة يأكل ما شاء لكن تحقيقا لقوله تعالى : { فكلوا منها } (117) .
135 – أنه يجوز التوكيل في ذبح الهدي ، لأن الرسول صلى الله عليه وسلم وكل علي بن أبي طالب رضي الله عنه أن ينحر الباقي ، ولكن لا ينبغي التوكيل إلا إذا دعت الحاجة إليه ،إما لكثرة الهدي أو لكون الذبح يشغله عما هو أهم ، لأن الرسول عليه الصلاة والسلام لا شك أن حاجات الناس تتعلق به في الاستفتاء وغيره ، فلهذا لما نحر ثلاثاً وستين أعطى علياً رضي الله عنه فنحر الباقي وهو سبع وثلاثون بعيراً.
136 – مشروعية إهداء الإبل لأن النبي صلى الله عليه وسلم أهدى إبلاً مائة بعير وأشرك علياً رضي الله عنه في هديه .
137 – وفيه دليل على كرم النبي صلى الله عليه وسلم حيث أهدى مائة بدنة عن سبعمائة شاة. وكثير من الناس اليوم يشق عليه إهداء شاة واحدة حتى إنه يختار النسك المفضول على الفاضل تفادياً للهدي .
138 – أنه ينبغي أن يفيض إلى مكة ليطوف ضحى يوم النحر ، لأن الرسول صلى الله عليه وسلم أفاض ضحى يوم النحر قبل أن يصلي الظهر بعد أن أكل من لحم هديه، لأنه أمر من كل بدنة بقطعة فجعلت في قدر فطبخت فأكل من لحمها وشرب من مرقها .
139 – أنه ينبغي أن يصلي الظهر يوم العيد بمكة ؛ لأن الرسول صلى الله عليه وسلم صلى الظهر بمكة، لكن قد ثبت في الصحيحين أنه صلاها بمنى (118) ، فاختلف العلماء في هذا :
فمنهم من سلك طريق الترجيح ، ومنهم من سلك طريق الجمع ، والصحيح سلوك طريق الجمع، لأن الحديثين كلاهما صحيح بلا شك ، وإذا صح الحديثان وأمكن الجمع لم يعدل إلى الترجيح . والجمع بينهما ممكن بأن يقال : إن الرسول صلى الله عليه وسلم صلى الظهر بمكة ثم خرج إلى منى فوجد بعض أصحابه لم يصل فصلى بهم إماماً، فتكون صلاته في منى معادة ، كما كان يفعل معاذ رضي الله عنه مع قومه ، يصلي مع النبي صلى الله عليه وسلم العشاء ثم يرجع إلى قومه فيصلي بهم تلك الصلاة (119).
140 – أن الله تعالى قد ينزل البركة للإنسان في وقته ، بحيث يفعل في الوقت القصير ما لا يفعل في الوقت الكثير ، وهذا شيء مشاهد ، ومن أعظم ما يعينك على هذا أن تستعين بالله عز وجل في جميع أفعالك بأن تجعل أفعالك مقرونة بالاستعانة بالله حتى لا توكل إلى نفسك لأنك إن وكلت إلى نفسك وكلت إلى ضعف وعجز ، وإن أعانك الله فلا تسأل عما يحصل لك من العمل والبركة فيه .
141 – أنه ينبغي الشرب من ماء زمزم ، لأن النبي صلى الله عليه وسلم شرب من ماء زمزم .
فإن قال قائل : هل يفعل شيئا آخر غير الشرب كالرش على البدن أو على الثوب أو أن يغسل به أثواباً يجعلها لكفنه كما كان الناس يفعلون ذلك من قبل ؟
فالجواب : لا. فنحن لا نتجاوز في التبرك ما ورد عن النبي صلى الله عليه وسلم وهذا لم يرد عن النبي صلى الله عليه وسلم فلا نتجاوز إليه بل ما ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أخذنا به وإلا فلا.
142 – أنه ينبغي على من شرب من ماء زمزم أن يتضلع منه لأن هذا الماء خير , وقد ورد حديث في ذلك لكن فيه نظر وهو ( أن آية ما بين أهل الإيمان والنفاق التضلع من ماء زمزم) (120) وذلك لأن ماء زمزم ليس عذباً حلواً بل يميل إلى الملوحة والإنسان المؤمن لا يشرب من هذا الماء الذي يميل إلى الملوحة إلا إيماناً بما فيه من البركة فيكون التضلع منه دليلاً على الإيمان .
143 – وفيه أن أفعال النبي صلى الله عليه وسلم أسوة ؛ لقوله لبني عبد المطلب : « انزعوا بني عبد المطلب فلولا أن يغلبكم الناس على سقايتكم لنزعت معكم » لأنه لو نزع لكان سنة يأخذ بها الناس وحينئذ يغلبونهم على السقاية .
144 – وفيه تواضع النبي صلى الله عليه وسلم حين شرب من الدلو الذي يشرب منه الناس ، ناولوه دلواً فشرب منه عليه الصلاة والسلام وظاهر الحال أنه شرب قائماً فقيل شرب قائماً لضيق المكان وقيل إنه شرب قائماً من أجل أن يتضلع منه أي من ماء زمزم لأن الإنسان إذا شرب قائما تضلع من الماء أكثر والله أعلم .
المهم أن هذا الحديث من أطول الأحاديث في صفة حج النبي صلى الله عليه وسلم ولهذا جعله الشيخ الألباني(121) - حفظه الله - أصلاً لصفة حج النبي صلى الله عليه وسلم وبنى منسكه المعروف المشهور على هذا وزاد فيه ما زاد .
والحمد لله رب العالمين , وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين
------------------
(79) " لأن النبي صلى الله عليه وسلم أهل دبر الصلاة" أخرجه الإمام أحمد 1/285 والترمذي في الحج / باب ما جاء متى أحرم النبي صلى الله عليه وسلم 819، والنسائي في الحج / باب العمل في الإهلال 5/162 عن ابن عباس رضي الله عنهما .
(80) أخرجه البخاري في كتاب الحج / باب من أهل حين إستوت به راحلته قائمة (1552) ولفظه (أهل النبي صلى الله عليه وسلم حين استوت به راحلته قائمة). وأخرجه مسلم في الحج / باب التلبية وصفتها ووقتها (1184) ولفظه : (ثم استوت به الناقة قائمة عند مسجد الحليفة أهل بهؤلاء الكلمات ).
(81) أخرجه الإمام أحمد 1/260 وأبو دادو في المناسك / باب في وقت الإحرام (1770) وضعفه المنذري في تهذيب السنن (1696).
(82) أخرجه أبو داود في المناسك / باب كيفية التلبية (1814) والترمذي في الحج / باب ما جاء في رفع الصوت بالتلبية (829) والنسائي في المناسك / باب رفع الصوت بالإهلال (2753) وابن ماجه في المناسك / باب رفع الصوت بالتلبية (2922) .
(83) أخرجه مسلم في الحج / باب التقصير في العمرة (1248) عن جابر وأبي سعيد الخدري رضي الله عنهما ولفظه : (قالا : قدمنا مع النبي صلى الله عليه وسلم ونحن نصرخ بالحج صراخاً) .
(84) أخرجه البخاري في الجهاد / باب ما يكره من رفع الصوت في التكبير وأخرجه مسلم في الذكر والدعاء / باب استحباب خفض الصوت بالذكر (2704) عن أبي موسى رضي الله عنه واللفظ لمسلم .
(85) سورة الحج : آية 27 .
(86) سورة الفتح : آية 29.
(87) سورة التوبة : آية 120.
(88) سورة البقرة آية 158.
(89) سورة البقرة آية 196.
(90) سبق تخريجه رقم 42 .
(91) المحصب : بالضم ثم الفتح وصاد مهملة مشددة ، اسم مفعول من الحصباء أو الحصب وهو الرمي بالحصى وهي صغار الحصى وكباره: وهو موضع فيما بين مكة ومنى وهو إلى منى أقرب . معجم البلدان 5/74.
(92) أخرجه البخاري في الحدود / باب كراهية الشفاعة في الحد إذا رفع (6788) ومسلم في الحدود / باب قطع يد السارق الشريف (1688) عن عائشة رضي الله عنها .
(93) سورة طه : آية 123.
(94) سورة الأحزاب : آية 21.
(95) سورة الحشر : آية 7 .
(96) سورة آل عمران : آية 31.
(97) سورة الأعراف : آية 158.
(98) سورة البقرة : آية 255.
(99) الفتاوى 24/54.
(100) سبق تخريجه رقم 56 .
(101) أخرجه مسلم في كتاب الحج / باب استحباب رمي جمرة العقبة 2/943 وابو داود كتاب المناسك / باب رمي الجمار 1/456 والنسائي في المناسك / باب الركوب إلى الجمار 5/ 219.وابن ماجه في المناسك / باب الوقوف بجمع 2/1006.
(102) أنظر الفتاوى 26/132.
(103) أخرجه الترمذي في الدعوات / باب في دعاء يوم عرفة (3585) عن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما والإمام أحمد 2/210 عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما ولفظه :"كان دعاء رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم عرفة لا إله إلا الله ..." وقال الترمذي : حسن غريب من هذا الوجه .
(104) سبق تخريجه رقم 102.
(105) أخرجه البخاري في الرقائق / باب التواضع (6502).
(106) أنظر المحلي 5/121.
(107) سبق تخريجه رقم 61.
(108) أخرجه البخاري في كتاب الحج / باب من أذن وأقام لكل واحدة من الصلاتين (1675).
(109) أخرجه البخاري في كتاب الأذان / باب الأذان للمسافرين (631) ومسلم في كتاب المساجد / باب من أحق بالإمامة (674)
(110) المشعر الحرام : هو في قوله تعالى : "فاذكروا الله عند المشعر الحرام" وهو في مزدلفة وجمع يسمى بهما جميعاً . معجم البلدان 5/156.
(111) سبق تخريجه رقم (56).
(112) أخرجه مسلم في الصيد والذبائح / باب الأمر بإحسان الذبح والقتل وتحديد الشفرة (1955).
(113) أخرجه أبو داود في كتاب المناسك / باب التعجيل من جمع 1/450.والنسائي في كتاب المناسك / باب النهي عن رمي جمرة العقبة قبل طلوع الشمس 5/220 وابن ماجه في كتاب المناسك / باب من تقدم من جمع 2/1007 وأحمد 1/234 – 311 – 343 .
(114) انظر المغني 5/330.
(115) سبق تخريجه رقم 102 .
(116) سبق تخريجه رقم 69 .
(117) سورة الحج : آية 28.
(118) اخرجه مسلم في الحج / باب استحباب طواف الإفاضة يوم النحر (1308) عن ابن عمر رضي الله عنهما ولفظه : "أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أفاض يوم النحر . ثم رجع فصلى الظهر بمنى".
(119) أخرجه البخاري في الأدب / باب من لم ير إكفار من قال ذلك متأولاً أو جاهلاً (6106) وأخرجه مسلم في الصلاة / باب القراءة في العشاء (465) عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما .
(120) أخرجه ابن ماجه في المناسك / باب الشرب من ماء زمزم (1017).
(121) هو العلامة المحدث المحقق محمد بن ناصر الدين الألباني ولد عام 1332هـ في مدينة أشقودرة عاصمة ألبانيا آنذاك ونشأ في أسرة فقيرة ومن بيت علم ، وكان رحمه الله تعالى حريصاً جداً على العمل بالسنة ومحاربة البدعة ودعوة الناس إلى منهج السلف الصالح توفي رحمه الله عصر يوم السبت الثاني والعشرون من جمادى الآخرة لعام 1420هـ