قال الشيخ عبد الرزاق النهمي -حفظه الله :-
دعوة أهل السنة ليست مادية
ودعوتهم ليست مادية ، يدعون الناس لا يريدون منهم جزاء ولا شكورا كما قال تعالى ( قل ما أسألكم عليه أجر إلا من شاء أن يتخذ إلى ربه سبيلا ) وقال سبحانه وتعالى ( قل لا أسألكم عليه من أجرا إلا المودة في القربى ).
فدعوة الأنبياء ليست مادية فهذا نوح – عليه السلام – يقول لقومه ( ويا قوم لا أسألكم عليه مالا إن أجري إلا على الله ) ويقول ربنا حاكيا عن كثير من الأنبياء ( إن أجري إلا على رب العلمين ) كما في سورة الشعراء ، قالها كل من : نوح وهود وصالح ولوط عليهم السلام .
ويقول تعالى حاكيا عن هود – عليه السلام – ( يا قوم لا أسألكم عليه أجرا إن أجري إلا على الذي فطرني أفلا تعقلون ) ، فأهل السنة لا يسألون الناس أموالهم ولا يقومون بالمحاضرات ثم يسألون الناس تبرعات ويفرشون على الأبواب الأردية والعمائم لجمع أوال الناس .
وإنه لمن المصائب على المرء أن يجعل الدين وسيلة للدنيا ، ويتنازل عن دينه من أجل المطامع الدنيوية ، نسأل الله العافية . وقد ذكر شيخ الإسلام ابن تيمية في ( اقتضاء الصراط المستقيم مخالفة أصحاب الجحيم ) وهو يبين معنى قوله تعالى ( كالذين من قبلكم كانوا أشد منكم قوة وأكثر أموالا وأولادا فاستمتعوا بخالقهم فاستمتعتم بخالقكم كما استمتع الذين من قبلكم بخالقهم وخضتم كالذي خاضوا أولئك حبطت أعمالهم في الدنيا والآخرة وأولئك هم الخاسرون ) . قال في (ص 188- 120 ) :- ( وجمع سبحانه بين الاستمتاع بالخلاق (1) وبين الخوض ، لأن فساد الدين إما أن يقع بالاعتقاد الباطل والتكلم به أو يقع في العمل بخلاف الا عنقاد الحق ، والأول: هو البدع ونحوها والثاني : هو فسق الأعمال ونحوها ) .
والأول من جهة الشبهات ، والثاني من جهة الشهوات . ولهذا كان السلف يقولون : احذروا من الناس صنفين : صاحب هوى قد فتنه هواه وصاحب دنيا أعمته دنياه ، وكانوا يقولون : احذروا فتنة العالم الفاجر والعابد الجاهل ، فإن فتنتهم فتنة لكل مفتون ، فهذا يشبه المغضوب عليهم الذين يعلمون الحق ولا يتبعونه وهذا يشبه الضالين الذين يعملون بغير علم .
ووصف بعضهم أحمد بن حنبل فقال رحمه الله : (عن الدنيا ما كان أصبره وبالماضين ما كان أشبهه ، أتته البدع فنفاها ، والدنيا فأباها ) .
وقد وصف الله أئمة المتقين فقال ( وجعلنا منهم أئمة يهدون بأمرنا لما صبروا وكانوا بأباتنا يؤقنون ) فبالصبر تترك الشهوات وباليقين تدفع الشبهات . أه
وقال سفيان الثوري : ( المال داء هذه الأمة ، والعالم طبيب هذه الأمة ، فإذا جر العالم الداء إلى نفسه ، فمن يبرئ الناس
) .
---------------------------------------------------------------------------------------
(1) هو النصيب والحظ ومنه قوله تعالى ( وما له في الآخرة من خلاق ) أي من نصيب وقوله – عليه الصلاة والسلام – ( إنما يلبس هذا من لا خلاق له ) .
(2) سير أعلام النبلاء (7 / 243 ) .
وأهل السنة لا يتزلفون إلى المسئولين ويدعون الله أن يصلحهم
فأهل السنة لا يتزلفون إلى المسئولين ليتخذوهم سلما ، ولا يزاحمونهم على كراسيهم ، ولا يزاحمون صاحب الجاه على جاهه ، ولا صاحب المنصب على منصبه ، ولا يتزلفون إلى أهل الأموال ويتذللون لهم ، طمعا في دنياهم لأن في ذلك إهانة للعلم ، والعلم عندهم أرفع من الكراسي والمناصب والأموال ، وقد ضرب شيخنا الإمام الو ادعي رحمه الله أروع الأمثلة في هذا الزمان في هذا الباب ، حيث عرضت عليه المناصب العالية والأموال الكثيرة ، فركل الدنيا بقدميه وكان يقول رحمه الله : ( إن الكراسي لا تساوي عندي بعرة ) ويقول : ( صار العلم عندي ألذ من كل شئ ) ويقول :( إذا فتحت صحيح البخاري أو صحيح مسلم وقلت : حدثنا وأخبرنا ، نسيت غموم الدنيا وهمومها ) !!
فأهل السنة يقولون للمسئولين : ابقوا في مناصبكم ، فنحن لا نريدها ، نريد منكم فقط : أن تتمسكوا بكتاب ربكم وسنة نبيكم – صلى الله عليه وسلم – كي تنقذوا أنفسكم من النار ومن أجل أن ننجو نحن وإياكم من عذاب الله .
فقد كان السلف رحمهم الله يزهدون في المناصب ، أبو قلابة عبد الله بن زيد الجرمي ، طلب للقضاء فهرب ( 1) . قال الحافظ بن حج في ( تقريب التهذيب ) : مات هاربا من القضاء ) وسفيان الثوري طلب للقضاء فهرب ومات متخفيا من المهدي . وطلب ثلاثة نفر منهم : وكيع بن الجراح وعبد الله بن إدريس ، والظاهر أن الثالث : حفص بن غياث ، طلب هؤلاء للقضاء فأبوا ، إلا حفص بن غياث فقد وافق .
وأما عبد الله بن إدريس فأوهمهم أنه أبله وأبى أن يدخل في القضاء ، وأما وكيع بن الجراح فتحيل بحيلة طريفة فقال : ( يا أمير المؤمنين والله – وأشار لأصبعه إلى عينه – ما رأيت بهذه منذ سنة ) وهو يريد أصبعه والخليفة يظن أنه أراد عينه ، فأعفاه عن القضاء .
وسفيان الثوري مات متخفيا من المهدي وطلب ذات مرة ودخل على الخليفة العباسي ، لا أذكر أهو المهدي أم المنصور ، فصار يظهر أنه أبله ، فصار يقول : ( ما شاء الله ما أحسن مفارشكم ، بكم اشتريتموها ، ثم يقول : بي بول ، في بول ) ويخرج من الباب ، وبعدها ينطلق فلا يرجع إليهم هكذا ، ويقول : ( وكان يتجر ) ويقول : ( لولا حرفتي هذه لتمندلوا بي ) أي لاتخذوني كالمنديل يتمسحون به .
هكذا إخواني في الله ، كان علماؤنا يفرون من الوظيفة ، بخلاف معاصرينا ، فإنه يسيل لها لعابهم ، بل ربما يفني أحدهم عمره في طلب العلم وفي النهاية ينتهي به الحال إلى أن يعطي الرشوة من أجل أن يكون قاضيا .
وقد روى البخاري ومسلم في صحيحيهما وعن أبي سعيد عبد الرحمن بن سمرة رَضِيَ اللَّهُ عَنهُ قال، قال لي رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّم: <يا عبد الرحمن ابن سمرة لا تسأل الإمارة فإنك إن أعطيتها عن غير مسألة أعنت عليها، وإن أعطيتها عن مسألة وكلت إليها) (1) (2)
---------------------------------------------------------------------------------------.
(1) أخرجه البخاري ( 2266) ومسلم (1652) .
(2) ( المصارعة ) للشيخ مقبل رحمه الله (59- 60 )
وطلب المهدي الإمام مالكا أن يأتي إليه ويخصه بالحديث ، فعقد الإمام مالك مجلسا عاما فقال : ( العلم يؤتى ولا يأتي ) (1)
وللأسف رأينا طلبة علم ، استفادوا حيى صاروا مبرزين وصار يشار إليهم بالبنان ، ثم تركوا هذا الخير : العلم والتعليم ، والدعوة ، وصاروا يبحثون عن مطامع دنيوية ، إما في جمعية ، وإما في وظيفة ، والبعض يبحث عن فيزه ، ليكون إمام مسجد في بعض دول الخليج ، والله المستعان ، وصار حالهم كما قيل :
عنوا يطلبون العلم في كل بلدة *** شبابا فلما حصلوه وحشروا
وصح لهم إسناده وأصوله *** وصاروا شيوخا ضيعوه وأدبروا
فمالوا على الدنيا فهم يحلبونها *** بأخلافها مفتوحها لا يصرر
فيا علماء الدين أين عقولكم *** وأين الحديث المسند المتخير
وقال آخر :
يقولون لي فيك انقباض وإنما *** رأو رجلا عن موقف الذل أحجما
أرى الناس من دانهم هان عندهم *** ومن أكرمته عزة النفس أكرما
إذا قيل هذا منهل قلت قد أرى *** ولكن نفس الحر تحتمل الظما
وما كل برق لاح لي يستفزني *** وما كل من لاقيت أرضاه منعما
ولم أبدلن في خدمة العلم مهجني *** لأخدم من لاقيت لكن لأخدما (1)
أأشقى به غرسا وأجنيه ذلة *** إذن فاتباع الجهل قد كان أسلما
ولو أن أهل العلم صانوه صانهم *** ولو عظموه في النفوس لعظما
ولكن أذلوه فهان ودنسوا *** محياه بالأطماع حتى تجهما
فشاهدنا من هذا أن علماء السلف كان عندهم عفة وقناعة ، وكانوا يبتعدون عن أبواب السلاطين ولا يتنزلون لهم ، ولا يجاملونهم ، ويداهنونهم .
ومع هذا كانوا يدعون لهم بالهداية ، والصلاح ، والمعافاة ، وعدم الدعاء عليهم ، وعدم سبهم وشتمهم ، فإن هذه المسألة من معالم دعوة أهل السنة .
قال الإمام البر بهاري – رحمه الله – في كتابه ( السنة ) فقرة (136) : ( وإذا رأيت الرجل يدعو على السلطان ، فأعلم أنه صاحب هوى ، وإذا رأيت الرجل يدعو للسلطان بالصلاح ، فأعلم أنه صاحب سنة إن شاء الله ) .
ويقول فضيل بن عياض : ( لوكانت لي دعوة ما جعلتها إلا في السلطان ) أنا أحمد بن كامل ، قال : حدثنا الحسين بن محمد الطبري ، نا مردويه الصائغ قال سمعت فضيلا ، يقول : ( لو أن لي دعوة مستجابة ما جعلتها في السلطان صلح ، فصلح بصلاحه العباد والبلاد ، فأمرنا أن ندعو لهم بالصلاح ، ولم ندعو عليهم ، وإن ظلموا وجاروا ، لأن ظلمهم وجورهم على أنفسهم ، وصلاحهم لأنفسهم وللمسلمين ) (2) .
----------------------------------------------------------------------------------------
(1) قال الشيخ مقبل رحمه الله : يستدرك على الشاعر هذا البيت : ( فإنه ينبغي أن تبذل في خدمة العلم مهجتك لله عزوجل ، أما من أجل أن تخدم ، فهذا لعله زلة لسان ، أو لعله من أجل قافية الشعر إلى غير ذلك ، وإلا فهو خطأ لا ينبغي أن يتبع فيه الشاعر رحمه الله ) المصارعة ص (59) .
(2) الأثر صحيح : أخرجه أبو نعيم في الحلية (8/ 91) وعلقه ابن عبد البر في ( جامع بيان العلم وفضله ) رقم (1110) .
دعوة أهل السنة لا تدعو إلى التقليد
دعوة أهل السنة لا تدعو إلى التقليد الذي هو : إتباع من ليس بحجة بغير حجة ، بل يدعون الناس إلى كتاب الله وسنة رسول الله – صلى الله عليه وسلم – كما قال الله عزوجل ( اتبعوا ما أنزل إليكم من ربكم و لاتتبعوا من دونه أولياء قليلا ما تذكرون ) .
قال ابن كثير عند هذه الآية : أي اقتفوا آثار النبي الأمي ، والذي جاءكم بكتاب أنزل إليكم من رب كل شئ ومليكه ( ولا تتبعوا من دونه أولياء ) أي : لاتخرجوا عما جاءكم به الرسول إلى غيره ، فتكونوا قد عدلتم عن حكم الله إلى حكم غيره . أه
وأهل السنة لا يدعون الناس إلى أن يتبعوهم أو يقلدوهم ، بل يقولون للناس : نحن وإياكم نتبع كتاب اله وسنة رسول الله – صلى الله عليه وسلم – كما قال الله تعالى ( وأن هذا صراطي مستقيما فاتبعوه ولا تتبعوا السبل فتفرق بكم عن سبيله ذلكم وصاكم به لعلكم تتقون ) وقال سبحانه ( ولا تقف ما ليس بك علم 0 إن السمع والفؤاد كان أولئك كان عنه مسؤلا ) .
والتقليد قبيح وفيه مضرة على المقلد ، ففي حديث البراء بن عازب رضي الله عنه الطويل ، في سؤال الملكين الرجل السؤ قال ( 000 ويأتيه ملكان فيجلسانه ، فيقولان له من ربك ؟ فيقول : هاه هاه ! لا أدري ، فيقولان : ما دينك ؟ فيقول : هاه هاه ! لا أدري ، فيقولان ما هذا الرجل الذي بعث فيكم ؟ فيقول هاه هاه ! لا أدري . فينادي كناد من السماء أن : كذب ، فافرشوه من النار ، وألبسوه من النار ، وافتحوا له بابا إلى النار ، قال فيأتيه من حرها وسمومها ، قال ويضيق عليه قبره حتى تختلف فيه أضلاعه 000) . (1)
وفي حديث أنس رقم ( 4751) (( 0000 فيقولان له من ربك ؟ من نبيك ؟ فيقول : لا أدري ، كنت أقول ما يقول الناس ---)) (2) .
وفي حديث عائشة عند أحمد ( 6 / 139 ) ( 000 فيقال ( ما هذا الرجل الذي كان فيكم ؟ فيقول سمعت الناس يقولون قولا فقلت 00) وفي حديث أي هريرة عند ابن ماجة (4368) ( 000 ويجلس الرجل السوء في قبره فزعا مشغوفا فيقال له : فيم كنت ؟ فيقول : لا أدري فيقال : ما هذا الرجل ؟ فيقول سمعت الناس يقولون قولا فقلته 000) .
يستفاد من هذا الحديث سوء عاقبة التقليد ، وقد ذم الله سبحانه الذين قلدوا آباءهم وأجدادهم فقال سبحانه (آتيناهم كتابا من قبله فهم به مستمسكون 0 بل قالوا إنا وجدنا آباءنا على أمة وإنا على آثارهم مهتدون 0كذلك ما أرسلنا من قبلك في قرية من نذير إلا قال مترفوها إنا وجدنا آباءنا على أمة وإنا على آثارهم مقتدون23/43قال أولو جئتكم بأهدى مما وجدتم عليه آباءكم قالوا إنا بما أرسلتم به كافرون24/43فانتقمنا منهم فانظر كيف كان عاقبة المكذبين).
وقال تعالى ( وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا مَا أَنزَلَ اللّهُ قَالُواْ بَلْ نَتَّبِعُ مَا أَلْفَيْنَا عَلَيْهِ آبَاءنَا أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لاَ يَعْقِلُونَ شَيْئاً وَلاَ يَهْتَدُونَ ).
وقال سبحانه ( وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْاْ إِلَى مَا أَنزَلَ اللّهُ وَإِلَى الرَّسُولِ قَالُواْ حَسْبُنَا مَا وَجَدْنَا عَلَيْهِ آبَاءنَا أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ شَيْئًا وَلاَ يَهْتَدُونَ ).
وقال تعالى ( وإذا قيل لهم اتبعوا ما أنزل الله قالوا بل نتبع ما وجدنا عليه ء اباءنا ، أولو كان الشيطان يدعوهم إلى عذاب السعير ) .
وقد لقن النبي – صلى الله عليه وسلم – عمه أبا طالب فقال ( ياعم ، قل : لا إله إلا الله ، كلمة أشهد لك بها عند الله ) فقال : أبو جهل وعبد الله بن أبي أمية : يا أبا طالب أترغب عن ملة عبد المطلب ؟! فلم يزل رسول الله – صلى الله عليه وسلم – يعرضها عليه ويعودان بتلك المقالة ، حتى قال أبو طالب آخر ما كلمهم : هو على ملة عبد المطلب ، وأبى أن يقول : لاإله إلا الله (3).
----------------------------------------------------------------------------------------------
(1) أخرجه أبو داود (4753) وأحمد (18534) وابن أب شيبة (3/380) .
(2) عند أبي داود (4751) .(3) البخاري (1360) عن سعيد بن المسيب عن أبيه .
فهكذا التقليد الأعمى مضرة . ولقد كان الأئمة رحمهم اله ينهون عن التقليد ، وينهون الناس عن تقليدهم : فهذا الإمام مالك بن أنس أبو عبد الله إمام دار الهجرة كان يقول : ( إنما أنا بشر أخطئ وأصيب ، فانظروا في رأيي ، فكل ما وافق الكتاب والسنة فخذوه وكل ما لم يوافق الكتاب والسنة فاتركوه ) .
وقال رحمه اله : ( ليس أحد بعد النبي – صلى الله عليه وسلم – إلا ويؤخذ من قوله ويترك إلا النبي – صلى اله عليه وسلم ) .
وهذا الإمام أبو عبد الله محمد بن إدريس الشافعي رحمه الله يقول : ( ما من أحد إلا تذهب عليه سنة لرسول الله – صلى الله عليه وسلم – وتعزب عنه ، فمهما قلت من قول أو أصلت من أصل فيه عن رسول الله – صلى اله عليه وسلم – لخلاف ما قلت ، فالقول ما قال رسول الله – صلى الله عليه وسلم – وهو قولي ) .
وقال : ( أجمع المسلمون على أن : من استبان له سنة عن رسول الله – صلى الله عليه وسلم- لم يحل له أن يدعها لقول أحد ) .
وقال : ( إذا وجدتم في كتابي خلاف سنة رسول الله _ صلى الله عليه وسلم _ فقولوا بسنة رسول الله – صلى الله عليه وسلم – ودعوا ما قلت ) . ( وفي رواية : فاتبعوها ولا تلتفتوا إلى قول أحد ) .
وقال : ( كل ما قلت فكان عن النبي – صلى الله عليه وسلم – خلاف قولي مما يصح ، فحديث النبي أولى فلا تقلدوني ) .
وقال ( إذا صح الحديث فهو مذهبي ) .
وهذا الإمام أحمد بن حنبل أبو عبد الله أمام أهل السنة في عصره رحمه الله يقول : ( لاتقلدوني ولا تقلد مالكا ولا الشافعي ولا الأوزاعي ولا الثوري ، وخذ من حيث أخذوا ) . وفي رواية ( لا تقلد دينك أحد من هؤلاء ، ما جاء عن النبي – صلى الله عليه وسلم – وأصحابه فخذ به ، ثم التابعين بعد الرجل فيه مخير ) .
وقال رحمه الله : ( رأي الأوزاعي ورأي مالك ورأي أبي حنيفة كله رأي ، وهو عندي سواء ، وإنما الحجة في الآثار ).
وقال أبو حنيفة رحمه الله : ( إذا صح الحديث فهو مذهبي ) وقال ( إذا قلت قولا يخالف كتاب الله وخبر الرسول – صلى الله عليه وسلم – فاتركوا قولي ) أه (1)
وكان شيخنا الو ادعي رحمه الله يحذر من التقليد ، ويقول ( لا يقلدني إلا ساقط ) . والمقلدة يصدق عليهم قول الشاعر :
ما الفرق بين مقلد في دينه *** راض بقائده الجهول الحائر
وبهيمة عمياء قاد زمامها *** أعمى على عوج الطريق الجائر
وأهل السنة لا يتعصبون لمذهب من المذاهب لأنهم يعتقدون أن المذاهب بدعة لم تحدث إلا بعد القرون المفضلة والله تعالى يقول ( وما اختلفتم فيه من شئ فحكمه إلى الله )
ويقول سبحانه ( فَإِن تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللّهِ وَالرَّسُولِ إِن كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ )
وهذه المذاهب فرقت بين المسلمين وشتتت شملهم والله يقول محذرا من تلك الفرقة ( ولا تكونوا من المشركين * من الذين فرقوا دينهم وكانوا شيعا كل حزب بما لديهم فرحون )
وقال تعالى ( إن الذين فرقوا دينهم وكانوا شيعا لست منهم في شئ ، إنما أمرهم إلى الله ثم ينبئهم بما كانوا يفعلون ) .
----------------------------------------------------
(1) هذا كلام الأئمة رحمهم الله نقلته من مقدمة ( صفة صلاة النبي –صلى الله عليه وسلم ) للشيخ الألباني رحمه الله . فارجع إليه ، ففيه فائدة .
وقال تعالى ( إ نَّ الَّذِينَ فَرَّقُواْ دِينَهُمْ وَكَانُواْ شِيَعًا لَّسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ إِنَّمَا أَمْرُهُمْ إِلَى اللّهِ ثُمَّ يُنَبئهم بما كانوا يفعلون )
فأهل السنة لا يربطون الناس بمذهب معين ، إنما يربطون الناس بكتاب الله عزوجل وسنة رسول الله – صلى الله عليه وسلم .
ودعوة أهل السنة يحذر أيضا من التحزب ، لأن الحزبية البغيضة فيها أضرار منها :
تفرقة المسلمين وتمزيق المسلمين ، والله سبحانه وتعالى يقول ( إن هذه أمتكم أمة واحدة وأنا ربكم فاعبدون ) فهذه الأمة واحدة : كتابها واحد وقبلتها واحدة ، ونبيها ورسولها واحد ، لكن الحزبية جعلتهم شذر مذر .
ومن أضرار الحزبية : عدم العدل والإنصاف ، فما في الحزبية عدل أبدا .
ومن أضرار الحزبية : أن الحزبيين يقولون للناس : تفرقوا ، والله عزوجل يقول ( واعتصموا بحبل اله جميعا ولا تفرقوا ) ويقول سبحانه وتعالى ( وتعاونوا على البر والتقوى ولا تعاونوا على الإثم والعدوان ) .
ومن أضرار الحزبية : أن فيها إلغاء الولاء والبراء الصحيح .
ومن أضرار الحزبية : أنها تمسخ الشخص ، فإذا تحزب لا تجد عنده مروة ولا شهامة ولا أدبا مع العلماء ، ورحم الله الشيخ مقبلا الذي كان كثيرا ما يحذر من الحزبية ، وكنا نسمعه يقول : ( الحزبية مساخة ، فرب شخص كان حافظا للقران ، فإذا تحزب مسخ وصار مخزنا متنتنا يشاهد الأفلام ). أه (1)
والحزبية سنة من سنن الجاهلية قال الله تعالى ( وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا مَا أَنزَلَ اللّهُ قَالُواْ بَلْ نَتَّبِعُ مَا أَلْفَيْنَا عَلَيْهِ آبَاءنَا أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لاَ يَعْقِلُونَ شَيْئاً وَلاَ يَهْتَدُونَ )
وقال تعالى ( وإذا قيل لهم اتبعوا ما أنزل الله قالوا بل نتبع ما وجدنا عليه ء اباءنا ، أولو كان الشيطان يدعوهم إلى عذاب السعير )
والحزبية تلغي فضل الأفاضل واله سبحانه يقول (يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوبا وقبائل لتعارفوا إن أكرمكم عند الله أتقاكم )
وليس إن أكرمكم عند الله الحزب الفلاني ، أو من تحزب ولكن أكرمكم عند الله أتقاكم .
والخلاصة : أن الحزبية فيها خطورة على المسلمين وما دخلت على المسلمين إلا بتخطيط من أعدائهم لإضعاف المسلمين وإفشالهم ، والله تعالى يقول ( ولا تنازعوا فتفشلوا وتذهب ريحكم ، واصبروا إن اله مع الصابرين ) .
---------------------------------------------------------------------------------------------
(1) قلت : وقال خليفته الناصح الأمين : ( من تحزب تخرب ) .
دعوة أهل السنة ليست مادية
ودعوتهم ليست مادية ، يدعون الناس لا يريدون منهم جزاء ولا شكورا كما قال تعالى ( قل ما أسألكم عليه أجر إلا من شاء أن يتخذ إلى ربه سبيلا ) وقال سبحانه وتعالى ( قل لا أسألكم عليه من أجرا إلا المودة في القربى ).
فدعوة الأنبياء ليست مادية فهذا نوح – عليه السلام – يقول لقومه ( ويا قوم لا أسألكم عليه مالا إن أجري إلا على الله ) ويقول ربنا حاكيا عن كثير من الأنبياء ( إن أجري إلا على رب العلمين ) كما في سورة الشعراء ، قالها كل من : نوح وهود وصالح ولوط عليهم السلام .
ويقول تعالى حاكيا عن هود – عليه السلام – ( يا قوم لا أسألكم عليه أجرا إن أجري إلا على الذي فطرني أفلا تعقلون ) ، فأهل السنة لا يسألون الناس أموالهم ولا يقومون بالمحاضرات ثم يسألون الناس تبرعات ويفرشون على الأبواب الأردية والعمائم لجمع أوال الناس .
وإنه لمن المصائب على المرء أن يجعل الدين وسيلة للدنيا ، ويتنازل عن دينه من أجل المطامع الدنيوية ، نسأل الله العافية . وقد ذكر شيخ الإسلام ابن تيمية في ( اقتضاء الصراط المستقيم مخالفة أصحاب الجحيم ) وهو يبين معنى قوله تعالى ( كالذين من قبلكم كانوا أشد منكم قوة وأكثر أموالا وأولادا فاستمتعوا بخالقهم فاستمتعتم بخالقكم كما استمتع الذين من قبلكم بخالقهم وخضتم كالذي خاضوا أولئك حبطت أعمالهم في الدنيا والآخرة وأولئك هم الخاسرون ) . قال في (ص 188- 120 ) :- ( وجمع سبحانه بين الاستمتاع بالخلاق (1) وبين الخوض ، لأن فساد الدين إما أن يقع بالاعتقاد الباطل والتكلم به أو يقع في العمل بخلاف الا عنقاد الحق ، والأول: هو البدع ونحوها والثاني : هو فسق الأعمال ونحوها ) .
والأول من جهة الشبهات ، والثاني من جهة الشهوات . ولهذا كان السلف يقولون : احذروا من الناس صنفين : صاحب هوى قد فتنه هواه وصاحب دنيا أعمته دنياه ، وكانوا يقولون : احذروا فتنة العالم الفاجر والعابد الجاهل ، فإن فتنتهم فتنة لكل مفتون ، فهذا يشبه المغضوب عليهم الذين يعلمون الحق ولا يتبعونه وهذا يشبه الضالين الذين يعملون بغير علم .
ووصف بعضهم أحمد بن حنبل فقال رحمه الله : (عن الدنيا ما كان أصبره وبالماضين ما كان أشبهه ، أتته البدع فنفاها ، والدنيا فأباها ) .
وقد وصف الله أئمة المتقين فقال ( وجعلنا منهم أئمة يهدون بأمرنا لما صبروا وكانوا بأباتنا يؤقنون ) فبالصبر تترك الشهوات وباليقين تدفع الشبهات . أه
وقال سفيان الثوري : ( المال داء هذه الأمة ، والعالم طبيب هذه الأمة ، فإذا جر العالم الداء إلى نفسه ، فمن يبرئ الناس
) .
---------------------------------------------------------------------------------------
(1) هو النصيب والحظ ومنه قوله تعالى ( وما له في الآخرة من خلاق ) أي من نصيب وقوله – عليه الصلاة والسلام – ( إنما يلبس هذا من لا خلاق له ) .
(2) سير أعلام النبلاء (7 / 243 ) .
وأهل السنة لا يتزلفون إلى المسئولين ويدعون الله أن يصلحهم
فأهل السنة لا يتزلفون إلى المسئولين ليتخذوهم سلما ، ولا يزاحمونهم على كراسيهم ، ولا يزاحمون صاحب الجاه على جاهه ، ولا صاحب المنصب على منصبه ، ولا يتزلفون إلى أهل الأموال ويتذللون لهم ، طمعا في دنياهم لأن في ذلك إهانة للعلم ، والعلم عندهم أرفع من الكراسي والمناصب والأموال ، وقد ضرب شيخنا الإمام الو ادعي رحمه الله أروع الأمثلة في هذا الزمان في هذا الباب ، حيث عرضت عليه المناصب العالية والأموال الكثيرة ، فركل الدنيا بقدميه وكان يقول رحمه الله : ( إن الكراسي لا تساوي عندي بعرة ) ويقول : ( صار العلم عندي ألذ من كل شئ ) ويقول :( إذا فتحت صحيح البخاري أو صحيح مسلم وقلت : حدثنا وأخبرنا ، نسيت غموم الدنيا وهمومها ) !!
فأهل السنة يقولون للمسئولين : ابقوا في مناصبكم ، فنحن لا نريدها ، نريد منكم فقط : أن تتمسكوا بكتاب ربكم وسنة نبيكم – صلى الله عليه وسلم – كي تنقذوا أنفسكم من النار ومن أجل أن ننجو نحن وإياكم من عذاب الله .
فقد كان السلف رحمهم الله يزهدون في المناصب ، أبو قلابة عبد الله بن زيد الجرمي ، طلب للقضاء فهرب ( 1) . قال الحافظ بن حج في ( تقريب التهذيب ) : مات هاربا من القضاء ) وسفيان الثوري طلب للقضاء فهرب ومات متخفيا من المهدي . وطلب ثلاثة نفر منهم : وكيع بن الجراح وعبد الله بن إدريس ، والظاهر أن الثالث : حفص بن غياث ، طلب هؤلاء للقضاء فأبوا ، إلا حفص بن غياث فقد وافق .
وأما عبد الله بن إدريس فأوهمهم أنه أبله وأبى أن يدخل في القضاء ، وأما وكيع بن الجراح فتحيل بحيلة طريفة فقال : ( يا أمير المؤمنين والله – وأشار لأصبعه إلى عينه – ما رأيت بهذه منذ سنة ) وهو يريد أصبعه والخليفة يظن أنه أراد عينه ، فأعفاه عن القضاء .
وسفيان الثوري مات متخفيا من المهدي وطلب ذات مرة ودخل على الخليفة العباسي ، لا أذكر أهو المهدي أم المنصور ، فصار يظهر أنه أبله ، فصار يقول : ( ما شاء الله ما أحسن مفارشكم ، بكم اشتريتموها ، ثم يقول : بي بول ، في بول ) ويخرج من الباب ، وبعدها ينطلق فلا يرجع إليهم هكذا ، ويقول : ( وكان يتجر ) ويقول : ( لولا حرفتي هذه لتمندلوا بي ) أي لاتخذوني كالمنديل يتمسحون به .
هكذا إخواني في الله ، كان علماؤنا يفرون من الوظيفة ، بخلاف معاصرينا ، فإنه يسيل لها لعابهم ، بل ربما يفني أحدهم عمره في طلب العلم وفي النهاية ينتهي به الحال إلى أن يعطي الرشوة من أجل أن يكون قاضيا .
وقد روى البخاري ومسلم في صحيحيهما وعن أبي سعيد عبد الرحمن بن سمرة رَضِيَ اللَّهُ عَنهُ قال، قال لي رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّم: <يا عبد الرحمن ابن سمرة لا تسأل الإمارة فإنك إن أعطيتها عن غير مسألة أعنت عليها، وإن أعطيتها عن مسألة وكلت إليها) (1) (2)
---------------------------------------------------------------------------------------.
(1) أخرجه البخاري ( 2266) ومسلم (1652) .
(2) ( المصارعة ) للشيخ مقبل رحمه الله (59- 60 )
وطلب المهدي الإمام مالكا أن يأتي إليه ويخصه بالحديث ، فعقد الإمام مالك مجلسا عاما فقال : ( العلم يؤتى ولا يأتي ) (1)
وللأسف رأينا طلبة علم ، استفادوا حيى صاروا مبرزين وصار يشار إليهم بالبنان ، ثم تركوا هذا الخير : العلم والتعليم ، والدعوة ، وصاروا يبحثون عن مطامع دنيوية ، إما في جمعية ، وإما في وظيفة ، والبعض يبحث عن فيزه ، ليكون إمام مسجد في بعض دول الخليج ، والله المستعان ، وصار حالهم كما قيل :
عنوا يطلبون العلم في كل بلدة *** شبابا فلما حصلوه وحشروا
وصح لهم إسناده وأصوله *** وصاروا شيوخا ضيعوه وأدبروا
فمالوا على الدنيا فهم يحلبونها *** بأخلافها مفتوحها لا يصرر
فيا علماء الدين أين عقولكم *** وأين الحديث المسند المتخير
وقال آخر :
يقولون لي فيك انقباض وإنما *** رأو رجلا عن موقف الذل أحجما
أرى الناس من دانهم هان عندهم *** ومن أكرمته عزة النفس أكرما
إذا قيل هذا منهل قلت قد أرى *** ولكن نفس الحر تحتمل الظما
وما كل برق لاح لي يستفزني *** وما كل من لاقيت أرضاه منعما
ولم أبدلن في خدمة العلم مهجني *** لأخدم من لاقيت لكن لأخدما (1)
أأشقى به غرسا وأجنيه ذلة *** إذن فاتباع الجهل قد كان أسلما
ولو أن أهل العلم صانوه صانهم *** ولو عظموه في النفوس لعظما
ولكن أذلوه فهان ودنسوا *** محياه بالأطماع حتى تجهما
فشاهدنا من هذا أن علماء السلف كان عندهم عفة وقناعة ، وكانوا يبتعدون عن أبواب السلاطين ولا يتنزلون لهم ، ولا يجاملونهم ، ويداهنونهم .
ومع هذا كانوا يدعون لهم بالهداية ، والصلاح ، والمعافاة ، وعدم الدعاء عليهم ، وعدم سبهم وشتمهم ، فإن هذه المسألة من معالم دعوة أهل السنة .
قال الإمام البر بهاري – رحمه الله – في كتابه ( السنة ) فقرة (136) : ( وإذا رأيت الرجل يدعو على السلطان ، فأعلم أنه صاحب هوى ، وإذا رأيت الرجل يدعو للسلطان بالصلاح ، فأعلم أنه صاحب سنة إن شاء الله ) .
ويقول فضيل بن عياض : ( لوكانت لي دعوة ما جعلتها إلا في السلطان ) أنا أحمد بن كامل ، قال : حدثنا الحسين بن محمد الطبري ، نا مردويه الصائغ قال سمعت فضيلا ، يقول : ( لو أن لي دعوة مستجابة ما جعلتها في السلطان صلح ، فصلح بصلاحه العباد والبلاد ، فأمرنا أن ندعو لهم بالصلاح ، ولم ندعو عليهم ، وإن ظلموا وجاروا ، لأن ظلمهم وجورهم على أنفسهم ، وصلاحهم لأنفسهم وللمسلمين ) (2) .
----------------------------------------------------------------------------------------
(1) قال الشيخ مقبل رحمه الله : يستدرك على الشاعر هذا البيت : ( فإنه ينبغي أن تبذل في خدمة العلم مهجتك لله عزوجل ، أما من أجل أن تخدم ، فهذا لعله زلة لسان ، أو لعله من أجل قافية الشعر إلى غير ذلك ، وإلا فهو خطأ لا ينبغي أن يتبع فيه الشاعر رحمه الله ) المصارعة ص (59) .
(2) الأثر صحيح : أخرجه أبو نعيم في الحلية (8/ 91) وعلقه ابن عبد البر في ( جامع بيان العلم وفضله ) رقم (1110) .
دعوة أهل السنة لا تدعو إلى التقليد
دعوة أهل السنة لا تدعو إلى التقليد الذي هو : إتباع من ليس بحجة بغير حجة ، بل يدعون الناس إلى كتاب الله وسنة رسول الله – صلى الله عليه وسلم – كما قال الله عزوجل ( اتبعوا ما أنزل إليكم من ربكم و لاتتبعوا من دونه أولياء قليلا ما تذكرون ) .
قال ابن كثير عند هذه الآية : أي اقتفوا آثار النبي الأمي ، والذي جاءكم بكتاب أنزل إليكم من رب كل شئ ومليكه ( ولا تتبعوا من دونه أولياء ) أي : لاتخرجوا عما جاءكم به الرسول إلى غيره ، فتكونوا قد عدلتم عن حكم الله إلى حكم غيره . أه
وأهل السنة لا يدعون الناس إلى أن يتبعوهم أو يقلدوهم ، بل يقولون للناس : نحن وإياكم نتبع كتاب اله وسنة رسول الله – صلى الله عليه وسلم – كما قال الله تعالى ( وأن هذا صراطي مستقيما فاتبعوه ولا تتبعوا السبل فتفرق بكم عن سبيله ذلكم وصاكم به لعلكم تتقون ) وقال سبحانه ( ولا تقف ما ليس بك علم 0 إن السمع والفؤاد كان أولئك كان عنه مسؤلا ) .
والتقليد قبيح وفيه مضرة على المقلد ، ففي حديث البراء بن عازب رضي الله عنه الطويل ، في سؤال الملكين الرجل السؤ قال ( 000 ويأتيه ملكان فيجلسانه ، فيقولان له من ربك ؟ فيقول : هاه هاه ! لا أدري ، فيقولان : ما دينك ؟ فيقول : هاه هاه ! لا أدري ، فيقولان ما هذا الرجل الذي بعث فيكم ؟ فيقول هاه هاه ! لا أدري . فينادي كناد من السماء أن : كذب ، فافرشوه من النار ، وألبسوه من النار ، وافتحوا له بابا إلى النار ، قال فيأتيه من حرها وسمومها ، قال ويضيق عليه قبره حتى تختلف فيه أضلاعه 000) . (1)
وفي حديث أنس رقم ( 4751) (( 0000 فيقولان له من ربك ؟ من نبيك ؟ فيقول : لا أدري ، كنت أقول ما يقول الناس ---)) (2) .
وفي حديث عائشة عند أحمد ( 6 / 139 ) ( 000 فيقال ( ما هذا الرجل الذي كان فيكم ؟ فيقول سمعت الناس يقولون قولا فقلت 00) وفي حديث أي هريرة عند ابن ماجة (4368) ( 000 ويجلس الرجل السوء في قبره فزعا مشغوفا فيقال له : فيم كنت ؟ فيقول : لا أدري فيقال : ما هذا الرجل ؟ فيقول سمعت الناس يقولون قولا فقلته 000) .
يستفاد من هذا الحديث سوء عاقبة التقليد ، وقد ذم الله سبحانه الذين قلدوا آباءهم وأجدادهم فقال سبحانه (آتيناهم كتابا من قبله فهم به مستمسكون 0 بل قالوا إنا وجدنا آباءنا على أمة وإنا على آثارهم مهتدون 0كذلك ما أرسلنا من قبلك في قرية من نذير إلا قال مترفوها إنا وجدنا آباءنا على أمة وإنا على آثارهم مقتدون23/43قال أولو جئتكم بأهدى مما وجدتم عليه آباءكم قالوا إنا بما أرسلتم به كافرون24/43فانتقمنا منهم فانظر كيف كان عاقبة المكذبين).
وقال تعالى ( وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا مَا أَنزَلَ اللّهُ قَالُواْ بَلْ نَتَّبِعُ مَا أَلْفَيْنَا عَلَيْهِ آبَاءنَا أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لاَ يَعْقِلُونَ شَيْئاً وَلاَ يَهْتَدُونَ ).
وقال سبحانه ( وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْاْ إِلَى مَا أَنزَلَ اللّهُ وَإِلَى الرَّسُولِ قَالُواْ حَسْبُنَا مَا وَجَدْنَا عَلَيْهِ آبَاءنَا أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ شَيْئًا وَلاَ يَهْتَدُونَ ).
وقال تعالى ( وإذا قيل لهم اتبعوا ما أنزل الله قالوا بل نتبع ما وجدنا عليه ء اباءنا ، أولو كان الشيطان يدعوهم إلى عذاب السعير ) .
وقد لقن النبي – صلى الله عليه وسلم – عمه أبا طالب فقال ( ياعم ، قل : لا إله إلا الله ، كلمة أشهد لك بها عند الله ) فقال : أبو جهل وعبد الله بن أبي أمية : يا أبا طالب أترغب عن ملة عبد المطلب ؟! فلم يزل رسول الله – صلى الله عليه وسلم – يعرضها عليه ويعودان بتلك المقالة ، حتى قال أبو طالب آخر ما كلمهم : هو على ملة عبد المطلب ، وأبى أن يقول : لاإله إلا الله (3).
----------------------------------------------------------------------------------------------
(1) أخرجه أبو داود (4753) وأحمد (18534) وابن أب شيبة (3/380) .
(2) عند أبي داود (4751) .(3) البخاري (1360) عن سعيد بن المسيب عن أبيه .
فهكذا التقليد الأعمى مضرة . ولقد كان الأئمة رحمهم اله ينهون عن التقليد ، وينهون الناس عن تقليدهم : فهذا الإمام مالك بن أنس أبو عبد الله إمام دار الهجرة كان يقول : ( إنما أنا بشر أخطئ وأصيب ، فانظروا في رأيي ، فكل ما وافق الكتاب والسنة فخذوه وكل ما لم يوافق الكتاب والسنة فاتركوه ) .
وقال رحمه اله : ( ليس أحد بعد النبي – صلى الله عليه وسلم – إلا ويؤخذ من قوله ويترك إلا النبي – صلى اله عليه وسلم ) .
وهذا الإمام أبو عبد الله محمد بن إدريس الشافعي رحمه الله يقول : ( ما من أحد إلا تذهب عليه سنة لرسول الله – صلى الله عليه وسلم – وتعزب عنه ، فمهما قلت من قول أو أصلت من أصل فيه عن رسول الله – صلى اله عليه وسلم – لخلاف ما قلت ، فالقول ما قال رسول الله – صلى الله عليه وسلم – وهو قولي ) .
وقال : ( أجمع المسلمون على أن : من استبان له سنة عن رسول الله – صلى الله عليه وسلم- لم يحل له أن يدعها لقول أحد ) .
وقال : ( إذا وجدتم في كتابي خلاف سنة رسول الله _ صلى الله عليه وسلم _ فقولوا بسنة رسول الله – صلى الله عليه وسلم – ودعوا ما قلت ) . ( وفي رواية : فاتبعوها ولا تلتفتوا إلى قول أحد ) .
وقال : ( كل ما قلت فكان عن النبي – صلى الله عليه وسلم – خلاف قولي مما يصح ، فحديث النبي أولى فلا تقلدوني ) .
وقال ( إذا صح الحديث فهو مذهبي ) .
وهذا الإمام أحمد بن حنبل أبو عبد الله أمام أهل السنة في عصره رحمه الله يقول : ( لاتقلدوني ولا تقلد مالكا ولا الشافعي ولا الأوزاعي ولا الثوري ، وخذ من حيث أخذوا ) . وفي رواية ( لا تقلد دينك أحد من هؤلاء ، ما جاء عن النبي – صلى الله عليه وسلم – وأصحابه فخذ به ، ثم التابعين بعد الرجل فيه مخير ) .
وقال رحمه الله : ( رأي الأوزاعي ورأي مالك ورأي أبي حنيفة كله رأي ، وهو عندي سواء ، وإنما الحجة في الآثار ).
وقال أبو حنيفة رحمه الله : ( إذا صح الحديث فهو مذهبي ) وقال ( إذا قلت قولا يخالف كتاب الله وخبر الرسول – صلى الله عليه وسلم – فاتركوا قولي ) أه (1)
وكان شيخنا الو ادعي رحمه الله يحذر من التقليد ، ويقول ( لا يقلدني إلا ساقط ) . والمقلدة يصدق عليهم قول الشاعر :
ما الفرق بين مقلد في دينه *** راض بقائده الجهول الحائر
وبهيمة عمياء قاد زمامها *** أعمى على عوج الطريق الجائر
وأهل السنة لا يتعصبون لمذهب من المذاهب لأنهم يعتقدون أن المذاهب بدعة لم تحدث إلا بعد القرون المفضلة والله تعالى يقول ( وما اختلفتم فيه من شئ فحكمه إلى الله )
ويقول سبحانه ( فَإِن تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللّهِ وَالرَّسُولِ إِن كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ )
وهذه المذاهب فرقت بين المسلمين وشتتت شملهم والله يقول محذرا من تلك الفرقة ( ولا تكونوا من المشركين * من الذين فرقوا دينهم وكانوا شيعا كل حزب بما لديهم فرحون )
وقال تعالى ( إن الذين فرقوا دينهم وكانوا شيعا لست منهم في شئ ، إنما أمرهم إلى الله ثم ينبئهم بما كانوا يفعلون ) .
----------------------------------------------------
(1) هذا كلام الأئمة رحمهم الله نقلته من مقدمة ( صفة صلاة النبي –صلى الله عليه وسلم ) للشيخ الألباني رحمه الله . فارجع إليه ، ففيه فائدة .
وقال تعالى ( إ نَّ الَّذِينَ فَرَّقُواْ دِينَهُمْ وَكَانُواْ شِيَعًا لَّسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ إِنَّمَا أَمْرُهُمْ إِلَى اللّهِ ثُمَّ يُنَبئهم بما كانوا يفعلون )
فأهل السنة لا يربطون الناس بمذهب معين ، إنما يربطون الناس بكتاب الله عزوجل وسنة رسول الله – صلى الله عليه وسلم .
ودعوة أهل السنة يحذر أيضا من التحزب ، لأن الحزبية البغيضة فيها أضرار منها :
تفرقة المسلمين وتمزيق المسلمين ، والله سبحانه وتعالى يقول ( إن هذه أمتكم أمة واحدة وأنا ربكم فاعبدون ) فهذه الأمة واحدة : كتابها واحد وقبلتها واحدة ، ونبيها ورسولها واحد ، لكن الحزبية جعلتهم شذر مذر .
ومن أضرار الحزبية : عدم العدل والإنصاف ، فما في الحزبية عدل أبدا .
ومن أضرار الحزبية : أن الحزبيين يقولون للناس : تفرقوا ، والله عزوجل يقول ( واعتصموا بحبل اله جميعا ولا تفرقوا ) ويقول سبحانه وتعالى ( وتعاونوا على البر والتقوى ولا تعاونوا على الإثم والعدوان ) .
ومن أضرار الحزبية : أن فيها إلغاء الولاء والبراء الصحيح .
ومن أضرار الحزبية : أنها تمسخ الشخص ، فإذا تحزب لا تجد عنده مروة ولا شهامة ولا أدبا مع العلماء ، ورحم الله الشيخ مقبلا الذي كان كثيرا ما يحذر من الحزبية ، وكنا نسمعه يقول : ( الحزبية مساخة ، فرب شخص كان حافظا للقران ، فإذا تحزب مسخ وصار مخزنا متنتنا يشاهد الأفلام ). أه (1)
والحزبية سنة من سنن الجاهلية قال الله تعالى ( وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا مَا أَنزَلَ اللّهُ قَالُواْ بَلْ نَتَّبِعُ مَا أَلْفَيْنَا عَلَيْهِ آبَاءنَا أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لاَ يَعْقِلُونَ شَيْئاً وَلاَ يَهْتَدُونَ )
وقال تعالى ( وإذا قيل لهم اتبعوا ما أنزل الله قالوا بل نتبع ما وجدنا عليه ء اباءنا ، أولو كان الشيطان يدعوهم إلى عذاب السعير )
والحزبية تلغي فضل الأفاضل واله سبحانه يقول (يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوبا وقبائل لتعارفوا إن أكرمكم عند الله أتقاكم )
وليس إن أكرمكم عند الله الحزب الفلاني ، أو من تحزب ولكن أكرمكم عند الله أتقاكم .
والخلاصة : أن الحزبية فيها خطورة على المسلمين وما دخلت على المسلمين إلا بتخطيط من أعدائهم لإضعاف المسلمين وإفشالهم ، والله تعالى يقول ( ولا تنازعوا فتفشلوا وتذهب ريحكم ، واصبروا إن اله مع الصابرين ) .
---------------------------------------------------------------------------------------------
(1) قلت : وقال خليفته الناصح الأمين : ( من تحزب تخرب ) .