موقف أبي الحسن
من أخبار الآحاد
(الحلقة الثانية)
كتبه
ربيع بن هادي عمير المدخلي
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه ومن ولاه.
أما بعد:
فهذه الحلقة الثانية في رد الشبه التي حشدها أبو الحسن مصطفى بن إسماعيل المصري المأربي على أخبار الآحاد الصحيحة.
أسأل الله أن يرفع بها الحق وأهله.
الشبهة العاشرة:
قال أبو الحسن:”ومن المعلوم أن التصحيح فرع التوثيق للرواة نقلة هذا الحديث، فأسأل وأقول:، كيف يوثق علماء هذا الفن رواة الأحاديث؟.
ثم قال : والجواب: إما أن يكون المعدل معاصراً للمعدَّل أو متأخراً عنه ولم يره بل اطلع على حديثه، فإن كان معاصراً فإما أن يكون قد حضر له مجلساً ورآه يحدث بأحاديث مستقيمة فوثقه، وقد يكون الأمر بخلاف ذلك، وإن كان خلاف الظاهر مرجوحاً.
وإما أن يكون قد اختبره في أحاديث - قلت أو كثرت-، فمر فيها فوثقه.
وقد يكون حديث عهد بما سئل عنه، ولو سأله عن غير هذه الأحاديث لاشتبهت عليه - إن كان هذا الاحتمال مرجوحاً-.
وإن كان المعدل متأخراً فتوثيقه راجع إلى سبر روايات المحدث ومقارنتها بحديث غيره، وقد يتوسع الناقد فيسبر كل حديث المحدث وقد لا يفعل فالتوثيق اجتهادي لا قطعي؛ ونحن نرى كثيراً من التراجم قد اختلف فيها الأئمة بين معدل ومجرح، ثم نجتهد في الجمع بين هذه الروايات ونستخرج حكماً نهائياً في الرجل بالتعديل بالتجريح، فحكمنا اجتهاد ظني مبني على اجتهاد ظني، فكيف يصير بعد ذلك يقينياً قطعياً؟". إتحاف النبيل(ص24).
أقول:
إنَّ اهتمام المحدثين بالسماع المباشر من شيوخهم وملازمتهم لهم والرحلات الطويلة الشاقة من سائر أقطار العالم الإسلامي إلى الأقطار الأخرى للسماع من العلماء والمحدثين وغيرهم أمور مشهورة معروفة مدونة في كتب الرجال وتراجمهم بل إن كثيراً من الرجال من يرحل إلى البلاد النائية من أجل حديث واحد وقد كتب الخطيب البغدادي كتاباً خاصاً بالرجال الذين كان أحدهم يرحل من أجل حديث واحد.
ومن أهداف الرحلة عند المحدثين البحث عن أحوال الرواة وأخبارهم حتى يتميز المقبول منهم من المردود ولولا ما بذله الأئمة النقاد في هذا الشأن من الجهود في البحث عن عدالة الرواة واختبار حفظهم وتيقظهم ثم شهادتهم بالعدالة والضبط لمن عرفوا من أحواله هذه المزايا، وشهادتهم على الكذابين والضعفاء والمخلطين والتحذير منهم، ولفت الأنظار إلى المدلسين على اختلاف طبقاتهم، وشهادتهم عليهم بما عرفوه من أحوالهم لولا هذه الجهود العظيمة بعد حفظ الله لدينه لما تميز الحق من الباطل والهدى من الضلال.
أفمثل هذه الأمور يُغفلها سلفي عند الحديث عن رواة سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم.
إنَّ تعديلهم وجرحهم يقوم على منهج عظيم ودراسة واعية لأحوال الرواة ودينهم وأخلاقهم إلا فيما ندر من الحالات من بعض النقاد.
وإنَّ كلام أبي الحسن هذا فيه تلبيس وإجحاف بحق أئمة النقد حملة الإسلام والذابين عنه رحمهم الله ورضي عنهم، فهل هذه حالهم جميعاً في كل الأحوال فتكون تزكيات جميع أئمة النقد مبنية على حضور أحدهم مجلساً واحداً..إلخ، حاشاهم وبرأهم الله من هذا القول.
ثم إنَّ هذا الكلام من أبي الحسن لا يخلو من واحدة من ثلاث حالات:
1- إما أنه أخذه عن أهل البدع.
2- وإما أنه اخترعه تأييداً لباطله وباطلهم.
3- وإما أنه أخذه من الشيخ عبد الرحمن المعلمي بعد أن بتره بتراً شنيعاً.
قال العلامة الناقد الشيخ المعلمي رحمه الله- تحت عنوان كيف البحث عن أحوال الرواة-:
((الثامن: ينبغي أن يبحث عن معرفة الجارح أو المعدل بمن جرحه أو عدله فإن أئمة الحديث لا يقتصرون على الكلام فيمن طالت مجالستهم له وتمكنت معرفتهم به.
بل قد يتكلم أحدهم فيمن لقيه مرة واحدة وسمع منه مجلساً واحداً أو حديثاً واحداً وفيمن عاصره ولم يلقه، ولكنه بلغه شيء من حديثه وفيمن كان قبله بمدة قد تبلغ مئات السنين إذا بلغه شيء من حديثه ومنهم من يجاوز ذلك، فابن حبان قد يذكر في الثقات من يجد البخاري سماه في تاريخه من القدماء وإن لم يعرف ما روى وعمن روى ومن روى عنه، ولكن ابن حبان يشدد وربما تعنت فيمن وجد في روايته ما استنكره وإن كان الرجل معروفاً مكثراً والعجلي قريب منه في توثيق المجاهيل من القدماء وكذلك ابن سعد وابن معين وآخرون غيرهما يوثقون من كان من التابعين أو أتباعهم إذا وجدوا رواية أحدهم مستقيمة بأن يكون له فيما يروي متابع أو شاهد وإن لم يرو عنه إلا واحد ولم يبلغهم عنه إلا حديث واحد...))، ثم ذكر من وثقهم هؤلاء من المجهولين ( ).
فانظر إلى قوله : ((فإن أئمة الحديث لا يقتصرون على الكلام فيمن طالت مجالستهم له وتمكنت معرفتهم به)).
فهذه هي القاعدة الأساس والمنهج الأساس في جرحهم وتعديلهم.
وانظر إلى قوله : ((بل قد يتكلم أحدهم فيمن لقيه مرة واحدة وسمع منه مجلساً واحداً إلى آخر الحالات التي ذكرها…))، وهذه حالات استثناء وهذه الحالات لا يتركها الله بل يهيئ من يبين حال هؤلاء المجهولين وقد قام علماء -بتوفيق الله- بهذا البيان.
ثم إن هؤلاء المجهولين لا يعتمد العلماء على رواياتهم لا في عقيدة ولا في حلال ولا حرام لكن قد يستشهد برواياتهم فيما له أصل والخلاف إنما هو في روايات من عرفوا بالعدالة وقوف ذلك، وتلقت الأمة رواياتهم بالقبول تصديقاً بها وعملاً بموجبها.
والحاصل هنا أنه لا يخلو كلام أبي الحسن من واحد من الحالات التي ذكرتها وكلها شر نعوذ بالله منه.
وقال الشيخ المعلمي رحمه الله في رده على أبي رية المصري :
((قال أبو رية في كتابه "أضواء على السنة المحمدية"، بعد إطرائه لكتابه وذكر علو قدر الحديث النبوي ثم قال:
وعلى أنه بهذه المكانة الجليلة والمنـزلة الرفيعة فإن العلماء والأدباء لم يولوه ما يستحق من العناية والدرس وتركوا أمره لمن يسمون رجال الحديث يتداولونه فيما بينهم ويدرسونه على طريقتهم.
وطريقة هذه الفئة التي اتخذتها لنفسها قامت على قواعد جامدة لا تتغير ولا تتبدل فترى المتقدمين منهم وهم الذين وضعوا هذه القواعد قد حصروا عنايتهم في معرفة رواة الحديث والبحث على قدر الوسع في تاريخهم، ولا عليهم بعد ذلك إن كان ما يصدر عن هؤلاء الرواة صحيحاً في نفسه أو غير صحيح معقولاً أو غير معقول إذ وقفوا بعلمهم عندما يتصل بالسند فحسب، أما المعنى فلا يعنيهم من أمره شيء.
قال العلامة المعلمي :”مراده بقوله العلماء المشتغلون بعلم الكلام والفلسفة، ولم يكن منهم أحد في الصحابة والمهتدين بهديهم من علماء التابعين وأتباعهم الذين يلونهم، هؤلاء كلهم ممن سماهم رجال الحديث، ومنهم عامة المشهورين عند الأمة بالعلم والإمامة من السلف، أولئك كلهم ليسوا عند أبي رية علماء، لأنهم لم يكونوا يخوضون في غوامض المعقول بل يفرون منها وينهون عنها ويعدونها زيفاً وضلالاً وخروجاً عن الصراط المستقيم وقنعوا بعقل العامة.
وأقول : مهما تكن حالهم، وقد كانوا عقلاء العقل الذي ارتضاه الله عز وجل لأصحاب رسوله ورضيهم سبحانه لمعرفته ولفهم كتابه وشهد لهم بأنهم (الْمُؤْمِنُونَ حَقّا)،(الرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ)، (كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ )،وقال لهم في أواخر حياة رسوله(الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي) فمن زعم أن عقولهم لم تكن مع تسديد الشرع لها كافية وافية بمعرفة الله تعالى وفهم كتابه ومعرفة مالا يتم الإيمان ولا يكمل الدين إلا بمعرفته، فإنما طعن في الدين نفسه، وكان التابعون المهتدون بهدي الصحابة أقرب الخلق إليهم عقلاً وعلماً وهدياً، وهكذا من اهتدى بهديهم من الطبقات التي بعدهم.
وهؤلاء هم الذين سماهم أبو رية “رجال الحديث "، قد يقال : أما نفي العلم والعقل عنهم فلا التفات إليه، ولكن هل راعوا العقل في قبول الحديث وتصحيحه؟
أقول : نعم راعوا ذلك في أربعة مواطن :
عند السماع، وعند التحديث، وعند الحكم على الرواة، وعند الحكم على الأحاديث فالمتثبتون إذا سمعوا خبراً تمتنع صحته أو تبعد لم يكتبوه، ولم يحفظوه فإن حفظوه لم يحدثوا به، فإن ظهرت مصلحة لذكره ذكروه مع القدح فيه وفي الراوي الذي عليه تبعته"( ).
ثم نقل عن الشافعي والخطيب البغدادي ما يؤيد كلامه ثم واصل في الثناء على الصحابة ومن اهتدى بهديهم وفي الرد على أبي رية الضال.
نقلت هذا الكلام لجودته وعظيم فائدته ولمشابهة طعن أبي رية في أهل الحديث( ) لطعون أهل البدع فيهم من المتكلمين والمتفلسفين والشاهد لهذا البحث من كلام المعلمي.
أنَّ فيه بياناً شافياً لتثبت المحدثين واستخدام عقولهم النيرة عند سماع الحديث أي من شيوخهم ثم عند التحديث به فلا يحدث الأئمة منهم إلا بما حفظوه وأتقنوه أو من كتبهم وعند الحكم على الرواة فلا يحكمون إلا بعلم ودراسة الراوي المحكوم عليه ومن اعترى حكمه خلل سد هذا الخلل غيره من الأئمة تحقيقاً لوعد الله بحفظ دينه وحمايته له من النقص والخطأ والباطل.
قال الحافظ ابن حجر رحمه الله :
((وقال الذهبي وهو من أهل الاستقراء التام في نقد الرجال لم يجتمع اثنان من علماء هذا الشأن على توثيق ضعيف ولا على تضعيف ثقة)) نزهة النظر مع النكت لعلي حسن عبد الحميد ( ص190-191) وكلامه في ( ص84) من الموقظة:
قال الذهبي: ((ولكن هذا الدين مؤيد محفوظ من الله لم يجتمع علماؤه على ضلالة لا عمداً ولا خطأً فلا يجتمع اثنان على توثيق ضعيف ولا على تضعيف ثقة )).
أي لم يقع الاتفاق من علماء الحديث على توثيق ضعيف ولا على تضعيف ثقة ".
قال الحافظ ابن كثير رحمه الله في تعريف المقبول: ((المقبول الثقة الضابط لما يرويه هو المسلم العاقل البالغ، سالماً من أسباب الفسق، وخوارم المروءة، وأن يكون مع ذلك متيقظاً غير مغفل حافظاً إن حدث من حفظه فاهما إن حدث على المعنى فإن اختل شرط مما ذكرنا ردت روايته.
وتثبت عدالة الراوي باشتهاره بالخير أو بتعديل الأئمة أو اثنين منهم له، أو واحد على الصحيح ولو بروايته عنه في قول)).
وعلق الشيخ أحمد شاكر رحمه الله على هذا التعريف تعليقاً جيداً ثم قال: ((ويعرف ضبطه بموافقة الثقات المتقنين الضابطين، إذا اعتبر حديثه بحديثهم، ولا تضر مخالفته النادرة لهم، فإن كثرت مخالفته لهم وندرت الموافقة اختل ضبطه، ولم يحتج بحديثه))( ).
أقول:
فتوفر شروط العدالة أو اختلالها لا تحصل إلا بالدراسة لأحواله ومدخله ومخرجه وتوفر شروط الضبط قد تحصل لتلاميذه وأقرانه الذين عايشوه وعرفوا حاله من تحديثه وإملائه وقد تحصل لمن عاصره ولم يره وتحصل لمن يأتي من النقاد بعد عصره بالدراسة ومقارنة مروياته بمرويات غيره، وبهذا وذاك يعرف حاله من عدالة وضبط أو ضدهما، وتبث العدالة باشتهاره بالخير والثناء الجميل عليه حتى يصل الأمر إلى أن يسأل هو عن الناس ولا يسألون عنه كأئمة الهدى الكبار مثل مالك والثوري والأوزاعي وشعبة وابن المبارك وأحمد ابن حنبل ويحي بن معين وعلي بن المديني والبخاري ومسلم وأبي حاتم وأبي زرعة – ونظراء هؤلاء ومن جرى مجراهم في نباهة الذكر واستقامة الأمر، انظر تعليق أحمد شاكر (الباعث الحثيث ) (2/280).
وقال ابن الصلاح رحمه الله في قضية الجرح :
“وأكثر ما يوجد في كتب الجرح والتعديل”فلان ضعيف “أو “متروك “ونحو ذلك فإن لم نكتف به أنسد باب كبير في ذلك.
وأجاب بأن إذا لم نكتف به توقفنا في أمره لحصول الريبة عند ذلك.
قال ابن كثير رحمه الله : قلت أما كلام هؤلاء الأئمة المنتصبين لهذا الشأن فينبغي أن يؤخذ مسلماً من غير ذكر أسباب وذلك للعلم بمعرفتهم، واطلاعهم واضطلاعهم في هذا الشأن، واتصافهم بالإنصاف والديانة والخبرة، والنصح لا سيما إذا أطبقوا على تضعيف الرجل أو كونه متروكاً أو كذابا أو نحو ذلك فالمحدث الماهر لا يتخالجه في مثل هذا وقفة في موافقتهم، لصدقهم وأمانتهم ونصحهم.
ولهذا يقول الشافعي في كثير من كلامه على الأحاديث : “لا يثبته أهل العلم بالحديث “ويرده ولا يحتج به بمجرد ذلك والله أعلم (1/286).
فهذه الصفات التي وصفهم بها الحافظ ابن كثير – رحمه الله – لعلمه لدراستهم لأحوال الأشخاص مباشرة من خلال مجالستهم ومشافهتهم واختبار رواياتهم إلى آخر ما تتطلبه هذه الصنعة الشريفة لا لمجرد لقاء وسماع بعض الأحاديث في جلسة فهذه حالات نادرة وليست بقاعدة ولا منهج.
وقال العلامة المحدث الشيخ عبد الرحمن بن يحيى المعلمي في مقدمته لكتاب “الجرح والتعديل لابن أبي حاتم ( 1/ب)"، في أئمة النقد:
النقد والنقاد.
ليس نقد الرواة بالأمر الهين، فإن الناقد لا بد أن يكون واسع الإطلاع على الأخبار المروية، عارفاً بأحوال الرواة السابقين وطرق الرواية، خبيراً بعوائد الرواة ومقاصدهم وأغراضهم،وبالأسباب الداعية إلى التساهل والكذب، والموقعة في الخطأ والغلط، ثم يحتاج إلى أن يعرف أحوال الراوي متى ولد؟ وبأي بلد؟ وكيف هو في الدين والأمانة والعقل والمروءة والتحفظ؟ ومتى شرع في الطلب؟ ومتى سمع؟ وكيف سمع؟ ومع من سمع؟ وكيف كتابه؟ ثم يعرف أحوال الشيوخ الذين يحدث عنهم وبلدانهم ووفياتهم وأوقات تحديثهم وعادتهم في التحديث، ثم يعرف مرويات الناس عنهم ويعرض عليها مرويات هذا الراوي ويعتبرها بها، إلى غير ذلك مما يطول شرحه، ويكون مع ذلك متيقظاً، مرهف الفهم، دقيق الفطنة، مالكاً لنفسه، لا يستميله الهوى ولا يستفزه الغضب، ولا يستخفه بادر ظن حتى يستوفي النظر ويبلغ المقر، ثم يحسن التطبيق في حكمه فلا يجاوز ولا يقصر. وهذه المرتبة بعيدة المرام عزيزة المنال لم يبلغها إلا الأفذاذ. وقد كان من أكابر المحدثين وأجلتهم من يتكلم في الرواة فلا يعول عليه ولا يلتفت إليه. قال الإمام علي ابن المديني وهو من أئمة هذا الشأن “أبو نعيم وعفان صدوقان لا أقبل كلامهما في الرجال، هؤلاء لا يدعون أحداً إلا وقعوا فيه “وأبو نعيم وعفان من الأجلة، والكلمة المذكورة تدل على كثرة كلامهما في الرجال ومع ذلك لا تكاد تجد في كتب الفن نقل شيء من كلامهما.
أئمة النقد.
أشتهر بالإمامة في ذلك جماعة كمالك بن أنس وسفيان الثوري وشعبة ابن الحجاج وآخرون( ) قد ساق ابن أبي حاتم تراجم غالبهم مستوفاة في كتابه “تقدمة المعرفة لكتاب الجرح والتعديل “وذلك أنه رأى أن مدار الأحكام في كتاب الجرح والتعديل على أولئك الأئمة، وأن الواجب أن لا يصل الناظر إلا أحكامهم في الرواة حتى يكون قد عرفهم المعرفة التي تثبت في نفسه أنهم أهل أن يصيبوا في قضائهم، ويعدلوا في أحكامهم، وأن يقبل منهم ويستند إليهم ويعتمد عليهم ".
أقول:
فانظر إلى قوله:(..وأن الواجب أن لا يصل الناظر إلا أحكامهم في الرواة حتى يكون قد عرفهم المعرفة التي تثبت في نفسه أنهم أهل أن يصيبوا في قضائهم، ويعدلوا في أحكامهم، وأن يقبل منهم ويستند إليهم ويعتمد عليهم)،لماذا؟؟.
لأنَّ أحكامهم قامت على دراسة واعية وعلم بأحوال الرواة فتكون أحكامهم صائبة وعادلة لأنها لم تقم على الظنون والأوهام، وقد يحصل من بعضهم تزكية لبعض الأشخاص بناء على ما يظهر له من حاله، ويكون الناقد من إخوانه أعلم بحاله فيؤكد هذه التزكية أو يأتي بما ينقظها.
وقال العلامة المعلمي كذلك في "الأنوار الكاشفة":
“وأما التابعون فعامة من وثقه الأئمة منهم ممن كثرت أحاديثه هم ممن زكاه الصحابة ثم زكاه أقرانه من خيار التابعين، ثم أعتبر الأئمة أحاديثه وكيف حدّث بها في الأوقات المتفاوتة، واعتبروا أحاديثه بأحاديث غيره من الثقات، فاتضح لهم بذلك كله صدقه وأمانته وضبطه. وهكذا من بعدهم.
وكان أهل العلم يشددون في اختيار الرواة أبلغ التشديد، جاء عن بعضهم _ أظنه الحسن بن صالح بن حيّ _ أنه قال : كنا إذا أردنا أن نسمع الحديث من رجل سألنا عن حاله حتى يقال : أتريدون أن تزوجوه؟ وجاء جماعة إلى شيخ ليسمعوا منه فرأوه خارجاً وقد انفلتت بغلته وهو يحاول إمساكها وبيده مخلاة يريها إياها، فلاحظوا أن المخلاة فارغة، فرجعوا ولم يسمعوا منه. قالوا هذا يكذب على بغلة فلا نأمن أن يكذب في الحديث. وذكروا أن شعبة كان يتمنى لقاء رجل مشهور ليسمع منه، فلما جاءه وجده يشتري شيئاً ويسترجح في الميزان، فامتنع شعبة من السماع منه، وتجد عدة نظائر لهذا ونحوه في كفاية الخطيب (ص110-114).
وكان عامة علماء القرون الأولى وهي قرون الحديث مقاطعين للخلفاء والأمراء، حتى كان أكثرهم لا يقبل عطاء الخلفاء والأمراء ولا يرضى بتولي القضاء، ومنهم من كان الخلفاء يطلبونهم ليكونوا بحضرتهم ينشرون العلم، فلا يستجيبون، بل يفرون ويستترون. وكان أئمة النقد لا يكادون يوثقون محدثاً يداخل الأمراء أو يتولى لهم شيئاً. وقد جرحوا بذلك كثيراً من الرواة ولم يوثقوا ممن داخل الأمراء إلا أفرادا علم الأئمة علما يقينا سلامة دينهم وأنه لا مغمز فيهم البته. وكان محمد بشر الزنبرى محدثاً يسمع منه الناس، فاتفق أن خرج أمير البلد لسفر فخرج الزنبرى يشيعه، فنقم أهل الحديث عليه ذلك وأهانوه ومزقوا ما كانوا كتبوا عنه. وكثيراً ما كانوا يكذبون الرجل ويتركون حديثه لخبر واحد يتهمونه فيه.
وتجد من هذا كثيراً في ميزان الذهبي وغيره. وكذلك إذا سمعوه حدّث بحديث ثم حدّث به بعد مدة على وجه ينافي الوجه الأول، وفي الكفاية (ص113) عن شعبة قال “سمعت من طلحة بن مصرّف حديثاً واحداً وكنت كلما مررت به سألته عنه ( )000 أردت أن أنظر إلى حفظه، فإن غير فيه شيئاً تركته “وكان أحدهم يقضي الشهر والشهرين يتنقل في البلدان يتتبع رواية حديث واحد كما وقع لشعبة في حديث عبد الله بن عطاء عن عقبة بن عامر، وكما وقع لغيره في الحديث الطويل في فضائل السور. ومن تتبع كتب التراجم، وكتب العلل بان له من جدهم واجتهادهم ما يحير العقول.
وكان كثير من الناس يحضرون أولادهم مجالس السماع في صغرهم ليتعودوا ذلك ثم يكبر أحدهم فيأخذ في السماع في بلده، ثم يسافر إلى الأقطار ويتحمل السفر الطويل والمشاق الشديدة، وقد لا يكون معه إلاّ جراب من خبز يابس يحمله على ظهره، يصبح فيأخذ كسرة ويبلها بالماء ويأكلها ثم يغدو للسماع، ولهم في هذا قصص كثيرة، فلا يزال أحدهم يطلب ويكتب إلى أن تبلغ سنه الثلاثين أو نحوها فتكون أمنيته من الحياة أن يقبله علماء الحديث ويأذنوا للناس أن يسمعوا منه، وقد عرف أنهم إن اتهموه في حديث واحد أسقطوا حديثه وضاع مجهوده طول عمره وربح سوء السمعة واحتقار الناس. وتجد جماعة من ذرية أكابر الصحابة قد جرحهم الأئمة، وتجدهم سكتوا عن الخلفاء العباسيين وأعمامهم لم يرووا عنهم شيئاً مع أنهم قد كانوا يروون أحاديث. ومن تتبع أخبارهم وأحوالهم لم يعجب من غلبه الصدق على الرواة في تلك القرون، بل يعجب من وجود كذابين منهم. ومن تتبع تشدد الأئمة في النقد لم يعجب من كثرة من جرحوه وأسقطوا حديثه، بل يعجب من سلامة كثير من الرواة وتوثيقهم لهم مع ذلك التشدد.
الشبهة الحادية عشرة:
قال أبو الحسن :”فالتوثيق اجتهادي لا قطعي ونحن نرى كثيراً من التراجم قد اختلف فيها الأئمة بين معدل ومجرِّح ثم نجتهد في الجمع بين هذه الأقوال ونستخرج حكماً نهائياً في الرجل بالتعديل أو بالتجريح فحكمنا اجتهاد ظني مبني على اجتهاد ظني، فكيف يصير بعد ذلك يقينياً قطعياً".
أقول : ليس كل توثيق اجتهادي ظني فهناك من الرواة من نقطع بعدالتهم ولا يساورنا شك في ذلك وهم كثير وكثير من التابعين إلى تابع التابعين فمن بعدهم مثل سعيد بن المسيب وعروة بن الزبير والقاسم بن محمد وسالم بن عبد الله بن عمر وسليمان بن يسار وخارجة بن زيد والشعبي ومسروق وعلقمة وعبيد الله بن عبد الله بن عتبة بن مسعود والزهري والحسن البصري و ابن سيرين وأمثالهم وفي أتباع التابعين مثل مالك والأوزاعي والسفيانان والحمادان ومن تابعي التابعين ومن بعدهم مثل الشافعي ويزيد بن هارون وممن بعدهم مثل أحمد والبخاري ومسلم وغيرهم كثير.
والمختلف فيهم قد يكون ممن وثقة من يقطع بعدالته ومنهم من لا يقطع بذلك كل على حسب اطلاعه وعلمه بذلك وقد يكون عند الموثق من المعرفة بحال الراوي ومن القرائن ما ليس عند المجرح إلا إذا أبرز المجرح الدليل أو الأدلة التي تقدح في هذا الراوي المختلف فيه فيقدم حينئذ الجرح على التعديل.
ثم قد يكون هذا الراوي الذي لم يثبت فيه الجرح من رجال الصحيحين روى عنه الشيخان ثقة به وبعدالته فيحصل لهما القطع بعدالته ولا مانع من حصول القطع بعد رجحان ثبوت عدالته عندهما.
ثم إنه بعد ذلك تشمله الميزة التي أنفرد بها الصحيحان ألا وهي تلقي الأمة لكتابيهما بالقبول تصديقاً وعملاً.
وقل مثل ذلك في أي حديث خارج الصحيحين تلقته الأمة بالقبول، فإن هذه الميزة تشمل المتن وتشمل رجال الإسناد وقد يشك إنسان في أمر يقابله آخر لا يخالجه شك فيه بل يقطع به.
وقوله في النهاية “فحكمنا اجتهادي ظني مبني على اجتهاد ظني فكيف يصير بعد ذلك يقيناً قطعياً “ليس بمسلم له فالأمر كما بينته ولا سيما في الأسانيد والمتون المتلقاة من الأمة بالقبول.
الشبهة الثانية عشرة:
قال أبو الحسن : "وكذلك استشهادنا بالأحاديث الضعيفة ضعفاً خفيفاً وحكمنا لها بالقوة إذا تعددت طرقها على تفاصيل في ذلك يعرفها أهل الشأن هذا الصنيع من أهل العلم قديماً وحديثاً يدل على أن الحديث إذا حكم عليه بالضعف فمعنى ذلك أن الراجح ضعفه وإن كان هناك احتمال بصحته، فلما تعددت الطرق كثرت احتمالات القوة فأشتد الحديث وارتقى إلى الثبوت صحة أو حسناً وهذا يدل على ما قلته في الحديث الذي يترجح صحته ".
أقول : إن أهل السنة لا يقطعون إلا بصحة الأحاديث التي تلقتها الأمة بالقبول تصديقاً وعملاً.
فقياس الأحاديث الصحيحة المتلقاة بالقبول من الأمة على الأحاديث الضعيفة التي تقوت بالطرق حتى صارت صحيحة أو حسنة قياس مع الفارق لا تتوفر فيه شروط القياس.
ثم هل الظن الراجح الذي تنصره يتفاوت عندك فيصبح مرة أخرى راجحاً ومرجوحاً.
الشبهة الثالثة عشرة :
قال أبو الحسن:”ولذلك فابن حزم نظراً لأنه لا يقول بقول الجماهير في هذا الأمر فلا تراه يقول بالحديث الحسن لغيره ولا يعمل بالشواهد والمتابعات فيكاد يكون الضعيف عنده مقطوعاً بعدم نسبته إلى النبي صلى الله عليه وسلم فيستوي عنده الضعيف والموضوع والباطل وهذا خلاف صنيع علماء وفرسان هذا الفن.
فالعجب من طلبة العلم الذين يرددون كلام ابن حزم -رحمه الله- ولا يلتزمون به، فهم ظاهريون نظرياً، وقائلون بقول جماهير الحديث والأصول والفقه عملياً ".
أقول : إن صح هذا القول من ابن حزم فلسنا معه.
وأقول : اجتهاداً مني أنه إن وجد للحديث الحسن ما يشهد له من القرآن وصحيح السنة فقد يفيد العلم وكذلك إن حفته قرائن فقد يفيد العلم، فإن صح اجتهادي فمن الله وإلا فمني ومن الشيطان.
ثم نقول لأبي الحسن إذا كان ابن حزم قد وقع في خلاف صنيع علماء وفرسان هذا الفن في العمل بالحديث الحسن لغيره فأنت قد وقعت في خلاف صنيع علماء وفرسان هذا الفن، وخالفت الإجماع القديم الذي عليه الصحابة ومن بعدهم حتى جاء المعتزلة فخالفوا هذا الإجماع، وخالفت جماهير الأمة سلفاً وخلفاً بعد نشوء خلاف المعتزلة ووافقت المعتزلة والخوارج والروافض في قولك إنَّ أخبار الآحاد لا تفيد إلا الظن وزدت عليهم بإكثار الشبه التي لم يأت بها من سبقك.
الشبهة الرابعة عشرة:
قال أبو الحسن :”وأكرر فأقول : إن العمل بغلبة الظن للأدلة السابقة ليس عملاً بالشك، فإن الظن المذموم والشك يستوي فيهما جانب القبول والرد أو يترجح جانب الرد وهذا بخلاف ترجيح جانب القبول والعمل بالقطع أو الظاهر عمل بالعلم.
ومن تأمل في المسائل الفقهية المختلف فيها أو في الأحاديث المختلف في صحتها وضعفها وإن ترجح للباحث وجه من الوجوه علم أن العمل بالراجح والظاهر وبما تطمئن إليه النفس أو تميل إليه ليس من باب العمل بالشك ولا من باب القول على الله بغير علم.
لأن العلم منه قطعي وظاهر، فالعمل بهما أو بأحدهما عمل بالعلم ".
أقول في هذا نظر قوي :
1- فلفظ الظن استعمل في القرآن في الظن المذموم كقوله تعالى :{إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَإِنَّ الظَّنَّ لا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئاً }
وكقوله تعالى : { وَمَا يَتَّبِعُ أَكْثَرُهُمْ إِلَّا ظَنّاً إِنَّ الظَّنَّ لا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئاً}
وكقوله : { إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَإِنْ هُمْ إِلَّا يَخْرُصُونَ} وهذا الظن مذموم وأصل من أصول الكفر.
واستعمل في معنى اليقين كقوله تعالى “{ وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاةِ وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ إِلَّا عَلَى الْخَاشِعِينَ الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلاقُو رَبِّهِمْ وَأَنَّهُمْ إِلَيْهِ رَاجِعُونَ }.
وكقوله تعالى مخبراً عن حال أهل الجنة :
{ فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ فَيَقُولُ هَاؤُمُ اقْرَأوا كِتَابِيَه إِنِّي ظَنَنْتُ أَنِّي مُلاقٍ حِسَابِيَهْ فَهُوَ فِي عِيشَةٍ رَاضِيَة ٍفِي جَنَّةٍ عَالِيَةٍ} فهذا الظن محمود لأنه يقين قطعي.
وهذا الظن الذي تنادي به في التعامل مع سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم وتستكثر له الشبه وسبقك إليه شر أهل البدع ومن قلدهم من المخدوعين من الفقهاء هو الظن الأول أو قريب منه ولهذا حاربه أهل السنة وكثير من غيرهم، ولو كان علماً لما حاربوه وطعنوا في أهله.
أقول هذا لأنَّك سميته علماً ومن سبقك لا يطلقون العلم إلا على المتواتر وما كان دونه فلا يطلقون عليه إلا الظن ولذلك لا يبنون عليه عقيدة.
وأسأل عن قولك : ( علم أن العمل بالراجح والظاهر وبما تطمئن إليه النفس أو تميل إليه000 الخ).
هل هذه الألفاظ بمعنى واحد وهو الظن الذي تنادي به أو بينها تغاير، وهل ما تطمئن إليه النفس مجرد ميل النفس، إن الطمأنينة بمعنى اليقين.
وأسألك هل يجوز أن تسمي الشبه التي أسلفتها أدلة شرعية؟، لأن كانت أدلة شرعية وخالفها جماهير المسلمين ومنهم أهل الحديث قاطبة لقد ضلوا وتاهوا واهتدى للحق في هذا الباب المعتزلة والخوارج والروافض وبئس القول هذا.
الشبهة الخامسة عشرة:
قال أبو الحسن : “بقي أن يقال : وخبر الآحاد الذي تحفه قرينة هل يفيد اليقين؟
مثلوا لذلك بآحاد الصحيحين، والتي حفتها قرائن كثيرة مثل علو قدر الشيخين ورسوخ قدمهما في هذا الفن، وتلقي الأمة للكتابين بالقبول000 الخ ما ذكره العلماء في ذلك، فمنهم من جزم بإفادتها العلم اليقيني النظري( )
ومنهم من خالف( ). وعندي أن في الأمر تفصيلاً بخلاف الأحرف المنتقدة عليهما فمن أحاديث الشيخين، وإن كان آحاداً ما يقطع السامع له بصحته إلى النبي صلى الله عليه وسلم ومنها مالا يبلغ هذه المنزلة وذلك راجع إلى قرائن أخرى تحف بعض آحاد الصحيحين، خلاف ما سبق ذكره من قرائن.
فإن ما ذكروه من القرائن المشار إليها آنفاً لا يلزم منه القطع بخبر الآحاد.
وليس هناك ما يمنع من إفادة الخبر الواحد اليقين إذا حفته قرائن ومثلوا لذلك بما لو أخبر رجل بموت رجل ثم رأينا ابنه يجري فيه.
ثم قال في الحاشية “الطريق على هيئة غير عادته أشعث أغبر، وسمعنا صياحاً من بيت الذي ذكر لنا أنه قد مات، ورأينا بعض الناس يضع خشبة النعش أمام داره، ورأينا آخرين من يحفرون قبراً مع علمنا السابق بأن المذكور كان في حالة مرض شديدة، فلا شك أن هذه القرائن تفيد اليقين والله اعلم “ الإتحاف (ص25-26).
أقول : لعل القارئ يدرك اضطراب الرجل هنا ومده وجزره.
1- فلا يفرق بين العلم اليقيني والنظري.
2- ولا يسلم بما قرره علماء الحديث والسنة وغيرهم بأن آحاد الصحيحين تفيد العلم اليقيني. ولا يسير على منهجه الذي حشد عدداً كثيراً من الشبه لنصرته إلا وهو أن خبر الآحاد يفيد الظن لا القطع.
فيقول: "وعندي إن في الأمر تفصيلاً 000 فمن أحاديث الشيخين وإن كان آحاداً ما يقطع السامع له بصحته إلى النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم ومنها ما لا يبلغ هذه المنزلة".
فلا ندري ما هو الذي يبلغ هذه المنزلة وما هو الذي لا يبلغها، ثم يقول بعد ما أدخل القارئ في هذه المتاهة والحيرة :
“وذلك راجع إلى قرائن أخرى تحف بعض آحاد الصحيحين خلاف ما سبق ذكره"، وأدخل القارئ في متاهة أخرى فلا ندري ما هي القرائن الأخرى فإنه قد رفض القرائن التي قررها واعتمدها أهل الحديث قاطبة وغيرهم وهي أن الحديث إذا تلقته الأمة بالقبول تصديقاً به وعملاً بموجبه أفاد العلم اليقيني.
وأضاف غيرهم قرائن أخرى للصحيحين فأبى أبو الحسن كل ذلك وأحالنا على قرائن مجهولة لا يمكن أن نهتدي إليها، وإذا ذكرها فقد تكون لا قيمة لها ولا وزن.
وأكد هذا البلاء بقوله : فإن القرائن المشار إليها آنفاً لا تفيد القطع بخبر الآحاد.
وأكد ذلك أيضاً بقوله : ومنهم من خالف .
ثم قال في الحاشية : “ولم يسلم بالمقدمتين أو بإحداهما وعلى أثر ذلك فلم يسلم بالنتيجة والمراد بالمقدمتين قول أهل السنة والحديث :
1- إن الأمة تلقت الكتابين بالقبول وإن الأمة لا تجتمع على باطل ولم يتعقب هذا القول المعارض ولم يسم لنا أهله، ولا نعرف إلا أنهم المعتزلة والخوارج وكثير من الأشعرية والماتريدية المتكلمين الذين ينتسبون إلى مذاهب الأئمة الأربعة في الفروع ويخالفونهم في العقائد والمناهج.
ثم قال : وليس هناك ما يمنع من إفادة الخبر الواحد اليقين إذا حفته قرائن ومثلوا لذلك بما لو أخبر رجل بموت رجل ثم رأينا ابنه يجري في.. الخ.
فمثل هذا المثل يفيد عنده اليقين أما أدلة أهل السنة والحديث الكثيرة من الكتاب والسنة واتفاق الأمة وعلى رأسهم أهل الحديث فلا يلزم منها القطع بخبر الآحاد والعمدة هي القرائن الأخرى التي لا يعرفها الناس.
أقول : لما كنت أدرس في المرحلة المنهجية في كلية الشريعة بمكة المكرمة قبل إنشاء جامعة أم القرى كان أحد مدرسينا في الدراسات العليا الشيخ محمد بن محمد السماحي أحد علماء الأزهر وكان في دروسه يتعرض لقضايا عقدية ومنهجية فكنت أناقشه خشية أن يتأثر زملائي في هذه الدراسات بآراء هذا الرجل ومن زملائي من كنت درسته في المعهد الثانوي بالجامعة الإسلامية الشيخ وصي الله عباس المدرس الآن بالحرم المكي وبجامعة أم القرى.
وكان من ضمن القضايا التي يثيرها السماحي تلك المقولة الباطلة بأن أخبار الآحاد إنما تفيد الظن لا اليقين فكنت لا أستطيع السكوت عن معارضته نصراً للحق ورداً للباطل وحماية لزملائي.
ولما وقفت على كلام أبي الحسن هذا خطر ببالي أنه لعله تلقف هذه المقولة من كتب الأشاعرة وخطر ببالي السماحي ومناقشاته.
فدفعت إلى مراجعة كتابه المسمى بـ ( غيث المستغيث في علم مصطلح الحديث) فوجدت الرجل يقول بها في هذا الكتاب إلا أنه فيما يتعلق بأحاديث الصحيحين نقل أولاً فيه كلام الحافظ ابن حجر في نزهة النظر في أن أحاديث الصحيحين تفيد العلم النظري إلا الأحاديث المتكلم فيها وما حصل التجاذب بين مدلوليه حيث لا ترجيح أنظر ص62 _ 63 من الكتاب المذكور ثم قال في:( ص69) من هذا الكتاب “أما الصحيحان فقد أتفق المحدثون على أن جميع ما فيهما من المتصل المرفوع صحيح بالقطع، وأنهما متواتران إلى مصنفيهما وأنه كل من يهون أمرهما فهو مبتدع متبع غير سبيل المؤمنين "
فأنت ترى أن كلام هذا الرجل خير واقرب إلى كلام أهل السنة من كلام أبي الحسن الذي يدعي السلفية بل كلام السماحي الأخير يوافق كلام أهل السنة فاعتبروا يا أصحاب الألباب والنهى.
وأخيراً أقول :
لقد وافقت المعتزلة والخوارج والروافض ومن تابعهم من المتكلمين الأشاعرة وغيرهم أنَّ أخبار الآحاد لا تفيد العلم وإنما تفيد الظن.
وهم لهم غاية وهي تعطيل صفات الله عند الجميع إلا من ندر وهدف المعتزلة والخوارج والروافض عدم الاحتجاج بأخبار الآحاد في الغيبيات كعذاب القبر والميزان والصراط وغير ذلك.
فأنت أيدت مذهبهم بكل قوة وشجاعة لأي غاية؟.
فإن العاقل لا يعمل ويجد ويجتهد إلا لغاية دينية أو دنيوية.
فما هي الغاية التي بذلت لأجلها هذه الجهود كلها وأتيت بما لم يستطعه الأوائل ولا قالوه في حدود علمي.
وقولك في الأخير :
“وإن كنت استطردت في الجواب وتكلمت على مسائل لم ترد في السؤال وما ذلك إلا لمسيس الحاجة إليها ولكثرة الاختلاف بين بعض طلبة العلم ".
أقول:
والله لو كان هذا الاستطراد من فضول الكلام لهان الأمر ولكن الأمر عظيم وليس هناك أدنى حاجة إلى هذا البحث الباطل المناصر لمذهب أهل الباطل وإنما لحاجة في نفسك قضيتها والظاهر أنك أنت السبب في كثرة الاختلاف بين طلبة العلم فالله حسيبك ولا حول ولا قوة إلا بالله.
وسوف اتبع هذا البحث بكلام العلماء وأدلتهم.
أسأل الله أن ينفع المسلمين والسلفيين الخلص بصفة أخص إن ربي لسميع الدعاء وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.
كتبه
ربيع بن هادي عمير المدخلي
8/ ربيع الثاني / 1423هـ
من أخبار الآحاد
(الحلقة الثانية)
كتبه
ربيع بن هادي عمير المدخلي
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه ومن ولاه.
أما بعد:
فهذه الحلقة الثانية في رد الشبه التي حشدها أبو الحسن مصطفى بن إسماعيل المصري المأربي على أخبار الآحاد الصحيحة.
أسأل الله أن يرفع بها الحق وأهله.
الشبهة العاشرة:
قال أبو الحسن:”ومن المعلوم أن التصحيح فرع التوثيق للرواة نقلة هذا الحديث، فأسأل وأقول:، كيف يوثق علماء هذا الفن رواة الأحاديث؟.
ثم قال : والجواب: إما أن يكون المعدل معاصراً للمعدَّل أو متأخراً عنه ولم يره بل اطلع على حديثه، فإن كان معاصراً فإما أن يكون قد حضر له مجلساً ورآه يحدث بأحاديث مستقيمة فوثقه، وقد يكون الأمر بخلاف ذلك، وإن كان خلاف الظاهر مرجوحاً.
وإما أن يكون قد اختبره في أحاديث - قلت أو كثرت-، فمر فيها فوثقه.
وقد يكون حديث عهد بما سئل عنه، ولو سأله عن غير هذه الأحاديث لاشتبهت عليه - إن كان هذا الاحتمال مرجوحاً-.
وإن كان المعدل متأخراً فتوثيقه راجع إلى سبر روايات المحدث ومقارنتها بحديث غيره، وقد يتوسع الناقد فيسبر كل حديث المحدث وقد لا يفعل فالتوثيق اجتهادي لا قطعي؛ ونحن نرى كثيراً من التراجم قد اختلف فيها الأئمة بين معدل ومجرح، ثم نجتهد في الجمع بين هذه الروايات ونستخرج حكماً نهائياً في الرجل بالتعديل بالتجريح، فحكمنا اجتهاد ظني مبني على اجتهاد ظني، فكيف يصير بعد ذلك يقينياً قطعياً؟". إتحاف النبيل(ص24).
أقول:
إنَّ اهتمام المحدثين بالسماع المباشر من شيوخهم وملازمتهم لهم والرحلات الطويلة الشاقة من سائر أقطار العالم الإسلامي إلى الأقطار الأخرى للسماع من العلماء والمحدثين وغيرهم أمور مشهورة معروفة مدونة في كتب الرجال وتراجمهم بل إن كثيراً من الرجال من يرحل إلى البلاد النائية من أجل حديث واحد وقد كتب الخطيب البغدادي كتاباً خاصاً بالرجال الذين كان أحدهم يرحل من أجل حديث واحد.
ومن أهداف الرحلة عند المحدثين البحث عن أحوال الرواة وأخبارهم حتى يتميز المقبول منهم من المردود ولولا ما بذله الأئمة النقاد في هذا الشأن من الجهود في البحث عن عدالة الرواة واختبار حفظهم وتيقظهم ثم شهادتهم بالعدالة والضبط لمن عرفوا من أحواله هذه المزايا، وشهادتهم على الكذابين والضعفاء والمخلطين والتحذير منهم، ولفت الأنظار إلى المدلسين على اختلاف طبقاتهم، وشهادتهم عليهم بما عرفوه من أحوالهم لولا هذه الجهود العظيمة بعد حفظ الله لدينه لما تميز الحق من الباطل والهدى من الضلال.
أفمثل هذه الأمور يُغفلها سلفي عند الحديث عن رواة سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم.
إنَّ تعديلهم وجرحهم يقوم على منهج عظيم ودراسة واعية لأحوال الرواة ودينهم وأخلاقهم إلا فيما ندر من الحالات من بعض النقاد.
وإنَّ كلام أبي الحسن هذا فيه تلبيس وإجحاف بحق أئمة النقد حملة الإسلام والذابين عنه رحمهم الله ورضي عنهم، فهل هذه حالهم جميعاً في كل الأحوال فتكون تزكيات جميع أئمة النقد مبنية على حضور أحدهم مجلساً واحداً..إلخ، حاشاهم وبرأهم الله من هذا القول.
ثم إنَّ هذا الكلام من أبي الحسن لا يخلو من واحدة من ثلاث حالات:
1- إما أنه أخذه عن أهل البدع.
2- وإما أنه اخترعه تأييداً لباطله وباطلهم.
3- وإما أنه أخذه من الشيخ عبد الرحمن المعلمي بعد أن بتره بتراً شنيعاً.
قال العلامة الناقد الشيخ المعلمي رحمه الله- تحت عنوان كيف البحث عن أحوال الرواة-:
((الثامن: ينبغي أن يبحث عن معرفة الجارح أو المعدل بمن جرحه أو عدله فإن أئمة الحديث لا يقتصرون على الكلام فيمن طالت مجالستهم له وتمكنت معرفتهم به.
بل قد يتكلم أحدهم فيمن لقيه مرة واحدة وسمع منه مجلساً واحداً أو حديثاً واحداً وفيمن عاصره ولم يلقه، ولكنه بلغه شيء من حديثه وفيمن كان قبله بمدة قد تبلغ مئات السنين إذا بلغه شيء من حديثه ومنهم من يجاوز ذلك، فابن حبان قد يذكر في الثقات من يجد البخاري سماه في تاريخه من القدماء وإن لم يعرف ما روى وعمن روى ومن روى عنه، ولكن ابن حبان يشدد وربما تعنت فيمن وجد في روايته ما استنكره وإن كان الرجل معروفاً مكثراً والعجلي قريب منه في توثيق المجاهيل من القدماء وكذلك ابن سعد وابن معين وآخرون غيرهما يوثقون من كان من التابعين أو أتباعهم إذا وجدوا رواية أحدهم مستقيمة بأن يكون له فيما يروي متابع أو شاهد وإن لم يرو عنه إلا واحد ولم يبلغهم عنه إلا حديث واحد...))، ثم ذكر من وثقهم هؤلاء من المجهولين ( ).
فانظر إلى قوله : ((فإن أئمة الحديث لا يقتصرون على الكلام فيمن طالت مجالستهم له وتمكنت معرفتهم به)).
فهذه هي القاعدة الأساس والمنهج الأساس في جرحهم وتعديلهم.
وانظر إلى قوله : ((بل قد يتكلم أحدهم فيمن لقيه مرة واحدة وسمع منه مجلساً واحداً إلى آخر الحالات التي ذكرها…))، وهذه حالات استثناء وهذه الحالات لا يتركها الله بل يهيئ من يبين حال هؤلاء المجهولين وقد قام علماء -بتوفيق الله- بهذا البيان.
ثم إن هؤلاء المجهولين لا يعتمد العلماء على رواياتهم لا في عقيدة ولا في حلال ولا حرام لكن قد يستشهد برواياتهم فيما له أصل والخلاف إنما هو في روايات من عرفوا بالعدالة وقوف ذلك، وتلقت الأمة رواياتهم بالقبول تصديقاً بها وعملاً بموجبها.
والحاصل هنا أنه لا يخلو كلام أبي الحسن من واحد من الحالات التي ذكرتها وكلها شر نعوذ بالله منه.
وقال الشيخ المعلمي رحمه الله في رده على أبي رية المصري :
((قال أبو رية في كتابه "أضواء على السنة المحمدية"، بعد إطرائه لكتابه وذكر علو قدر الحديث النبوي ثم قال:
وعلى أنه بهذه المكانة الجليلة والمنـزلة الرفيعة فإن العلماء والأدباء لم يولوه ما يستحق من العناية والدرس وتركوا أمره لمن يسمون رجال الحديث يتداولونه فيما بينهم ويدرسونه على طريقتهم.
وطريقة هذه الفئة التي اتخذتها لنفسها قامت على قواعد جامدة لا تتغير ولا تتبدل فترى المتقدمين منهم وهم الذين وضعوا هذه القواعد قد حصروا عنايتهم في معرفة رواة الحديث والبحث على قدر الوسع في تاريخهم، ولا عليهم بعد ذلك إن كان ما يصدر عن هؤلاء الرواة صحيحاً في نفسه أو غير صحيح معقولاً أو غير معقول إذ وقفوا بعلمهم عندما يتصل بالسند فحسب، أما المعنى فلا يعنيهم من أمره شيء.
قال العلامة المعلمي :”مراده بقوله العلماء المشتغلون بعلم الكلام والفلسفة، ولم يكن منهم أحد في الصحابة والمهتدين بهديهم من علماء التابعين وأتباعهم الذين يلونهم، هؤلاء كلهم ممن سماهم رجال الحديث، ومنهم عامة المشهورين عند الأمة بالعلم والإمامة من السلف، أولئك كلهم ليسوا عند أبي رية علماء، لأنهم لم يكونوا يخوضون في غوامض المعقول بل يفرون منها وينهون عنها ويعدونها زيفاً وضلالاً وخروجاً عن الصراط المستقيم وقنعوا بعقل العامة.
وأقول : مهما تكن حالهم، وقد كانوا عقلاء العقل الذي ارتضاه الله عز وجل لأصحاب رسوله ورضيهم سبحانه لمعرفته ولفهم كتابه وشهد لهم بأنهم (الْمُؤْمِنُونَ حَقّا)،(الرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ)، (كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ )،وقال لهم في أواخر حياة رسوله(الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي) فمن زعم أن عقولهم لم تكن مع تسديد الشرع لها كافية وافية بمعرفة الله تعالى وفهم كتابه ومعرفة مالا يتم الإيمان ولا يكمل الدين إلا بمعرفته، فإنما طعن في الدين نفسه، وكان التابعون المهتدون بهدي الصحابة أقرب الخلق إليهم عقلاً وعلماً وهدياً، وهكذا من اهتدى بهديهم من الطبقات التي بعدهم.
وهؤلاء هم الذين سماهم أبو رية “رجال الحديث "، قد يقال : أما نفي العلم والعقل عنهم فلا التفات إليه، ولكن هل راعوا العقل في قبول الحديث وتصحيحه؟
أقول : نعم راعوا ذلك في أربعة مواطن :
عند السماع، وعند التحديث، وعند الحكم على الرواة، وعند الحكم على الأحاديث فالمتثبتون إذا سمعوا خبراً تمتنع صحته أو تبعد لم يكتبوه، ولم يحفظوه فإن حفظوه لم يحدثوا به، فإن ظهرت مصلحة لذكره ذكروه مع القدح فيه وفي الراوي الذي عليه تبعته"( ).
ثم نقل عن الشافعي والخطيب البغدادي ما يؤيد كلامه ثم واصل في الثناء على الصحابة ومن اهتدى بهديهم وفي الرد على أبي رية الضال.
نقلت هذا الكلام لجودته وعظيم فائدته ولمشابهة طعن أبي رية في أهل الحديث( ) لطعون أهل البدع فيهم من المتكلمين والمتفلسفين والشاهد لهذا البحث من كلام المعلمي.
أنَّ فيه بياناً شافياً لتثبت المحدثين واستخدام عقولهم النيرة عند سماع الحديث أي من شيوخهم ثم عند التحديث به فلا يحدث الأئمة منهم إلا بما حفظوه وأتقنوه أو من كتبهم وعند الحكم على الرواة فلا يحكمون إلا بعلم ودراسة الراوي المحكوم عليه ومن اعترى حكمه خلل سد هذا الخلل غيره من الأئمة تحقيقاً لوعد الله بحفظ دينه وحمايته له من النقص والخطأ والباطل.
قال الحافظ ابن حجر رحمه الله :
((وقال الذهبي وهو من أهل الاستقراء التام في نقد الرجال لم يجتمع اثنان من علماء هذا الشأن على توثيق ضعيف ولا على تضعيف ثقة)) نزهة النظر مع النكت لعلي حسن عبد الحميد ( ص190-191) وكلامه في ( ص84) من الموقظة:
قال الذهبي: ((ولكن هذا الدين مؤيد محفوظ من الله لم يجتمع علماؤه على ضلالة لا عمداً ولا خطأً فلا يجتمع اثنان على توثيق ضعيف ولا على تضعيف ثقة )).
أي لم يقع الاتفاق من علماء الحديث على توثيق ضعيف ولا على تضعيف ثقة ".
قال الحافظ ابن كثير رحمه الله في تعريف المقبول: ((المقبول الثقة الضابط لما يرويه هو المسلم العاقل البالغ، سالماً من أسباب الفسق، وخوارم المروءة، وأن يكون مع ذلك متيقظاً غير مغفل حافظاً إن حدث من حفظه فاهما إن حدث على المعنى فإن اختل شرط مما ذكرنا ردت روايته.
وتثبت عدالة الراوي باشتهاره بالخير أو بتعديل الأئمة أو اثنين منهم له، أو واحد على الصحيح ولو بروايته عنه في قول)).
وعلق الشيخ أحمد شاكر رحمه الله على هذا التعريف تعليقاً جيداً ثم قال: ((ويعرف ضبطه بموافقة الثقات المتقنين الضابطين، إذا اعتبر حديثه بحديثهم، ولا تضر مخالفته النادرة لهم، فإن كثرت مخالفته لهم وندرت الموافقة اختل ضبطه، ولم يحتج بحديثه))( ).
أقول:
فتوفر شروط العدالة أو اختلالها لا تحصل إلا بالدراسة لأحواله ومدخله ومخرجه وتوفر شروط الضبط قد تحصل لتلاميذه وأقرانه الذين عايشوه وعرفوا حاله من تحديثه وإملائه وقد تحصل لمن عاصره ولم يره وتحصل لمن يأتي من النقاد بعد عصره بالدراسة ومقارنة مروياته بمرويات غيره، وبهذا وذاك يعرف حاله من عدالة وضبط أو ضدهما، وتبث العدالة باشتهاره بالخير والثناء الجميل عليه حتى يصل الأمر إلى أن يسأل هو عن الناس ولا يسألون عنه كأئمة الهدى الكبار مثل مالك والثوري والأوزاعي وشعبة وابن المبارك وأحمد ابن حنبل ويحي بن معين وعلي بن المديني والبخاري ومسلم وأبي حاتم وأبي زرعة – ونظراء هؤلاء ومن جرى مجراهم في نباهة الذكر واستقامة الأمر، انظر تعليق أحمد شاكر (الباعث الحثيث ) (2/280).
وقال ابن الصلاح رحمه الله في قضية الجرح :
“وأكثر ما يوجد في كتب الجرح والتعديل”فلان ضعيف “أو “متروك “ونحو ذلك فإن لم نكتف به أنسد باب كبير في ذلك.
وأجاب بأن إذا لم نكتف به توقفنا في أمره لحصول الريبة عند ذلك.
قال ابن كثير رحمه الله : قلت أما كلام هؤلاء الأئمة المنتصبين لهذا الشأن فينبغي أن يؤخذ مسلماً من غير ذكر أسباب وذلك للعلم بمعرفتهم، واطلاعهم واضطلاعهم في هذا الشأن، واتصافهم بالإنصاف والديانة والخبرة، والنصح لا سيما إذا أطبقوا على تضعيف الرجل أو كونه متروكاً أو كذابا أو نحو ذلك فالمحدث الماهر لا يتخالجه في مثل هذا وقفة في موافقتهم، لصدقهم وأمانتهم ونصحهم.
ولهذا يقول الشافعي في كثير من كلامه على الأحاديث : “لا يثبته أهل العلم بالحديث “ويرده ولا يحتج به بمجرد ذلك والله أعلم (1/286).
فهذه الصفات التي وصفهم بها الحافظ ابن كثير – رحمه الله – لعلمه لدراستهم لأحوال الأشخاص مباشرة من خلال مجالستهم ومشافهتهم واختبار رواياتهم إلى آخر ما تتطلبه هذه الصنعة الشريفة لا لمجرد لقاء وسماع بعض الأحاديث في جلسة فهذه حالات نادرة وليست بقاعدة ولا منهج.
وقال العلامة المحدث الشيخ عبد الرحمن بن يحيى المعلمي في مقدمته لكتاب “الجرح والتعديل لابن أبي حاتم ( 1/ب)"، في أئمة النقد:
النقد والنقاد.
ليس نقد الرواة بالأمر الهين، فإن الناقد لا بد أن يكون واسع الإطلاع على الأخبار المروية، عارفاً بأحوال الرواة السابقين وطرق الرواية، خبيراً بعوائد الرواة ومقاصدهم وأغراضهم،وبالأسباب الداعية إلى التساهل والكذب، والموقعة في الخطأ والغلط، ثم يحتاج إلى أن يعرف أحوال الراوي متى ولد؟ وبأي بلد؟ وكيف هو في الدين والأمانة والعقل والمروءة والتحفظ؟ ومتى شرع في الطلب؟ ومتى سمع؟ وكيف سمع؟ ومع من سمع؟ وكيف كتابه؟ ثم يعرف أحوال الشيوخ الذين يحدث عنهم وبلدانهم ووفياتهم وأوقات تحديثهم وعادتهم في التحديث، ثم يعرف مرويات الناس عنهم ويعرض عليها مرويات هذا الراوي ويعتبرها بها، إلى غير ذلك مما يطول شرحه، ويكون مع ذلك متيقظاً، مرهف الفهم، دقيق الفطنة، مالكاً لنفسه، لا يستميله الهوى ولا يستفزه الغضب، ولا يستخفه بادر ظن حتى يستوفي النظر ويبلغ المقر، ثم يحسن التطبيق في حكمه فلا يجاوز ولا يقصر. وهذه المرتبة بعيدة المرام عزيزة المنال لم يبلغها إلا الأفذاذ. وقد كان من أكابر المحدثين وأجلتهم من يتكلم في الرواة فلا يعول عليه ولا يلتفت إليه. قال الإمام علي ابن المديني وهو من أئمة هذا الشأن “أبو نعيم وعفان صدوقان لا أقبل كلامهما في الرجال، هؤلاء لا يدعون أحداً إلا وقعوا فيه “وأبو نعيم وعفان من الأجلة، والكلمة المذكورة تدل على كثرة كلامهما في الرجال ومع ذلك لا تكاد تجد في كتب الفن نقل شيء من كلامهما.
أئمة النقد.
أشتهر بالإمامة في ذلك جماعة كمالك بن أنس وسفيان الثوري وشعبة ابن الحجاج وآخرون( ) قد ساق ابن أبي حاتم تراجم غالبهم مستوفاة في كتابه “تقدمة المعرفة لكتاب الجرح والتعديل “وذلك أنه رأى أن مدار الأحكام في كتاب الجرح والتعديل على أولئك الأئمة، وأن الواجب أن لا يصل الناظر إلا أحكامهم في الرواة حتى يكون قد عرفهم المعرفة التي تثبت في نفسه أنهم أهل أن يصيبوا في قضائهم، ويعدلوا في أحكامهم، وأن يقبل منهم ويستند إليهم ويعتمد عليهم ".
أقول:
فانظر إلى قوله:(..وأن الواجب أن لا يصل الناظر إلا أحكامهم في الرواة حتى يكون قد عرفهم المعرفة التي تثبت في نفسه أنهم أهل أن يصيبوا في قضائهم، ويعدلوا في أحكامهم، وأن يقبل منهم ويستند إليهم ويعتمد عليهم)،لماذا؟؟.
لأنَّ أحكامهم قامت على دراسة واعية وعلم بأحوال الرواة فتكون أحكامهم صائبة وعادلة لأنها لم تقم على الظنون والأوهام، وقد يحصل من بعضهم تزكية لبعض الأشخاص بناء على ما يظهر له من حاله، ويكون الناقد من إخوانه أعلم بحاله فيؤكد هذه التزكية أو يأتي بما ينقظها.
وقال العلامة المعلمي كذلك في "الأنوار الكاشفة":
“وأما التابعون فعامة من وثقه الأئمة منهم ممن كثرت أحاديثه هم ممن زكاه الصحابة ثم زكاه أقرانه من خيار التابعين، ثم أعتبر الأئمة أحاديثه وكيف حدّث بها في الأوقات المتفاوتة، واعتبروا أحاديثه بأحاديث غيره من الثقات، فاتضح لهم بذلك كله صدقه وأمانته وضبطه. وهكذا من بعدهم.
وكان أهل العلم يشددون في اختيار الرواة أبلغ التشديد، جاء عن بعضهم _ أظنه الحسن بن صالح بن حيّ _ أنه قال : كنا إذا أردنا أن نسمع الحديث من رجل سألنا عن حاله حتى يقال : أتريدون أن تزوجوه؟ وجاء جماعة إلى شيخ ليسمعوا منه فرأوه خارجاً وقد انفلتت بغلته وهو يحاول إمساكها وبيده مخلاة يريها إياها، فلاحظوا أن المخلاة فارغة، فرجعوا ولم يسمعوا منه. قالوا هذا يكذب على بغلة فلا نأمن أن يكذب في الحديث. وذكروا أن شعبة كان يتمنى لقاء رجل مشهور ليسمع منه، فلما جاءه وجده يشتري شيئاً ويسترجح في الميزان، فامتنع شعبة من السماع منه، وتجد عدة نظائر لهذا ونحوه في كفاية الخطيب (ص110-114).
وكان عامة علماء القرون الأولى وهي قرون الحديث مقاطعين للخلفاء والأمراء، حتى كان أكثرهم لا يقبل عطاء الخلفاء والأمراء ولا يرضى بتولي القضاء، ومنهم من كان الخلفاء يطلبونهم ليكونوا بحضرتهم ينشرون العلم، فلا يستجيبون، بل يفرون ويستترون. وكان أئمة النقد لا يكادون يوثقون محدثاً يداخل الأمراء أو يتولى لهم شيئاً. وقد جرحوا بذلك كثيراً من الرواة ولم يوثقوا ممن داخل الأمراء إلا أفرادا علم الأئمة علما يقينا سلامة دينهم وأنه لا مغمز فيهم البته. وكان محمد بشر الزنبرى محدثاً يسمع منه الناس، فاتفق أن خرج أمير البلد لسفر فخرج الزنبرى يشيعه، فنقم أهل الحديث عليه ذلك وأهانوه ومزقوا ما كانوا كتبوا عنه. وكثيراً ما كانوا يكذبون الرجل ويتركون حديثه لخبر واحد يتهمونه فيه.
وتجد من هذا كثيراً في ميزان الذهبي وغيره. وكذلك إذا سمعوه حدّث بحديث ثم حدّث به بعد مدة على وجه ينافي الوجه الأول، وفي الكفاية (ص113) عن شعبة قال “سمعت من طلحة بن مصرّف حديثاً واحداً وكنت كلما مررت به سألته عنه ( )000 أردت أن أنظر إلى حفظه، فإن غير فيه شيئاً تركته “وكان أحدهم يقضي الشهر والشهرين يتنقل في البلدان يتتبع رواية حديث واحد كما وقع لشعبة في حديث عبد الله بن عطاء عن عقبة بن عامر، وكما وقع لغيره في الحديث الطويل في فضائل السور. ومن تتبع كتب التراجم، وكتب العلل بان له من جدهم واجتهادهم ما يحير العقول.
وكان كثير من الناس يحضرون أولادهم مجالس السماع في صغرهم ليتعودوا ذلك ثم يكبر أحدهم فيأخذ في السماع في بلده، ثم يسافر إلى الأقطار ويتحمل السفر الطويل والمشاق الشديدة، وقد لا يكون معه إلاّ جراب من خبز يابس يحمله على ظهره، يصبح فيأخذ كسرة ويبلها بالماء ويأكلها ثم يغدو للسماع، ولهم في هذا قصص كثيرة، فلا يزال أحدهم يطلب ويكتب إلى أن تبلغ سنه الثلاثين أو نحوها فتكون أمنيته من الحياة أن يقبله علماء الحديث ويأذنوا للناس أن يسمعوا منه، وقد عرف أنهم إن اتهموه في حديث واحد أسقطوا حديثه وضاع مجهوده طول عمره وربح سوء السمعة واحتقار الناس. وتجد جماعة من ذرية أكابر الصحابة قد جرحهم الأئمة، وتجدهم سكتوا عن الخلفاء العباسيين وأعمامهم لم يرووا عنهم شيئاً مع أنهم قد كانوا يروون أحاديث. ومن تتبع أخبارهم وأحوالهم لم يعجب من غلبه الصدق على الرواة في تلك القرون، بل يعجب من وجود كذابين منهم. ومن تتبع تشدد الأئمة في النقد لم يعجب من كثرة من جرحوه وأسقطوا حديثه، بل يعجب من سلامة كثير من الرواة وتوثيقهم لهم مع ذلك التشدد.
الشبهة الحادية عشرة:
قال أبو الحسن :”فالتوثيق اجتهادي لا قطعي ونحن نرى كثيراً من التراجم قد اختلف فيها الأئمة بين معدل ومجرِّح ثم نجتهد في الجمع بين هذه الأقوال ونستخرج حكماً نهائياً في الرجل بالتعديل أو بالتجريح فحكمنا اجتهاد ظني مبني على اجتهاد ظني، فكيف يصير بعد ذلك يقينياً قطعياً".
أقول : ليس كل توثيق اجتهادي ظني فهناك من الرواة من نقطع بعدالتهم ولا يساورنا شك في ذلك وهم كثير وكثير من التابعين إلى تابع التابعين فمن بعدهم مثل سعيد بن المسيب وعروة بن الزبير والقاسم بن محمد وسالم بن عبد الله بن عمر وسليمان بن يسار وخارجة بن زيد والشعبي ومسروق وعلقمة وعبيد الله بن عبد الله بن عتبة بن مسعود والزهري والحسن البصري و ابن سيرين وأمثالهم وفي أتباع التابعين مثل مالك والأوزاعي والسفيانان والحمادان ومن تابعي التابعين ومن بعدهم مثل الشافعي ويزيد بن هارون وممن بعدهم مثل أحمد والبخاري ومسلم وغيرهم كثير.
والمختلف فيهم قد يكون ممن وثقة من يقطع بعدالته ومنهم من لا يقطع بذلك كل على حسب اطلاعه وعلمه بذلك وقد يكون عند الموثق من المعرفة بحال الراوي ومن القرائن ما ليس عند المجرح إلا إذا أبرز المجرح الدليل أو الأدلة التي تقدح في هذا الراوي المختلف فيه فيقدم حينئذ الجرح على التعديل.
ثم قد يكون هذا الراوي الذي لم يثبت فيه الجرح من رجال الصحيحين روى عنه الشيخان ثقة به وبعدالته فيحصل لهما القطع بعدالته ولا مانع من حصول القطع بعد رجحان ثبوت عدالته عندهما.
ثم إنه بعد ذلك تشمله الميزة التي أنفرد بها الصحيحان ألا وهي تلقي الأمة لكتابيهما بالقبول تصديقاً وعملاً.
وقل مثل ذلك في أي حديث خارج الصحيحين تلقته الأمة بالقبول، فإن هذه الميزة تشمل المتن وتشمل رجال الإسناد وقد يشك إنسان في أمر يقابله آخر لا يخالجه شك فيه بل يقطع به.
وقوله في النهاية “فحكمنا اجتهادي ظني مبني على اجتهاد ظني فكيف يصير بعد ذلك يقيناً قطعياً “ليس بمسلم له فالأمر كما بينته ولا سيما في الأسانيد والمتون المتلقاة من الأمة بالقبول.
الشبهة الثانية عشرة:
قال أبو الحسن : "وكذلك استشهادنا بالأحاديث الضعيفة ضعفاً خفيفاً وحكمنا لها بالقوة إذا تعددت طرقها على تفاصيل في ذلك يعرفها أهل الشأن هذا الصنيع من أهل العلم قديماً وحديثاً يدل على أن الحديث إذا حكم عليه بالضعف فمعنى ذلك أن الراجح ضعفه وإن كان هناك احتمال بصحته، فلما تعددت الطرق كثرت احتمالات القوة فأشتد الحديث وارتقى إلى الثبوت صحة أو حسناً وهذا يدل على ما قلته في الحديث الذي يترجح صحته ".
أقول : إن أهل السنة لا يقطعون إلا بصحة الأحاديث التي تلقتها الأمة بالقبول تصديقاً وعملاً.
فقياس الأحاديث الصحيحة المتلقاة بالقبول من الأمة على الأحاديث الضعيفة التي تقوت بالطرق حتى صارت صحيحة أو حسنة قياس مع الفارق لا تتوفر فيه شروط القياس.
ثم هل الظن الراجح الذي تنصره يتفاوت عندك فيصبح مرة أخرى راجحاً ومرجوحاً.
الشبهة الثالثة عشرة :
قال أبو الحسن:”ولذلك فابن حزم نظراً لأنه لا يقول بقول الجماهير في هذا الأمر فلا تراه يقول بالحديث الحسن لغيره ولا يعمل بالشواهد والمتابعات فيكاد يكون الضعيف عنده مقطوعاً بعدم نسبته إلى النبي صلى الله عليه وسلم فيستوي عنده الضعيف والموضوع والباطل وهذا خلاف صنيع علماء وفرسان هذا الفن.
فالعجب من طلبة العلم الذين يرددون كلام ابن حزم -رحمه الله- ولا يلتزمون به، فهم ظاهريون نظرياً، وقائلون بقول جماهير الحديث والأصول والفقه عملياً ".
أقول : إن صح هذا القول من ابن حزم فلسنا معه.
وأقول : اجتهاداً مني أنه إن وجد للحديث الحسن ما يشهد له من القرآن وصحيح السنة فقد يفيد العلم وكذلك إن حفته قرائن فقد يفيد العلم، فإن صح اجتهادي فمن الله وإلا فمني ومن الشيطان.
ثم نقول لأبي الحسن إذا كان ابن حزم قد وقع في خلاف صنيع علماء وفرسان هذا الفن في العمل بالحديث الحسن لغيره فأنت قد وقعت في خلاف صنيع علماء وفرسان هذا الفن، وخالفت الإجماع القديم الذي عليه الصحابة ومن بعدهم حتى جاء المعتزلة فخالفوا هذا الإجماع، وخالفت جماهير الأمة سلفاً وخلفاً بعد نشوء خلاف المعتزلة ووافقت المعتزلة والخوارج والروافض في قولك إنَّ أخبار الآحاد لا تفيد إلا الظن وزدت عليهم بإكثار الشبه التي لم يأت بها من سبقك.
الشبهة الرابعة عشرة:
قال أبو الحسن :”وأكرر فأقول : إن العمل بغلبة الظن للأدلة السابقة ليس عملاً بالشك، فإن الظن المذموم والشك يستوي فيهما جانب القبول والرد أو يترجح جانب الرد وهذا بخلاف ترجيح جانب القبول والعمل بالقطع أو الظاهر عمل بالعلم.
ومن تأمل في المسائل الفقهية المختلف فيها أو في الأحاديث المختلف في صحتها وضعفها وإن ترجح للباحث وجه من الوجوه علم أن العمل بالراجح والظاهر وبما تطمئن إليه النفس أو تميل إليه ليس من باب العمل بالشك ولا من باب القول على الله بغير علم.
لأن العلم منه قطعي وظاهر، فالعمل بهما أو بأحدهما عمل بالعلم ".
أقول في هذا نظر قوي :
1- فلفظ الظن استعمل في القرآن في الظن المذموم كقوله تعالى :{إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَإِنَّ الظَّنَّ لا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئاً }
وكقوله تعالى : { وَمَا يَتَّبِعُ أَكْثَرُهُمْ إِلَّا ظَنّاً إِنَّ الظَّنَّ لا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئاً}
وكقوله : { إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَإِنْ هُمْ إِلَّا يَخْرُصُونَ} وهذا الظن مذموم وأصل من أصول الكفر.
واستعمل في معنى اليقين كقوله تعالى “{ وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاةِ وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ إِلَّا عَلَى الْخَاشِعِينَ الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلاقُو رَبِّهِمْ وَأَنَّهُمْ إِلَيْهِ رَاجِعُونَ }.
وكقوله تعالى مخبراً عن حال أهل الجنة :
{ فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ فَيَقُولُ هَاؤُمُ اقْرَأوا كِتَابِيَه إِنِّي ظَنَنْتُ أَنِّي مُلاقٍ حِسَابِيَهْ فَهُوَ فِي عِيشَةٍ رَاضِيَة ٍفِي جَنَّةٍ عَالِيَةٍ} فهذا الظن محمود لأنه يقين قطعي.
وهذا الظن الذي تنادي به في التعامل مع سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم وتستكثر له الشبه وسبقك إليه شر أهل البدع ومن قلدهم من المخدوعين من الفقهاء هو الظن الأول أو قريب منه ولهذا حاربه أهل السنة وكثير من غيرهم، ولو كان علماً لما حاربوه وطعنوا في أهله.
أقول هذا لأنَّك سميته علماً ومن سبقك لا يطلقون العلم إلا على المتواتر وما كان دونه فلا يطلقون عليه إلا الظن ولذلك لا يبنون عليه عقيدة.
وأسأل عن قولك : ( علم أن العمل بالراجح والظاهر وبما تطمئن إليه النفس أو تميل إليه000 الخ).
هل هذه الألفاظ بمعنى واحد وهو الظن الذي تنادي به أو بينها تغاير، وهل ما تطمئن إليه النفس مجرد ميل النفس، إن الطمأنينة بمعنى اليقين.
وأسألك هل يجوز أن تسمي الشبه التي أسلفتها أدلة شرعية؟، لأن كانت أدلة شرعية وخالفها جماهير المسلمين ومنهم أهل الحديث قاطبة لقد ضلوا وتاهوا واهتدى للحق في هذا الباب المعتزلة والخوارج والروافض وبئس القول هذا.
الشبهة الخامسة عشرة:
قال أبو الحسن : “بقي أن يقال : وخبر الآحاد الذي تحفه قرينة هل يفيد اليقين؟
مثلوا لذلك بآحاد الصحيحين، والتي حفتها قرائن كثيرة مثل علو قدر الشيخين ورسوخ قدمهما في هذا الفن، وتلقي الأمة للكتابين بالقبول000 الخ ما ذكره العلماء في ذلك، فمنهم من جزم بإفادتها العلم اليقيني النظري( )
ومنهم من خالف( ). وعندي أن في الأمر تفصيلاً بخلاف الأحرف المنتقدة عليهما فمن أحاديث الشيخين، وإن كان آحاداً ما يقطع السامع له بصحته إلى النبي صلى الله عليه وسلم ومنها مالا يبلغ هذه المنزلة وذلك راجع إلى قرائن أخرى تحف بعض آحاد الصحيحين، خلاف ما سبق ذكره من قرائن.
فإن ما ذكروه من القرائن المشار إليها آنفاً لا يلزم منه القطع بخبر الآحاد.
وليس هناك ما يمنع من إفادة الخبر الواحد اليقين إذا حفته قرائن ومثلوا لذلك بما لو أخبر رجل بموت رجل ثم رأينا ابنه يجري فيه.
ثم قال في الحاشية “الطريق على هيئة غير عادته أشعث أغبر، وسمعنا صياحاً من بيت الذي ذكر لنا أنه قد مات، ورأينا بعض الناس يضع خشبة النعش أمام داره، ورأينا آخرين من يحفرون قبراً مع علمنا السابق بأن المذكور كان في حالة مرض شديدة، فلا شك أن هذه القرائن تفيد اليقين والله اعلم “ الإتحاف (ص25-26).
أقول : لعل القارئ يدرك اضطراب الرجل هنا ومده وجزره.
1- فلا يفرق بين العلم اليقيني والنظري.
2- ولا يسلم بما قرره علماء الحديث والسنة وغيرهم بأن آحاد الصحيحين تفيد العلم اليقيني. ولا يسير على منهجه الذي حشد عدداً كثيراً من الشبه لنصرته إلا وهو أن خبر الآحاد يفيد الظن لا القطع.
فيقول: "وعندي إن في الأمر تفصيلاً 000 فمن أحاديث الشيخين وإن كان آحاداً ما يقطع السامع له بصحته إلى النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم ومنها ما لا يبلغ هذه المنزلة".
فلا ندري ما هو الذي يبلغ هذه المنزلة وما هو الذي لا يبلغها، ثم يقول بعد ما أدخل القارئ في هذه المتاهة والحيرة :
“وذلك راجع إلى قرائن أخرى تحف بعض آحاد الصحيحين خلاف ما سبق ذكره"، وأدخل القارئ في متاهة أخرى فلا ندري ما هي القرائن الأخرى فإنه قد رفض القرائن التي قررها واعتمدها أهل الحديث قاطبة وغيرهم وهي أن الحديث إذا تلقته الأمة بالقبول تصديقاً به وعملاً بموجبه أفاد العلم اليقيني.
وأضاف غيرهم قرائن أخرى للصحيحين فأبى أبو الحسن كل ذلك وأحالنا على قرائن مجهولة لا يمكن أن نهتدي إليها، وإذا ذكرها فقد تكون لا قيمة لها ولا وزن.
وأكد هذا البلاء بقوله : فإن القرائن المشار إليها آنفاً لا تفيد القطع بخبر الآحاد.
وأكد ذلك أيضاً بقوله : ومنهم من خالف .
ثم قال في الحاشية : “ولم يسلم بالمقدمتين أو بإحداهما وعلى أثر ذلك فلم يسلم بالنتيجة والمراد بالمقدمتين قول أهل السنة والحديث :
1- إن الأمة تلقت الكتابين بالقبول وإن الأمة لا تجتمع على باطل ولم يتعقب هذا القول المعارض ولم يسم لنا أهله، ولا نعرف إلا أنهم المعتزلة والخوارج وكثير من الأشعرية والماتريدية المتكلمين الذين ينتسبون إلى مذاهب الأئمة الأربعة في الفروع ويخالفونهم في العقائد والمناهج.
ثم قال : وليس هناك ما يمنع من إفادة الخبر الواحد اليقين إذا حفته قرائن ومثلوا لذلك بما لو أخبر رجل بموت رجل ثم رأينا ابنه يجري في.. الخ.
فمثل هذا المثل يفيد عنده اليقين أما أدلة أهل السنة والحديث الكثيرة من الكتاب والسنة واتفاق الأمة وعلى رأسهم أهل الحديث فلا يلزم منها القطع بخبر الآحاد والعمدة هي القرائن الأخرى التي لا يعرفها الناس.
أقول : لما كنت أدرس في المرحلة المنهجية في كلية الشريعة بمكة المكرمة قبل إنشاء جامعة أم القرى كان أحد مدرسينا في الدراسات العليا الشيخ محمد بن محمد السماحي أحد علماء الأزهر وكان في دروسه يتعرض لقضايا عقدية ومنهجية فكنت أناقشه خشية أن يتأثر زملائي في هذه الدراسات بآراء هذا الرجل ومن زملائي من كنت درسته في المعهد الثانوي بالجامعة الإسلامية الشيخ وصي الله عباس المدرس الآن بالحرم المكي وبجامعة أم القرى.
وكان من ضمن القضايا التي يثيرها السماحي تلك المقولة الباطلة بأن أخبار الآحاد إنما تفيد الظن لا اليقين فكنت لا أستطيع السكوت عن معارضته نصراً للحق ورداً للباطل وحماية لزملائي.
ولما وقفت على كلام أبي الحسن هذا خطر ببالي أنه لعله تلقف هذه المقولة من كتب الأشاعرة وخطر ببالي السماحي ومناقشاته.
فدفعت إلى مراجعة كتابه المسمى بـ ( غيث المستغيث في علم مصطلح الحديث) فوجدت الرجل يقول بها في هذا الكتاب إلا أنه فيما يتعلق بأحاديث الصحيحين نقل أولاً فيه كلام الحافظ ابن حجر في نزهة النظر في أن أحاديث الصحيحين تفيد العلم النظري إلا الأحاديث المتكلم فيها وما حصل التجاذب بين مدلوليه حيث لا ترجيح أنظر ص62 _ 63 من الكتاب المذكور ثم قال في:( ص69) من هذا الكتاب “أما الصحيحان فقد أتفق المحدثون على أن جميع ما فيهما من المتصل المرفوع صحيح بالقطع، وأنهما متواتران إلى مصنفيهما وأنه كل من يهون أمرهما فهو مبتدع متبع غير سبيل المؤمنين "
فأنت ترى أن كلام هذا الرجل خير واقرب إلى كلام أهل السنة من كلام أبي الحسن الذي يدعي السلفية بل كلام السماحي الأخير يوافق كلام أهل السنة فاعتبروا يا أصحاب الألباب والنهى.
وأخيراً أقول :
لقد وافقت المعتزلة والخوارج والروافض ومن تابعهم من المتكلمين الأشاعرة وغيرهم أنَّ أخبار الآحاد لا تفيد العلم وإنما تفيد الظن.
وهم لهم غاية وهي تعطيل صفات الله عند الجميع إلا من ندر وهدف المعتزلة والخوارج والروافض عدم الاحتجاج بأخبار الآحاد في الغيبيات كعذاب القبر والميزان والصراط وغير ذلك.
فأنت أيدت مذهبهم بكل قوة وشجاعة لأي غاية؟.
فإن العاقل لا يعمل ويجد ويجتهد إلا لغاية دينية أو دنيوية.
فما هي الغاية التي بذلت لأجلها هذه الجهود كلها وأتيت بما لم يستطعه الأوائل ولا قالوه في حدود علمي.
وقولك في الأخير :
“وإن كنت استطردت في الجواب وتكلمت على مسائل لم ترد في السؤال وما ذلك إلا لمسيس الحاجة إليها ولكثرة الاختلاف بين بعض طلبة العلم ".
أقول:
والله لو كان هذا الاستطراد من فضول الكلام لهان الأمر ولكن الأمر عظيم وليس هناك أدنى حاجة إلى هذا البحث الباطل المناصر لمذهب أهل الباطل وإنما لحاجة في نفسك قضيتها والظاهر أنك أنت السبب في كثرة الاختلاف بين طلبة العلم فالله حسيبك ولا حول ولا قوة إلا بالله.
وسوف اتبع هذا البحث بكلام العلماء وأدلتهم.
أسأل الله أن ينفع المسلمين والسلفيين الخلص بصفة أخص إن ربي لسميع الدعاء وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.
كتبه
ربيع بن هادي عمير المدخلي
8/ ربيع الثاني / 1423هـ