قال العلامة أبو الطيب صدِّيق حسن بن علي القنوجي في سِفْره الماتع "الروضة الندية" [ص: 23،24 ):
ثم ترى أحدهم يلعب به الشيطان حتى يصير ماهو فيه نوعا من الجنون فيغسل يده أو وجهه مرة بعد مرة، حتى يبلغ العدد إلى حد يضيق عنه الحصر، مع دلك شديد، وكلفة عظيمة، واستغراق للفكر، وهو يعلم بأن ذلك العضو لم تصبه نجاسة مغلظة، ولا مخففة، فلا يزال فى تعب ونصب ومزاولة؛ لا يشك من رآه أنه لم يبق عنده من العقل بقية، ثم إذا فرغ من العضو الأول بعد جهد جهيد شرع في العضو الثاني، ثم كذلك، وكثير منهم من يدخل محل الطهارة قبل طلوع الفجر ولا يخرج إلا بعد طلوع الشمس، فما بلغ الشيطان هذا المبلغ من أحد من العصاة لأنه عذب نفسه في معصية لا لذة فيها للنفس، ولا رفعة للقدر، وصار بمجرد مجاوزة الثلاث الغسلات كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "فمن تجاوزها فقد أساء وتعدى وظلم" فجمع له صلى الله عليه وسلم بين هذه الثلاثة الأنواع، ثم لم يقنع منه بهذا حتى صيره تاركًا للفريضة التي ليس بين العبد وبين الكفر إلا تركها كما ثبت في الحديث الصحيح عن جابر بلفظ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "بين الرجل وبين الكفر ترك الصلاة" أخرجه مسلم وأحمد وأبو داود والترمذي وابن ماجه وأخرج أهل السنن وأحمد من حديث بريدة، قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "العهد الذي بيننا وبينهم الصلاة فمن تركها فقد كفر"، وأخرج الترمذي عن عبد الله بن شقيق العقيلي قال: كان أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم لا يرون شيئا من الأعمال تركه كفر غير الصلاة.
فانظر كيف صار هذا الموسوس بنص رسول الله صلى الله عليه وسلم مسيئًا متعديًا ظالمًا كافرًا إن بلغ إلى الحد الذي ذكرناه, فهذا باعتبار ما له عند ربه، وأما باعتبار ما له عند الخلق؛ فأقل الأحوال أن يقال: مجنون يلعب به الشيطان في مخالفة شريعة الرحمن، فخسر الدنيا والآخرة ذلك هو الخسران المبين, ومع هذا فهو يعذب نفسه بأشد العذاب، وكثيرًا ما يفضي به ذلك إلى علة كبيرة تكون سببا لهلاكه، فيلقى ربه قاتلا لنفسه في معصية، فلا يراح رائحة الجنة، كما ثبت عنه صلى الله عليه وسلم فيمن قتل نفسه، وهذه المحنة يقع فيها العالم والجاهل، فمن كان جاهلاً اعتذر لنفسه بأعذار شيطانية قد استزله الشيطان بها، فمنهم من يقول: لم أتيقن كمال الثلاث الغسلات في كل عضو؛ وهو قد غسل ذلك العضو مئات، ومنهم من يقول: أريد أن أغسل غسلاً مشروعًا لا تبقى شعرة ولا بشرة إلا وقد شملها الغسل والدلك؛ فتراه يقلب يديه ورجليه ويدلك كل موضع منه في مقدار الجثة (1) دلكًا فظيعا فيشرع بالأنملة ثم يدلك جزءًا بعد جزء حتى يفرغ من الأصبع، ثم يأخذ في الأخرى ثم كذلك، فلا يفرغ من غسل يده إلا بعد مدة طويلة، ثم يلعب به الشيطان فيشككه فيما قد غسله أنه لم يغسله فيعود إليه، ثم كذلك فلا يكمل الثلاث الغسلات في زعمه إلا بعد أن يبلغ بنفسه إلى حد يرحمه من رآه، ومن كان عالمًا يعترف بأن هذا الفعل مخالف للشريعة، وأنه وسوسة شيطانية، وهو أقبح الرجلين؛ فإنه ممن أضله الله على علم، ونادى على نفسه بأنه منقاد لطاعة شيطانه في مخالفة خالقه، مستغرق بعبادة عدو الله إبليس، لم يبق فيه بقية تزجره عن معصيته، فلم يستحي من الله فيحمله الحياء على إيثار الرحمن على الشيطان، ولم يستحي من الناس فيردعه حياؤه عن التحدث لعباد الله بأنه قد اشتغل عن ربه بطاعته الشيطان, وفي مثل هذا قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إذا لم تستح فاصنع ما شئت" .
والحاصل: أن هذه المحنة قد عمت وطمَّت؛ عند كل فرد من أفراد العباد منها جزء من الأجزاء وإن قل، والكل من طاعة الشيطان ومخالفة الرحمن، والناجي من ذلك هو الكبريت الأحمر، وعنقاء مغرب، والغراب الأبقع، ومن أنكر هذا فليجرب نفسه، ويعمل بمثل هذا النص الثابت عنه صلى الله عليه وسلم في مسح الأذى الذي يعلق بالنعل في الأرض، ثم يصلي فيه، وينظر عند ذلك كيف يجد نفسه، مع أن ذلك هو المَهْيَع الذي لا يُرجِّح المجتهد سواه إن أنصف من نفسه،
فليصدِّق فعله قوله, وإن كان مقلدًا فله بالأئمة الأسلاف قدوة، وهم الأقل من القائلين بذلك، وهيهات ذاك فإن الشكوك والخيالات قد جعلها الشيطان ذريعة يقتنص بها من لم يقع في شباكه المنصوبة للمتهتكين من العصاة؛ المستهترين بمحبتها، لأنه وجد قومًا لا تطمح أنفسهم إلى شرب الخمور، وارتكاب الفجور، فحفر لهم حفيرة جمع لهم فيها بين خزي الدنيا والآخرة، فهم أشقى أتباعه.
اللهم أعذنا من نزعات الشيطان، وأَجِرْنَا من خزي الدنيا وعذاب الآخرة.
...................................
حاشية:
(1) لعله الجثة قاله أحمد شاكر كما في "التعليقات الرضية .." اُنظره في هامش (1/124 ).