هذه الرسالة كنا نرجو أن ترفع في ليلة الاستفتاء على التعديلات الدستورية!! بمصر، وقد أخذ الشيخ أبي بكر بما يسره الله له من الأسباب الممكنة لذلك، ولكن ليقضي الله أمرًا كان مفعولاً.
نظرات متأملات
في
حوادث الخوارج الجاريات
الحمد لله وسلام على عباده الذين اصطفى، أما بعد:
فإن الناظر بعين البصيرة في فتنة الخوارج الواقعة في عدة بلدان من البلدان الإسلامية -خصوصًا العربية منها- اليوم، يرى الناس -إلا من رحم الله- يسمون فيها الأشياء بغير اسمها، والمنكر بغير اسمه.
ومعلوم أن تسمية المنكر بغير اسمه الشرعي فيه تجويز المنكر نفسه أو التهوين من شأنه، مما يحدو النفوس إليه، كتسميتهم الخروج على الحكام بالمسيرات السلمية، أو التظاهر السلمي أو الثورة السلمية المباركة، أو المناداة والمطالبة بالحقوق المشروعة العادلة، أو النهي عن المنكر أو نحو ذلك، وهذا كتسميتهم الربا بالفائدة، وتسميتهم الشراب المسكر المحرم كالخمر وغيرها، بالشراب الروحي، وتسميتهم إباحة الكفر والفسق والبدعة بالحرية والديمقراطية إلى غير ذلك، وهذا كله هو من تعدي حدود الله -سبحانه وتعالى- وقد قال -تعالى-:
{تِلْكَ حُدُودُ اللّهِ فَلاَ تَعْتَدُوهَا وَمَن يَتَعَدَّ حُدُودَ اللّهِ فَأُوْلَـئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ}
وفي آية أخرى: {وَمَن يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ}
وهو أيضًا من الكذب والظلم؛ لأن الكذب هو مخالفة الواقع؛ ولأن الظلم هو وضع الشيء في غير موضعه.
وأدلة تحريم الكذب والظلم في كتاب الله وفي سنة رسوله -صلى الله عليه وعلى آله وسلم- كثيرة بثيرة، ولا شك في أن كل هذا هو من أسباب الإفساد في الأرض، ومن أسباب التشجيع على ذلك الإفساد، وتسهيل ذلك الفساد وتحسينه وتزيينه في أعين الناس، والله لا يحب الفساد ولا المفسدين.
ومن هذا القبيل تسميتهم قتلى الخوارج في هذه الفتن بالشهداء، كذباً وزورًا.
ومنهم من يقول: شهداء الحرية وشهداء الثورة، ومنهم من يحتفل بإكرام أُسَر هؤلاء الشهداء!! -على حد تعبيرهم- كمحمد بن حسان دجال مصر وغيره، إلى غير ذلك، حتى إني سمعت امرأة عبر الإذاعة تتمنى أن تموت شهيدة في سبيل تقديمها شيئاً للوطن، أي كهؤلاء الشهداء!! في زعمها!!
فتأمل -رحمك الله- ما تؤول إليه هذه المخالفات والأمور من مفاسد وشرور.
ثم إن تجويز كثير من حكام المسلمين -أو أكثرهم- اليوم في دساتيرهم لحرية التعبير عن الرأي عبر ما يسمى بالتظاهر السلمي مع كونه محرمًا لما فيه من التشبه بالكافرين وغير ذلك، أقول:
إن تجويزهم ذلك وإن كان سياسيًا لا شرعيًا، سبب لخروج الناس -مسلمهم وكافرهم- على حكامهم، وعيثهم في الأرض فسادًا، وأول من يجني الثمار المرة لذلك التجويز هم الحكام أنفسهم الذين جوزوها، وهذا التجويز هو جزء من الديمقراطية التي فرضتها أمريكا على بلاد المسلمين، كما كان يقول شيخنا مقبل ابن هادي الوادعي -رحمه الله- لكن لا يؤخذ من هذا التجويز السياسي التجويز الشرعي، ولا يجوز حينئذٍ لأي أحد الاصطياد في الماء العكر -كما يقال- ولا التذرع بذلك في مخالفة شرع الله، القاضي بتحريم الخروج بجميع ألوانه وأشكاله وصوره على حكام المسلمين.
ومن هؤلاء المصطادين في الماء العكر والمتذرعين لهذا التجويز السياسي الأحزاب والفرق الدينية الضالة، من أمثال فرقة الإخوان المسلمين وأفراخهم من القطبيين والسرورين وغيرهم الذين يخالفون مذهب أهل السنة والجماعة الشائع الذائع عن عمد وبصيرة.
فأمثال هؤلاء خوارج ضالون بلا شك، ينالهم الذم من جميع الجهات والوجوه. فإن قيل: إن بعضاً من هؤلاء المتظاهرين يتذرعون في تظاهرهم بتجويز قوانين دولهم لهذه المظاهرات، وإنهم لا علم لديهم بتحريم ذلك شرعًا، خاصة أنهم من العوام الذين لا ينتمون لأي حزب من الأحزاب والفرق الضالة التي ذكرت ونحوها، وإنما هم همج رعاع أتباع كل ناعق، قد غرهم حماس وشعارات هؤلاء المتظاهرين فلحقوا بهم.
قلنا:إن تلك الدول التي جوزت قوانينها أو دساتيرها لهم مثل تلك المظاهرات قد بُحت أصوات حكامها أو كادت تبح بمطالبتهم هؤلاء المتظاهرين بترك تظاهرهم وفك هذا التظاهر والاعتصامات، وأمرهم بالعودة إلى أعمالهم ومنازلهم، فما بقي لهم عذر شرعي في تظاهرهم وقد أعذر -أي أزال العذر- من أنذر، فكان الواجب عليهم حينئذٍ -على الأقل- السمع والطاعة لحكامهم، وإلا، فكيف يحتجون بتجويز حكامهم لذلك ولا يحتجون بأمرهم إياهم بتركه -أي التظاهر-؟!
ولحكام تلك الدول حينئذٍ الحق في الأخذ على أيدي هؤلاء المتمادين في تظاهرهم، وينال أمثالَ هؤلاء المتظاهرين الذم من جميع الوجوه أيضًا؛ لقفوهم ما ليس لهم به علم، ولعدم سؤالهم أهل الذكر عما لا علم لهم به ابتداءً، ولمعاندتهم ومخالفتهم أولياء أمورهم في عدم ترك هذا المنكر انتهاءً.
فإن قيل: لو فرضنا أن بعض هؤلاء المتظاهرين قد خرجوا في تلك المظاهرات، معتقدين جوازها شرعًا لتجويز الدولة لهم ذلك عبر دساتيرها، ثم فوجئ هؤلاء المتظاهرون بمقاتلة الدولة لهم بلا سابق إنذار منها، وقتل بعضهم، فما الحكم؟
قلنا: الواجب حينئذٍ على من قاتلته الدولة، ألا يقاتل الدولة؛ لأن مقاتلة الدولة له تتضمن أبلغ النهي عن هذا التظاهر، وعليه أن يترك هذا المنكر بما يحتويه وأن ينفض عنه؛ لأن قصارى أمر هذه المظاهرات أن يكون جائزًا مباحًا في القانون لا واجبًا، فإذا أنكر ولي الأمر على المتظاهرين تظاهرهم وجب حينئذٍ السمع والطاعة لولي الأمر، ووجب ترك هذا التظاهر، ووجب تقديم هذا الواجب شرعًا وعرفًا على هذا المباح قانونًا، فكيف إذا جُمع إلى التحريم الشرعي منع ولي الأمر لهذا التظاهر وأمره بتركه؟!
أما من قتلته الدولة -وشأنه ما ذكر- بلا سابق إنذار منها بترك هذا التظاهر وفكه وفوجئ بذلك القتل، فإن أحسن أحوال هذا المقتول وقصارى أمره -على فرض وجود هذه الصورة- أن يكون مخطئًا- معفوًا عن خطئه لا شهيدًا، ولقد قال الشيخ الإمام محمد بن صالح بن عثيمين -رحمه الله- نحو ذلك في من قام بعملية انتحارية في أوساط مجتمعات اليهود، معتقدًا أنها عملية استشهادية، مستندًا -أي هذا الفاعل- إلى فتوى من أفتاه بجواز ذلك.
قلت: وهذا مشروط بكون مثل هذا لم يفرط في سؤال أهل العلم والذكر الذين هم أهل العلم والذكر عن حكم الخروج في مثل هذا التظاهر أو حكم القيام في مثل هذه العمليات الانتحارية، إن جهل حكم ذلك أو ارتاب فيه؛ لأن الجهل والارتياب ليسا من العلم وقد قال -تعالى-:
{وَلاَ تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ}
ونحن في الوقت نفسه لابد أن نقول: لا يجوز قتل مثل هذا المتظاهر الجاهل الذي لم يسبق له إنذار من الدولة بحرمة ومنع هذا التظاهر وبوجوب تركه إذ لا مؤاخذة إلا بعد الحجة والنذارة، وقد قال -تعالى-:
{وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً}
وقال: {رُّسُلاً مُّبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ لِئَلاَّ يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ وَكَانَ اللّهُ عَزِيزاً حَكِيماً}
وقد نهى النبي -صلى الله عليه وعلى آله وسلم- عن الغدر بقوله: "ولا تغدروا"
وحرم الله -عز وجل- الخيانة بقوله: {إِنَّ اللّهَ لاَ يُحِبُّ الخَائِنِينَ}
وهذا نقوله إقامة للعدل، وقد قال -تعالى-: {وَالسَّمَاء رَفَعَهَا وَوَضَعَ الْمِيزَانَ * أَلَّا تَطْغَوْا فِي الْمِيزَانِ * وَأَقِيمُوا الْوَزْنَ بِالْقِسْطِ وَلَا تُخْسِرُوا الْمِيزَانَ}
وقال: {إِنَّ اللّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ}
وقال: {لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ}
إلى غير ذلك من الأدلة الموجبة للعدل مطلقًا، ولو كان الأمر متعلقًا بكافر أو عدو خصيم مبين، قال -تعالى-:
{وَلاَ يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ أَن صَدُّوكُمْ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ أَن تَعْتَدُواْ}
وقال : {وَلاَ يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلاَّ تَعْدِلُواْ اعْدِلُواْ هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى وَاتَّقُواْ اللّهَ إِنَّ اللّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ}
قلت: وعدم جواز قتل مثل هذا منوط بعلم الحكام بحال مثله، ومنوط أيضاً بقدرة الحكام على تفادي قتله، فقد لا يمكنهم تفادي قتله حين قتلهم لمن يستحق القتل، ويكون قتل مثل هذا هو على سبيل الاضطرار من الحكام، إذ قد لا يمكنهم قتل من استحق القتل -مراعاة لدرء المفسدة العظمى وتحقيق المصلحة العظمى- إلا بقتل مثل هذا الجاهل المعذور، ويكون قتله في هذه الحالة على سبيل التبع لا على سبيل الاستقلال، وقد يثبت تبعًا ما لا يثبت استقلالاً، ولهذا الحكم نظائر كثيرة في الشريعة.
ولا شك أن هؤلاء المتظاهرين الخوارج ليسوا بدرجة واحدة، ولقد قال ابن القيم -رحمه الله- في أهل الأهواء ما ملخصه:
إن منهم المجتهد المأجور ومنهم المقلد الموزور ومنهم الجاهل المعذور ومنهم المعاند الكفور، وأنا لا أعلم بهذه القسمة الرباعية في هؤلاء المتظاهرين أحدًا من أهل الاجتهاد الذين هم أهله، فبقي أن يكون المتظاهر الخارج معاندًا كفورًا أو مقلدًا موزورًا أو جاهلاً معذورًا، وكفى بالجهل ذمًا، ولا يجوز أن ننزل قتيل الجهل -فضلاً عن غيره- منازل الشهداء، هذا إن وجد مثل هذا الجاهل المعذور، على أنه يسمى أيضًا في ظاهر الأمر خارجًا، ويسمى فعله خروجًا وإن لم يكن مثل هذا الخارج الجاهل مستوجبًا بخروجه لغضب ووعيد الرب -سبحانه-.
ولقد جاء في مقدمة صحيح مسلم -رحمه الله- قول يحيى بن سعيد القطان -رحمه الله- : ما رأينا الصالحين في شيء أكذب منهم في الحديث، قال مسلم: يجري الكذب على ألسنتهم ولا يتعمدونه.
قلت: فتأمل وصف القطان لهم بالكذب مع عدم تعمدهم إياه، فكيف بمن تعمده؟!
وهكذا، فإن مثل هذا المتظاهر الجاهل يسمى خارجًا، ويسمى فعله خروجًا، فكيف بمن خرج متظاهرًا عالمًا بحرمة ذلك ومتعمدًا اقتراف ذلك المحرم؟!
إذا علمت ذلك التفصيل فاعلم أننا قد حكمنا على هؤلاء المتظاهرين بأنهم خوارج، وبأن فعلهم يسمى خروجًا، بناءً منا على الأصل وعلى الظاهر، وحكمنا عليهم بأنهم يستحقون للأخذ على أيديهم، بناءً منا على الغالب، أما الشاذ والنادر فلا حكم له، والصور النادرة لا يقعد عليها ولا تنزل عليها الأدلة العامة.
وإذا كان المتسبب في الشر والفاعل لذرائعه في حكم فاعل الشر -أي مباشر فعله- ومنزلاً منزلته فكيف بمن كان فاعلاً للشر من حيث هو؟!
ومن الأدلة على تنزيل فاعل أسباب الشر وذرائعه منزلة فاعل الشر نفسه ما رواه البخاري في صحيحه برقم (5973) بسنده عن عبدالله بن عمرو -رضي الله عنهما- قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "إن من أكبر الكبائر أن يلعن الرجل والديه" قيل: يا رسول الله! وكيف يلعن الرجل والديه؟ قال: "يسب الرجل أبا الرجل فيسب أباه،ويسب أمه فيسب أمه"
الحديث رواه مسلم في صحيحه برقم (146-90) بلفظ:
"من الكبائر شتم الرجل والديه" قالوا: يارسول الله! وهل يشتم الرجل والديه؟ قال: "نعم،يسب أبا الرجل فيسب أباه ويسب أمه فيسب أمه"
قلت: وهذا المسلك الذي سلكناه هو الذي يجب أن يسلكه الداعي إلى الله، الآمر بالمعروف الناهي عن المنكر، المعظم لحرمات الله، الموصد لأبواب المنكر والفساد والشر، والساد لجميع ذرائعه.
ومن هنا تعلم جهل وضلال من أضفى على أفعال هؤلاء المتظاهرين الصبغة الشرعية، وتعلم جهل وضلال من كسا خروجهم لباس الشرع، وتعلم جهل وضلال من قال: إنهم ليسوا خوارج، أو قال: ليس فعلهم خروجًا، معتذرًا لهم بأعذار هي أوهى وأوهن من بيت العنكبوت لو كانوا يعلمون، وأمثال هؤلاء ما هم إلا أغمار وراء الأستار، وما كلامهم إلا هراءٌ وفساءٌ في هواء.
والواجب على أهل العلم هو بيان حرمة هذا التظاهر بأدلته الشرعية، وتعليم الجاهلين، حتى لا يقدم عليه أحد جهلا منه.
هذا، ومما يلحظ في هذه الأيام هو فتح باب الكلام لأهل الأهواء والجهلة، ومن غرائب ما سمعناه في بعض الإذاعات في فتنة الخوارج هذه في هذه الأيام قول بعضهم:
فإن الناظر بعين البصيرة في فتنة الخوارج الواقعة في عدة بلدان من البلدان الإسلامية -خصوصًا العربية منها- اليوم، يرى الناس -إلا من رحم الله- يسمون فيها الأشياء بغير اسمها، والمنكر بغير اسمه.
ومعلوم أن تسمية المنكر بغير اسمه الشرعي فيه تجويز المنكر نفسه أو التهوين من شأنه، مما يحدو النفوس إليه، كتسميتهم الخروج على الحكام بالمسيرات السلمية، أو التظاهر السلمي أو الثورة السلمية المباركة، أو المناداة والمطالبة بالحقوق المشروعة العادلة، أو النهي عن المنكر أو نحو ذلك، وهذا كتسميتهم الربا بالفائدة، وتسميتهم الشراب المسكر المحرم كالخمر وغيرها، بالشراب الروحي، وتسميتهم إباحة الكفر والفسق والبدعة بالحرية والديمقراطية إلى غير ذلك، وهذا كله هو من تعدي حدود الله -سبحانه وتعالى- وقد قال -تعالى-:
{تِلْكَ حُدُودُ اللّهِ فَلاَ تَعْتَدُوهَا وَمَن يَتَعَدَّ حُدُودَ اللّهِ فَأُوْلَـئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ}
وفي آية أخرى: {وَمَن يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ}
وهو أيضًا من الكذب والظلم؛ لأن الكذب هو مخالفة الواقع؛ ولأن الظلم هو وضع الشيء في غير موضعه.
وأدلة تحريم الكذب والظلم في كتاب الله وفي سنة رسوله -صلى الله عليه وعلى آله وسلم- كثيرة بثيرة، ولا شك في أن كل هذا هو من أسباب الإفساد في الأرض، ومن أسباب التشجيع على ذلك الإفساد، وتسهيل ذلك الفساد وتحسينه وتزيينه في أعين الناس، والله لا يحب الفساد ولا المفسدين.
ومن هذا القبيل تسميتهم قتلى الخوارج في هذه الفتن بالشهداء، كذباً وزورًا.
ومنهم من يقول: شهداء الحرية وشهداء الثورة، ومنهم من يحتفل بإكرام أُسَر هؤلاء الشهداء!! -على حد تعبيرهم- كمحمد بن حسان دجال مصر وغيره، إلى غير ذلك، حتى إني سمعت امرأة عبر الإذاعة تتمنى أن تموت شهيدة في سبيل تقديمها شيئاً للوطن، أي كهؤلاء الشهداء!! في زعمها!!
فتأمل -رحمك الله- ما تؤول إليه هذه المخالفات والأمور من مفاسد وشرور.
ثم إن تجويز كثير من حكام المسلمين -أو أكثرهم- اليوم في دساتيرهم لحرية التعبير عن الرأي عبر ما يسمى بالتظاهر السلمي مع كونه محرمًا لما فيه من التشبه بالكافرين وغير ذلك، أقول:
إن تجويزهم ذلك وإن كان سياسيًا لا شرعيًا، سبب لخروج الناس -مسلمهم وكافرهم- على حكامهم، وعيثهم في الأرض فسادًا، وأول من يجني الثمار المرة لذلك التجويز هم الحكام أنفسهم الذين جوزوها، وهذا التجويز هو جزء من الديمقراطية التي فرضتها أمريكا على بلاد المسلمين، كما كان يقول شيخنا مقبل ابن هادي الوادعي -رحمه الله- لكن لا يؤخذ من هذا التجويز السياسي التجويز الشرعي، ولا يجوز حينئذٍ لأي أحد الاصطياد في الماء العكر -كما يقال- ولا التذرع بذلك في مخالفة شرع الله، القاضي بتحريم الخروج بجميع ألوانه وأشكاله وصوره على حكام المسلمين.
ومن هؤلاء المصطادين في الماء العكر والمتذرعين لهذا التجويز السياسي الأحزاب والفرق الدينية الضالة، من أمثال فرقة الإخوان المسلمين وأفراخهم من القطبيين والسرورين وغيرهم الذين يخالفون مذهب أهل السنة والجماعة الشائع الذائع عن عمد وبصيرة.
فأمثال هؤلاء خوارج ضالون بلا شك، ينالهم الذم من جميع الجهات والوجوه. فإن قيل: إن بعضاً من هؤلاء المتظاهرين يتذرعون في تظاهرهم بتجويز قوانين دولهم لهذه المظاهرات، وإنهم لا علم لديهم بتحريم ذلك شرعًا، خاصة أنهم من العوام الذين لا ينتمون لأي حزب من الأحزاب والفرق الضالة التي ذكرت ونحوها، وإنما هم همج رعاع أتباع كل ناعق، قد غرهم حماس وشعارات هؤلاء المتظاهرين فلحقوا بهم.
قلنا:إن تلك الدول التي جوزت قوانينها أو دساتيرها لهم مثل تلك المظاهرات قد بُحت أصوات حكامها أو كادت تبح بمطالبتهم هؤلاء المتظاهرين بترك تظاهرهم وفك هذا التظاهر والاعتصامات، وأمرهم بالعودة إلى أعمالهم ومنازلهم، فما بقي لهم عذر شرعي في تظاهرهم وقد أعذر -أي أزال العذر- من أنذر، فكان الواجب عليهم حينئذٍ -على الأقل- السمع والطاعة لحكامهم، وإلا، فكيف يحتجون بتجويز حكامهم لذلك ولا يحتجون بأمرهم إياهم بتركه -أي التظاهر-؟!
ولحكام تلك الدول حينئذٍ الحق في الأخذ على أيدي هؤلاء المتمادين في تظاهرهم، وينال أمثالَ هؤلاء المتظاهرين الذم من جميع الوجوه أيضًا؛ لقفوهم ما ليس لهم به علم، ولعدم سؤالهم أهل الذكر عما لا علم لهم به ابتداءً، ولمعاندتهم ومخالفتهم أولياء أمورهم في عدم ترك هذا المنكر انتهاءً.
فإن قيل: لو فرضنا أن بعض هؤلاء المتظاهرين قد خرجوا في تلك المظاهرات، معتقدين جوازها شرعًا لتجويز الدولة لهم ذلك عبر دساتيرها، ثم فوجئ هؤلاء المتظاهرون بمقاتلة الدولة لهم بلا سابق إنذار منها، وقتل بعضهم، فما الحكم؟
قلنا: الواجب حينئذٍ على من قاتلته الدولة، ألا يقاتل الدولة؛ لأن مقاتلة الدولة له تتضمن أبلغ النهي عن هذا التظاهر، وعليه أن يترك هذا المنكر بما يحتويه وأن ينفض عنه؛ لأن قصارى أمر هذه المظاهرات أن يكون جائزًا مباحًا في القانون لا واجبًا، فإذا أنكر ولي الأمر على المتظاهرين تظاهرهم وجب حينئذٍ السمع والطاعة لولي الأمر، ووجب ترك هذا التظاهر، ووجب تقديم هذا الواجب شرعًا وعرفًا على هذا المباح قانونًا، فكيف إذا جُمع إلى التحريم الشرعي منع ولي الأمر لهذا التظاهر وأمره بتركه؟!
أما من قتلته الدولة -وشأنه ما ذكر- بلا سابق إنذار منها بترك هذا التظاهر وفكه وفوجئ بذلك القتل، فإن أحسن أحوال هذا المقتول وقصارى أمره -على فرض وجود هذه الصورة- أن يكون مخطئًا- معفوًا عن خطئه لا شهيدًا، ولقد قال الشيخ الإمام محمد بن صالح بن عثيمين -رحمه الله- نحو ذلك في من قام بعملية انتحارية في أوساط مجتمعات اليهود، معتقدًا أنها عملية استشهادية، مستندًا -أي هذا الفاعل- إلى فتوى من أفتاه بجواز ذلك.
قلت: وهذا مشروط بكون مثل هذا لم يفرط في سؤال أهل العلم والذكر الذين هم أهل العلم والذكر عن حكم الخروج في مثل هذا التظاهر أو حكم القيام في مثل هذه العمليات الانتحارية، إن جهل حكم ذلك أو ارتاب فيه؛ لأن الجهل والارتياب ليسا من العلم وقد قال -تعالى-:
{وَلاَ تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ}
ونحن في الوقت نفسه لابد أن نقول: لا يجوز قتل مثل هذا المتظاهر الجاهل الذي لم يسبق له إنذار من الدولة بحرمة ومنع هذا التظاهر وبوجوب تركه إذ لا مؤاخذة إلا بعد الحجة والنذارة، وقد قال -تعالى-:
{وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً}
وقال: {رُّسُلاً مُّبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ لِئَلاَّ يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ وَكَانَ اللّهُ عَزِيزاً حَكِيماً}
وقد نهى النبي -صلى الله عليه وعلى آله وسلم- عن الغدر بقوله: "ولا تغدروا"
وحرم الله -عز وجل- الخيانة بقوله: {إِنَّ اللّهَ لاَ يُحِبُّ الخَائِنِينَ}
وهذا نقوله إقامة للعدل، وقد قال -تعالى-: {وَالسَّمَاء رَفَعَهَا وَوَضَعَ الْمِيزَانَ * أَلَّا تَطْغَوْا فِي الْمِيزَانِ * وَأَقِيمُوا الْوَزْنَ بِالْقِسْطِ وَلَا تُخْسِرُوا الْمِيزَانَ}
وقال: {إِنَّ اللّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ}
وقال: {لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ}
إلى غير ذلك من الأدلة الموجبة للعدل مطلقًا، ولو كان الأمر متعلقًا بكافر أو عدو خصيم مبين، قال -تعالى-:
{وَلاَ يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ أَن صَدُّوكُمْ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ أَن تَعْتَدُواْ}
وقال : {وَلاَ يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلاَّ تَعْدِلُواْ اعْدِلُواْ هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى وَاتَّقُواْ اللّهَ إِنَّ اللّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ}
قلت: وعدم جواز قتل مثل هذا منوط بعلم الحكام بحال مثله، ومنوط أيضاً بقدرة الحكام على تفادي قتله، فقد لا يمكنهم تفادي قتله حين قتلهم لمن يستحق القتل، ويكون قتل مثل هذا هو على سبيل الاضطرار من الحكام، إذ قد لا يمكنهم قتل من استحق القتل -مراعاة لدرء المفسدة العظمى وتحقيق المصلحة العظمى- إلا بقتل مثل هذا الجاهل المعذور، ويكون قتله في هذه الحالة على سبيل التبع لا على سبيل الاستقلال، وقد يثبت تبعًا ما لا يثبت استقلالاً، ولهذا الحكم نظائر كثيرة في الشريعة.
ولا شك أن هؤلاء المتظاهرين الخوارج ليسوا بدرجة واحدة، ولقد قال ابن القيم -رحمه الله- في أهل الأهواء ما ملخصه:
إن منهم المجتهد المأجور ومنهم المقلد الموزور ومنهم الجاهل المعذور ومنهم المعاند الكفور، وأنا لا أعلم بهذه القسمة الرباعية في هؤلاء المتظاهرين أحدًا من أهل الاجتهاد الذين هم أهله، فبقي أن يكون المتظاهر الخارج معاندًا كفورًا أو مقلدًا موزورًا أو جاهلاً معذورًا، وكفى بالجهل ذمًا، ولا يجوز أن ننزل قتيل الجهل -فضلاً عن غيره- منازل الشهداء، هذا إن وجد مثل هذا الجاهل المعذور، على أنه يسمى أيضًا في ظاهر الأمر خارجًا، ويسمى فعله خروجًا وإن لم يكن مثل هذا الخارج الجاهل مستوجبًا بخروجه لغضب ووعيد الرب -سبحانه-.
ولقد جاء في مقدمة صحيح مسلم -رحمه الله- قول يحيى بن سعيد القطان -رحمه الله- : ما رأينا الصالحين في شيء أكذب منهم في الحديث، قال مسلم: يجري الكذب على ألسنتهم ولا يتعمدونه.
قلت: فتأمل وصف القطان لهم بالكذب مع عدم تعمدهم إياه، فكيف بمن تعمده؟!
وهكذا، فإن مثل هذا المتظاهر الجاهل يسمى خارجًا، ويسمى فعله خروجًا، فكيف بمن خرج متظاهرًا عالمًا بحرمة ذلك ومتعمدًا اقتراف ذلك المحرم؟!
إذا علمت ذلك التفصيل فاعلم أننا قد حكمنا على هؤلاء المتظاهرين بأنهم خوارج، وبأن فعلهم يسمى خروجًا، بناءً منا على الأصل وعلى الظاهر، وحكمنا عليهم بأنهم يستحقون للأخذ على أيديهم، بناءً منا على الغالب، أما الشاذ والنادر فلا حكم له، والصور النادرة لا يقعد عليها ولا تنزل عليها الأدلة العامة.
وإذا كان المتسبب في الشر والفاعل لذرائعه في حكم فاعل الشر -أي مباشر فعله- ومنزلاً منزلته فكيف بمن كان فاعلاً للشر من حيث هو؟!
ومن الأدلة على تنزيل فاعل أسباب الشر وذرائعه منزلة فاعل الشر نفسه ما رواه البخاري في صحيحه برقم (5973) بسنده عن عبدالله بن عمرو -رضي الله عنهما- قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "إن من أكبر الكبائر أن يلعن الرجل والديه" قيل: يا رسول الله! وكيف يلعن الرجل والديه؟ قال: "يسب الرجل أبا الرجل فيسب أباه،ويسب أمه فيسب أمه"
الحديث رواه مسلم في صحيحه برقم (146-90) بلفظ:
"من الكبائر شتم الرجل والديه" قالوا: يارسول الله! وهل يشتم الرجل والديه؟ قال: "نعم،يسب أبا الرجل فيسب أباه ويسب أمه فيسب أمه"
قلت: وهذا المسلك الذي سلكناه هو الذي يجب أن يسلكه الداعي إلى الله، الآمر بالمعروف الناهي عن المنكر، المعظم لحرمات الله، الموصد لأبواب المنكر والفساد والشر، والساد لجميع ذرائعه.
ومن هنا تعلم جهل وضلال من أضفى على أفعال هؤلاء المتظاهرين الصبغة الشرعية، وتعلم جهل وضلال من كسا خروجهم لباس الشرع، وتعلم جهل وضلال من قال: إنهم ليسوا خوارج، أو قال: ليس فعلهم خروجًا، معتذرًا لهم بأعذار هي أوهى وأوهن من بيت العنكبوت لو كانوا يعلمون، وأمثال هؤلاء ما هم إلا أغمار وراء الأستار، وما كلامهم إلا هراءٌ وفساءٌ في هواء.
والواجب على أهل العلم هو بيان حرمة هذا التظاهر بأدلته الشرعية، وتعليم الجاهلين، حتى لا يقدم عليه أحد جهلا منه.
هذا، ومما يلحظ في هذه الأيام هو فتح باب الكلام لأهل الأهواء والجهلة، ومن غرائب ما سمعناه في بعض الإذاعات في فتنة الخوارج هذه في هذه الأيام قول بعضهم:
لا فرق بين كنيسة أو مسجد *** فكلاهما باسم الإله يضاءُ!!
نعوذ بالله من الجهل والكفر، ونحن في الوقت الذي نؤمن فيه بالدينونة بالسمع والطاعة لأي حاكم من حكام المسلمين في المعروف في ما استطعنا، وأن له بيعة في أعناقنا على بيع الله ورسوله، وأنه لا يجوز الخروج عليه بأي نوع من أنواع الخروج، ونؤمن فيه بحقوق أهل الكتاب التي أقرها لهم الإسلام وأجازها وأوجبها لهم في ديار الإسلام، ونحرم البغي عليهم والاعتداء عليهم بأي نوع من أنواع البغي والاعتداء، وننكر على من فعل ذلك، ونعتقد وجوب الأخذ على يد الباغي والظالم كائنًا من كان بقدر بغيه وظلمه واعتدائه، فإننا نؤمن ونعتقد في الوقت نفسه بطلان جميع الأديان اليوم سوى دين الإسلام لقوله -تعالى-:
{إِنَّ الدِّينَ عِندَ اللّهِ الإِسْلاَمُ}
ولقوله -تعالى-:
{وَمَن يَبْتَغِ غَيْرَ الإِسْلاَمِ دِيناً فَلَن يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ}
وننكر على من سوّى بين الإيمان والكفر وبين المسلم والكافر لقوله -تعالى-:
{ أَفَمَن كَانَ مُؤْمِناً كَمَن كَانَ فَاسِقاً لَّا يَسْتَوُونَ}
ولا شك في أن كفر أهل الكتاب مقطوع به في دين الإسلام، قال -تعالى-:
{لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُواْ إِنَّ اللّهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ وَقَالَ الْمَسِيحُ يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ اعْبُدُواْ اللّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ إِنَّهُ مَن يُشْرِكْ بِاللّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللّهُ عَلَيهِ الْجَنَّةَ وَمَأْوَاهُ النَّارُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنصَارٍ * لَّقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُواْ إِنَّ اللّهَ ثَالِثُ ثَلاَثَةٍ وَمَا مِنْ إِلَـهٍ إِلاَّ إِلَـهٌ وَاحِدٌ وَإِن لَّمْ يَنتَهُواْ عَمَّا يَقُولُونَ لَيَمَسَّنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ مِنْهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ * أَفَلاَ يَتُوبُونَ إِلَى اللّهِ وَيَسْتَغْفِرُونَهُ وَاللّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ}
وقال -عز وجل-: {وَقَالَتِ الْيَهُودُ عُزَيْرٌ ابْنُ اللّهِ وَقَالَتْ النَّصَارَى الْمَسِيحُ ابْنُ اللّهِ ذَلِكَ قَوْلُهُم بِأَفْوَاهِهِمْ يُضَاهِؤُونَ قَوْلَ الَّذِينَ كَفَرُواْ مِن قَبْلُ قَاتَلَهُمُ اللّهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ * اتَّخَذُواْ أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَاباً مِّن دُونِ اللّهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَمَا أُمِرُواْ إِلاَّ لِيَعْبُدُواْ إِلَـهاً وَاحِداً لاَّ إِلَـهَ إِلاَّ هُوَ سُبْحَانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ * يُرِيدُونَ أَن يُطْفِؤُواْ نُورَ اللّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَيَأْبَى اللّهُ إِلاَّ أَن يُتِمَّ نُورَهُ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ * هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ}
وقال -عز من قائل-: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَالْمُشْرِكِينَ فِي نَارِ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا أُوْلَئِكَ هُمْ شَرُّ الْبَرِيَّةِ}
ومما سمعناه في هذه الفتنة أيضًا كلام في لقاء لرجل يدعى رمضان عبد المعز في إحدى الإذاعات المصرية يثني فيه على القرضاوي، إمام الضلالة، ويدندن بالقاعدة الباطلة لإمام الضلالة حسن البنا حيث يقول: ... ويعذر بعضنا بعضًا فيما اختلفنا فيه، وينفي هذا الرجل -أعني رمضان- كون الذي حدث من فتنة الخروج بمصر خروجًا معللاً ذلك -كشأن غيره في الضلال- بأنه ليس خروجًا بالسلاح، وقد قال فيما قال أيضًا: لا يخون بعضنا بعضًا، لا مسلم ولا مسيحي!!... أو كما قال.
وإنما ذكرت اسمه لقول مجري الحوار معه: إنه إمام ورئيس المركز الإسلامي بنيويورك، فأحببت التحذير من مثله في مصر وفي نيويورك وغيرهما، ولقد نزل بي من الغم ما نزل بسبب كلامه ذاك، وما هو إلا أن سرّى الله عني لمداخلة أحد ائمة وخطباء المساجد، حيث ردّ عليه في مسألة الخروج بلسان السلف، وأن الخروج بالسلاح لا يكون إلا بالابتداء بالكلام التثويري، وأنكر عليه ثناءه على القرضاوي قائلاً: كيف تثني على القرضاوي الذي أثنى على بابا الفاتيكان؟! -أوكما قال- فجزاه الله عن هذه المُداخلة خيرًا.
ومما سمعناه في هذه الأيام أيضًا في إحدى الإذاعات المصرية قول عصام العريان المتحدث باسم جماعة الإخوان، وأحد أعضاء مكتب الإرشاد للجماعة حينما سألته مُجرية!! اللقاء معه عن حقوق المرأة في الجماعة:
حقوق المرأة والرجل سواء، ومن أجل ذلك رشحنا ثلاث نساء في الانتخابات الماضية!!
قلت: خبتَ وخسرت، وما أفلحت ولا أنجحت، وخابت جماعتكم وخسرت وما أفلحت ولا أنجحت، إذ صدق عليكم ما رواه البخاري في صحيحه من حديث أبي بكرة -رضي الله عنه- عن النبي -صلى الله عليه وعلى آله وسلم- أنه قال: "لن يفلح قوم ولوا أمرهم امرأة"
فخذ هذا الحديث أنت وأهل مذهبك بغير شيء!!
وكيف تفلح فرقة الإخوان المسلمين وقد حكم عليها أهل العلم بالضلال؟!
قلت: ولك من اسم العريان نصيب، وإن لم يكن اسمك أنت، فقد ثبت في الصحيح من حديث سعيد بن المسيب بن حزْن عن أبيه المسيب أن أباه حزنًا أتى النبي -صلى الله عليه وعلى آله وسلم- فقال له النبي -صلى الله عليه وعلى آله وسلم-: "ما اسمك"؟ فقال: حزن، فقال النبي -صلى الله عليه وعلى آله وسلم-: "بل أنت سهل" فقال: لا أغير اسمًا سمانيه أبي، قال سعيد الحفيد: فما زالت الحزونة فينا بعد.
قلت: والحزْن ضد السهل وهو الصعب، قلت: فكيف الحال بمن خالف منهج السلف الصالح -رضي الله عنهم- وتشعبت به الأهواء يَمنةً ويَسرة؟!
فهلاّ كسوتم عريكم بكساء ولباس المنهج السلفي، وتركتم الأهواء المضلة؟!
ومما سمعناه أيضاً في إحدى الإذاعات المصرية قول بعضهم حينما سأله شخص: هل يجوز أن يتولى الحكم في مصر واحد غير مسلم؟:
إن استوفى الشروط الدستورية، وحكم بالشريعة الإسلامية، فالدين الرسمي للدولة هو الإسلام، فلا مانع.
قلت: وهذا من أغرب الغرائب، ومن أعجب العجائب، ذلك؛ لأن فاقد الشيء لا يعطيه، وكل إناء بما فيه ينضح، وإذا كان لا يجوز تمكين الفاسق والمبتدع ولو كان مسلماً من الولاية على المسلمين فكيف بالكافر، وقد قال -تعالى-:
{وَإِذِ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ فَأَتَمَّهُنَّ قَالَ إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَاماً قَالَ وَمِن ذُرِّيَّتِي قَالَ لاَ يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ}
وقال -تعالى-: {وَلَن يَجْعَلَ اللّهُ لِلْكَافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلا}
وقال:{وَلَن تَرْضَى عَنكَ الْيَهُودُ وَلاَ النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ}
وقد قال النبي -صلى الله عليه وعلى آله وسلم- :
"إنا لا نولي هذا الأمر من طلبه أو حرص عليه"
وذلك حينما أراد بعض الأشعريين أن يوليهم النبي على بعض العمل مع كونهم صحابة أفاضل، وذلك لمظنة تهمة الطالب والحريص، فكيف بالكافر الأصلي المقطوع بفقده للعدالة؟!
إلى غير ذلك من الأدلة الدالة على تحريم ولاية الكافر على المسلم وما أكثرها!!
وقد نبح أسامة القوصي بجواز تولية النصراني الكفء!! للحكم في مصر في هذه الأيام، وبرق ورعد وأرغى وأزبد في سبيل تجويز ذلك، حيث ساق ما لا يصح أن يكون شبهة دليل فضلاً عن أن يكون دليلاً على جواز ذلك، وهذا من انتكاساته وكبرى ضلالاته وعظمى خزعبيلاته، رماه الله بكل بلية، وأراح منه الورى والبرية، وقد رد عليه في ذلك الشيخ يحيى الحجوري -حفظه الله- ولم يستوعب الرد على كل ما أورده القوصي في سبيل تجويزه لذلك، وأمره -أعني القوصي، قص الله لسانه- كما قيل:
{إِنَّ الدِّينَ عِندَ اللّهِ الإِسْلاَمُ}
ولقوله -تعالى-:
{وَمَن يَبْتَغِ غَيْرَ الإِسْلاَمِ دِيناً فَلَن يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ}
وننكر على من سوّى بين الإيمان والكفر وبين المسلم والكافر لقوله -تعالى-:
{ أَفَمَن كَانَ مُؤْمِناً كَمَن كَانَ فَاسِقاً لَّا يَسْتَوُونَ}
ولا شك في أن كفر أهل الكتاب مقطوع به في دين الإسلام، قال -تعالى-:
{لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُواْ إِنَّ اللّهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ وَقَالَ الْمَسِيحُ يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ اعْبُدُواْ اللّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ إِنَّهُ مَن يُشْرِكْ بِاللّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللّهُ عَلَيهِ الْجَنَّةَ وَمَأْوَاهُ النَّارُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنصَارٍ * لَّقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُواْ إِنَّ اللّهَ ثَالِثُ ثَلاَثَةٍ وَمَا مِنْ إِلَـهٍ إِلاَّ إِلَـهٌ وَاحِدٌ وَإِن لَّمْ يَنتَهُواْ عَمَّا يَقُولُونَ لَيَمَسَّنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ مِنْهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ * أَفَلاَ يَتُوبُونَ إِلَى اللّهِ وَيَسْتَغْفِرُونَهُ وَاللّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ}
وقال -عز وجل-: {وَقَالَتِ الْيَهُودُ عُزَيْرٌ ابْنُ اللّهِ وَقَالَتْ النَّصَارَى الْمَسِيحُ ابْنُ اللّهِ ذَلِكَ قَوْلُهُم بِأَفْوَاهِهِمْ يُضَاهِؤُونَ قَوْلَ الَّذِينَ كَفَرُواْ مِن قَبْلُ قَاتَلَهُمُ اللّهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ * اتَّخَذُواْ أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَاباً مِّن دُونِ اللّهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَمَا أُمِرُواْ إِلاَّ لِيَعْبُدُواْ إِلَـهاً وَاحِداً لاَّ إِلَـهَ إِلاَّ هُوَ سُبْحَانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ * يُرِيدُونَ أَن يُطْفِؤُواْ نُورَ اللّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَيَأْبَى اللّهُ إِلاَّ أَن يُتِمَّ نُورَهُ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ * هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ}
وقال -عز من قائل-: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَالْمُشْرِكِينَ فِي نَارِ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا أُوْلَئِكَ هُمْ شَرُّ الْبَرِيَّةِ}
ومما سمعناه في هذه الفتنة أيضًا كلام في لقاء لرجل يدعى رمضان عبد المعز في إحدى الإذاعات المصرية يثني فيه على القرضاوي، إمام الضلالة، ويدندن بالقاعدة الباطلة لإمام الضلالة حسن البنا حيث يقول: ... ويعذر بعضنا بعضًا فيما اختلفنا فيه، وينفي هذا الرجل -أعني رمضان- كون الذي حدث من فتنة الخروج بمصر خروجًا معللاً ذلك -كشأن غيره في الضلال- بأنه ليس خروجًا بالسلاح، وقد قال فيما قال أيضًا: لا يخون بعضنا بعضًا، لا مسلم ولا مسيحي!!... أو كما قال.
وإنما ذكرت اسمه لقول مجري الحوار معه: إنه إمام ورئيس المركز الإسلامي بنيويورك، فأحببت التحذير من مثله في مصر وفي نيويورك وغيرهما، ولقد نزل بي من الغم ما نزل بسبب كلامه ذاك، وما هو إلا أن سرّى الله عني لمداخلة أحد ائمة وخطباء المساجد، حيث ردّ عليه في مسألة الخروج بلسان السلف، وأن الخروج بالسلاح لا يكون إلا بالابتداء بالكلام التثويري، وأنكر عليه ثناءه على القرضاوي قائلاً: كيف تثني على القرضاوي الذي أثنى على بابا الفاتيكان؟! -أوكما قال- فجزاه الله عن هذه المُداخلة خيرًا.
ومما سمعناه في هذه الأيام أيضًا في إحدى الإذاعات المصرية قول عصام العريان المتحدث باسم جماعة الإخوان، وأحد أعضاء مكتب الإرشاد للجماعة حينما سألته مُجرية!! اللقاء معه عن حقوق المرأة في الجماعة:
حقوق المرأة والرجل سواء، ومن أجل ذلك رشحنا ثلاث نساء في الانتخابات الماضية!!
قلت: خبتَ وخسرت، وما أفلحت ولا أنجحت، وخابت جماعتكم وخسرت وما أفلحت ولا أنجحت، إذ صدق عليكم ما رواه البخاري في صحيحه من حديث أبي بكرة -رضي الله عنه- عن النبي -صلى الله عليه وعلى آله وسلم- أنه قال: "لن يفلح قوم ولوا أمرهم امرأة"
فخذ هذا الحديث أنت وأهل مذهبك بغير شيء!!
وكيف تفلح فرقة الإخوان المسلمين وقد حكم عليها أهل العلم بالضلال؟!
قلت: ولك من اسم العريان نصيب، وإن لم يكن اسمك أنت، فقد ثبت في الصحيح من حديث سعيد بن المسيب بن حزْن عن أبيه المسيب أن أباه حزنًا أتى النبي -صلى الله عليه وعلى آله وسلم- فقال له النبي -صلى الله عليه وعلى آله وسلم-: "ما اسمك"؟ فقال: حزن، فقال النبي -صلى الله عليه وعلى آله وسلم-: "بل أنت سهل" فقال: لا أغير اسمًا سمانيه أبي، قال سعيد الحفيد: فما زالت الحزونة فينا بعد.
قلت: والحزْن ضد السهل وهو الصعب، قلت: فكيف الحال بمن خالف منهج السلف الصالح -رضي الله عنهم- وتشعبت به الأهواء يَمنةً ويَسرة؟!
فهلاّ كسوتم عريكم بكساء ولباس المنهج السلفي، وتركتم الأهواء المضلة؟!
ومما سمعناه أيضاً في إحدى الإذاعات المصرية قول بعضهم حينما سأله شخص: هل يجوز أن يتولى الحكم في مصر واحد غير مسلم؟:
إن استوفى الشروط الدستورية، وحكم بالشريعة الإسلامية، فالدين الرسمي للدولة هو الإسلام، فلا مانع.
قلت: وهذا من أغرب الغرائب، ومن أعجب العجائب، ذلك؛ لأن فاقد الشيء لا يعطيه، وكل إناء بما فيه ينضح، وإذا كان لا يجوز تمكين الفاسق والمبتدع ولو كان مسلماً من الولاية على المسلمين فكيف بالكافر، وقد قال -تعالى-:
{وَإِذِ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ فَأَتَمَّهُنَّ قَالَ إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَاماً قَالَ وَمِن ذُرِّيَّتِي قَالَ لاَ يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ}
وقال -تعالى-: {وَلَن يَجْعَلَ اللّهُ لِلْكَافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلا}
وقال:{وَلَن تَرْضَى عَنكَ الْيَهُودُ وَلاَ النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ}
وقد قال النبي -صلى الله عليه وعلى آله وسلم- :
"إنا لا نولي هذا الأمر من طلبه أو حرص عليه"
وذلك حينما أراد بعض الأشعريين أن يوليهم النبي على بعض العمل مع كونهم صحابة أفاضل، وذلك لمظنة تهمة الطالب والحريص، فكيف بالكافر الأصلي المقطوع بفقده للعدالة؟!
إلى غير ذلك من الأدلة الدالة على تحريم ولاية الكافر على المسلم وما أكثرها!!
وقد نبح أسامة القوصي بجواز تولية النصراني الكفء!! للحكم في مصر في هذه الأيام، وبرق ورعد وأرغى وأزبد في سبيل تجويز ذلك، حيث ساق ما لا يصح أن يكون شبهة دليل فضلاً عن أن يكون دليلاً على جواز ذلك، وهذا من انتكاساته وكبرى ضلالاته وعظمى خزعبيلاته، رماه الله بكل بلية، وأراح منه الورى والبرية، وقد رد عليه في ذلك الشيخ يحيى الحجوري -حفظه الله- ولم يستوعب الرد على كل ما أورده القوصي في سبيل تجويزه لذلك، وأمره -أعني القوصي، قص الله لسانه- كما قيل:
ولو أن كل كلب عوى ألقمته حجراً *** لكان الحصى كل مثقال بدينار
ومما قرأناه في توصيات مؤتمر الدجاجلة المسمى بالمؤتمر السلفي بالمنصورة بمصر إرجاء أمر المظاهرات إلى حين استقرار الأوضاع في البلاد، ولا يستحيي هؤلاء الكذابون أن ينسبوا ذلك كما نسبوا غيره من الكذب إلى المنهج السلفي كما هو ظاهر في عنوان مؤتمرهم -لا وحد الله لهم جمعاً، ولا لم لهم شملاً-.
ومقتضى هذه التوصية تقليب البلاد في الفتن بعد استقرارها، على أن كلمة الإستقرار هنا كلمة مجملة، فقد يكون الإستقرار على حق وقد يكون على باطل، والإجمال سبيل أهل الباطل والبدعة، رماهم الله بباقعة ما لها من راقعة، ورماهم الله بفاتقة ما لها من راتقة، أولئك أحزاب الضلالة، الذين كادوا للمذهب السلفي وأهله، وركبوا موجة الضلال والفتن في هذه الأيام -أغرقهم الله- وهاهم يوجبون على الناس اليوم ما لم يوجبه الله ولا رسوله من المشاركة في الاستفتاء على التعديلات الدستورية، المبني على الأكثرية المتفرعة عن الديمقراطية الطاغوتية، وليس للمسلمين من شرعة ومنهاج (دستور) سوى الكتاب والسنة بفهم سلف الأمة، وما سوى ذلك فغي وضلال وفتنة، لا يستشرف لها إلا كل ضال مفتون.
والواجب على المسلم هو النأي والبعد عن مواطن الاختلاط والزور، وقد مدح الله عباد الرحمن بقوله:
{وَالَّذِينَ لَا يَشْهَدُونَ الزُّورَ وَإِذَا مَرُّوا بِاللَّغْوِ مَرُّوا كِرَاماً}
هذا، وإن فتح الباب لأمثال هؤلاء في الإذاعة أو غيرها من وسائل الإعلام لنذير شر على البلاد والعباد، ويكون أول من يجني الثمار المرة لذلك هو من يمكن لأمثال هؤلاء، كما رأينا، فكثير من مساجد مصر هي بأيدي أهل الزيغ والضلال، من الإخوان المسلمين والقطبيين الذين أفسدوا البلاد والعباد، وما ثمرة الخروج المرة اليوم منا ولا من غيرنا ببعيدة، ولقد قال –تعالى-:
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَتَّخِذُواْ بِطَانَةً مِّن دُونِكُمْ لاَ يَأْلُونَكُمْ خَبَالاً}
وأهل الأهواء هم دون أهل السنة، وأمثال هؤلاء يَفُتُّون في عضد المسلمين ولا يشدونه، والله المستعان، وإني لأرى الأمور اليوم تسوء بتمكين أمثال هؤلاء الذين يجب أن يحتسب أولياء الأمور في الأخذ على أيديهم، وزجرهم وردعهم، وعدم التمكين لهم، وذلك عن طريق استخدام أساليب دهائهم وذكائهم في تحقيق ذلك، والتمكين للسلفيين الذين هم سلفيون، وفتح الأبواب على مصاريعها لهم، فالسلفيون هم أهل حق وصدق وتوحيد وتأمين للبلاد والعباد وأمر بالمعروف بمعروف ونهي عن المنكر بغير منكر، وهذا التمكين والفتح مما يعين هؤلاء السلفيين على الإسهام في نشر الخير في البلاد وبين العباد، وحتى يكثر ذلك الخير، وحتى يذهب الشر أو يضمحل ويقل.
ولا أزعم أن أمثال هؤلاء الضلال اليوم هم بطانة الحكام، ولكني أحذر من اتخاذهم بطانة، وأحذر من التمكين لهم، ومن فتح الأبواب لهم للإفساد في الأرض بدعوى الإصلاح، فما كان أهل الأهواء والضلال يومًا مصلحين ولا ناصرين للإٌسلام وأهله، كما أنني أدعو حكام المسلمين عمومًا إلى العمل بشرع الله كله في شتى ميادين الحياة، وأن يجتمعوا على أتقى قلب رجل واحد منهم، وأن يأخذوا بأسباب النصر على أعداء الإسلام، وبأسباب العزة والتمكين في الأرض، ولا سبيل إلى ذلك إلا بالعمل بالكتاب والسنة بفهم سلف الأمة، وأن ينهوا عن الفساد في الأرض وعن جميع المعاصي، فإن ذلك كله إنما هو سبب البلاء والشقاء -والعياذ بالله- كما أنني أحذر حكام المسلمين جميعهم من تنحية شرع الله وعدم العمل به، كما أحذرهم من الظلم؛ لأن ذلك كله سبب لتسليط أهل الكفر والمعاصي والضلال عليهم، وسبب لحلول العقوبات الكونية، قال -تعالى-:{وَكَذَلِكَ نُوَلِّي بَعْضَ الظَّالِمِينَ بَعْضاً بِمَا كَانُواْ يَكْسِبُونَ}
وقال: {ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُم بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ}
وقال: {وَمَا أَصَابَكُم مِّن مُّصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَن كَثِيرٍ}
وقال: {وَمَا كُنَّا مُهْلِكِي الْقُرَى إِلَّا وَأَهْلُهَا ظَالِمُونَ}
وقال: {وَكَذَلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذَا أَخَذَ الْقُرَى وَهِيَ ظَالِمَةٌ إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ}
وما تمر به البلادفي هذه الأيام من الفتن والمحن هو على مرأى منا ومسمع، وما الزلزال الضارب لبلاد اليابان الكافرة الذي أُتبع بفيضانٍ بلغت سرعة أمواجه 800 كيلو متر في الساعة -أي نحو خمسمائة ميل في الساعة- فأهلك القرى وأهلها بما يزيد على خمسة عشر ألفاً في هذه الأيام، أقول:
ما ذلك كله وغيره منا ببعيد، وأبشر حكام المسلمين -إن هم صدروا عن شرع الله -سبحانه وتعالى- بالتمكين، والنصر والظفر على الأعداء، والعزة والرفعة في الدنيا والآخرة، وأن هذا هو سبيل حفظ الله لهم، وسبيل إلقاء الله الرعب وقذفه في قلوب أعدائهم.
كما أنصح لهم بإلغاء ما يجوز التظاهر من قوانينهم ودساتيرهم، إذ إن أهل الباطل والأهواء يتذرعون بذلك في خروجهم على حكام المسلمين، وإضعافهم بذلك دولة الإسلام شعروا أم لم يشعروا، كما نرى اليوم من زوال أو ضعف هيبة الحكم والحكام، وكشف الستر عن دول الإسلام أمام أعدائه.
هذا وقد كان كثيرمن الناس يشكون في هذه الحوادث ما ألم بهم قبل من الظلم والفقر، فإذا بهم يجمعون اليوم بين خوف وفقر -نسأل الله العافية- لعدم شكرهم نعمة الله عليهم، جزاءً بما كانوا يعملون، وصدق ربنا إذ قال:
{وَقَلِيلٌ مِّنْ عِبَادِيَ الشَّكُورُ}
وقال -تعالى-: {وَضَرَبَ اللّهُ مَثَلاً قَرْيَةً كَانَتْ آمِنَةً مُّطْمَئِنَّةً يَأْتِيهَا رِزْقُهَا رَغَداً مِّن كُلِّ مَكَانٍ فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللّهِ فَأَذَاقَهَا اللّهُ لِبَاسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ بِمَا كَانُواْ يَصْنَعُونَ}
فما بالناس -اليوم- من فقرإلا الفقر إلى الصبر، وما بالناس اليوم إلا فقر في الدين، وهذا الفقر هو الفقر الحقيقي الذي هو عيب بصاحبه، أما الفقر في المال فهو مصيبة لا معيبة، وقد دلت الأدلة على فضل وخيرية الفقير الصابر، وما أكثرها!!
فمن ذلك قوله -تعالى-: {مَا أَصَابَ مِن مُّصِيبَةٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ وَمَن يُؤْمِن بِاللَّهِ يَهْدِ قَلْبَهُ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ}
وقول النبي -صلى الله عليه وعلى آله وسلم-:
"قد أفلح من أسلم، ورزق كفافًا، وقنعه الله بما آتاه"
وقوله: "انظروا إلى من هو دونكم" أي في أمور الدنيا "ولا تنظروا إلى من هو فوقكم فإنه أجدر ألا تزدروا نعمة الله عليكم"
وقول النبي -صلى الله عليه وعلى آله وسلم-:
"اللهم اجعل رزق آل محمد قوتًا" أي كفافًا.
وقد جاء عن بعض السلف قوله: أدركنا خير أيامنا بالصبر.
وقد قال -تعالى-: { كَلَّا إِنَّ الْإِنسَانَ لَيَطْغَى * أَن رَّآهُ اسْتَغْنَى}
إلا من رحم الله، فاللهم إنا نسألك غنىً غير مطغ.
وقد قال النبي -صلى الله عليه وعلى آله وسلم-:
"مالي وللدنيا أنا كراكب قال في ظل شجرة ثم راح وتركها"
وقال لابن عمر : "كن في الدنيا كأنك غريب أو عابر سبيل"
ومات ودرعه مرهونة عند يهودي -صلى الله عليه وعلى آله وسلم- إلى غير ذلك من الأدلة.
فيا ليت الناس تمسكوا بدينهم حق التمسك، وعادوا إليه بجميع شرائعه عودًا حميدًا!!
وإلا، فما كان بالناس من حاجة إلى القيام بمثل تلك الثورة، التي هي في الحقيقة ثورة البطون والأهواء الجامحة.
فما نفع الناس مثل هذا التظاهر اليوم، وإنما أضرهم في دينهم ودنياهم، وكيف يأتي جهول متحذلق ويتحذلق مدعيًا أن مثل هذا التظاهر والاعتصام الذي له شهر من الزمان في ديارنا -على الأقل- ولا نعلم متى سينتهي مدعيًا أنه ليس خروجًا، معللا ذلك بأنه ليس خروجًا بالسلاح، مع أن هذا الخروج يضاهي الخروج بالسلاح أو يفوقه ويتجاوزه، ذلك؛ لأن الخروج بالسلاح يجوز ويخول للحكام مقاتلة هؤلاء الخارجين، أما مثل تلك المظاهرات فإنها تضع بلاد المسلمين وحكام المسلمين في موضع حرج، لما تبنته دساتير تلك البلاد من تجويز التعبير عن الرأي بمسيرات ومظاهرات سلمية!!
ولرعاية بلاد الكفر لأمر تلك المسيرات والمظاهرات، وأخذهم على أيدي حكام المسلمين الذين يقاتلون أصحاب تلك المسيرات وإرهابهم وإذلالهم بسبيل أو بآخر -وإنا لله وإنا إليه راجعون-.
فمثل هذه المسيرات والمظاهرات قد تعمل ما لا يعمله الخروج المسلح اليوم، فكم من مفسدة تكتنف تلك المسيرات والمظاهرات خاصة مع طول الأمد، والواقع شاهد في بلدان شتى، فكيف يأتي جويهل أحيمق ويدعي أن هذا ليس خروجًا؟!
إن فتح باب تجويز أمر تلك المظاهرات إنما هو فتح باب فوضى وقلاقل في بلاد الإسلام ليل نهار صباح مساء، كما نرى اليوم، وباب لتعطيل مصالح المسلمين، وإطماع أعداء الإسلام في بلاد الإسلام، إلى غير ذلك وهذا مما قد لا يفعله الخروج المسلح، ولا أعني -بداهة- جواز الخروج المسلح، وإنما أعني باب المظاهرات ينبغي إيصاده وغلقه وقفله، وإحكام ذلك بأقوى الأقفال، وأن يُخَوِّف الحكام المتظاهرين، ويوعدوهم بشديد الوعيد، وشديد العقاب، حتى لا يتجرؤوا على هذا الخروج وذاك التظاهر، وإن لم ينفذوا هذا الوعيد في حقهم.
وقد حكى الحافظ ابن كثير -رحمه الله- في البداية والنهاية في حوادث شهر الله المحرم وشهر صفر لسنة سبع وستين وستمائة جـ14، صـ263 وما بعدها، الطبعة الأولى، لسنة1423هـ، مكتبة الصفا، حكى ما قال لنائب السلطنة بالشام بشأن نصارى قبرص التي شارك صاحبها الفرنجة في محاصرة مدينة الإسكندرية -حرسها الله من شر الأشرار وكيد الفجار- وإيقاع الأمر الفظيع بها، حيث قال -رحمه الله- في صـ264:
"وذكرت له أشياء كثيرة، مما ينبغي اعتماده في حق أهل قبرص من الإرهاب، ووعيد العقاب، وأنه يجوز ذلك، وإن لم يفعل ما يتوعدهم به، كما قال سليمان ابن داود عليهما السلام :" ائتوني بالسكين أشقه نصفين" كما هو مبسوط في الصحيحين، فجعل يعجبه هذا جدًا، وذكر أن هذا كان في قلبه، ..." انتهى.
فيجب على حكام المسلمين نصرة دين الله، ومن نصر دين الله وأولياء الله وأخذ بأسباب ذلك، نصره الله، ولو اجتمع عليه من بأقطارها، كما نصر الله رسوله وأعز جنده وهزم الأحزاب وحده، وكما نصر صحابته والتابعين لهم بإحسان في كل زمان ومكان.
هذا، ومما يجب على أهل السنة في مثل هذه الفتن هو بيان الحق بأدلته ونصرة الحق، والرد على المبتدعة ولو اعتلوا على كرسي الحكم -لامكن الله لهم- كما هو العهد بالإمام أحمد في زمن فتنة خلق القرآن، التي اعتقدها وتبناها الخلفاء والقضاة وغيرهم، إلا من رحم الله، وقليل ما هم، فلن يمنع أهل السنة -إن شاء الله- مانع من بيان الحق، ورد الباطل في كل زمان ومكان.
هذا، وينبغي التفريق بين السنن الكونية والسنن الشرعية، في أمر خروج الخوارج هؤلاء، إذ لا يلزم من خروج الخوارج على حكام المسلمين اليوم -مع كون هذا الخروج جاريًا وحادثًا وواقعًا بقدر الله -سبحانه وتعالى- أن يكون خروجهم مشروعًا، فخروجهم حرام شرعًا، وإن سلطهم الله على حكام ظالمين، كما قال -تعالى-: {وَكَذَلِكَ نُوَلِّي بَعْضَ الظَّالِمِينَ بَعْضاً بِمَا كَانُواْ يَكْسِبُونَ}
ذلك؛ لأن الخروج على الحاكم المسلم لا يجوز، ولو كان ظالمًا فاسقًا، كما دلت على ذلك النصوص الشرعية، فليس كل ما يقع كونًا وقدرًا يكون جائزًا دينًا وشرعًا، وإلا كانت كل الذنوب والمعاصي ابتداءً بأصغر الصغائر وانتهاء بالشرك الأكبر والكفر البواح بجميع أشكاله وصوره جائزة دينًا وشرعًا لوقوعها بقد الله -سبحانه- وهذا باطل محال.
فإن قيل: إن الخروج محرم ولكن العبرة بالثمرة فلنرتقب الثمرة، قلنا:
ثمرة الخروج مرة، ولا يجتنى من الشوك العنب، ولا يثمر الحنظل إلا الحنظل، ولا يتولد من الباطل ولا يتفرع عنه إلا الباطل، أما الخير فإنه لا يأتي إلا بخير، كما قال النبي -صلى الله عليه وعلى آله وسلم- وقد قال -تعالى-:
{فَأَمَّا مَن أَعْطَى وَاتَّقَى * وَصَدَّقَ بِالْحُسْنَى * فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرَى * وَأَمَّا مَن بَخِلَ وَاسْتَغْنَى * وَكَذَّبَ بِالْحُسْنَى * فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْعُسْرَى}
وقال -تعالى-: {وَالْعَاقِبَةُ لِلتَّقْوَى}
وقال:{وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ}
وهاتان الجملتان من المبتدأ والخبر من أساليب الحصر، فلا عاقبة إلا للتقوى ولا عاقبة إلا للمتقين، ولا تخفى الثمار المرة للخروج اليوم إلا على عميان البصائر، ولو لم يكن من ذلك إلا ثمرة الخوف وفقد نعمة الأمن التي لا تقدر بمال لكفى بها ثمرة مرة، فكيف إذا أضيف إلى ذلك ثمار القتل والسلب والنهب وهتك العرض وإضعاف الدول وإضعاف هيبتها إلى غير ذلك من الثمار المرة؟!
وقد قيل: بثمارهم تعرفونهم، ولو كانت ثمرة الشر خيراً لعاد ذلك بالطعن على الشريعة وإبطالها، إذ لو كانت ثمرة الشر خيراً لسوينا بين ثمرة الشر وثمرة الخير، وهذا باطل محال.
وليُعلم أن الغرم في هذه الفتن إنما هو على أصحابها، أما غنمها فإنما هو للمؤمنين فحسب، قال -تعالى-:
{وَعَسَى أَن تَكْرَهُواْ شَيْئاً وَهُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ وَعَسَى أَن تُحِبُّواْ شَيْئاً وَهُوَ شَرٌّ لَّكُمْ وَاللّهُ يَعْلَمُ وَأَنتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ}
وقال النبي -صلى الله عليه وعلى آله وسلم-:
"عجبًا لأمر المؤمن إن أمره كله له خير وليس ذلك لأحد إلا للمؤمن إن أصابته سراء شكر فكان خيرًا له وإن أصابته ضراء صبر فكان خيراً له"
ومِن غُرمِ الخوارج اليوم في فتنة خروجهم أنهم يتحملون تبعات خروجهم وإفسادهم في الأرض يوم القيامة، إضافة إلى الفضيحة والعقوبة العاجلة في الدنيا، أما غنم أهل السنة في هذه الفتنة فمن جهات عديدة منها: عبادتهم لله -سبحانه وتعالى- في هذه الفتنة بالدعاء وغيره، وقد قال النبي -صلى الله عليه وعلى آله وسلم-: "عبادة في الهرج كهجرة إلي"
رواه مسلم من حديث معقل بن يسار –رضي الله عنه-.
ومنها: أن الله أظهر مذهب أهل السنة على مذهب خصومهم من الخوارج وأعوانهم، وبان لكثير من الناس عوار ما كان عليه هؤلاء الخوارج من فرقة الإخوان المسلمين وأعوانهم من أدعياء السلفية الكذبة الخونة.
فمعلوم أن بعض هؤلاء الخوارج الضلال كان له شهرة كبيرة، واغتر به أناس كثيرون، فجاءت هذه الفتنة ليجلي الله بها أمر هؤلاء الخوارج والأدعياء الكذبة لكثير ممن كان يغتر بتزييهم بالزي السلفي الكاذب، وبادعائهم أنهم على منهج السلف، وأخذ السلفيون -بفضل الله ومنته وكرمه ونصره- يبينون للناس حقيقة هؤلاء بلا تورية بعد أن بينوا حقيقتهم بالأمس، وقد قامت هذه الفضيحة في حق هؤلاء مقام أدلة كثيرة ربما كان لا يقنع بها كثير من الناس من العوام الطغام والهمج الرعاع المغترين بهؤلاء المفضوحين، لا يقنعون بها في التدليل على حقيقة ما عليه هؤلاء الأدعياء من الكذب والتلبيس والباطل، أو ربما كان يعجز محاججهم عن إقناعهم بها بحقيقة ما عليه القوم -فلله الحمد والمنة- وبدأ هؤلاء الأدعياء الكذبة يدخلون حومة وغى السياسة العصرية التي تلعب بهم تلاعبًا، وتفضحهم فضحًا، وتهينهم إهانة، وتتقاذفهم تقاذف الكرة.
وصدق من قال:
ومقتضى هذه التوصية تقليب البلاد في الفتن بعد استقرارها، على أن كلمة الإستقرار هنا كلمة مجملة، فقد يكون الإستقرار على حق وقد يكون على باطل، والإجمال سبيل أهل الباطل والبدعة، رماهم الله بباقعة ما لها من راقعة، ورماهم الله بفاتقة ما لها من راتقة، أولئك أحزاب الضلالة، الذين كادوا للمذهب السلفي وأهله، وركبوا موجة الضلال والفتن في هذه الأيام -أغرقهم الله- وهاهم يوجبون على الناس اليوم ما لم يوجبه الله ولا رسوله من المشاركة في الاستفتاء على التعديلات الدستورية، المبني على الأكثرية المتفرعة عن الديمقراطية الطاغوتية، وليس للمسلمين من شرعة ومنهاج (دستور) سوى الكتاب والسنة بفهم سلف الأمة، وما سوى ذلك فغي وضلال وفتنة، لا يستشرف لها إلا كل ضال مفتون.
والواجب على المسلم هو النأي والبعد عن مواطن الاختلاط والزور، وقد مدح الله عباد الرحمن بقوله:
{وَالَّذِينَ لَا يَشْهَدُونَ الزُّورَ وَإِذَا مَرُّوا بِاللَّغْوِ مَرُّوا كِرَاماً}
هذا، وإن فتح الباب لأمثال هؤلاء في الإذاعة أو غيرها من وسائل الإعلام لنذير شر على البلاد والعباد، ويكون أول من يجني الثمار المرة لذلك هو من يمكن لأمثال هؤلاء، كما رأينا، فكثير من مساجد مصر هي بأيدي أهل الزيغ والضلال، من الإخوان المسلمين والقطبيين الذين أفسدوا البلاد والعباد، وما ثمرة الخروج المرة اليوم منا ولا من غيرنا ببعيدة، ولقد قال –تعالى-:
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَتَّخِذُواْ بِطَانَةً مِّن دُونِكُمْ لاَ يَأْلُونَكُمْ خَبَالاً}
وأهل الأهواء هم دون أهل السنة، وأمثال هؤلاء يَفُتُّون في عضد المسلمين ولا يشدونه، والله المستعان، وإني لأرى الأمور اليوم تسوء بتمكين أمثال هؤلاء الذين يجب أن يحتسب أولياء الأمور في الأخذ على أيديهم، وزجرهم وردعهم، وعدم التمكين لهم، وذلك عن طريق استخدام أساليب دهائهم وذكائهم في تحقيق ذلك، والتمكين للسلفيين الذين هم سلفيون، وفتح الأبواب على مصاريعها لهم، فالسلفيون هم أهل حق وصدق وتوحيد وتأمين للبلاد والعباد وأمر بالمعروف بمعروف ونهي عن المنكر بغير منكر، وهذا التمكين والفتح مما يعين هؤلاء السلفيين على الإسهام في نشر الخير في البلاد وبين العباد، وحتى يكثر ذلك الخير، وحتى يذهب الشر أو يضمحل ويقل.
ولا أزعم أن أمثال هؤلاء الضلال اليوم هم بطانة الحكام، ولكني أحذر من اتخاذهم بطانة، وأحذر من التمكين لهم، ومن فتح الأبواب لهم للإفساد في الأرض بدعوى الإصلاح، فما كان أهل الأهواء والضلال يومًا مصلحين ولا ناصرين للإٌسلام وأهله، كما أنني أدعو حكام المسلمين عمومًا إلى العمل بشرع الله كله في شتى ميادين الحياة، وأن يجتمعوا على أتقى قلب رجل واحد منهم، وأن يأخذوا بأسباب النصر على أعداء الإسلام، وبأسباب العزة والتمكين في الأرض، ولا سبيل إلى ذلك إلا بالعمل بالكتاب والسنة بفهم سلف الأمة، وأن ينهوا عن الفساد في الأرض وعن جميع المعاصي، فإن ذلك كله إنما هو سبب البلاء والشقاء -والعياذ بالله- كما أنني أحذر حكام المسلمين جميعهم من تنحية شرع الله وعدم العمل به، كما أحذرهم من الظلم؛ لأن ذلك كله سبب لتسليط أهل الكفر والمعاصي والضلال عليهم، وسبب لحلول العقوبات الكونية، قال -تعالى-:{وَكَذَلِكَ نُوَلِّي بَعْضَ الظَّالِمِينَ بَعْضاً بِمَا كَانُواْ يَكْسِبُونَ}
وقال: {ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُم بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ}
وقال: {وَمَا أَصَابَكُم مِّن مُّصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَن كَثِيرٍ}
وقال: {وَمَا كُنَّا مُهْلِكِي الْقُرَى إِلَّا وَأَهْلُهَا ظَالِمُونَ}
وقال: {وَكَذَلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذَا أَخَذَ الْقُرَى وَهِيَ ظَالِمَةٌ إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ}
وما تمر به البلادفي هذه الأيام من الفتن والمحن هو على مرأى منا ومسمع، وما الزلزال الضارب لبلاد اليابان الكافرة الذي أُتبع بفيضانٍ بلغت سرعة أمواجه 800 كيلو متر في الساعة -أي نحو خمسمائة ميل في الساعة- فأهلك القرى وأهلها بما يزيد على خمسة عشر ألفاً في هذه الأيام، أقول:
ما ذلك كله وغيره منا ببعيد، وأبشر حكام المسلمين -إن هم صدروا عن شرع الله -سبحانه وتعالى- بالتمكين، والنصر والظفر على الأعداء، والعزة والرفعة في الدنيا والآخرة، وأن هذا هو سبيل حفظ الله لهم، وسبيل إلقاء الله الرعب وقذفه في قلوب أعدائهم.
كما أنصح لهم بإلغاء ما يجوز التظاهر من قوانينهم ودساتيرهم، إذ إن أهل الباطل والأهواء يتذرعون بذلك في خروجهم على حكام المسلمين، وإضعافهم بذلك دولة الإسلام شعروا أم لم يشعروا، كما نرى اليوم من زوال أو ضعف هيبة الحكم والحكام، وكشف الستر عن دول الإسلام أمام أعدائه.
هذا وقد كان كثيرمن الناس يشكون في هذه الحوادث ما ألم بهم قبل من الظلم والفقر، فإذا بهم يجمعون اليوم بين خوف وفقر -نسأل الله العافية- لعدم شكرهم نعمة الله عليهم، جزاءً بما كانوا يعملون، وصدق ربنا إذ قال:
{وَقَلِيلٌ مِّنْ عِبَادِيَ الشَّكُورُ}
وقال -تعالى-: {وَضَرَبَ اللّهُ مَثَلاً قَرْيَةً كَانَتْ آمِنَةً مُّطْمَئِنَّةً يَأْتِيهَا رِزْقُهَا رَغَداً مِّن كُلِّ مَكَانٍ فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللّهِ فَأَذَاقَهَا اللّهُ لِبَاسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ بِمَا كَانُواْ يَصْنَعُونَ}
فما بالناس -اليوم- من فقرإلا الفقر إلى الصبر، وما بالناس اليوم إلا فقر في الدين، وهذا الفقر هو الفقر الحقيقي الذي هو عيب بصاحبه، أما الفقر في المال فهو مصيبة لا معيبة، وقد دلت الأدلة على فضل وخيرية الفقير الصابر، وما أكثرها!!
فمن ذلك قوله -تعالى-: {مَا أَصَابَ مِن مُّصِيبَةٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ وَمَن يُؤْمِن بِاللَّهِ يَهْدِ قَلْبَهُ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ}
وقول النبي -صلى الله عليه وعلى آله وسلم-:
"قد أفلح من أسلم، ورزق كفافًا، وقنعه الله بما آتاه"
وقوله: "انظروا إلى من هو دونكم" أي في أمور الدنيا "ولا تنظروا إلى من هو فوقكم فإنه أجدر ألا تزدروا نعمة الله عليكم"
وقول النبي -صلى الله عليه وعلى آله وسلم-:
"اللهم اجعل رزق آل محمد قوتًا" أي كفافًا.
وقد جاء عن بعض السلف قوله: أدركنا خير أيامنا بالصبر.
وقد قال -تعالى-: { كَلَّا إِنَّ الْإِنسَانَ لَيَطْغَى * أَن رَّآهُ اسْتَغْنَى}
إلا من رحم الله، فاللهم إنا نسألك غنىً غير مطغ.
وقد قال النبي -صلى الله عليه وعلى آله وسلم-:
"مالي وللدنيا أنا كراكب قال في ظل شجرة ثم راح وتركها"
وقال لابن عمر : "كن في الدنيا كأنك غريب أو عابر سبيل"
ومات ودرعه مرهونة عند يهودي -صلى الله عليه وعلى آله وسلم- إلى غير ذلك من الأدلة.
فيا ليت الناس تمسكوا بدينهم حق التمسك، وعادوا إليه بجميع شرائعه عودًا حميدًا!!
وإلا، فما كان بالناس من حاجة إلى القيام بمثل تلك الثورة، التي هي في الحقيقة ثورة البطون والأهواء الجامحة.
فما نفع الناس مثل هذا التظاهر اليوم، وإنما أضرهم في دينهم ودنياهم، وكيف يأتي جهول متحذلق ويتحذلق مدعيًا أن مثل هذا التظاهر والاعتصام الذي له شهر من الزمان في ديارنا -على الأقل- ولا نعلم متى سينتهي مدعيًا أنه ليس خروجًا، معللا ذلك بأنه ليس خروجًا بالسلاح، مع أن هذا الخروج يضاهي الخروج بالسلاح أو يفوقه ويتجاوزه، ذلك؛ لأن الخروج بالسلاح يجوز ويخول للحكام مقاتلة هؤلاء الخارجين، أما مثل تلك المظاهرات فإنها تضع بلاد المسلمين وحكام المسلمين في موضع حرج، لما تبنته دساتير تلك البلاد من تجويز التعبير عن الرأي بمسيرات ومظاهرات سلمية!!
ولرعاية بلاد الكفر لأمر تلك المسيرات والمظاهرات، وأخذهم على أيدي حكام المسلمين الذين يقاتلون أصحاب تلك المسيرات وإرهابهم وإذلالهم بسبيل أو بآخر -وإنا لله وإنا إليه راجعون-.
فمثل هذه المسيرات والمظاهرات قد تعمل ما لا يعمله الخروج المسلح اليوم، فكم من مفسدة تكتنف تلك المسيرات والمظاهرات خاصة مع طول الأمد، والواقع شاهد في بلدان شتى، فكيف يأتي جويهل أحيمق ويدعي أن هذا ليس خروجًا؟!
إن فتح باب تجويز أمر تلك المظاهرات إنما هو فتح باب فوضى وقلاقل في بلاد الإسلام ليل نهار صباح مساء، كما نرى اليوم، وباب لتعطيل مصالح المسلمين، وإطماع أعداء الإسلام في بلاد الإسلام، إلى غير ذلك وهذا مما قد لا يفعله الخروج المسلح، ولا أعني -بداهة- جواز الخروج المسلح، وإنما أعني باب المظاهرات ينبغي إيصاده وغلقه وقفله، وإحكام ذلك بأقوى الأقفال، وأن يُخَوِّف الحكام المتظاهرين، ويوعدوهم بشديد الوعيد، وشديد العقاب، حتى لا يتجرؤوا على هذا الخروج وذاك التظاهر، وإن لم ينفذوا هذا الوعيد في حقهم.
وقد حكى الحافظ ابن كثير -رحمه الله- في البداية والنهاية في حوادث شهر الله المحرم وشهر صفر لسنة سبع وستين وستمائة جـ14، صـ263 وما بعدها، الطبعة الأولى، لسنة1423هـ، مكتبة الصفا، حكى ما قال لنائب السلطنة بالشام بشأن نصارى قبرص التي شارك صاحبها الفرنجة في محاصرة مدينة الإسكندرية -حرسها الله من شر الأشرار وكيد الفجار- وإيقاع الأمر الفظيع بها، حيث قال -رحمه الله- في صـ264:
"وذكرت له أشياء كثيرة، مما ينبغي اعتماده في حق أهل قبرص من الإرهاب، ووعيد العقاب، وأنه يجوز ذلك، وإن لم يفعل ما يتوعدهم به، كما قال سليمان ابن داود عليهما السلام :" ائتوني بالسكين أشقه نصفين" كما هو مبسوط في الصحيحين، فجعل يعجبه هذا جدًا، وذكر أن هذا كان في قلبه، ..." انتهى.
فيجب على حكام المسلمين نصرة دين الله، ومن نصر دين الله وأولياء الله وأخذ بأسباب ذلك، نصره الله، ولو اجتمع عليه من بأقطارها، كما نصر الله رسوله وأعز جنده وهزم الأحزاب وحده، وكما نصر صحابته والتابعين لهم بإحسان في كل زمان ومكان.
هذا، ومما يجب على أهل السنة في مثل هذه الفتن هو بيان الحق بأدلته ونصرة الحق، والرد على المبتدعة ولو اعتلوا على كرسي الحكم -لامكن الله لهم- كما هو العهد بالإمام أحمد في زمن فتنة خلق القرآن، التي اعتقدها وتبناها الخلفاء والقضاة وغيرهم، إلا من رحم الله، وقليل ما هم، فلن يمنع أهل السنة -إن شاء الله- مانع من بيان الحق، ورد الباطل في كل زمان ومكان.
هذا، وينبغي التفريق بين السنن الكونية والسنن الشرعية، في أمر خروج الخوارج هؤلاء، إذ لا يلزم من خروج الخوارج على حكام المسلمين اليوم -مع كون هذا الخروج جاريًا وحادثًا وواقعًا بقدر الله -سبحانه وتعالى- أن يكون خروجهم مشروعًا، فخروجهم حرام شرعًا، وإن سلطهم الله على حكام ظالمين، كما قال -تعالى-: {وَكَذَلِكَ نُوَلِّي بَعْضَ الظَّالِمِينَ بَعْضاً بِمَا كَانُواْ يَكْسِبُونَ}
ذلك؛ لأن الخروج على الحاكم المسلم لا يجوز، ولو كان ظالمًا فاسقًا، كما دلت على ذلك النصوص الشرعية، فليس كل ما يقع كونًا وقدرًا يكون جائزًا دينًا وشرعًا، وإلا كانت كل الذنوب والمعاصي ابتداءً بأصغر الصغائر وانتهاء بالشرك الأكبر والكفر البواح بجميع أشكاله وصوره جائزة دينًا وشرعًا لوقوعها بقد الله -سبحانه- وهذا باطل محال.
فإن قيل: إن الخروج محرم ولكن العبرة بالثمرة فلنرتقب الثمرة، قلنا:
ثمرة الخروج مرة، ولا يجتنى من الشوك العنب، ولا يثمر الحنظل إلا الحنظل، ولا يتولد من الباطل ولا يتفرع عنه إلا الباطل، أما الخير فإنه لا يأتي إلا بخير، كما قال النبي -صلى الله عليه وعلى آله وسلم- وقد قال -تعالى-:
{فَأَمَّا مَن أَعْطَى وَاتَّقَى * وَصَدَّقَ بِالْحُسْنَى * فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرَى * وَأَمَّا مَن بَخِلَ وَاسْتَغْنَى * وَكَذَّبَ بِالْحُسْنَى * فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْعُسْرَى}
وقال -تعالى-: {وَالْعَاقِبَةُ لِلتَّقْوَى}
وقال:{وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ}
وهاتان الجملتان من المبتدأ والخبر من أساليب الحصر، فلا عاقبة إلا للتقوى ولا عاقبة إلا للمتقين، ولا تخفى الثمار المرة للخروج اليوم إلا على عميان البصائر، ولو لم يكن من ذلك إلا ثمرة الخوف وفقد نعمة الأمن التي لا تقدر بمال لكفى بها ثمرة مرة، فكيف إذا أضيف إلى ذلك ثمار القتل والسلب والنهب وهتك العرض وإضعاف الدول وإضعاف هيبتها إلى غير ذلك من الثمار المرة؟!
وقد قيل: بثمارهم تعرفونهم، ولو كانت ثمرة الشر خيراً لعاد ذلك بالطعن على الشريعة وإبطالها، إذ لو كانت ثمرة الشر خيراً لسوينا بين ثمرة الشر وثمرة الخير، وهذا باطل محال.
وليُعلم أن الغرم في هذه الفتن إنما هو على أصحابها، أما غنمها فإنما هو للمؤمنين فحسب، قال -تعالى-:
{وَعَسَى أَن تَكْرَهُواْ شَيْئاً وَهُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ وَعَسَى أَن تُحِبُّواْ شَيْئاً وَهُوَ شَرٌّ لَّكُمْ وَاللّهُ يَعْلَمُ وَأَنتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ}
وقال النبي -صلى الله عليه وعلى آله وسلم-:
"عجبًا لأمر المؤمن إن أمره كله له خير وليس ذلك لأحد إلا للمؤمن إن أصابته سراء شكر فكان خيرًا له وإن أصابته ضراء صبر فكان خيراً له"
ومِن غُرمِ الخوارج اليوم في فتنة خروجهم أنهم يتحملون تبعات خروجهم وإفسادهم في الأرض يوم القيامة، إضافة إلى الفضيحة والعقوبة العاجلة في الدنيا، أما غنم أهل السنة في هذه الفتنة فمن جهات عديدة منها: عبادتهم لله -سبحانه وتعالى- في هذه الفتنة بالدعاء وغيره، وقد قال النبي -صلى الله عليه وعلى آله وسلم-: "عبادة في الهرج كهجرة إلي"
رواه مسلم من حديث معقل بن يسار –رضي الله عنه-.
ومنها: أن الله أظهر مذهب أهل السنة على مذهب خصومهم من الخوارج وأعوانهم، وبان لكثير من الناس عوار ما كان عليه هؤلاء الخوارج من فرقة الإخوان المسلمين وأعوانهم من أدعياء السلفية الكذبة الخونة.
فمعلوم أن بعض هؤلاء الخوارج الضلال كان له شهرة كبيرة، واغتر به أناس كثيرون، فجاءت هذه الفتنة ليجلي الله بها أمر هؤلاء الخوارج والأدعياء الكذبة لكثير ممن كان يغتر بتزييهم بالزي السلفي الكاذب، وبادعائهم أنهم على منهج السلف، وأخذ السلفيون -بفضل الله ومنته وكرمه ونصره- يبينون للناس حقيقة هؤلاء بلا تورية بعد أن بينوا حقيقتهم بالأمس، وقد قامت هذه الفضيحة في حق هؤلاء مقام أدلة كثيرة ربما كان لا يقنع بها كثير من الناس من العوام الطغام والهمج الرعاع المغترين بهؤلاء المفضوحين، لا يقنعون بها في التدليل على حقيقة ما عليه هؤلاء الأدعياء من الكذب والتلبيس والباطل، أو ربما كان يعجز محاججهم عن إقناعهم بها بحقيقة ما عليه القوم -فلله الحمد والمنة- وبدأ هؤلاء الأدعياء الكذبة يدخلون حومة وغى السياسة العصرية التي تلعب بهم تلاعبًا، وتفضحهم فضحًا، وتهينهم إهانة، وتتقاذفهم تقاذف الكرة.
وصدق من قال:
ولو أن أهل العلم صانوه صانهم *** ولو عظموه في النفوس لعُظما
ولكن أهانـوه فهـانوا ودنسوا *** محيـاه بالأطـماع حتى تجهما
فكيف إذا كانوا أهل أهواء لا أهل علم؟!
نعوذ بالله من الفضيحة ومن الحور بعد الكور.
وإذا كان كفر الشيطان وكفر الكافر ونفاق المنافق وظلم الظالم وبالاً عليهم، ولا يعود على المؤمنين من هذا الوبال شيء، فكذلك خروج الخارج يعود وباله على صاحبه، ولا يعود على السني السلفي منه شيء.
ومن النظرات في هذه الأحداث أن الديمقراطية التي يتشدق بها أنصارها من الكفار ومن والاهم من أهل الوإسلام لم يصدُق أنصارها في تنفيذها وتطبيقها مع بطلانها -إذ إن تعريف الديمقراطية هو حكم الشعب بالشعب لصالح الشعب -زعموا- ووجه عدم صدقهم في ذلك أن كثيرًا من الدول التي قامت فيها المظاهرات أو أكثرها غالب شعوبها لا ترضى بها، ويمكنك أن تعرف ذلك بسهولة، وذلك بمعرفة نسبة هؤلاء المتظاهرين إلى نسبة غير المتظاهرين، فتجدها نسبة ضئيلة قليلة حقيرة، ومع ذلك تجد الإعلام في بلاد الكفر وفي بعض بلاد الإسلام!! ينصر هذه الفئنة القليلة الضئيلة الحقيرة تحت مسمى الديمقراطية!! فأي ديموقراطية هذه؟!
وأي عجب بعد هذا؟!
وصدق ربنا -عز وجل- القائل في أهل الكتاب:
{ثُمَّ قَفَّيْنَا عَلَى آثَارِهِم بِرُسُلِنَا وَقَفَّيْنَا بِعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ وَآتَيْنَاهُ الْإِنجِيلَ وَجَعَلْنَا فِي قُلُوبِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ رَأْفَةً وَرَحْمَةً وَرَهْبَانِيَّةً ابْتَدَعُوهَا مَا كَتَبْنَاهَا عَلَيْهِمْ إِلَّا ابْتِغَاء رِضْوَانِ اللَّهِ فَمَا رَعَوْهَا حَقَّ رِعَايَتِهَا}
فذمهم الله لابتداعهم الرهبانية ولعدم رعايتهم إياها، هذا على أحد وجهي تفسير هذه الآية، وها هم اليوم يبتدعون بدعة الديموقراطية الكفرية، ومع ذلك لم يرعوها حق رعايتها، فاستوجب ذلك ذمهم من جميع الجهات، ومتى كان تأليب أعداء الاسلام لأهل الاسلام -الراضين بحكامهم أو الصابرين عليهم- على حكامهم ديمقراطية؟!
نعوذ بالله من مكر أهل الكفر بأهل الاسلام، ومن غلهم عليهم، ومن كيدهم لهم، ونعوذ بالله من مكر أهل البدع والأهواء بحكام المسلمين وأهل السنة، ومن غلهم عليهم، ومن كيدهم لهم، والله سبحانه هو وحده المستعان عليهم جميعا، وعليه وحده التكلان.
ثم انه قد قيل: بثمارهم تعرفونهم، والأمور بمآلها.
وها نحن اليوم لا نرى ناتج هذه الديمقراطية المزعومة إلا الخراب والدمار والبوار والتشتت والتمزق والتحزب والتفرق والتناحر والتباغض والتقاطع والتدابر فنحن -إلى الآن فحسب- نسمع بوجود خمسة وعشرين حزباً ببلادنا مصر في هذه الآونة والمرحلة الانتقالية، ولا ندري كم سيكون عددها بعد!!
وقد سمعت أحد الناس في إحدى الإذاعات المصرية في هذه الأيام يقول: لماذا لا تكون مائة حزب؟!
فلا أدري كيف تتحقق مصلحة المسلمين، ودولة الإسلام بمثل هذه التشرذمات ذات الأهواء المتباينات، والآراء المتضادات المتناقضات!!
وإنا لله وإنا إليه راجعون، اللهم احفظ علينا ديننا ودنيانا واحفظ بلاد المسلمين من مكر الماكرين، وكيد الكائدين من الكفرة والملحدين والمبتدعين.
فإن قيل: كيف تحرم الخروج على حكام المسلمين الظالمين مع أنه يترتب على الخروج عليهم مصالح كإجبار هؤلاء الحكام على التخفيف من الظلم -على الأقل- إن لم يمكن دفعه من أصله.
قلنا: ما حرمنا الخروج على الحكام إلا لتحريم الله ورسوله إياه، وما كان الله ورسوله ليحرمان شيئاً إلا ومفسدته خالصة أو راجحة، والله هو العليم بعباده وبما ينفعهم وما يضرهم، قال –عز وجل-:
{أَلَا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ}
والواقع شاهد على أن الخروج الذي حصل ولا يزال في هذه الأيام في ديارنا مصر -على الأقل- مفسدته خالصة أوراجحة، قد ذكرنا بعض هذه المفاسد فيما سبق، على أن مفاسد هذا الخروج اليوم خارجة عن الحصر.
ثم إن كون الشيء المحرم فيه نوع مصلحة أو نوع حكمة لا يستلزم حله أو إباحته، وقد ذكر بعض أهل العلم ما معناه: أن الحكم بغير ما أنزل الله قد يكون فيه نوع حكمة لكنه لا يتضمن الحكمة المطلقة التي هي في شرع الله.
قلت: فحبس الزانى أو السارق -مثلاً- فحسب، دون قطع يد السارق، ودون رجم الزاني المحصن وجلد غير المحصن، فيه نوع حكمة ونوع مصلحة، إذ إن في مثل تلك العقوبة -وإن كانت غير كافية وغير شرعية- نوع ردع وزجر لمثل هذين، بخلاف ما لو ترك هذان وأمثالهما من الفساق والجناة دون أي عقوبة أو زجر أوردع، قلت:
مع أنه يصح أن يطلق عليه أنه حكم جاهلي؛ لأن الحكم للأغلب، كما قال-تعالى-: {أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللّهِ حُكْماً لِّقَوْمٍ يُوقِنُونَ}
قلت: وقوله: {أَحْسَنُ} يدل على أن حكم الجاهلية قد يكون فيه نوع حسن إلا أن شره أغلب، ولهذا يصح أن يطلق على هؤلاء الخارجين على حكام المسلمين اليوم القول بأنهم خوارج، وعلى فعلهم بأنه خروج، ولو تضمن شيئاً من الحكمة أو المصلحة، أقول:
فكما لا يلزم من وجود نوع حسن في بعض الحكم الجاهلي إطلاق القول بأنه حكم شرعي حكيم، فكذلك لا يلزم من وجود نوع حسن أو مصلحة أو حكمة في الخروج على الحكام أنه خروج شرعي، ولا أن أصحابه لا يسمون خوارج، فعض على هذا بالنواجذ فإنه ينفعك -إن شاء الله- في مواطن كثيرة.
فإن احتج محتج على الخروج على الحاكم الظالم أو مقاتلته بما رواه البخاري -رحمه الله- في صحيحه برقم (2480) طبعة بيت الأفكار الدولية لسنة1419هـ، ومسلم-رحمه الله- في صحيحه، برقم [226-(141)] الطبعة الأولى لدار ابن رجب لسنة1422هـ من حديث عبدالله بن عمرو بن العاص-رضى الله عنهما- أن رسول الله -صلى الله عليه وعلى آله وسلم- قال: "من قتل دون ماله فهو شهيد"
قلنا: السلطان أو الحاكم أو الملك أو الخليفة كل هؤلاء مستثنون من هذا، ولقد قال الصنعاني -رحمه الله- في سبل السلام شرح بلوغ المرام، المجلد الثالث، صـ 1197، الطبعة الأولى، لسنة 1420هـ، الناشر مكتبة نزار مصطفى الباز، عند شرحه لهذا الحديث الذي أورده الحافظ تحت باب: "قتال الجاني وقتل المرتد" قال-أي الصنعاني- ما نصه:
"وفي الحديث دليل على جواز المقاتلة لمن قصد أخذ مال غيره بغير حق، قليلاً كان أو كثيراً، وهذا قول الجماهير، وقال بعض المالكية لا يجوز القتال على أخذ القليل من المال. قال القرطبي:سبب الخلاف في ذلك: هل القتال لدفع المنكر فلا يفترق الحال بين القليل والكثير، أو من باب دفع الضرر فيختلف الحال في ذلك؟ وحكى ابن المنذر، عن الشافعي رضي الله عنه: أن من أريد ماله أو نفسه أو حريمه ولم يمكنه الدفع إلا بالقتل، فله ذلك، وليس عليه قود ولا دية ولا كفارة، لكن ليس له أن يقصد القتل من غير تفصيل.
قال ابن المنذر: والذي عليه أهل العلم: أن للرجل أن يدفع عما ذكر إذا أريد ظلماً بغير تفصيل، إلا أن كل من يحفظ عنه من علماء الحديث كالمجمعين على استثناء السلطان، للآثار الواردة بالأمر بالصبر على جوره وترك القيام عليه ..." انتهى
قلت: وكأن الصنعاني -رحمه الله- قد نقل هذا الكلام من الفتح للحافظ ابن حجر مع تصرف يسير غير مخل بالمعنى، ويقوي ذلك عندي أمران: الأول:
نص الكلام المنقول ونسقه وسياقه، وهاك نص كلام الحافظ ابن حجر -رحمه الله- في فتح الباري جـ 5 ص176، الطبعة الأولى لدار مصر للطباعة، لسنة 1421هـ،عند شرحه لهذا الحديث، حيث قال -رحمه الله-:
"قال القرطبي:سبب الخلاف عندنا هل الإذن في ذلك من باب تغيير المنكر فلا يفترق الحال بين القليل والكثير، أو من باب دفع الضرر فيختلف الحال؟
وحكى ابن المنذر عن الشافعي قال: من أريد ماله أو نفسه أو حريمه فله الاختيار أن يكلمه أو يستغيث، فإن منع أو امتنع لم يكن له قتاله وإلا فله أن يدفعه عن ذلك ولو أتى على نفسه،وليس عليه عقل ولا دية ولا كفارة، لكن ليس له عمد قتله. قال ابن المنذر: والذي عليه أهل العلم أن للرجل أن يدفع عما ذكر إذا أريد ظلماً بغير تفصيل، إلا أن كل من يحفظ عنه من علماء الحديث كالمجمعين على استثناء السلطان للآثار الواردة بالأمر بالصبر على جوره وترك القيام عليه" انتهى
والثاني: أن ابن حجر -رحمه الله- قد عزا هذا الحديث في بلوغ المرام الذى عليه شرح الصنعاني -رحمه الله- إلى أبي داود والنسائي والترمذي، من حديث ابن عمر ولم يعزه إلى ابن عمرو الذي في الصحيحين، فقال الصنعاني -رحمه الله- في شرحه: وأخرجه البخاري، ولم يعزه إلى مسلم مع أن الحديث في صحيح مسلم -أيضاً-.
ومعلوم أن ابن حجر سابق على الصنعاني -رحمه الله- قلت: ولقد كان شيخنا مقبل بن هادي الوادعي-رحمه الله- يقول عن محمد صديق حسن خان-رحمه الله- :إنه ينقل عن الشوكاني-رحمه الله- ربما قال الصفحات ولا يعزو إليه إلا إذا ضاقت عليه المسألة، فيقول: "قال شيخنا"!! قاله الشيخ متعجباً.
قلت:ورأيت للشوكاني -رحمه الله- بعض النقول المطولة عن الفتح للحافظ ابن حجر ولا يعزو إليه-أيضاً-.
قلت: ورأيت الحافظ ابن حجر-رحمه الله -أيضاً- في كثير من المواضع في الفتح له يذكر بدوره كلاماً للنووي، ومع ذلك لا يعزوه إليه.
قلت: ولا نملك في مثل هذا إلا حسن الظن بعلماء الإسلام، وحسن الاعتذار لصنيعهم ما وجدنا إلى ذلك سبيلاً، والله يتولانا ويتولاهم في المحيا والممات.
ومعلوم أنه كل ليس كل نقل بلا عزو يوجب الذم لناقله أو يستلزمه، فقد يكتفي الناقل بشهرة هذا الكلام عن المنقول عنه مثلاً، فيكتفي بتلك الشهرة عن نسبة الكلام إلى قائلة لقيام تلك الشهرة مقام العزو، وقد يورد الناقل كلام المنقول عنه بالمعنى من حافظته وذاكرته، فيحترز عن عزوه خشية أن يكون هناك فرق بين اللفظ الذي قاله المنقول عنه، والمعنى الذي ذكره الناقل، فيحترز عندئذ الناقل من عزو هذا المعنى إلى ذاك المنقول عنه خشية أن يُقَوِّل المنقول عنه ما لم يقله، أو ينسب إليه ما ليس من كلامه، فيكتفي الناقل بذكر هذا الكلام مرسلاً حتى يتحمل هو عهدته، أو قد يكون الكلام المنقول هو مشتهر في دواوين الإسلام لدى علماء الإسلام قاطبة فلا يحتاج إلى عزوه إليهم بأعيانهم، إذ إن مثل هذا متعذر أو متعسر -على الأقل- أو يكون الناقل قد عزا المنقول إلى قائله في موضع، واستغنى بذلك العزو في هذا الموضع عن العزو إليه في سائر المواضع، إلى غير ذلك من المخارج والتأويلات التي تليق بقدر ومنصب علماء الإسلام وأئمته العدول.
ولقد عيب على العلامة عبدالرحمن بن يحيى المعلمي من بعض الناس عدم عزوه العلم إلى أهله أحيانا، فأجاب المعلمي -رحمه الله- ببعض ما ذكرناه هنا.
قلت: قال الصنعاني –رحمه الله- المجلد الرابع من الكتاب نفسه، عند هذا الحديث تحت "باب التعزير وحكم الصائل" قال في (ص1263) ما نصه:
"وقالوا: ولا يجب الدفع عن المال بل يجوز له أن يتظلم، إلا أنه قد تقدم أن علماء الحديث كالمجمعين على استثناء السلطان للآثار الواردة بالأمر بالصبر على جوره، فلا يجوز دفاعه عن أخذ المال، ويجب الدفع عن البضع لأنه لا سبيل إلى إباحته" انتهى
قلت: وقال النووي -رحمه الله- في شرح مسلم، المجلد الأول، ج2، الطبعة الأولى الناشر دار التقوى للتراث، الطبعة الأولى لسنة 1422هـ قال في صفحة145 عند شرحه لهذا الحديث ما نصه:
"وأما المدافعة عن الحريم فواجبة بلا خلاف"
قلت: ومن راجع كتاب الإمارة في صحيح مسلم -على الأقل- علم أنه لا يجوز مقاتلة الحاكم أو الخروج عليه لظلمه أو استئثاره بالمال أو نحو ذلك.
فمن ذلك ما رواه البخاري في صحيحه برقم (7055) ومسلم في صحيحه برقم [42-(1709)] من حديث عبادة بن صامت -رضي الله عنه- حيث قال: دعانا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فبايعناه، فكان فيما أخذ علينا، أن بايَعَنا على السمع والطاعة، في منشطنا ومكرهنا، وعسرنا ويسرنا، وأثرة علينا، وأن لا ننازع الأمر أهله" قال: "إلا أن تروا كفرًا بواحًا عندكم فيه من الله برهان" لفظ مسلم.
قلت: استئثار الولاة بالمال والدنيا دون الرعية هو من الظلم والأثرة، لا من الكفر البواح الذي عندنا فيه من الله برهان، وعلى هذا لا يجوز مقاتلة الحكام أو الخروج عليهم بأي نوع من أنواع الخروج من أجل ذلك، بدلالة هذا الحديث.
ومن ذلك ما رواه البخاري في صحيحه برقم (3603) ومسلم في صحيحه برقم [45-(1834)] عن ابن مسعود عن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "ستكون أثرة وأمور تنكرونها" قالوا: يا رسول الله! فماتأمرنا؟ قال:
"تؤدون الحق الذي عليكم وتسألون الله الذي لكم" لفظ البخاري
قلت: فلم يأذن النبي -صلى الله عليه وعلى آله وسلم- ولم يرخص في مقاتلة هؤلاء أو الخروج عليهم بأي نوع من أنواع الخروج، رغم استئثار المستأثرين منهم بالدنيا من أموال ومناصب وغير ذلك، ورغم ما يبدو منهم من أمور منكرة، وإنما أمر بإعطائهم حقوقهم، وسؤال الرعية ما لهم من الحق من الله -سبحانه- أما قتالهم والخروج عليهم بأي نوع من أنواع الخروج -والشأن ما ذكر- يضاد حديث رسول الله -صلى الله عليه وعلى آله وسلم-.
قلت: وقد قال النووي -رحمه الله- في شرح هذا الحديث: "وفيه الحث على السمع والطاعة، وإن كان المتولي ظالمًا عسوفًا، فيعطي حقه من الطاعة، ولا يخرج عليه ولا يخلع، بل يتضرع إلى الله تعالى في كشف أذاه، ودفع شره وإصلاحه "
ثم قال في تفسير الأثرة: "والمراد بها هنا استئثار الأمراء بأموال بيت المال والله أعلم" انتهى.
ومن ذلك ما رواه مسلم في صحيحه برقم [48-(1845)] بسنده عن أنس بن مالك عن أسيد بن حضير أن رجلاً من الأنصار خلا برسول الله -صلى الله عليه وسلم- فقال: ألا تستعملني كما استعملت فلانًا ؟ فقال:
"إنكم ستلقون بعدي أثرة فاصبروا حتى تلقوني على الحوض"
قلت: فأمر بالصبر عند وجود الأثرة، وأن الصبر عاقبته طيبة، ومنها لقيا النبي -صلى الله عليه وعلى آله وسلم- على الحوض، أما مقاتلة هؤلاء المستأثرين أو الخروج عليهم بأي نوع من أنواع الخروج فإنه يضاد هذا الأمر النبوي بالصبر.
وقد بوب الإمام النووي -رحمه الله- هذا الحديث بقوله:
"باب الأمر بالصبر عند ظلم الولاة واستئثارهم "
وقال في الشرح:" وحاصله الصبر على ظلمهم وأنه لا تسقط طاعتهم بظلمهم والله أعلم" انتهى.
ومن ذلك ما رواه مسلم في صحيحه برقم [49-(1846)] بسنده عن علقمة بن وائل الحضرمي عن أبيه قال: سأل سلمة بن يزيد الجعفي رسولَ الله -صلى الله عليه وسلم- فقال: يا نبي الله! أرأيت إن قامت علينا أمراء يسألونا حقهم ويمنعونا حقنا، فما تأمرنا؟ فأعرض عنه، ثم سأله فأعرض عنه. ثم سأله في الثانية أو في الثالثة فجذبه الأشعث بن قيس. وقال:
"اسمعوا وأطيعوا فإنما عليهم ما حُمِّلوا وعليكم ما حملتم"
ورواه مسلم بعده برقم [50-(1846)] وفيه:
"فقال رسول الله -صلى الله عليه وعلى آله وسلم-:
"اسمعوا وأطيعوا فإنما عليهم ما حملوا وعليكم ما حملتم"
قلت: وقد بوب النووي -رحمه الله- لهذا الحديث بقوله:
"باب في طاعة الأمراء وإن منعوا الحقوق"
ومن ذلك ما رواه مسلم في صحيحه برقم [35-(1836)] بسنده عن أبي هريرة قال : قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "عليك السمع والطاعة في عسرك ويسرك ومنشطك ومكرهك، وأثرة عليك"
قال النووي -رحمه الله- في شرحه لهذا الحديث:
"والأثرة ... وهي الاستئثار والاختصاص بأمور الدنيا عليكم أي اسمعوا وأطيعوا وإن اختص الأمراء بالدنيا ولم يوصلوكم حقكم مما عندهم، وهذه الأحاديث في الحث على السمع والطاعة في جميع الأحوال وسببها اجتماع كلمة المسلمين فإن الخلاف سبب لفساد أحوالهم في دينهم ودنياهم" انتهى.
ومن ذلك ما رواه مسلم في صحيحه برقم [55-(1849)] بسنده عن ابن عباس يرويه قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "من رأى من أميره شيئًا يكرهه فليصبر. فإنه من فارق الجماعة شبرًا فمات، فميتةٌ جاهلية "
الحديث رواه البخاري في صحيحه برقم (7054)، وهذا لفظ مسلم.
وروى البخاري في صحيحه برقم (7053) ومسلم في صحيحه برقم [56-(1849)] عن ابن عباس عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال:
"من كره من أميره شيئًا فليصبر عليه، فإنه ليس أحد من الناس خرج من السلطان شبرًا فمات عليه إلا مات ميتة جاهلية" هذا لفظ مسلم.
قلت: ومنع الولاة الحقوق والاستئثار بالمال والدنيا هو مما تكرهه النفوس عادة، ومع ذلك فلم يأمر النبي -صلى الله عليه وعلى آله وسلم- بالخروج على هؤلاء الولاة أو السلاطين بأي نوع من أنواع الخروج، وإنما أمر بالصبر، وبين أن من خرج من السلطان شبرًا أو فارق الجماعة شبرًا فمات، مات ميتة جاهلية، فتأمل كيف يصف كثير من أهل عصرنا خوارج اليوم على حكام المسلمين بالشهداء تعلم مدى بُعد هؤلاء عن معرفة وفهم دين الإسلام وأحاديث النبي -عليه الصلاة والسلام- والله المستعان.
ومنها ما رواه مسلم في صحيحه برقم [58-(1851)] بسنده عن نافع قال: جاء عبدالله بن عمر إلى عبدالله بن مطيع، حين كان من أمر الحَرَّة ما كان زمن يزيد بن معاوية، فقال: "اطرحوا لأبي عبد الرحمن وسادة، فقال: إني لم آتك لأجلس، أتيتك لأحدثك حديثًا سمعت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقوله، سمعت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول:
"من خلع يدًا من طاعة لقي الله يوم القيامة لا حجة له، ومن مات وليس في عنقه بيعة مات ميتة جاهلية"
قال النووي -رحمه الله- في شرحه: أي: لا حجة له في فعله ولا عذر له ينفعه.
قلت: وخوارج زماننا قد خلعوا يدًا من طاعة، وخرجوا على أولياء أمورهم، وأفسدوا في البلاد والعباد، وقارن بين الوعيد المذكور في الحديث لمن خلع يدًا من طاعة، ولمن مات وليس في عنقه بيعة، وبين وصف كثير من جهال أهل عصرنا لخوارج اليوم بالشهداء تر الفرق واسعًا والبون شاسعًا بين هؤلاء وبين شرع الله عز وجل- فإياك أن تغتر أيها المسلم بزخرفة المزخرفين.
ومن ذلك مارواه مسلم في صحيحه برقم [53-(1848)] بسنده عن أبي هريرة عن النبي -صلى الله عليه وسلم- أنه قال:
"من خرج من الطاعة، وفارق الجماعة، مات ميتة جاهلية، ومن قاتل تحت راية عِمِّية، يغضب لعَصَبة، أو يدعو إلى عصبة، أو ينصر عصبة، فقتل فقتلةٌ جاهلية، ومن خرج على أمتي، يضرب برها وفاجرها ولا يتحاشَ من مؤمنها، ولا يفي لذي عهد عهده، فليس مني ولست منه"
وفي اللفظ الذي بعده: "يغضب للعصبة، ويقاتل للعصبة" وفيه -أيضًا-:
"ولا يتحاشى من مؤمنها" بإثبات الياء.
قال النووي -رحمه الله- في شرح هذا الحديث :
"قوله -صلى الله عليه وسلم-: "من فارق الجماعة مات ميتة جاهلية" هي بكسر الميم أي على صفة موتهم من حيث هم فوضى لا إمام لهم .
قوله -صلى الله عليه وسلم-: "ومن قاتل تحت راية عُِمية" هي بضم العين وكسرها لغتان مشهورتان والميم مكسورة مشددة والياء مشددة أيضًا، قالوا: هي الأمر الأعمى لا يستبين وجهه، كذا قاله أحمد بن حنبل والجمهور.
قال إسحاق بن راهويه: "هذا كتقاتل القوم للعصبية"
قلت: وقال النووي -رحمه الله- في قوله -صلى الله عليه وسلم-:
"يغضب لعصبة أو يدعو إلى عصبة أو ينصر عصبة" مع قوله -صلى الله عليه وعلى آله وسلم- في الرواية الأخرى:
"يغضب للعصبة ويقاتل للعصبة" قال :
"ومعناه إنما يقاتل عصبية لقومه وهواه"
وقال النووي -رحمه الله-: "قوله -صلى الله عليه وسلم-: "ومن خرج على أمتي يضرب برها وفاجرها ولا يتحاشى من مؤمنها" وفي بعض النسخ يتحاشى بالياء ومعناه لا يكترث بما يفعله ولا يخاف وبال عقوبته"
قلت: والخارجون اليوم إنما خرجوا نصرة لأهوائهم، ففرقة الإخوان المسلمين وأشياعها وأفراخها من القطبيين وغيرهم إنما خرجوا نصرة لأهوائهم، وخرج الديمقراطيون والعلمانيون نصرة للديمقراطية والعلمانية، وخرجت سائر الأحزاب نصرة لأهوائها الحزبية، وكلها رايات ودعوات جاهلية، تنصر جاهلية وتغضب لجاهلية وجميع هؤلاء اليوم خرجوا من الطاعة وفارقوا الجماعة، وهذه الدعوات والرايات جميعها بعضها شر من بعض، والحمد لله الذي عافانا مما ابتلى به غيرنا وفضلنا على كثير ممن خلق تفضيلاً، ونسأله حسن الخاتمة والموت على السنة.
أقول: فكيف يقال اليوم بعد مثل هذه الأحاديث كلها في هؤلاء الخارجين إنهم ليسوا خوارج؟!
وكيف يقال في قتلاهم بعد مثل هذه الأحاديث: إنهم شهداء؟!
نعوذ بالله من الكذب والضلال، ونعوذ بالله من الفتن ما ظهر منها وما بطن. هذا وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وسلم تسليما.
نعوذ بالله من الفضيحة ومن الحور بعد الكور.
وإذا كان كفر الشيطان وكفر الكافر ونفاق المنافق وظلم الظالم وبالاً عليهم، ولا يعود على المؤمنين من هذا الوبال شيء، فكذلك خروج الخارج يعود وباله على صاحبه، ولا يعود على السني السلفي منه شيء.
ومن النظرات في هذه الأحداث أن الديمقراطية التي يتشدق بها أنصارها من الكفار ومن والاهم من أهل الوإسلام لم يصدُق أنصارها في تنفيذها وتطبيقها مع بطلانها -إذ إن تعريف الديمقراطية هو حكم الشعب بالشعب لصالح الشعب -زعموا- ووجه عدم صدقهم في ذلك أن كثيرًا من الدول التي قامت فيها المظاهرات أو أكثرها غالب شعوبها لا ترضى بها، ويمكنك أن تعرف ذلك بسهولة، وذلك بمعرفة نسبة هؤلاء المتظاهرين إلى نسبة غير المتظاهرين، فتجدها نسبة ضئيلة قليلة حقيرة، ومع ذلك تجد الإعلام في بلاد الكفر وفي بعض بلاد الإسلام!! ينصر هذه الفئنة القليلة الضئيلة الحقيرة تحت مسمى الديمقراطية!! فأي ديموقراطية هذه؟!
وأي عجب بعد هذا؟!
وصدق ربنا -عز وجل- القائل في أهل الكتاب:
{ثُمَّ قَفَّيْنَا عَلَى آثَارِهِم بِرُسُلِنَا وَقَفَّيْنَا بِعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ وَآتَيْنَاهُ الْإِنجِيلَ وَجَعَلْنَا فِي قُلُوبِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ رَأْفَةً وَرَحْمَةً وَرَهْبَانِيَّةً ابْتَدَعُوهَا مَا كَتَبْنَاهَا عَلَيْهِمْ إِلَّا ابْتِغَاء رِضْوَانِ اللَّهِ فَمَا رَعَوْهَا حَقَّ رِعَايَتِهَا}
فذمهم الله لابتداعهم الرهبانية ولعدم رعايتهم إياها، هذا على أحد وجهي تفسير هذه الآية، وها هم اليوم يبتدعون بدعة الديموقراطية الكفرية، ومع ذلك لم يرعوها حق رعايتها، فاستوجب ذلك ذمهم من جميع الجهات، ومتى كان تأليب أعداء الاسلام لأهل الاسلام -الراضين بحكامهم أو الصابرين عليهم- على حكامهم ديمقراطية؟!
نعوذ بالله من مكر أهل الكفر بأهل الاسلام، ومن غلهم عليهم، ومن كيدهم لهم، ونعوذ بالله من مكر أهل البدع والأهواء بحكام المسلمين وأهل السنة، ومن غلهم عليهم، ومن كيدهم لهم، والله سبحانه هو وحده المستعان عليهم جميعا، وعليه وحده التكلان.
ثم انه قد قيل: بثمارهم تعرفونهم، والأمور بمآلها.
وها نحن اليوم لا نرى ناتج هذه الديمقراطية المزعومة إلا الخراب والدمار والبوار والتشتت والتمزق والتحزب والتفرق والتناحر والتباغض والتقاطع والتدابر فنحن -إلى الآن فحسب- نسمع بوجود خمسة وعشرين حزباً ببلادنا مصر في هذه الآونة والمرحلة الانتقالية، ولا ندري كم سيكون عددها بعد!!
وقد سمعت أحد الناس في إحدى الإذاعات المصرية في هذه الأيام يقول: لماذا لا تكون مائة حزب؟!
فلا أدري كيف تتحقق مصلحة المسلمين، ودولة الإسلام بمثل هذه التشرذمات ذات الأهواء المتباينات، والآراء المتضادات المتناقضات!!
وإنا لله وإنا إليه راجعون، اللهم احفظ علينا ديننا ودنيانا واحفظ بلاد المسلمين من مكر الماكرين، وكيد الكائدين من الكفرة والملحدين والمبتدعين.
فإن قيل: كيف تحرم الخروج على حكام المسلمين الظالمين مع أنه يترتب على الخروج عليهم مصالح كإجبار هؤلاء الحكام على التخفيف من الظلم -على الأقل- إن لم يمكن دفعه من أصله.
قلنا: ما حرمنا الخروج على الحكام إلا لتحريم الله ورسوله إياه، وما كان الله ورسوله ليحرمان شيئاً إلا ومفسدته خالصة أو راجحة، والله هو العليم بعباده وبما ينفعهم وما يضرهم، قال –عز وجل-:
{أَلَا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ}
والواقع شاهد على أن الخروج الذي حصل ولا يزال في هذه الأيام في ديارنا مصر -على الأقل- مفسدته خالصة أوراجحة، قد ذكرنا بعض هذه المفاسد فيما سبق، على أن مفاسد هذا الخروج اليوم خارجة عن الحصر.
ثم إن كون الشيء المحرم فيه نوع مصلحة أو نوع حكمة لا يستلزم حله أو إباحته، وقد ذكر بعض أهل العلم ما معناه: أن الحكم بغير ما أنزل الله قد يكون فيه نوع حكمة لكنه لا يتضمن الحكمة المطلقة التي هي في شرع الله.
قلت: فحبس الزانى أو السارق -مثلاً- فحسب، دون قطع يد السارق، ودون رجم الزاني المحصن وجلد غير المحصن، فيه نوع حكمة ونوع مصلحة، إذ إن في مثل تلك العقوبة -وإن كانت غير كافية وغير شرعية- نوع ردع وزجر لمثل هذين، بخلاف ما لو ترك هذان وأمثالهما من الفساق والجناة دون أي عقوبة أو زجر أوردع، قلت:
مع أنه يصح أن يطلق عليه أنه حكم جاهلي؛ لأن الحكم للأغلب، كما قال-تعالى-: {أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللّهِ حُكْماً لِّقَوْمٍ يُوقِنُونَ}
قلت: وقوله: {أَحْسَنُ} يدل على أن حكم الجاهلية قد يكون فيه نوع حسن إلا أن شره أغلب، ولهذا يصح أن يطلق على هؤلاء الخارجين على حكام المسلمين اليوم القول بأنهم خوارج، وعلى فعلهم بأنه خروج، ولو تضمن شيئاً من الحكمة أو المصلحة، أقول:
فكما لا يلزم من وجود نوع حسن في بعض الحكم الجاهلي إطلاق القول بأنه حكم شرعي حكيم، فكذلك لا يلزم من وجود نوع حسن أو مصلحة أو حكمة في الخروج على الحكام أنه خروج شرعي، ولا أن أصحابه لا يسمون خوارج، فعض على هذا بالنواجذ فإنه ينفعك -إن شاء الله- في مواطن كثيرة.
فإن احتج محتج على الخروج على الحاكم الظالم أو مقاتلته بما رواه البخاري -رحمه الله- في صحيحه برقم (2480) طبعة بيت الأفكار الدولية لسنة1419هـ، ومسلم-رحمه الله- في صحيحه، برقم [226-(141)] الطبعة الأولى لدار ابن رجب لسنة1422هـ من حديث عبدالله بن عمرو بن العاص-رضى الله عنهما- أن رسول الله -صلى الله عليه وعلى آله وسلم- قال: "من قتل دون ماله فهو شهيد"
قلنا: السلطان أو الحاكم أو الملك أو الخليفة كل هؤلاء مستثنون من هذا، ولقد قال الصنعاني -رحمه الله- في سبل السلام شرح بلوغ المرام، المجلد الثالث، صـ 1197، الطبعة الأولى، لسنة 1420هـ، الناشر مكتبة نزار مصطفى الباز، عند شرحه لهذا الحديث الذي أورده الحافظ تحت باب: "قتال الجاني وقتل المرتد" قال-أي الصنعاني- ما نصه:
"وفي الحديث دليل على جواز المقاتلة لمن قصد أخذ مال غيره بغير حق، قليلاً كان أو كثيراً، وهذا قول الجماهير، وقال بعض المالكية لا يجوز القتال على أخذ القليل من المال. قال القرطبي:سبب الخلاف في ذلك: هل القتال لدفع المنكر فلا يفترق الحال بين القليل والكثير، أو من باب دفع الضرر فيختلف الحال في ذلك؟ وحكى ابن المنذر، عن الشافعي رضي الله عنه: أن من أريد ماله أو نفسه أو حريمه ولم يمكنه الدفع إلا بالقتل، فله ذلك، وليس عليه قود ولا دية ولا كفارة، لكن ليس له أن يقصد القتل من غير تفصيل.
قال ابن المنذر: والذي عليه أهل العلم: أن للرجل أن يدفع عما ذكر إذا أريد ظلماً بغير تفصيل، إلا أن كل من يحفظ عنه من علماء الحديث كالمجمعين على استثناء السلطان، للآثار الواردة بالأمر بالصبر على جوره وترك القيام عليه ..." انتهى
قلت: وكأن الصنعاني -رحمه الله- قد نقل هذا الكلام من الفتح للحافظ ابن حجر مع تصرف يسير غير مخل بالمعنى، ويقوي ذلك عندي أمران: الأول:
نص الكلام المنقول ونسقه وسياقه، وهاك نص كلام الحافظ ابن حجر -رحمه الله- في فتح الباري جـ 5 ص176، الطبعة الأولى لدار مصر للطباعة، لسنة 1421هـ،عند شرحه لهذا الحديث، حيث قال -رحمه الله-:
"قال القرطبي:سبب الخلاف عندنا هل الإذن في ذلك من باب تغيير المنكر فلا يفترق الحال بين القليل والكثير، أو من باب دفع الضرر فيختلف الحال؟
وحكى ابن المنذر عن الشافعي قال: من أريد ماله أو نفسه أو حريمه فله الاختيار أن يكلمه أو يستغيث، فإن منع أو امتنع لم يكن له قتاله وإلا فله أن يدفعه عن ذلك ولو أتى على نفسه،وليس عليه عقل ولا دية ولا كفارة، لكن ليس له عمد قتله. قال ابن المنذر: والذي عليه أهل العلم أن للرجل أن يدفع عما ذكر إذا أريد ظلماً بغير تفصيل، إلا أن كل من يحفظ عنه من علماء الحديث كالمجمعين على استثناء السلطان للآثار الواردة بالأمر بالصبر على جوره وترك القيام عليه" انتهى
والثاني: أن ابن حجر -رحمه الله- قد عزا هذا الحديث في بلوغ المرام الذى عليه شرح الصنعاني -رحمه الله- إلى أبي داود والنسائي والترمذي، من حديث ابن عمر ولم يعزه إلى ابن عمرو الذي في الصحيحين، فقال الصنعاني -رحمه الله- في شرحه: وأخرجه البخاري، ولم يعزه إلى مسلم مع أن الحديث في صحيح مسلم -أيضاً-.
ومعلوم أن ابن حجر سابق على الصنعاني -رحمه الله- قلت: ولقد كان شيخنا مقبل بن هادي الوادعي-رحمه الله- يقول عن محمد صديق حسن خان-رحمه الله- :إنه ينقل عن الشوكاني-رحمه الله- ربما قال الصفحات ولا يعزو إليه إلا إذا ضاقت عليه المسألة، فيقول: "قال شيخنا"!! قاله الشيخ متعجباً.
قلت:ورأيت للشوكاني -رحمه الله- بعض النقول المطولة عن الفتح للحافظ ابن حجر ولا يعزو إليه-أيضاً-.
قلت: ورأيت الحافظ ابن حجر-رحمه الله -أيضاً- في كثير من المواضع في الفتح له يذكر بدوره كلاماً للنووي، ومع ذلك لا يعزوه إليه.
قلت: ولا نملك في مثل هذا إلا حسن الظن بعلماء الإسلام، وحسن الاعتذار لصنيعهم ما وجدنا إلى ذلك سبيلاً، والله يتولانا ويتولاهم في المحيا والممات.
ومعلوم أنه كل ليس كل نقل بلا عزو يوجب الذم لناقله أو يستلزمه، فقد يكتفي الناقل بشهرة هذا الكلام عن المنقول عنه مثلاً، فيكتفي بتلك الشهرة عن نسبة الكلام إلى قائلة لقيام تلك الشهرة مقام العزو، وقد يورد الناقل كلام المنقول عنه بالمعنى من حافظته وذاكرته، فيحترز عن عزوه خشية أن يكون هناك فرق بين اللفظ الذي قاله المنقول عنه، والمعنى الذي ذكره الناقل، فيحترز عندئذ الناقل من عزو هذا المعنى إلى ذاك المنقول عنه خشية أن يُقَوِّل المنقول عنه ما لم يقله، أو ينسب إليه ما ليس من كلامه، فيكتفي الناقل بذكر هذا الكلام مرسلاً حتى يتحمل هو عهدته، أو قد يكون الكلام المنقول هو مشتهر في دواوين الإسلام لدى علماء الإسلام قاطبة فلا يحتاج إلى عزوه إليهم بأعيانهم، إذ إن مثل هذا متعذر أو متعسر -على الأقل- أو يكون الناقل قد عزا المنقول إلى قائله في موضع، واستغنى بذلك العزو في هذا الموضع عن العزو إليه في سائر المواضع، إلى غير ذلك من المخارج والتأويلات التي تليق بقدر ومنصب علماء الإسلام وأئمته العدول.
ولقد عيب على العلامة عبدالرحمن بن يحيى المعلمي من بعض الناس عدم عزوه العلم إلى أهله أحيانا، فأجاب المعلمي -رحمه الله- ببعض ما ذكرناه هنا.
قلت: قال الصنعاني –رحمه الله- المجلد الرابع من الكتاب نفسه، عند هذا الحديث تحت "باب التعزير وحكم الصائل" قال في (ص1263) ما نصه:
"وقالوا: ولا يجب الدفع عن المال بل يجوز له أن يتظلم، إلا أنه قد تقدم أن علماء الحديث كالمجمعين على استثناء السلطان للآثار الواردة بالأمر بالصبر على جوره، فلا يجوز دفاعه عن أخذ المال، ويجب الدفع عن البضع لأنه لا سبيل إلى إباحته" انتهى
قلت: وقال النووي -رحمه الله- في شرح مسلم، المجلد الأول، ج2، الطبعة الأولى الناشر دار التقوى للتراث، الطبعة الأولى لسنة 1422هـ قال في صفحة145 عند شرحه لهذا الحديث ما نصه:
"وأما المدافعة عن الحريم فواجبة بلا خلاف"
قلت: ومن راجع كتاب الإمارة في صحيح مسلم -على الأقل- علم أنه لا يجوز مقاتلة الحاكم أو الخروج عليه لظلمه أو استئثاره بالمال أو نحو ذلك.
فمن ذلك ما رواه البخاري في صحيحه برقم (7055) ومسلم في صحيحه برقم [42-(1709)] من حديث عبادة بن صامت -رضي الله عنه- حيث قال: دعانا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فبايعناه، فكان فيما أخذ علينا، أن بايَعَنا على السمع والطاعة، في منشطنا ومكرهنا، وعسرنا ويسرنا، وأثرة علينا، وأن لا ننازع الأمر أهله" قال: "إلا أن تروا كفرًا بواحًا عندكم فيه من الله برهان" لفظ مسلم.
قلت: استئثار الولاة بالمال والدنيا دون الرعية هو من الظلم والأثرة، لا من الكفر البواح الذي عندنا فيه من الله برهان، وعلى هذا لا يجوز مقاتلة الحكام أو الخروج عليهم بأي نوع من أنواع الخروج من أجل ذلك، بدلالة هذا الحديث.
ومن ذلك ما رواه البخاري في صحيحه برقم (3603) ومسلم في صحيحه برقم [45-(1834)] عن ابن مسعود عن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "ستكون أثرة وأمور تنكرونها" قالوا: يا رسول الله! فماتأمرنا؟ قال:
"تؤدون الحق الذي عليكم وتسألون الله الذي لكم" لفظ البخاري
قلت: فلم يأذن النبي -صلى الله عليه وعلى آله وسلم- ولم يرخص في مقاتلة هؤلاء أو الخروج عليهم بأي نوع من أنواع الخروج، رغم استئثار المستأثرين منهم بالدنيا من أموال ومناصب وغير ذلك، ورغم ما يبدو منهم من أمور منكرة، وإنما أمر بإعطائهم حقوقهم، وسؤال الرعية ما لهم من الحق من الله -سبحانه- أما قتالهم والخروج عليهم بأي نوع من أنواع الخروج -والشأن ما ذكر- يضاد حديث رسول الله -صلى الله عليه وعلى آله وسلم-.
قلت: وقد قال النووي -رحمه الله- في شرح هذا الحديث: "وفيه الحث على السمع والطاعة، وإن كان المتولي ظالمًا عسوفًا، فيعطي حقه من الطاعة، ولا يخرج عليه ولا يخلع، بل يتضرع إلى الله تعالى في كشف أذاه، ودفع شره وإصلاحه "
ثم قال في تفسير الأثرة: "والمراد بها هنا استئثار الأمراء بأموال بيت المال والله أعلم" انتهى.
ومن ذلك ما رواه مسلم في صحيحه برقم [48-(1845)] بسنده عن أنس بن مالك عن أسيد بن حضير أن رجلاً من الأنصار خلا برسول الله -صلى الله عليه وسلم- فقال: ألا تستعملني كما استعملت فلانًا ؟ فقال:
"إنكم ستلقون بعدي أثرة فاصبروا حتى تلقوني على الحوض"
قلت: فأمر بالصبر عند وجود الأثرة، وأن الصبر عاقبته طيبة، ومنها لقيا النبي -صلى الله عليه وعلى آله وسلم- على الحوض، أما مقاتلة هؤلاء المستأثرين أو الخروج عليهم بأي نوع من أنواع الخروج فإنه يضاد هذا الأمر النبوي بالصبر.
وقد بوب الإمام النووي -رحمه الله- هذا الحديث بقوله:
"باب الأمر بالصبر عند ظلم الولاة واستئثارهم "
وقال في الشرح:" وحاصله الصبر على ظلمهم وأنه لا تسقط طاعتهم بظلمهم والله أعلم" انتهى.
ومن ذلك ما رواه مسلم في صحيحه برقم [49-(1846)] بسنده عن علقمة بن وائل الحضرمي عن أبيه قال: سأل سلمة بن يزيد الجعفي رسولَ الله -صلى الله عليه وسلم- فقال: يا نبي الله! أرأيت إن قامت علينا أمراء يسألونا حقهم ويمنعونا حقنا، فما تأمرنا؟ فأعرض عنه، ثم سأله فأعرض عنه. ثم سأله في الثانية أو في الثالثة فجذبه الأشعث بن قيس. وقال:
"اسمعوا وأطيعوا فإنما عليهم ما حُمِّلوا وعليكم ما حملتم"
ورواه مسلم بعده برقم [50-(1846)] وفيه:
"فقال رسول الله -صلى الله عليه وعلى آله وسلم-:
"اسمعوا وأطيعوا فإنما عليهم ما حملوا وعليكم ما حملتم"
قلت: وقد بوب النووي -رحمه الله- لهذا الحديث بقوله:
"باب في طاعة الأمراء وإن منعوا الحقوق"
ومن ذلك ما رواه مسلم في صحيحه برقم [35-(1836)] بسنده عن أبي هريرة قال : قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "عليك السمع والطاعة في عسرك ويسرك ومنشطك ومكرهك، وأثرة عليك"
قال النووي -رحمه الله- في شرحه لهذا الحديث:
"والأثرة ... وهي الاستئثار والاختصاص بأمور الدنيا عليكم أي اسمعوا وأطيعوا وإن اختص الأمراء بالدنيا ولم يوصلوكم حقكم مما عندهم، وهذه الأحاديث في الحث على السمع والطاعة في جميع الأحوال وسببها اجتماع كلمة المسلمين فإن الخلاف سبب لفساد أحوالهم في دينهم ودنياهم" انتهى.
ومن ذلك ما رواه مسلم في صحيحه برقم [55-(1849)] بسنده عن ابن عباس يرويه قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "من رأى من أميره شيئًا يكرهه فليصبر. فإنه من فارق الجماعة شبرًا فمات، فميتةٌ جاهلية "
الحديث رواه البخاري في صحيحه برقم (7054)، وهذا لفظ مسلم.
وروى البخاري في صحيحه برقم (7053) ومسلم في صحيحه برقم [56-(1849)] عن ابن عباس عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال:
"من كره من أميره شيئًا فليصبر عليه، فإنه ليس أحد من الناس خرج من السلطان شبرًا فمات عليه إلا مات ميتة جاهلية" هذا لفظ مسلم.
قلت: ومنع الولاة الحقوق والاستئثار بالمال والدنيا هو مما تكرهه النفوس عادة، ومع ذلك فلم يأمر النبي -صلى الله عليه وعلى آله وسلم- بالخروج على هؤلاء الولاة أو السلاطين بأي نوع من أنواع الخروج، وإنما أمر بالصبر، وبين أن من خرج من السلطان شبرًا أو فارق الجماعة شبرًا فمات، مات ميتة جاهلية، فتأمل كيف يصف كثير من أهل عصرنا خوارج اليوم على حكام المسلمين بالشهداء تعلم مدى بُعد هؤلاء عن معرفة وفهم دين الإسلام وأحاديث النبي -عليه الصلاة والسلام- والله المستعان.
ومنها ما رواه مسلم في صحيحه برقم [58-(1851)] بسنده عن نافع قال: جاء عبدالله بن عمر إلى عبدالله بن مطيع، حين كان من أمر الحَرَّة ما كان زمن يزيد بن معاوية، فقال: "اطرحوا لأبي عبد الرحمن وسادة، فقال: إني لم آتك لأجلس، أتيتك لأحدثك حديثًا سمعت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقوله، سمعت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول:
"من خلع يدًا من طاعة لقي الله يوم القيامة لا حجة له، ومن مات وليس في عنقه بيعة مات ميتة جاهلية"
قال النووي -رحمه الله- في شرحه: أي: لا حجة له في فعله ولا عذر له ينفعه.
قلت: وخوارج زماننا قد خلعوا يدًا من طاعة، وخرجوا على أولياء أمورهم، وأفسدوا في البلاد والعباد، وقارن بين الوعيد المذكور في الحديث لمن خلع يدًا من طاعة، ولمن مات وليس في عنقه بيعة، وبين وصف كثير من جهال أهل عصرنا لخوارج اليوم بالشهداء تر الفرق واسعًا والبون شاسعًا بين هؤلاء وبين شرع الله عز وجل- فإياك أن تغتر أيها المسلم بزخرفة المزخرفين.
ومن ذلك مارواه مسلم في صحيحه برقم [53-(1848)] بسنده عن أبي هريرة عن النبي -صلى الله عليه وسلم- أنه قال:
"من خرج من الطاعة، وفارق الجماعة، مات ميتة جاهلية، ومن قاتل تحت راية عِمِّية، يغضب لعَصَبة، أو يدعو إلى عصبة، أو ينصر عصبة، فقتل فقتلةٌ جاهلية، ومن خرج على أمتي، يضرب برها وفاجرها ولا يتحاشَ من مؤمنها، ولا يفي لذي عهد عهده، فليس مني ولست منه"
وفي اللفظ الذي بعده: "يغضب للعصبة، ويقاتل للعصبة" وفيه -أيضًا-:
"ولا يتحاشى من مؤمنها" بإثبات الياء.
قال النووي -رحمه الله- في شرح هذا الحديث :
"قوله -صلى الله عليه وسلم-: "من فارق الجماعة مات ميتة جاهلية" هي بكسر الميم أي على صفة موتهم من حيث هم فوضى لا إمام لهم .
قوله -صلى الله عليه وسلم-: "ومن قاتل تحت راية عُِمية" هي بضم العين وكسرها لغتان مشهورتان والميم مكسورة مشددة والياء مشددة أيضًا، قالوا: هي الأمر الأعمى لا يستبين وجهه، كذا قاله أحمد بن حنبل والجمهور.
قال إسحاق بن راهويه: "هذا كتقاتل القوم للعصبية"
قلت: وقال النووي -رحمه الله- في قوله -صلى الله عليه وسلم-:
"يغضب لعصبة أو يدعو إلى عصبة أو ينصر عصبة" مع قوله -صلى الله عليه وعلى آله وسلم- في الرواية الأخرى:
"يغضب للعصبة ويقاتل للعصبة" قال :
"ومعناه إنما يقاتل عصبية لقومه وهواه"
وقال النووي -رحمه الله-: "قوله -صلى الله عليه وسلم-: "ومن خرج على أمتي يضرب برها وفاجرها ولا يتحاشى من مؤمنها" وفي بعض النسخ يتحاشى بالياء ومعناه لا يكترث بما يفعله ولا يخاف وبال عقوبته"
قلت: والخارجون اليوم إنما خرجوا نصرة لأهوائهم، ففرقة الإخوان المسلمين وأشياعها وأفراخها من القطبيين وغيرهم إنما خرجوا نصرة لأهوائهم، وخرج الديمقراطيون والعلمانيون نصرة للديمقراطية والعلمانية، وخرجت سائر الأحزاب نصرة لأهوائها الحزبية، وكلها رايات ودعوات جاهلية، تنصر جاهلية وتغضب لجاهلية وجميع هؤلاء اليوم خرجوا من الطاعة وفارقوا الجماعة، وهذه الدعوات والرايات جميعها بعضها شر من بعض، والحمد لله الذي عافانا مما ابتلى به غيرنا وفضلنا على كثير ممن خلق تفضيلاً، ونسأله حسن الخاتمة والموت على السنة.
أقول: فكيف يقال اليوم بعد مثل هذه الأحاديث كلها في هؤلاء الخارجين إنهم ليسوا خوارج؟!
وكيف يقال في قتلاهم بعد مثل هذه الأحاديث: إنهم شهداء؟!
نعوذ بالله من الكذب والضلال، ونعوذ بالله من الفتن ما ظهر منها وما بطن. هذا وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وسلم تسليما.
تم الفراغ منه في ليلة السبت الموافق
الرابع عشر من ربيع الآخر لسنة
اثنتين وثلاثين وأربعمائة وألف
من الهجرة النبوية على
صاحبها الصلاة
والسلام.
وكتب
أبو بكر بن ماهر بن عطية بن جمعة
أبو عبد الله مصر-المنصورة-طلخا-جوجر