بسم الله الرحمن الرحيم
السلام عليكم و رحمة الله .
السلام عليكم و رحمة الله .
وبعد ؛ فامتثالاً لقوله تعالى : { فاسألوا أهل الذكر إن كنتم لا تعلمون }
{ وقوله : { لتبيننه للناس و لا تكتمونه }
وقوله صلى الله عليه وعلى آله وسلم : { … و عن علمه ماذا عمل به } ( 2 )
؛ أتينا نسألكم التكرم بتحقيق المسألة التالية ، ولكم الأجر:
هل ترون الاقتداء بما فعله عثمان رضي الله عنه يوم الجمعة من الأذان الثاني إطلاقاً ، أم فقط عندما يتوفر السبب الذي دعا عثمان لذلك ، لما رأى الناس قد كثروا و انغمسوا في طلب المعاش ؟
أو بعبارة أخرى : إذا وجد مسجد لا حيٌ قريب منه و لا سوق و ليس له إمام راتب ولا مئذنة ، كالمسجد الذي في داخل ثكنة الحميدية ( 3 )، فهل ترون أن يجرى فيه على سنة ..... عثمان ، أو يكتفى بأذان واحد كما هو الحال في عهد الرسول صلى الله عليه وعلى آله وسلم وصاحبيه ؟
إذا أذيعت الخطبة والأذان من المسجد المذكور بالمذياع ، فهل ترون هذا يغير في الأمر شيئاً ؟
كأن يقال : إن أذان عثمان لا حاجة إليه في مثل هذا المسجد البعيد عن البيوت والأسواق ، ولكن بما أن إذاعة الأذان تعيد إليه صفة الإعلام و تسمعه لجميع الأنحاء، فيجب العمل به ؟
أو يقال : بما أن الإذاعة تؤمن الإعلام بإذاعة أذان واحد ، فلا حاجة للآخر ؟
هل الأذان الثاني الذي شرعه الرسول صلى الله عليه وعلى آله وسلم موضعه أمام المنبر أم على باب المسجد المواجه للمنبر؟ وإذا كان هناك أذان آخر : أذان عثمان ، فهل موضعه على الباب ؟
إذا كان هناك أذان واحد فقط ، فمتى وقته ؟ هل هو أول وقت الظهر ، أم ماذا ؟
وإذا كان كذلك ، وكان وقته عند صعود الخطيب ، فمتى تُصَلَّى السنة القبلية إذا ثبتت ، وهل تصلى السنة عقب دخول الوقت بلا أذان ، ثم يصعد الخطيب ويؤذن المؤذن ، أم ماذا ؟
نرجو في كل ما سبق إيراد النصوص التي استندتم إليها في تحقيقكم ولكم منا الشكر ، ومن الله الثواب والأجر ، وفقنا الله وإياكم إلى العلم والفهم والاتباع ، وهو الهادي إلى الرشاد .
الجواب عن الأسئلة
أقول و بالله أستعين :
إني قبل الشروع في الإجابة أرى من المفيد ، بل الضروري أن أسوق هنا الحديث الوارد في أذان عثمان الأول ، لأنه سيكون محور الكلام في المسائل الآتية ؛ كما سترى ، ثم إنه لما كان الحديث المذكور فيه زيادات قد لا توجد عند بعض المخرجين للحديث ؛ رأيت تتميماً للفائدة أن أضيف كل زيادة وقفت عليها إلى أصل الحديث ، مشيراً إليها بجعلها بين قوسين [ ] ، ثم أبين من أخرج الحديث ، والزيادات من الأئمة في التعليق على الحديث ، وهاك نصه :
حديث أذان عثمان :
(( قال الإمام الزهري رحمه الله تعالى : أخبرني السائب بن يزيد أن الأذان [الذي ذكره الله في القرآن ] كان أوله حين يجلس الإمام على المنبر [ وإذا قامت الصلاة ] يوم الجمعة [ على باب المسجد ] في عهد النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم وأبي بكر وعمر ، فلما كان خلافة عثمان ، وكثر الناس [ وتباعدت المنازل ] أمر عثمان يوم الجمعة بالأذان الثالث ( وفي رواية : الأول ، وفي أخرى : بأذان ثان ) [ على دار [ له ] في السوق يقال لها : الزوراء ] ، فأذن به على الزوراء [ قبل خروجه ليعلم الناس أن الجمعة قد حضرت ] ، فثبت الأمر على ذلك ، [ فلم يعب الناس ذلك عليه، وقد عابوا عليه حين أتم الصلاة بمنى ] ))( ).
إذا علمت ما تقدم فلنشرع الآن في الجواب فنقول :
الجواب عن الفقرة الأولى :
لا نرى الاقتداء بما فعله عثمان رضي الله عنه على الإطلاق ودون قيد ، فقد علمنا مما تقدم أنه إنما زاد الأذان الأول لعلة معقولة ، وهي كثرة الناس وتباعد منازلهم عن المسجد النبوي ، فمن صرف النظر عن هذه العلة ، وتمسك بأذان عثمان مطلقاً لا يكون مقتدياً به رضي الله عنه ، بل هو مخالف له ، حيث لم ينظر بعين الاعتبار إلى تلك العلة التي لولاها لما كان لعثمان أن يزيد على سنته عليه الصلاة والسلام وسنة الخليفتين من بعده .
فإذن ؛ إنما يكون الاقتداء به رضي الله عنه حقاً عندما يتحقق السبب الذي من أجله زاد عثمان الأذان الأول ، وهو : (( كثره الناس و تباعدهم عن المسجد )) كما تقدم .
وأما ما جاء في السؤال من إضافة علة أخرى إلى الكثرة ؛ وهي ما أفاده بقوله : (( وانغمسوا في طلب المعاش )) فهذه الزيادة لا أصل لها ، فلا يجوز أن يُبْنَى عليها أي حُكْم إلا بعد إثباتـها ، ودون ذلك خرط القتاد .
وهذا السبب لا يكاد يتحقق في عصرنا هذا إلا نادراً ، وذلك في مثل بلدة كبيرة تغص بالناس على رحبها ، كما كان الحال في المدينة المنورة ، ليس فيها إلا مسجد واحد ، يجمع الناس فيه ، وقد بعدت لكثرتـهم منازلهم عنه ، فلا يبلغهم صوت المؤذن الذي يؤذن على باب المسجد ،
وأما بلدة فيها جوامع كثيرة كمدينة دمشق مثلاً ، لا يكاد المرء يمشي فيها إلا خطوات حتى يسمع الأذان للجمعة من على المنارات ، وقد وضع على بعضها أو كثير منها الآلات المكبرة للصوت ، فحصل بذلك المقصود الذي من أجله زاد عثمان الأذان ؛ ألا وهو إعلام الناس أن صلاة الجمعة قد حضرت كما نص عليه في الحديث المتقدم ، وهو معنى ما نقله القرطبي في "تفسيره" (18/100) عن الماوردي : (( فأما الأذان الأول فمُحدَث ، فعله عثمان ليتأهب الناس لحضور الخطبة عند اتساع المدينة ، وكثرة أهلها )) .
وإذا كان الأمر كذلك ، فالأخذ حينئذ بأذان عثمان من قبيل تحصيل الحاصل ، وهذا لا يجوز ، ولا سيما في مثل هذا الموضع الذي فيه التزيُّد على سنة رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم دون سبب مسوغ ، وكأنه لذلك كان علي بن أبي طالب رضي الله عنه وهو بالكوفة يقتصر على السنة ، ولا يأخذ بزيادة عثمان ؛ كما في (( القرطبي )) .
وقال ابن عمر : (( إنما كان النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم إذا صعد المنبر أذن بلال ، فإذا فرغ النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم من خطبته أقام الصلاة ، والأذان الأول بدعة )) رواه أبو طاهر المخلص في "فوائده" (ورقة 229/ 1- 2).
والخلاصة ؛ أننا نرى أن يُكتفى بالأذان المحمدي ، وأن يكون عند خروج الإمام وصعوده على المنبر ؛ لزوال السبب المسوغ لزيادة عثمان ، واتباعاً لسنة النبي عليه الصلاة والسلام ، وهو القائل: (( فمن رغب عن سنتي فليس مني )) ، متفق عليه .( )
وبنحو ما ذكرنا قال الإمام الشافعي ، ففي كتابه " الأم " (1/172–173) ما نصه : (( وأحب أن يكون الأذان يوم الجمعة حين يدخل الإمام المسجد ويجلس على المنبر ، فإذا فعل أخذ المؤذن في الأذان ، فإذا فرغ قام ، فخطب لا يزيد عليه )) .
ثم ذكر حديث السائب المتقدم ، ثم قال : (( وقد كان عطاء ينكر أن يكون عثمان أحدثه ، ويقول : أحدثه معاوية ( ) ، و أيهما كان ؛ فالأمر الذي كان على عهد رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم أحب إلي ، فإن أذَّن جماعة من المؤذنين والإمام على المنبر ، وأذن كما يؤذن اليوم أّذان قبل أذان المؤذنين إذا جلس الإمام على المنبر ؛ كرهت ذلك له ، ولا يفسد شيء من صلاته )) .
وكذلك نقول في المسجد الوارد ذكره في السؤال:إنه ينبغي أن يُجرى فيه على سنة النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم لا على سنة عثمان ، وذلك لأمرين :
الأمر الأول : أن الأذان فيه لا يسمع من سكان البيوت ؛ لبعدها كما جاء في السؤال ، بل ولا يسمع حتى من المارة في الطريق الذي يلي الثكنة من الناحية الشرقية والجنوبية ، فالأخذ حينئذ بأذان عثمان لا يحصّل الغاية التي أرادها به عثمان ، فيكون عبثاً في الشرع ينزه عنه المسلم .
الأمر الآخر: أن الذين يأتون إلى هذا المسجد ، إنما يقصدونه قصداً ، ولو من مسافات شاسعة ، فهؤلاء – و لو فرض أنـهم سمعوا الأذان – فليس هو الذي يجلبهم ويجعلهم يدركون الخطبة والصلاة ، فإنه – لبعد المسافة بينهم و بين المسجد – لا بُدَّ لهم من أن يخرجوا قبل الأذان بمدة تختلف باختلاف المسافة طولاً و قصراً ، حتى يدركوا الصلاة ، شأنـهم في ذلك شأنـهم في صلاة العيدين في المصلى أو المساجد التي لا يشرع لها أذان و لا إعلام بدخول الوقت .
نعم ؛ لا نرى مانعاً من هذا الأذان العثماني إذا جُعل عند باب الثكنة الخارجي ؛ لأنه يُسمع المارة على الجادة ، ويُعلِمهم أن في الثكنة مسجداً تقام فيه الصلاة ، فيؤمونه ، ويصلون فيه ، كما قد يسمع من يكون في البيوت القريبة من الجادة( ) ، ولكن ينبغي أن لا يُفصل بين الأذانين إلا بوقت قليل ، لأن السنة الشروع في الخطبة أول الزوال بعد الأذان ، كما يشير إلى ذلك قوله في الحديث السابق : (( أن الأذان كان أوله حين يجلس الإمام على المنبر ، وإذا قامت الصلاة ))، أي : قام سببها ، وهو الزوال ، وفي ذلك أحاديث أخرى أصرح من هذا ؛ سيأتي ذكرها عند الجواب عن الفقرة الرابعة إن شاء الله تعالى .
ولا يفوتني أن أقول : إن هذا الذي ذهبنا إليه إنما هو إذا لم يُذَع الأذان عند باب المسجد بالمذياع أو مكبر الصوت ، وإلا فلا نرى جوازه ؛ لأنه حينئذ تحصيل حاصل كما سبق بيانه .
الجواب عن الفقرة الثانية :
إن إذاعة الأذان من المسجد المذكور بالمذياع لا يغير من حكم المسألة شيئاً؛ لما سبق بيانه قريباً، ونزيد هنا فنقول :
قد مضى أن عثمان رضي الله عنه إنما زاد الأذان الأول ((ليعلم الناس أن الجمعة قد حضرت))، فإذا أذيع الأذان المحمدي بالمذياع ، فقد حصلت الغاية التي رمى إليها عثمان بأذانه ، وأعتقد أنه لو كان المذياع في عهد عثمان ، وكان يرى جواز استعماله كما نعتقد ، لكان رضي الله عنه اكتفى بإذاعة الأذان المحمدي ، وأغناه ذلك عن زيادته .
الجواب عن الفقرة الثالثة :
يفهم الجواب عن هذه الفقرة مما تقدم في الحديث : (( أن الأذان في عهد النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم وأبي بكر وعمر كان على باب المسجد ، وأن أذان عثمان كان على الزوراء )) ، فإن وجد السبب المقتضي للأخذ بأذانه حسبما تقدم تفصيله ؛ وضع مكان الحاجة و المصلحة ، لا على الباب ، فإنه موضع الأذان النبوي ، ولا في المسجد عند المنبر ، فإنه بدعة أموية كما يأتي ، وهو غير محقق للمعنى المقصود من الأذان ، وهو الإعلام ، ونقل ابن عبد البر عن مالك : (( إن الأذان بين يدي الإمام ليس من الأمر القديم )) ، أي أنه بدعة .
وقد صرح بذلك ابن عابدين في "الحاشية" (1/362) ، وابن الحاج في "المدخل" (2/208) ، وغيرهما ممن هو أقدم و أعلم منهما ، قال الشاطبي في "الاعتصام" (2/146– 147) ما ملخصه :
( قال ابن رشد : الأذان بين يدي الإمام في الجمعة مكروه ؛ لأنه محدث ، وأول من أحدثه هشام بن عبد الملك ، فإنه نقل الأذان الذي كان بالزوراء إلى المشرفة ، ونقل الأذان الذي كان بالمشرفة بين يديه ، وتلاه على ذلك من بعده من الخلفاء إلى زماننا هذا ، قال : وهو بدعة ، والذي فعله رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم والخلفاء الراشدون بعده هو السنة ، وذكر ابن حبيب ما كان فعله صلى الله عليه وعلى آله وسلم وفعل الخلفاء الراشدون بعده كما ذكر ابن رشد ، وذكر قصة هشام ، ثم قال : والذي كان فعل رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم هو السنة ، وما قاله ابن حبيب أن الأذان عند صعود الإمام على المنبر كان باقياً في زمان عثمان رضي الله عنه ؛ موافق لما نقله أرباب النقل الصحيح ، وأن عثمان لم يزد على ما كان قبله إلا الأذان على الزوراء ، فصار إذن نقل هشام الأذان المشروع في المنارة إلى ما بين يديه بدعة في ذلك المشروع)).
وللمزيد يمكنكم الرجوع إلى كتاب الإمام المحدث الفقيه / محمد ناصر الدين الألباني رحمه الله (( الأجوبة النافعة عن أسئلة لجنة مسجد الجامعة)).