موقف أبي الحسن
من أخبار الآحاد
(الحلقة الأولى)
كتبه
ربيع بن هادي عمير المدخلي
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه ومن اتبع هداه:
أما بعد :
فأفيد طلاب الحق من طلاب العلم بأني قد وقفت لأبي الحسن مصطفى بن إسماعيل المصري المأربي هداه الله للحق وللالتزام بمنهج السلف الصالح على كلام لا يرضاه أهل السنة السابقين واللاحقين في خبر الآحاد، حيث خالف فيه ما عليه أهل الحديث قاطبة، وما عليه أهل السنة المحضة بل خالف جماهير العلماء من السلف والخلف ولي عليه مآخذ سأسوقها مجملة ثم أفصلها ثم أسوق الأدلة على بطلان ما ذهب إليه هو وسلفه من المعتزلة والخوارج والروافض ومن انخدع بمنهج هذه الطوائف من الفقهاء مع الأسف.
فمن المآخذ الإجمالية عليه:
أولاً : أنه ذكر الحجج أو الشبه على الأصـح لمن يقول بأن خبر الواحد يفيد الظن من الطوائف المذكورة آنفاً ولم يذكر حجج أهل الحديث ومن وافقهم الذين يقولون إن خبر الواحد العدل الضابط المتلقى بالقبول تصديقاً به وعملاً بموجبه يفيد العلم ويوجب العمل.
ثانياً : لقد وقف على قول ابن حزم: إن خبر الواحد بشروطه السابقة يفيد العلم ويوجب العمل، واطلع على أدلته وحججه الكثيرة والقوية.
ثم نقل عن ابن حزم أنه قال : " إن خبر الواحد يوجب العمل" وأهمل قوله بأنه يفيد العلم كما أهمل حججه ولا أستبعد أنه اطلع على قول ابن تيمية بأن خبر الآحاد يفيد العلم وحججه على ذلك.
وهذا غش منه وتلبيس على طلاب العلم فقد يعتقدون هذا القول الباطل الذي بين بطلانه بالحجج القوية كل من ابن تيمية وابن حزم وابن القيم، مثل قول ابن حزم خلال حديثه عن خبر الآحاد وأنه يفيد العلم حيث قال : " فصح بهذا إجماع الأمة على قبول خبر الواحد الثقة عن النبي -صلى الله عليه وسلّم- وأيضاً فإن جميع أهل الإسلام كانوا على قبول خبر الواحد الثقة عن النبي -صلى الله عليه وسلّم- "( ) (الأحكام لابن حزم ص 102). وكذلك قول ابن القيم رحمه الله حيث قال : " بل كانوا أعظم مبادرة إلى قبولها وتصديقها والجزم بمقتضاها وإثبات الصفات بها "، إلى أن قال: "فهذا الذي اعتمده نفاة العلم عن أخبار رسول الله -صلى الله عليه وسلّم- خرقوا به إجماع الصحابة المعلوم بالضرورة وإجماع التابعين وإجماع أئمة الإسلام، ووافقوا به المعتزلة والجهمية والرافضة والخوارج".
ووجه ابن القيم وابن حزم لأهل هذا القول الباطل من الإلزامات القوية والطعن الشديد ما يلزم أبا الحسن ويتوجه إليه.
ثالثاً : وجه أبو الحسن إلى أهـل السنة إلزامات ظنها حججاً دامغة وظنها نصراً لباطله وباطل سلفه سوف يراها القارئ الفطن.
رابعاً : يرى القارئ أن السؤال الموجه إلى أبي الحسن كان عن المتواتر وعن شروطه… إلخ، فكان ينبغي أن يكتفي بالإجابة عن هذا السؤال ولكن لحاجة في نفسه قفز إلى الحديث عن خبر الآحاد، ليتحدث عنه على طريقة أهل الأهواء زاعماً أنه قصد إتمام الفائدة للسائل، وما يدري أنه أضر بالسائل وبغيره فليته سكت فإن في سكوته هنا السلامة لنفسه ولغيره.
ونقول له: إذا كنت أنت وسلفك لا تقطعون بصحة نسبة أحاديث الآحاد الصحيحة التي تلقتها الأمة بالقبول تصديقاً بها وعملاً بموجبها، فإن أهل الحديث قاطبة وجماهير المسلمين يقطعون ويجزمون بصحة نسبتها إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم لأمرين:
الأول : أنه لا ينطق عن الهوى قال تعالى : وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى إِنْ هُوَ إِلا وَحْيٌ يُوحَى. الثاني : استناد إلى قول الله تعالى (إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ).
ولا سيما أحاديث الصحيحين التي تلقتها الأمة بالقبول والحفاوة والاحترام والتقدير وإلى مناقشته التفصيلية ننتقل :
قال في كتابه المسمى بـ "إتحاف النبيل بأجوبة أسئلة المصطلح والجرح والتعديل".
((سئل السؤال التالي :
س _ كم عدد طرق الحديث المتواتر التي أتفق عليها علماء هذا الشأن ؟ وما هي شروط الحديث المتواتر وهل يفيد العلم الضروري أو النظري ؟.
فأجاب السائل بما مخلصه ذكر تعريف المتواتر لغة واصطلاحاً وذكر شروط المتفق عليها والمختلف فيها، وذكر أقسام التواتر، وذكر اتفاق العلماء على أن المتواتر يفيد العلم الضروري، وأنه قد خالف في ذلك طائفتا "البراهمة " و" السمنية" الكافرتان، ثم كمل إجابته على السؤال المذكور.
ثم قال : " وتتمة للفائدة ومن باب قول الرسول صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح وقد سئل عن ماء البحر فقال هو الطهور ماؤه الحل ميتته " أخرجه أبو داود
(83) والنسائي (59) وغيرهما.
أتكلم على خبر الواحد أو خبر الآحاد :
فخبر الآحاد هو ماعدا التواتر أو هو مالم يدخل في حد التواتر، لأن القسمة ثنائية عند الجمهور, خلافاً لمن جهل القسمة ثلاثية فجعل المستفيض واسطة بين المتواتر والآحاد 1هـ من المذكرة للشنقيطي (ص 102).
وخبر الواحد إنما يفيد غلبة الظن ولا نستطيع أن نقطع بصحة نسبته إلى قائله , بل نرجح ذلك وليس من باب العمل بالظن المذموم أو الشك أو القول على الله عز وجل بغير علم كما في قوله تعالى: وَلا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ، ثم ساق عدداً من الشبه منها :
الشبهة الأولى :
قال أبو الحسن : " ومن الأدلة أن خبر الواحد لا يفيد اليقين، حديث أم سلمة في الصحيحين : " إنكم تختصمون إليّ وإنما أنا بشر ولعل أحدكم ألحن بالحجة من أخيه، فأقضي له، فمن قضيت له من حق أخيه شيئاً، فلا يأخذه، إنما أقطع له قطعة من نار "
وفي خبر المتلاعنين " الله يعلم أن أحدكما لكاذب فهل فيكما من تائب " متفق عليه)) الإتحاف ص22.
أقول: ليس في الحديثين ما يدل على أن أخبار الرسول الصادق المصدوق المعصوم تحتمل الكذب والوهم من قريب ولا بعيد سواء ما سمع منه مباشرة وما نقل عنه بالأسانيد الصحيحة وتلقته الأمة بالقبول تصديقاً به وعملاً بموجبه.
وإنما يدل الحديث الأول على أن أحد المتخاصمين في أمر من الأمور قد يكون ظالماً لخصمه فيغلبه بقوة منطقه.
وأما المتلاعنان فأمرهما واضح.
ولا تقاس أخبار الرسول المعصوم على هاتين الحالتين وما شابههما من أخبار البشر ودعاواهم في الخصومة.
ومن العجب أن ابن حزم رحمه الله رد بهذين الحديثين على شبهة من شبه من يقولون إن أخبار الآحاد لا تفيد العلم.
حيث قال : " فإن أنتم تقولون : إن الله أمرنا بالحكم بما شهد به العدول مع يمين الطالب، وبما شهد به العدلان فصاعداً وبما حلف عليه المدعى عليه إذا لم يقم المدعي بينة في إباحة الدماء المحرمة والفروج المحرمة، والأبشار المحرمة وكل ذلك بإقراركم ممكن أن يكون في باطن الأمر بخلاف ما شهد به الشاهد، وما حلف عليه الحالف وهذا هو الحكم بالظن الذي أنكرتم علينا في قولنا في خبر الواحد ولا فرق.
قال ابن حزم رحمه الله :
((قلنا لهم وبالله التوفيق : بين الأمرين فروق واضحة كوضوح الشمس:
1 _ أحدهما : أن الله تعالى قد تكفل بحفظ الدين وإكماله وتبينه من الغي ومما ليس فيه، ولم يتكفل تعالى قط بحفظ دمائنا ولا بحفظ فروجنا ولا بحفظ أبشارنا ولا بحفظ أموالنا في الدنيا.
بل قدر الله تعالى بأن كثيراً من كل ذلك يؤخذ بغير حق في الدنيا. وقد نص على ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم إذ يقول : " إنكم تختصمون إليّ وإنما أنا بشر )) ثم ساق الحديثين.
ثم قال : ((والفرق الثاني أن حكمنا بشهادة الشاهد وبيمين الحالف ليس حكماً بالظن كما زعموا، بل نحن نقطع ونثبت بأن الله عز وجل افترض علينا الحكم بيمين الطالب مع شهادة العدل، وبيمين المدعى عليه إذا لم يقم بينة، وبشهادة العدل والعدلين والعدول عندنا وإن كانوا في باطن أمرهم كذابين أو واهمين، والحكم بكل ذلك حق عند الله تعالى وعندنا مقطوع على غيبه، برهان ذلك أن حاكماً لو تحاكم إليه اثنان ولا بينة للمدعي، فلم يحكم للمدعي عليه باليمين أو شهد عنده عدلان فلم يحكم بشهادتهما فإن ذلك الحاكم فاسق عاص لله عز وجل مجرَّح الشهادة، ظالم سواء كان المدعى عليه مبطلا في إنكاره أو محقاً أو كان الشهود كذبة أو واهمين أو صادقين، إذا لم يعلم باطن أمرهم ونحن مأمورون يقيناً بأمر الله عز وجل لنا بأن نقتل هذا البريء المشهود عليه بالباطل، وأن نبيح هذا الفرج الحرام المشهود فيه بالكذب وأن نبيح هذه البشرة المحرمة، وهذا المال الحرام المشهود فيه بالباطل وحرم على المبطل أن يأخذ شيئاً من ذلك وقضى ربنا بأننا إن لم نحكم بذلك، فإننا فساق عصاة لله تعالى ظلمة متوعدون بالنار على ذلك.
وما أمرنا تعالى قط بأن نحكم في الدين بخبر وضعه فاسق أو وهم فيه واهم وقال تعالى : (شَرَعُوا لَهُمْ مِنَ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللَّهُ). فهذا فرق في غاية البيان ".
ثم قال رحمه الله في الفرق الثالث : " وهو أن نقول إن الله افترض علينا أن نقول في جميع الشريعة قال رسول -صلى الله عليه وسلّم- وأمرنا الله تعالى بكذا لأنه تعالى يقول قُلْ أَطِيعُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْكَافِرِينَ وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا ففرض علينا أن نقول: نهانا الله تعالى ورسوله -صلى الله عليه وسلّم- عن كذا، وأمرنا بكذا، ولم يأمرنا تعالى قط أن نقول : شهد هذا بحق، ولا حلف هذا الحالف على حق، ولا أن هذا الذي قضينا به لهذا حق له يقيناً، ولا قال تعالى ما قال هذا الشاهد، لكن الله تعالى قال لنا : احكموا بشهادة العدول، وبيمين المدعى عليه إذا لم يقم عليه بينة، وهذا فرق لا خفاء به. فلم نحكم بالظن في شيء من كل ذلك أصلاً ولله الحمد، بل علم قاطع، ويقين ثابت أن كل ما حكمنا به مما نقله العدل عن العدل إلى رسول -صلى الله عليه وسلّم- فحق من عند الله تعالى أوحى به ربنا تعالى، مضاف إلى رسول -صلى الله عليه وسلّم- محكي عنه أنه قاله. وكل ما حكمنا فيه بشهادة العدول عندنا فحق مقطوع به من عند الله تعالى أنه أمرنا بالحكم به، ولم يأمرنا بأن نقول فيما شهدوا به، وما حلف به الحالف أنه من عند الله تعالى، ولا أنه حق مقطوع به فإن قالوا : إنما قال تعالى إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ ولم يقل كل الظن إثم. قلنا : قد بين الله تعالى الإثم من البر وهو أن القول عليه تعالى بما لا نعلم حرام، فهذا من الظن الذي هو إثم بلا شك. (الأحكام ـ ص118، 119 ).
الشبهة الثانية:
قال أبو الحسن في الإتحاف ص 22 : " ألا ترى الناقد يصحح حديثاً اليوم ثم يظهر له بعد ذلك أن فيه علة فيتراجع عن ذلك فهل يقال إنه قد تراجع عن اليقين الذي استمر عليه فترة من الزمن "
أقول : الجواب إن هذا ليس من مواطن النـزاع، سواء تراجع عنه من حكم له بالصحة أو مات وهو يعتقد صحته لكن أكتشف العلة غيره فإن هذا فيه تحقيق لوعد الله الحق الذي وعد بحفظ دينه وكماله، فلا يمكن أن يتعبد الله عباده بأحاديث موضوعة أو ضعيفة أو في أسانيدها التي ظاهرها الصحة علل، فإن عدم كشف ذلك يتنافى مع هذا الوعد الرباني الذي لا يخلف.
ولهذا اكتشف أئمة النقد كثيراً من الأحاديث التي حصل فيها تساهل أو غفلة فصححت فجاء غيرهم فتعقبوهم وبينوا ما فيها من ضعف أو شذوذ أو علل، وألف في هذا اللون وغيره كتب العلل والموضوعات.
إن موضع النـزاع بين أهل الحديث ومن خالفهم ولا سيما المتأخرين منهم الذين يحكمون على أحاديث الصحيحين والأحاديث المتلقاة بالقبول بأنها لا تفيد إلا الظن ولا يفيد العلم عندهم إلا المتواتر فهؤلاء قد يكون بلاؤهم أشد على الإسلام من سابقهم.
الشبهة الثالثة: قال أبو الحسن في الإتحاف ص22 :
" وهل يصح أن يتراجع السامع عن أمر أعتقده يقيناً كوجود مكة والمذاهب الأربعة وأن رسول الله صلى الله عليه وسلم يوجد في قبره الشريف بالمدينة وهل هذه القطعيات وما شاكلها تقبل التراجع عنها يوماً من الدهر ؟!! كلا إنما التراجع شأن الظنيات فيترجح عندي اليوم قول وأتراجع عنه بعد ذلك لدليل أرجح منه وقفت عليه بعده ".
أقول :
أ- لا أدري هل تنظر إلى أحاديث الصحيحين التي تلقتها الأمة بالقبول وجزمت بصحة ما فيها وأنها تفيد عندهم العلم.
ب- وهل تنظر بهذا المنظار إلى الأحاديث التي تلقتها الأمة بالقبول تصديقاً بها وعملاً بموجبها .
ج- هل أنت تنظر إلى هذه الأحاديث التي هي بيان للقرآن الكريم توضح مجمله، وتخصص عامه وتقيد مطلقه وتقوم عليها عبادات المسلمين وعقائدهم وأخلاقهم ومعاملاتهم، ولا يتحقق وعد الله بحفظ هذا الدين إلا بجزم المسلمين بصحتها واعتقاد أنها على رأس علوم الشريعة منزلة بهذا المنظار .
د- هل أنت مستعد للتراجع عن القول بصحتها بسبب من الأسباب التي تفترضها أو أنها موجودة لديك.
ما هذه الشبه التي تحشرها وترجف بها على طلاب العلم الذين يثقون بك، وقد يسقط كثير منهم في دوامة الظنون في أحاديث الرسول الثابتة التي تلقتها الأمة بالقبول والإجلال والتعظيم.
هـ- ألا ترى أنك قد جنيت على سنة رسول الله -صلى الله عليه وسلّم-، وعلى عقيدة أهل السنة الراسخة في سنة نبيهم بأنها تفيد العلم اليقيني.
و- ألا ترى أنك تصاول وتطاول أهل السنة باعتبار سنن رسول الله -صلى الله عليه وسلّم- الثابتة كالجبال الرواسي ظنيات، وأنَّك ترى الحديث صحيحاً اليوم وغداً تتراجع عن صحته في هذا العصر المظلم الذي اشتدت فيه الحملات على الإسلام، وعلى السنة المحمدية بالذات.
تتراجع يا أبا الحسن عن الراجح إلى المرجوح والجميع عندك ظنيات؟.
الشبهة الرابعة: قال أبو الحسن: " والعلماء يفرقون بين قول أحدهم " صحيح الإسناد وحديث صحيح" يدل على أنهم لم يجزموا بصحة الحديث، فضلاً عن القطع بصحة نسبته إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلّم- بمجرد أن السند الذي جاء به الحديث ظاهره الصحة..".
أقول: هذه شبهة ساقطة وحجة عليك من جهة أخرى فأنت ترى حالتين:
الأولى: حالة جزم يجزم فيها الإمام المحدث بصحة الحديث ويقطع بنسبة هذا الحديث الذي قال إنه صحيح إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلّم- فأي متعلق لك في مثل هذا النوع من التصحيح الجازم.
الحالة الثانية: أن لا يجزم المحدث بصحة المتن فيقول مراقبة لله ونصحاً للمسلمين: "صحيح الإسناد" فكأنه يقول لك إنَّ الإسناد صحيح وأنا أتورع أن أقول أنَّ متنه صحيح لاحتمال أن يكون ينطوي على شذوذ أو علة واحتمال سلامته من ذلك فكيف نجعل الحالتين سواء وهما مفترقتان افتراقاً واضحاً، وكيف تجعل لك من الحالتين حجة واحدة لنصرة المخالفين لأهل الحق والسنة.
وانظر: الصواعق المرسلة (2/395) نشر مكتبة الرياض، حيث قال ابن القيم –رحمه الله- :تحت عنوان فصل ((ومما يبين أنَّ خبر الواحد العدل يفيد العلم أدلة كثيرة ثم ساق دليلين )) ثم قال: ((الدليل الثالث، أنَّ أهل العلم بالحديث لم يزالوا يقولون: صح عن رسول الله -صلى الله عليه وسلّم- وذلك جزم منهم بأنه قاله ولم يكن مرادهم ما قاله بعض المتأخرين إنَّ المراد صحة السند لا صحة المتن، بل هذا مراد من زعم أنَّ أحاديث رسول الله -صلى الله عليه وسلّم- لا تفيد العلم، وإنما كان مرادهم صحة الإضافة إليه وأنه قاله، كما يجزمون بقولهم قال رسول الله -صلى الله عليه وسلّم-، وأمر ونهى وفعل رسول الله -صلى الله عليه وسلّم-، وحيث كان يقع لهم الوهم في ذلك يقولون يذكر عن رسول الله -صلى الله عليه وسلّم- ويروى عنه ونحو ذلك، ومن له خبرة بالحديث يفرق بين قول أحدهم " هذا حديث صحيح" وبين قولهم "هذا إسناد صحيح"، فالأول جزم بصحة نسبته إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلّم- والثاني شهادة بصحة سنده وقد يكون فيه علة أو شذوذ فيكون سنده صحيح في نفسه)).
أقول: هذا هو العلم والعدل والإنصاف في نصرة سنة رسول الله -صلى الله عليه وسلّم- والذب عنها.
الشبهة الخامسة: قال أبو الحسن: "بل اشترطوا جمع طرق الحديث لمعرفة هل هو سالم من الشذوذ والعلة أم لا..إلخ".
أقول: لماذا اشترطوا هذا الشرط؟، أليس خدمة لسنة رسول الله -صلى الله عليه وسلّم- ولتمييز الصحيح من السقيم، فما تبين لهم صحته بعد جمع الطرق جزموا بصحته وأدخلوه في صحاحهم، وإن تبين لهم أنَّ فيه علة بينوا علته وأدخلوه في كتب العلل وحرموا نسبته إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلّم-، فأي حجة لك في هذا على أنَّ أحاديث رسول الله -صلى الله عليه وسلّم- الصحيحة المتلقاة بالقبول تفيد الظن لا العلم.
الشبهة السادسة: قال أبو الحسن: (( ومن المعلوم أن الثقة قد يهم، كما أن الكذوب قد يصدق وهذا أمر نلمسه في أنفسنا وفي حياتنا، فلا التفات إلى ما قاله أبو محمد ابن حزم رحمه الله تعالى: بأن راوي الحديث معصوم عن الخطأ، لأن الله قد حفظ لنا هذا الدين، لكن ليس باعتبار أفراد المسلمين فرداً فرداً وإنما هو باعتبار الأمة جميعاً، فالأمة جميعها لا يلتبس عليها باطل بحق، ولا يغيب عليها حق لأنها لا تجتمع على ضلالة كما في الحديث الصحيح، إنما يقع هذا لبعض أفرادها؛ فمن الممكن أن يأتيني مثلاً خبر الثقة ويكون عند بقية أفراد الأمة ما يدل على خطأ الثقة فيما نقله، فالقطع في حقي بصدق ما قاله الثقة وبلغني عنه لا يتجه لوجود ما يدل على خطئه عند غيري، وإن لم يبلغني، لكن الأمة كلها لم يلتبس عليها الخطأ بدليل وجوده عند غيري، ولذلك فابن حزم رحمه الله لا يقول بالشذوذ إذا خالف الثقة أو الصدوق من هو أوثق منه لأنه يرى أن خبر العدل يفيد اليقين فكيف يترك يقيناً ليقين آخر)) الإتحاف (ص23).
أقول:
1- نعم إن الصدوق قد يهم كما أن الكذوب قد يصدق، ولا ينازع في هذا عاقل لكن في أخبار الناس قد تنطلي الأوهام وقد يروج الكذب في أوساط الناس ويصدق الكذوب ويكذب الصادق كما في هذه الأزمان.
لكن حديث رسول الله -صلى الله عليه وسلّم- الذي لا ينطق عن الهوى والذي ضمن الله حفظه يختلف تماماً عن أخبار الناس التي لم يتعهد الله بحفظها، فحديث رسول الله -صلى الله عليه وسلّم- لابد حتماً أن يبين الكذب عليه والوهم وإن كثر الواهمون والكذابون، وقد تم ذلك على أيدي الجهابدة الفحول النقاد من أئمة الحديث رحمهم الله وجزاهم أجزل الأجزاء وأسبغه؛ فقد ميز الله على أيديهم الأحاديث الصحيحة من السقيمة على اختلاف أنواعها، ودونوا كلا منها في كتب معروفة متداولة في الأمة، فلا معنى لقذف هذه الشبهة ولا داعي لها.
2- وقولك:" هذا أمر نلمسه في أنفسنا وفي حياتنا.."
أقول:
أنَّ القسمة ليست محصورة في الواهمين والكذابين ولا في الوهم والكذب، فهناك الصادقون العدول الذين لو وضعت السيوف على مفارقهم لا يكذبون وعلى رسول الله -صلى الله عليه وسلّم- ولا على غيره.
والغالب الأصيل في رواياتهم مع عدالتهم الحفظ والضبط والإتقان لا سيما فيما يروونه عن رسول الله -صلى الله عليه وسلّم-، فإذا وقع من أحد وهم هيأ الله له من فحول أهل الحديث ونقادهم من يبين وهمه، وهذا أمر واقع مدون، فإنهم يقولون بعد دراستهم الواعية فلان وهم في حديث كذا وكذا، وفلان ثقة لكنه يهم على فلان، وقد وهم على فلان في حديث كذا أو وهم على فلان في أحاديث إلى آخر بياناتهم التي هي نتيجة وثمرة لعناية الله بهذا الدين ومصداقاً لقوله تعالى: إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ، حتى قال الحافظ ابن حبان رحمه الله:" لو أخطأ أحد على رسول الله -صلى الله عليه وسلّم- في حرف مثل ألف أو باء أو واو أو.. لبين الله ذلك أو كما قال رحمه الله، وكلامه هذا حق وحقيقة يعرفها أهل العلم بالحديث والعناية به ويعمى ويتعامى عنها غيرهم من أهل التهويش والدعاوى الباطلة.
3- وقولك:" فلا التفات إلى ما قاله أبو محمد ابن حزم رحمه الله بأن راوي الحديث معصوم عن الخطأ لأن الله حفظ لنا الدين" إلى قولك "لأنها لا تجتمع على ضلالة".
فأقول: دع عنك دعوى العصمة لراوي الحديث وخذ غيرها.
مثل أن يقال: إن الله يوفق ويسدد في الغالب أفراد رواة الحديث الحفاظ المتقنين لأداء سنة رسول الله -صلى الله عليه وسلّم- على وجهها الصحيح دون وهم أو خطأ، فإذا أخطأ بعض الأفراد على رسول الله -صلى الله عليه وسلّم- هيأ الله من فحول أئمة الحديث النقاد من يبين هذا الخطأ والوهم، والأمة أو الطائفة المنصورة تابعون لمجموع أفراد الرواة الأمناء الصادقين المتقنين وللنقاد المتميزين.
4- قولك:" إنما يقع لبعض أفرادها.."
أقول هذه حجة عليك لا لك لأن البعض الآخر يحقق الله بهم حفظ الدين الذي بلغه الرسول الأمين.
5- قولك:" فمن الممكن أن يأتي مثلاً خبر الثقة ويكون عند بقية أفراد الأمة ما يدل على خطأ الثقة فيما نقله..".
أقول: هذا أيضاً حجة عليك حيث لم يترك الله خطأ هذا الثقة خافياً على غيره من الناس بل هيأهم لبيان خطئه ليبقى هذا الدين خالصاً صافياً من أخطاء البشر وأوهامهم فيحكم على حديث هذا الواهم بالشذوذ وعلى ما قابله من روايات الحفاظ بأنها صحيحة ومحفوظة.
6- وقولك: " فالقطع في حقي بصدق ما قاله الثقة وبلغني عنه لا يتجه لوجود ما يدل على خطئه عند غيري وإن لم يبلغني، لكن الأمة لا يلتبس عليها الخطأ بدليل وجوده عند غيري ".
أقول: هل أهل الحديث يقطعون بصدق ما أخطأ فيه الثقة أو يطلبون من غيرهم أن يقطع بصدقه حتى تقول مثل هذا الكلام الغريب إنهم من أشد الناس تحذيراً من تصديق أخطاء البشر وأشد الناس تبيناً لهذا الخطأ وإقامة الحجج على أنه خطأ ولهم المجلدات الكثيرة في بيانه فما الداعي لهذا الكلام.
7 – وقولك: " ولذلك فابن حزم لا يقول بالشذوذ إذا خالف الثقة أو الصدوق من هو أوثق منه لأنه يرى أن خبر العدل يفيد اليقين فكيف يترك يقيناً ليقين آخر ".
أقول : يؤخذ من ابن حزم ما وافق فيه أهل السنة والحديث وهو أن خبر العدل الضابط إذا تلقته الأمة بالقبول تصديقاً له وعملاً بموجبه أفاد العلم اليقيني.
ولا يؤخذ قوله بأن خبر العدل إذا خالف من هو أوثق أو أكثر منه، صحيح يفيد اليقين فإن هذا لا يقوله أهل الحديث، بل هم أشد الناس تضعيفاً له ولم يلتفتوا إلى ما قاله الأصوليون الذين لا يشترطون في صحة الحديث نفي الشذوذ والعلة ولا إلى كلام ابن حزم هذا.
الشبهة السابعة:
قال أبو الحسن:" وإذا كان خبر الآحاد يفيد العلم اليقيني، فما معنى التفرقة بين التواتر والآحاد من حيث الفارق العملي ومعنى كلام ابن حزم أن الآحاد إذا عارض التواتر ولم يمكن الجمع فلا ترجيح للمتواتر على الآحاد وهذا مخالف للصواب ".
أقول : إن السلف لم يفرقوا بين المتواتر والآحاد لا في الاحتجاج ولا في العمل فالكل عندهم يجب قبوله والاحتجاج والعمل به.
وأما التعارض بين المتواتر والآحاد فلا يقع فإن الكل من عند الله وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافاً كَثِيراً.
وهات نصوصاً آحاد صحيحة تلقتها الأمة بالقبول عارضت نصوصاً متواترة، أو خالفت العقل الصريح وإلا فدع عنك التهويل والتهويش على السنة وأهلها.
الشبهة الثامنة :
قال أبو الحسن في الإتحاف ص23
" وإذا كان خبر الثقة الواحد – أعني به ما دون التواتر – يفيد اليقين فلماذا رجح العلماء الأسانيد العالية على الأسانيد النازلة ؟ ومن المعلوم أنهم رجحوا السند العالي لقلة رجاله لأنه كلما قل عدد النقلة كلما قل احتمال الوهم والخطأ وعكسه عكسه، فلو كان كل واحد يفيد خبره اليقين، فلا وجه لما قالوا وإن نزل الإسناد، لاشك أن في الأسانيد العالية مزايا أخرى فإنها تدل على الرحلة والاجتهاد في الطلب، لكن المقصود من الرحلة والاجتهاد تقليل احتمال الوهم والخطأ".
أقول : هل الأسانيد العالية كلها أرجح من الأحاديث التي نزلت أسانيدها، فهناك أسانيد عالية لكن فيها ضعفاء يقابلها أسانيد نازلة في غاية من القوة والصحة.
هناك أسانيد عالية في مصنف عبد الرزاق، وفي مصنف ابن أبي شيبة، وفي المسانيد مثل مسند الإمام أحمد، ومسند إسحاق بن راهويه، ومسند ابن أبي شيبة، وغيرهم " فهل هذه الأسانيد العالية في هذه المصنفات والمسانيد تكون عند أهل الحديث أصح مما أتفق عليه الشيخان البخاري ومسلم في صحيحهما اللذين تلقتهما الأمة بالقبول؟، إلى مزايا أخرى لهذين الصحيحين.
وهل حديث عالٍ في أحد الكتب المذكورة يكون أصح من حديث أنزل منه إسناداً في صحيح البخاري أو صحيح مسلم؟، إن قلت نعم فصرح بذلك واذكر من سبقك من أئمة الحديث إلى هذا القول.
وإذا كان ابن الصلاح رحمه الله قد قال إنه كلما قل عدد الإسناد قل احتمال الخطأ فيه، فهل يقصد بذلك بإطلاق، وهل قلة احتمال الخطأ من لوازم العلو وكثرة احتمال الخطأ من لوازم النزول؟، إن لكلام أهل العلم المحقق أزمة قوية يفقدها كلام حاطبي الليل كفى الله المسلمين شرهم.
وهل قولك : " لكن المقصود من الرحلة والاجتهاد تقليل احتمال الوهم والخطأ "
هل قولك هذا صحيح إن أهل الحديث ما يرحلون ويجتهدون إلا لهذا الغرض فقط، أو أن لهم مقاصد أخرى كإرادة وجه الله والاستكثار من الأحاديث والتفقه فيها، والوقوف على المتابعات والشواهد لما كانوا قد حصلوه في بلدانهم، إلى مقاصد أخرى من مقتضيات هذا العلم الشريف كالأخذ عن شيوخ أعلم وأجل، والاستكثار من الشيوخ.
الشبهة التاسعة :
قال أبو الحسن : " وأيضا – فأنا أسأل من يقول : بأن خبر الواحد يفيد اليقين هل سماعك الحديث الذي صح سنده المكون من خمسة رواة في سنن أبى داود، مثلاً يستوي في اليقين مع سماع الصحابي لهذا الحديث من في رسول الله صلى الله عليه وسلم ؟ إن قلت : نعم فقد كابرت وإن قلت : لا فقد رجعت عن قولك، لأن الترجيح في باب الظنيات لا القطعيات".
أقول : إن هذا التحدي الغريب إنما هو موجه إلى أهل الحديث وأئمته قاطبة وتحد لمن سار على نهجهم من أئمة الإسلام كابن تيمية وابن القيم
وأن أسألك :
هل أنت تعلم وتقطع بوجود الله وأسمائه وصفاته وتعلم وتقطع بأن الله ابتعث إلى كل أمة رسولاً يدعوهم إلى التوحيد ويبشرهم وينذرهم وتعلم وتقطع بأن لله عباد مكرمين هم الملائكة وأن الله اصطفى منهم رسولاً وتعلم وتقطع بأن الله خلق جنة عرضها السموات والأرض أعدت للمتقين وخلق ناراً لا يعلم سعتها وعمقها إلا الله أعدها للكافرين ووقودها الناس والحجارة.
وتعلم وتقطع بقيام الساعة وبعث الموتى وجمعهم في صعيد واحد. وتعلم وتقطع بوجود الصراط والميزان وما في الآخرة من الأهوال وأنا أقطع بأنك ستقول نعم فأسألك سؤالاً آخر وهو هل إيمانك وعلمك وقطعك مثل إيمان رسول الله -صلى الله عليه وسلّم- ومثل إيمان إبراهيم وموسى وعيسى وسائر النبيين والمرسلين ؟ فإن قلت نعم فقد كابرت وقلت بقول المرجئة وإن قلت لا قلت لك صدقت ورجعت عن قولك : " إن الترجيح في باب الظنيات لا القطعيات ".
وأسألك هل علمك ويقينك مثل علم ويقين أبي بكر وعمر وعثمان وعلي -رضي الله عنهم - ؟ فإن قلت نعم. فقد كابرت. وإن قلت : لا. رجعت عن قولك : " إن الترجيح في باب الظنيات لا القطعيات ".
وأسألك سؤالاً آخر هل سماع الصحابة من رسول -صلى الله عليه وسلّم- مثل سماع محمد وموسى كلام الله ؟ فإن قلت نعم. فقد كابرت. وإن قلت : لا. رجعت عن قولك : " إن الترجيح في باب الظنيات لا القطعيات "، لأن الصحابة قد يخطئون في التبليغ ولا تنس استدراك عائشة على الصحابة –رضوان الله عنهم-، ولضمان الله حفظ دينه فقد بينت أخطاؤهم في الرواية كما بينت أخطاء الرواة.
وما عدا أخطائهم مما رواه الصحابة ورواه غيرهم وصح عندهم وتلقته الأمة بالقبول تصديقاً به وعملاً بموجبه، وإن اعتبرنا فرقاً بين سماع الصحابة وسماع من روى عنهم ومن روى عمن روى عنهم إلى الصحيحين وإلى أبي داود فإنه فرق لا يقدح في علم ويقين من أفنوا حياتهم في حفظ سنة رسول الله -صلى الله عليه وسلّم-، فضلاً عن علماء الأمة السابقين. هذا الفرق لا يقدح في علم ويقين أهل الحديث وجماهير المسلمين بصحة حديث نبيهم -صلى الله عليه وسلّم- ولو طالت أسانيدها مادامت تلقيت هذه الأحاديث بالقبول من علماء الأمة الإسلامية.
كتبه
ربيع بن هادي عمير المدخلي
1/ربيع الثاني/1423هـ
من أخبار الآحاد
(الحلقة الأولى)
كتبه
ربيع بن هادي عمير المدخلي
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه ومن اتبع هداه:
أما بعد :
فأفيد طلاب الحق من طلاب العلم بأني قد وقفت لأبي الحسن مصطفى بن إسماعيل المصري المأربي هداه الله للحق وللالتزام بمنهج السلف الصالح على كلام لا يرضاه أهل السنة السابقين واللاحقين في خبر الآحاد، حيث خالف فيه ما عليه أهل الحديث قاطبة، وما عليه أهل السنة المحضة بل خالف جماهير العلماء من السلف والخلف ولي عليه مآخذ سأسوقها مجملة ثم أفصلها ثم أسوق الأدلة على بطلان ما ذهب إليه هو وسلفه من المعتزلة والخوارج والروافض ومن انخدع بمنهج هذه الطوائف من الفقهاء مع الأسف.
فمن المآخذ الإجمالية عليه:
أولاً : أنه ذكر الحجج أو الشبه على الأصـح لمن يقول بأن خبر الواحد يفيد الظن من الطوائف المذكورة آنفاً ولم يذكر حجج أهل الحديث ومن وافقهم الذين يقولون إن خبر الواحد العدل الضابط المتلقى بالقبول تصديقاً به وعملاً بموجبه يفيد العلم ويوجب العمل.
ثانياً : لقد وقف على قول ابن حزم: إن خبر الواحد بشروطه السابقة يفيد العلم ويوجب العمل، واطلع على أدلته وحججه الكثيرة والقوية.
ثم نقل عن ابن حزم أنه قال : " إن خبر الواحد يوجب العمل" وأهمل قوله بأنه يفيد العلم كما أهمل حججه ولا أستبعد أنه اطلع على قول ابن تيمية بأن خبر الآحاد يفيد العلم وحججه على ذلك.
وهذا غش منه وتلبيس على طلاب العلم فقد يعتقدون هذا القول الباطل الذي بين بطلانه بالحجج القوية كل من ابن تيمية وابن حزم وابن القيم، مثل قول ابن حزم خلال حديثه عن خبر الآحاد وأنه يفيد العلم حيث قال : " فصح بهذا إجماع الأمة على قبول خبر الواحد الثقة عن النبي -صلى الله عليه وسلّم- وأيضاً فإن جميع أهل الإسلام كانوا على قبول خبر الواحد الثقة عن النبي -صلى الله عليه وسلّم- "( ) (الأحكام لابن حزم ص 102). وكذلك قول ابن القيم رحمه الله حيث قال : " بل كانوا أعظم مبادرة إلى قبولها وتصديقها والجزم بمقتضاها وإثبات الصفات بها "، إلى أن قال: "فهذا الذي اعتمده نفاة العلم عن أخبار رسول الله -صلى الله عليه وسلّم- خرقوا به إجماع الصحابة المعلوم بالضرورة وإجماع التابعين وإجماع أئمة الإسلام، ووافقوا به المعتزلة والجهمية والرافضة والخوارج".
ووجه ابن القيم وابن حزم لأهل هذا القول الباطل من الإلزامات القوية والطعن الشديد ما يلزم أبا الحسن ويتوجه إليه.
ثالثاً : وجه أبو الحسن إلى أهـل السنة إلزامات ظنها حججاً دامغة وظنها نصراً لباطله وباطل سلفه سوف يراها القارئ الفطن.
رابعاً : يرى القارئ أن السؤال الموجه إلى أبي الحسن كان عن المتواتر وعن شروطه… إلخ، فكان ينبغي أن يكتفي بالإجابة عن هذا السؤال ولكن لحاجة في نفسه قفز إلى الحديث عن خبر الآحاد، ليتحدث عنه على طريقة أهل الأهواء زاعماً أنه قصد إتمام الفائدة للسائل، وما يدري أنه أضر بالسائل وبغيره فليته سكت فإن في سكوته هنا السلامة لنفسه ولغيره.
ونقول له: إذا كنت أنت وسلفك لا تقطعون بصحة نسبة أحاديث الآحاد الصحيحة التي تلقتها الأمة بالقبول تصديقاً بها وعملاً بموجبها، فإن أهل الحديث قاطبة وجماهير المسلمين يقطعون ويجزمون بصحة نسبتها إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم لأمرين:
الأول : أنه لا ينطق عن الهوى قال تعالى : وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى إِنْ هُوَ إِلا وَحْيٌ يُوحَى. الثاني : استناد إلى قول الله تعالى (إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ).
ولا سيما أحاديث الصحيحين التي تلقتها الأمة بالقبول والحفاوة والاحترام والتقدير وإلى مناقشته التفصيلية ننتقل :
قال في كتابه المسمى بـ "إتحاف النبيل بأجوبة أسئلة المصطلح والجرح والتعديل".
((سئل السؤال التالي :
س _ كم عدد طرق الحديث المتواتر التي أتفق عليها علماء هذا الشأن ؟ وما هي شروط الحديث المتواتر وهل يفيد العلم الضروري أو النظري ؟.
فأجاب السائل بما مخلصه ذكر تعريف المتواتر لغة واصطلاحاً وذكر شروط المتفق عليها والمختلف فيها، وذكر أقسام التواتر، وذكر اتفاق العلماء على أن المتواتر يفيد العلم الضروري، وأنه قد خالف في ذلك طائفتا "البراهمة " و" السمنية" الكافرتان، ثم كمل إجابته على السؤال المذكور.
ثم قال : " وتتمة للفائدة ومن باب قول الرسول صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح وقد سئل عن ماء البحر فقال هو الطهور ماؤه الحل ميتته " أخرجه أبو داود
(83) والنسائي (59) وغيرهما.
أتكلم على خبر الواحد أو خبر الآحاد :
فخبر الآحاد هو ماعدا التواتر أو هو مالم يدخل في حد التواتر، لأن القسمة ثنائية عند الجمهور, خلافاً لمن جهل القسمة ثلاثية فجعل المستفيض واسطة بين المتواتر والآحاد 1هـ من المذكرة للشنقيطي (ص 102).
وخبر الواحد إنما يفيد غلبة الظن ولا نستطيع أن نقطع بصحة نسبته إلى قائله , بل نرجح ذلك وليس من باب العمل بالظن المذموم أو الشك أو القول على الله عز وجل بغير علم كما في قوله تعالى: وَلا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ، ثم ساق عدداً من الشبه منها :
الشبهة الأولى :
قال أبو الحسن : " ومن الأدلة أن خبر الواحد لا يفيد اليقين، حديث أم سلمة في الصحيحين : " إنكم تختصمون إليّ وإنما أنا بشر ولعل أحدكم ألحن بالحجة من أخيه، فأقضي له، فمن قضيت له من حق أخيه شيئاً، فلا يأخذه، إنما أقطع له قطعة من نار "
وفي خبر المتلاعنين " الله يعلم أن أحدكما لكاذب فهل فيكما من تائب " متفق عليه)) الإتحاف ص22.
أقول: ليس في الحديثين ما يدل على أن أخبار الرسول الصادق المصدوق المعصوم تحتمل الكذب والوهم من قريب ولا بعيد سواء ما سمع منه مباشرة وما نقل عنه بالأسانيد الصحيحة وتلقته الأمة بالقبول تصديقاً به وعملاً بموجبه.
وإنما يدل الحديث الأول على أن أحد المتخاصمين في أمر من الأمور قد يكون ظالماً لخصمه فيغلبه بقوة منطقه.
وأما المتلاعنان فأمرهما واضح.
ولا تقاس أخبار الرسول المعصوم على هاتين الحالتين وما شابههما من أخبار البشر ودعاواهم في الخصومة.
ومن العجب أن ابن حزم رحمه الله رد بهذين الحديثين على شبهة من شبه من يقولون إن أخبار الآحاد لا تفيد العلم.
حيث قال : " فإن أنتم تقولون : إن الله أمرنا بالحكم بما شهد به العدول مع يمين الطالب، وبما شهد به العدلان فصاعداً وبما حلف عليه المدعى عليه إذا لم يقم المدعي بينة في إباحة الدماء المحرمة والفروج المحرمة، والأبشار المحرمة وكل ذلك بإقراركم ممكن أن يكون في باطن الأمر بخلاف ما شهد به الشاهد، وما حلف عليه الحالف وهذا هو الحكم بالظن الذي أنكرتم علينا في قولنا في خبر الواحد ولا فرق.
قال ابن حزم رحمه الله :
((قلنا لهم وبالله التوفيق : بين الأمرين فروق واضحة كوضوح الشمس:
1 _ أحدهما : أن الله تعالى قد تكفل بحفظ الدين وإكماله وتبينه من الغي ومما ليس فيه، ولم يتكفل تعالى قط بحفظ دمائنا ولا بحفظ فروجنا ولا بحفظ أبشارنا ولا بحفظ أموالنا في الدنيا.
بل قدر الله تعالى بأن كثيراً من كل ذلك يؤخذ بغير حق في الدنيا. وقد نص على ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم إذ يقول : " إنكم تختصمون إليّ وإنما أنا بشر )) ثم ساق الحديثين.
ثم قال : ((والفرق الثاني أن حكمنا بشهادة الشاهد وبيمين الحالف ليس حكماً بالظن كما زعموا، بل نحن نقطع ونثبت بأن الله عز وجل افترض علينا الحكم بيمين الطالب مع شهادة العدل، وبيمين المدعى عليه إذا لم يقم بينة، وبشهادة العدل والعدلين والعدول عندنا وإن كانوا في باطن أمرهم كذابين أو واهمين، والحكم بكل ذلك حق عند الله تعالى وعندنا مقطوع على غيبه، برهان ذلك أن حاكماً لو تحاكم إليه اثنان ولا بينة للمدعي، فلم يحكم للمدعي عليه باليمين أو شهد عنده عدلان فلم يحكم بشهادتهما فإن ذلك الحاكم فاسق عاص لله عز وجل مجرَّح الشهادة، ظالم سواء كان المدعى عليه مبطلا في إنكاره أو محقاً أو كان الشهود كذبة أو واهمين أو صادقين، إذا لم يعلم باطن أمرهم ونحن مأمورون يقيناً بأمر الله عز وجل لنا بأن نقتل هذا البريء المشهود عليه بالباطل، وأن نبيح هذا الفرج الحرام المشهود فيه بالكذب وأن نبيح هذه البشرة المحرمة، وهذا المال الحرام المشهود فيه بالباطل وحرم على المبطل أن يأخذ شيئاً من ذلك وقضى ربنا بأننا إن لم نحكم بذلك، فإننا فساق عصاة لله تعالى ظلمة متوعدون بالنار على ذلك.
وما أمرنا تعالى قط بأن نحكم في الدين بخبر وضعه فاسق أو وهم فيه واهم وقال تعالى : (شَرَعُوا لَهُمْ مِنَ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللَّهُ). فهذا فرق في غاية البيان ".
ثم قال رحمه الله في الفرق الثالث : " وهو أن نقول إن الله افترض علينا أن نقول في جميع الشريعة قال رسول -صلى الله عليه وسلّم- وأمرنا الله تعالى بكذا لأنه تعالى يقول قُلْ أَطِيعُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْكَافِرِينَ وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا ففرض علينا أن نقول: نهانا الله تعالى ورسوله -صلى الله عليه وسلّم- عن كذا، وأمرنا بكذا، ولم يأمرنا تعالى قط أن نقول : شهد هذا بحق، ولا حلف هذا الحالف على حق، ولا أن هذا الذي قضينا به لهذا حق له يقيناً، ولا قال تعالى ما قال هذا الشاهد، لكن الله تعالى قال لنا : احكموا بشهادة العدول، وبيمين المدعى عليه إذا لم يقم عليه بينة، وهذا فرق لا خفاء به. فلم نحكم بالظن في شيء من كل ذلك أصلاً ولله الحمد، بل علم قاطع، ويقين ثابت أن كل ما حكمنا به مما نقله العدل عن العدل إلى رسول -صلى الله عليه وسلّم- فحق من عند الله تعالى أوحى به ربنا تعالى، مضاف إلى رسول -صلى الله عليه وسلّم- محكي عنه أنه قاله. وكل ما حكمنا فيه بشهادة العدول عندنا فحق مقطوع به من عند الله تعالى أنه أمرنا بالحكم به، ولم يأمرنا بأن نقول فيما شهدوا به، وما حلف به الحالف أنه من عند الله تعالى، ولا أنه حق مقطوع به فإن قالوا : إنما قال تعالى إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ ولم يقل كل الظن إثم. قلنا : قد بين الله تعالى الإثم من البر وهو أن القول عليه تعالى بما لا نعلم حرام، فهذا من الظن الذي هو إثم بلا شك. (الأحكام ـ ص118، 119 ).
الشبهة الثانية:
قال أبو الحسن في الإتحاف ص 22 : " ألا ترى الناقد يصحح حديثاً اليوم ثم يظهر له بعد ذلك أن فيه علة فيتراجع عن ذلك فهل يقال إنه قد تراجع عن اليقين الذي استمر عليه فترة من الزمن "
أقول : الجواب إن هذا ليس من مواطن النـزاع، سواء تراجع عنه من حكم له بالصحة أو مات وهو يعتقد صحته لكن أكتشف العلة غيره فإن هذا فيه تحقيق لوعد الله الحق الذي وعد بحفظ دينه وكماله، فلا يمكن أن يتعبد الله عباده بأحاديث موضوعة أو ضعيفة أو في أسانيدها التي ظاهرها الصحة علل، فإن عدم كشف ذلك يتنافى مع هذا الوعد الرباني الذي لا يخلف.
ولهذا اكتشف أئمة النقد كثيراً من الأحاديث التي حصل فيها تساهل أو غفلة فصححت فجاء غيرهم فتعقبوهم وبينوا ما فيها من ضعف أو شذوذ أو علل، وألف في هذا اللون وغيره كتب العلل والموضوعات.
إن موضع النـزاع بين أهل الحديث ومن خالفهم ولا سيما المتأخرين منهم الذين يحكمون على أحاديث الصحيحين والأحاديث المتلقاة بالقبول بأنها لا تفيد إلا الظن ولا يفيد العلم عندهم إلا المتواتر فهؤلاء قد يكون بلاؤهم أشد على الإسلام من سابقهم.
الشبهة الثالثة: قال أبو الحسن في الإتحاف ص22 :
" وهل يصح أن يتراجع السامع عن أمر أعتقده يقيناً كوجود مكة والمذاهب الأربعة وأن رسول الله صلى الله عليه وسلم يوجد في قبره الشريف بالمدينة وهل هذه القطعيات وما شاكلها تقبل التراجع عنها يوماً من الدهر ؟!! كلا إنما التراجع شأن الظنيات فيترجح عندي اليوم قول وأتراجع عنه بعد ذلك لدليل أرجح منه وقفت عليه بعده ".
أقول :
أ- لا أدري هل تنظر إلى أحاديث الصحيحين التي تلقتها الأمة بالقبول وجزمت بصحة ما فيها وأنها تفيد عندهم العلم.
ب- وهل تنظر بهذا المنظار إلى الأحاديث التي تلقتها الأمة بالقبول تصديقاً بها وعملاً بموجبها .
ج- هل أنت تنظر إلى هذه الأحاديث التي هي بيان للقرآن الكريم توضح مجمله، وتخصص عامه وتقيد مطلقه وتقوم عليها عبادات المسلمين وعقائدهم وأخلاقهم ومعاملاتهم، ولا يتحقق وعد الله بحفظ هذا الدين إلا بجزم المسلمين بصحتها واعتقاد أنها على رأس علوم الشريعة منزلة بهذا المنظار .
د- هل أنت مستعد للتراجع عن القول بصحتها بسبب من الأسباب التي تفترضها أو أنها موجودة لديك.
ما هذه الشبه التي تحشرها وترجف بها على طلاب العلم الذين يثقون بك، وقد يسقط كثير منهم في دوامة الظنون في أحاديث الرسول الثابتة التي تلقتها الأمة بالقبول والإجلال والتعظيم.
هـ- ألا ترى أنك قد جنيت على سنة رسول الله -صلى الله عليه وسلّم-، وعلى عقيدة أهل السنة الراسخة في سنة نبيهم بأنها تفيد العلم اليقيني.
و- ألا ترى أنك تصاول وتطاول أهل السنة باعتبار سنن رسول الله -صلى الله عليه وسلّم- الثابتة كالجبال الرواسي ظنيات، وأنَّك ترى الحديث صحيحاً اليوم وغداً تتراجع عن صحته في هذا العصر المظلم الذي اشتدت فيه الحملات على الإسلام، وعلى السنة المحمدية بالذات.
تتراجع يا أبا الحسن عن الراجح إلى المرجوح والجميع عندك ظنيات؟.
الشبهة الرابعة: قال أبو الحسن: " والعلماء يفرقون بين قول أحدهم " صحيح الإسناد وحديث صحيح" يدل على أنهم لم يجزموا بصحة الحديث، فضلاً عن القطع بصحة نسبته إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلّم- بمجرد أن السند الذي جاء به الحديث ظاهره الصحة..".
أقول: هذه شبهة ساقطة وحجة عليك من جهة أخرى فأنت ترى حالتين:
الأولى: حالة جزم يجزم فيها الإمام المحدث بصحة الحديث ويقطع بنسبة هذا الحديث الذي قال إنه صحيح إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلّم- فأي متعلق لك في مثل هذا النوع من التصحيح الجازم.
الحالة الثانية: أن لا يجزم المحدث بصحة المتن فيقول مراقبة لله ونصحاً للمسلمين: "صحيح الإسناد" فكأنه يقول لك إنَّ الإسناد صحيح وأنا أتورع أن أقول أنَّ متنه صحيح لاحتمال أن يكون ينطوي على شذوذ أو علة واحتمال سلامته من ذلك فكيف نجعل الحالتين سواء وهما مفترقتان افتراقاً واضحاً، وكيف تجعل لك من الحالتين حجة واحدة لنصرة المخالفين لأهل الحق والسنة.
وانظر: الصواعق المرسلة (2/395) نشر مكتبة الرياض، حيث قال ابن القيم –رحمه الله- :تحت عنوان فصل ((ومما يبين أنَّ خبر الواحد العدل يفيد العلم أدلة كثيرة ثم ساق دليلين )) ثم قال: ((الدليل الثالث، أنَّ أهل العلم بالحديث لم يزالوا يقولون: صح عن رسول الله -صلى الله عليه وسلّم- وذلك جزم منهم بأنه قاله ولم يكن مرادهم ما قاله بعض المتأخرين إنَّ المراد صحة السند لا صحة المتن، بل هذا مراد من زعم أنَّ أحاديث رسول الله -صلى الله عليه وسلّم- لا تفيد العلم، وإنما كان مرادهم صحة الإضافة إليه وأنه قاله، كما يجزمون بقولهم قال رسول الله -صلى الله عليه وسلّم-، وأمر ونهى وفعل رسول الله -صلى الله عليه وسلّم-، وحيث كان يقع لهم الوهم في ذلك يقولون يذكر عن رسول الله -صلى الله عليه وسلّم- ويروى عنه ونحو ذلك، ومن له خبرة بالحديث يفرق بين قول أحدهم " هذا حديث صحيح" وبين قولهم "هذا إسناد صحيح"، فالأول جزم بصحة نسبته إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلّم- والثاني شهادة بصحة سنده وقد يكون فيه علة أو شذوذ فيكون سنده صحيح في نفسه)).
أقول: هذا هو العلم والعدل والإنصاف في نصرة سنة رسول الله -صلى الله عليه وسلّم- والذب عنها.
الشبهة الخامسة: قال أبو الحسن: "بل اشترطوا جمع طرق الحديث لمعرفة هل هو سالم من الشذوذ والعلة أم لا..إلخ".
أقول: لماذا اشترطوا هذا الشرط؟، أليس خدمة لسنة رسول الله -صلى الله عليه وسلّم- ولتمييز الصحيح من السقيم، فما تبين لهم صحته بعد جمع الطرق جزموا بصحته وأدخلوه في صحاحهم، وإن تبين لهم أنَّ فيه علة بينوا علته وأدخلوه في كتب العلل وحرموا نسبته إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلّم-، فأي حجة لك في هذا على أنَّ أحاديث رسول الله -صلى الله عليه وسلّم- الصحيحة المتلقاة بالقبول تفيد الظن لا العلم.
الشبهة السادسة: قال أبو الحسن: (( ومن المعلوم أن الثقة قد يهم، كما أن الكذوب قد يصدق وهذا أمر نلمسه في أنفسنا وفي حياتنا، فلا التفات إلى ما قاله أبو محمد ابن حزم رحمه الله تعالى: بأن راوي الحديث معصوم عن الخطأ، لأن الله قد حفظ لنا هذا الدين، لكن ليس باعتبار أفراد المسلمين فرداً فرداً وإنما هو باعتبار الأمة جميعاً، فالأمة جميعها لا يلتبس عليها باطل بحق، ولا يغيب عليها حق لأنها لا تجتمع على ضلالة كما في الحديث الصحيح، إنما يقع هذا لبعض أفرادها؛ فمن الممكن أن يأتيني مثلاً خبر الثقة ويكون عند بقية أفراد الأمة ما يدل على خطأ الثقة فيما نقله، فالقطع في حقي بصدق ما قاله الثقة وبلغني عنه لا يتجه لوجود ما يدل على خطئه عند غيري، وإن لم يبلغني، لكن الأمة كلها لم يلتبس عليها الخطأ بدليل وجوده عند غيري، ولذلك فابن حزم رحمه الله لا يقول بالشذوذ إذا خالف الثقة أو الصدوق من هو أوثق منه لأنه يرى أن خبر العدل يفيد اليقين فكيف يترك يقيناً ليقين آخر)) الإتحاف (ص23).
أقول:
1- نعم إن الصدوق قد يهم كما أن الكذوب قد يصدق، ولا ينازع في هذا عاقل لكن في أخبار الناس قد تنطلي الأوهام وقد يروج الكذب في أوساط الناس ويصدق الكذوب ويكذب الصادق كما في هذه الأزمان.
لكن حديث رسول الله -صلى الله عليه وسلّم- الذي لا ينطق عن الهوى والذي ضمن الله حفظه يختلف تماماً عن أخبار الناس التي لم يتعهد الله بحفظها، فحديث رسول الله -صلى الله عليه وسلّم- لابد حتماً أن يبين الكذب عليه والوهم وإن كثر الواهمون والكذابون، وقد تم ذلك على أيدي الجهابدة الفحول النقاد من أئمة الحديث رحمهم الله وجزاهم أجزل الأجزاء وأسبغه؛ فقد ميز الله على أيديهم الأحاديث الصحيحة من السقيمة على اختلاف أنواعها، ودونوا كلا منها في كتب معروفة متداولة في الأمة، فلا معنى لقذف هذه الشبهة ولا داعي لها.
2- وقولك:" هذا أمر نلمسه في أنفسنا وفي حياتنا.."
أقول:
أنَّ القسمة ليست محصورة في الواهمين والكذابين ولا في الوهم والكذب، فهناك الصادقون العدول الذين لو وضعت السيوف على مفارقهم لا يكذبون وعلى رسول الله -صلى الله عليه وسلّم- ولا على غيره.
والغالب الأصيل في رواياتهم مع عدالتهم الحفظ والضبط والإتقان لا سيما فيما يروونه عن رسول الله -صلى الله عليه وسلّم-، فإذا وقع من أحد وهم هيأ الله له من فحول أهل الحديث ونقادهم من يبين وهمه، وهذا أمر واقع مدون، فإنهم يقولون بعد دراستهم الواعية فلان وهم في حديث كذا وكذا، وفلان ثقة لكنه يهم على فلان، وقد وهم على فلان في حديث كذا أو وهم على فلان في أحاديث إلى آخر بياناتهم التي هي نتيجة وثمرة لعناية الله بهذا الدين ومصداقاً لقوله تعالى: إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ، حتى قال الحافظ ابن حبان رحمه الله:" لو أخطأ أحد على رسول الله -صلى الله عليه وسلّم- في حرف مثل ألف أو باء أو واو أو.. لبين الله ذلك أو كما قال رحمه الله، وكلامه هذا حق وحقيقة يعرفها أهل العلم بالحديث والعناية به ويعمى ويتعامى عنها غيرهم من أهل التهويش والدعاوى الباطلة.
3- وقولك:" فلا التفات إلى ما قاله أبو محمد ابن حزم رحمه الله بأن راوي الحديث معصوم عن الخطأ لأن الله حفظ لنا الدين" إلى قولك "لأنها لا تجتمع على ضلالة".
فأقول: دع عنك دعوى العصمة لراوي الحديث وخذ غيرها.
مثل أن يقال: إن الله يوفق ويسدد في الغالب أفراد رواة الحديث الحفاظ المتقنين لأداء سنة رسول الله -صلى الله عليه وسلّم- على وجهها الصحيح دون وهم أو خطأ، فإذا أخطأ بعض الأفراد على رسول الله -صلى الله عليه وسلّم- هيأ الله من فحول أئمة الحديث النقاد من يبين هذا الخطأ والوهم، والأمة أو الطائفة المنصورة تابعون لمجموع أفراد الرواة الأمناء الصادقين المتقنين وللنقاد المتميزين.
4- قولك:" إنما يقع لبعض أفرادها.."
أقول هذه حجة عليك لا لك لأن البعض الآخر يحقق الله بهم حفظ الدين الذي بلغه الرسول الأمين.
5- قولك:" فمن الممكن أن يأتي مثلاً خبر الثقة ويكون عند بقية أفراد الأمة ما يدل على خطأ الثقة فيما نقله..".
أقول: هذا أيضاً حجة عليك حيث لم يترك الله خطأ هذا الثقة خافياً على غيره من الناس بل هيأهم لبيان خطئه ليبقى هذا الدين خالصاً صافياً من أخطاء البشر وأوهامهم فيحكم على حديث هذا الواهم بالشذوذ وعلى ما قابله من روايات الحفاظ بأنها صحيحة ومحفوظة.
6- وقولك: " فالقطع في حقي بصدق ما قاله الثقة وبلغني عنه لا يتجه لوجود ما يدل على خطئه عند غيري وإن لم يبلغني، لكن الأمة لا يلتبس عليها الخطأ بدليل وجوده عند غيري ".
أقول: هل أهل الحديث يقطعون بصدق ما أخطأ فيه الثقة أو يطلبون من غيرهم أن يقطع بصدقه حتى تقول مثل هذا الكلام الغريب إنهم من أشد الناس تحذيراً من تصديق أخطاء البشر وأشد الناس تبيناً لهذا الخطأ وإقامة الحجج على أنه خطأ ولهم المجلدات الكثيرة في بيانه فما الداعي لهذا الكلام.
7 – وقولك: " ولذلك فابن حزم لا يقول بالشذوذ إذا خالف الثقة أو الصدوق من هو أوثق منه لأنه يرى أن خبر العدل يفيد اليقين فكيف يترك يقيناً ليقين آخر ".
أقول : يؤخذ من ابن حزم ما وافق فيه أهل السنة والحديث وهو أن خبر العدل الضابط إذا تلقته الأمة بالقبول تصديقاً له وعملاً بموجبه أفاد العلم اليقيني.
ولا يؤخذ قوله بأن خبر العدل إذا خالف من هو أوثق أو أكثر منه، صحيح يفيد اليقين فإن هذا لا يقوله أهل الحديث، بل هم أشد الناس تضعيفاً له ولم يلتفتوا إلى ما قاله الأصوليون الذين لا يشترطون في صحة الحديث نفي الشذوذ والعلة ولا إلى كلام ابن حزم هذا.
الشبهة السابعة:
قال أبو الحسن:" وإذا كان خبر الآحاد يفيد العلم اليقيني، فما معنى التفرقة بين التواتر والآحاد من حيث الفارق العملي ومعنى كلام ابن حزم أن الآحاد إذا عارض التواتر ولم يمكن الجمع فلا ترجيح للمتواتر على الآحاد وهذا مخالف للصواب ".
أقول : إن السلف لم يفرقوا بين المتواتر والآحاد لا في الاحتجاج ولا في العمل فالكل عندهم يجب قبوله والاحتجاج والعمل به.
وأما التعارض بين المتواتر والآحاد فلا يقع فإن الكل من عند الله وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافاً كَثِيراً.
وهات نصوصاً آحاد صحيحة تلقتها الأمة بالقبول عارضت نصوصاً متواترة، أو خالفت العقل الصريح وإلا فدع عنك التهويل والتهويش على السنة وأهلها.
الشبهة الثامنة :
قال أبو الحسن في الإتحاف ص23
" وإذا كان خبر الثقة الواحد – أعني به ما دون التواتر – يفيد اليقين فلماذا رجح العلماء الأسانيد العالية على الأسانيد النازلة ؟ ومن المعلوم أنهم رجحوا السند العالي لقلة رجاله لأنه كلما قل عدد النقلة كلما قل احتمال الوهم والخطأ وعكسه عكسه، فلو كان كل واحد يفيد خبره اليقين، فلا وجه لما قالوا وإن نزل الإسناد، لاشك أن في الأسانيد العالية مزايا أخرى فإنها تدل على الرحلة والاجتهاد في الطلب، لكن المقصود من الرحلة والاجتهاد تقليل احتمال الوهم والخطأ".
أقول : هل الأسانيد العالية كلها أرجح من الأحاديث التي نزلت أسانيدها، فهناك أسانيد عالية لكن فيها ضعفاء يقابلها أسانيد نازلة في غاية من القوة والصحة.
هناك أسانيد عالية في مصنف عبد الرزاق، وفي مصنف ابن أبي شيبة، وفي المسانيد مثل مسند الإمام أحمد، ومسند إسحاق بن راهويه، ومسند ابن أبي شيبة، وغيرهم " فهل هذه الأسانيد العالية في هذه المصنفات والمسانيد تكون عند أهل الحديث أصح مما أتفق عليه الشيخان البخاري ومسلم في صحيحهما اللذين تلقتهما الأمة بالقبول؟، إلى مزايا أخرى لهذين الصحيحين.
وهل حديث عالٍ في أحد الكتب المذكورة يكون أصح من حديث أنزل منه إسناداً في صحيح البخاري أو صحيح مسلم؟، إن قلت نعم فصرح بذلك واذكر من سبقك من أئمة الحديث إلى هذا القول.
وإذا كان ابن الصلاح رحمه الله قد قال إنه كلما قل عدد الإسناد قل احتمال الخطأ فيه، فهل يقصد بذلك بإطلاق، وهل قلة احتمال الخطأ من لوازم العلو وكثرة احتمال الخطأ من لوازم النزول؟، إن لكلام أهل العلم المحقق أزمة قوية يفقدها كلام حاطبي الليل كفى الله المسلمين شرهم.
وهل قولك : " لكن المقصود من الرحلة والاجتهاد تقليل احتمال الوهم والخطأ "
هل قولك هذا صحيح إن أهل الحديث ما يرحلون ويجتهدون إلا لهذا الغرض فقط، أو أن لهم مقاصد أخرى كإرادة وجه الله والاستكثار من الأحاديث والتفقه فيها، والوقوف على المتابعات والشواهد لما كانوا قد حصلوه في بلدانهم، إلى مقاصد أخرى من مقتضيات هذا العلم الشريف كالأخذ عن شيوخ أعلم وأجل، والاستكثار من الشيوخ.
الشبهة التاسعة :
قال أبو الحسن : " وأيضا – فأنا أسأل من يقول : بأن خبر الواحد يفيد اليقين هل سماعك الحديث الذي صح سنده المكون من خمسة رواة في سنن أبى داود، مثلاً يستوي في اليقين مع سماع الصحابي لهذا الحديث من في رسول الله صلى الله عليه وسلم ؟ إن قلت : نعم فقد كابرت وإن قلت : لا فقد رجعت عن قولك، لأن الترجيح في باب الظنيات لا القطعيات".
أقول : إن هذا التحدي الغريب إنما هو موجه إلى أهل الحديث وأئمته قاطبة وتحد لمن سار على نهجهم من أئمة الإسلام كابن تيمية وابن القيم
وأن أسألك :
هل أنت تعلم وتقطع بوجود الله وأسمائه وصفاته وتعلم وتقطع بأن الله ابتعث إلى كل أمة رسولاً يدعوهم إلى التوحيد ويبشرهم وينذرهم وتعلم وتقطع بأن لله عباد مكرمين هم الملائكة وأن الله اصطفى منهم رسولاً وتعلم وتقطع بأن الله خلق جنة عرضها السموات والأرض أعدت للمتقين وخلق ناراً لا يعلم سعتها وعمقها إلا الله أعدها للكافرين ووقودها الناس والحجارة.
وتعلم وتقطع بقيام الساعة وبعث الموتى وجمعهم في صعيد واحد. وتعلم وتقطع بوجود الصراط والميزان وما في الآخرة من الأهوال وأنا أقطع بأنك ستقول نعم فأسألك سؤالاً آخر وهو هل إيمانك وعلمك وقطعك مثل إيمان رسول الله -صلى الله عليه وسلّم- ومثل إيمان إبراهيم وموسى وعيسى وسائر النبيين والمرسلين ؟ فإن قلت نعم فقد كابرت وقلت بقول المرجئة وإن قلت لا قلت لك صدقت ورجعت عن قولك : " إن الترجيح في باب الظنيات لا القطعيات ".
وأسألك هل علمك ويقينك مثل علم ويقين أبي بكر وعمر وعثمان وعلي -رضي الله عنهم - ؟ فإن قلت نعم. فقد كابرت. وإن قلت : لا. رجعت عن قولك : " إن الترجيح في باب الظنيات لا القطعيات ".
وأسألك سؤالاً آخر هل سماع الصحابة من رسول -صلى الله عليه وسلّم- مثل سماع محمد وموسى كلام الله ؟ فإن قلت نعم. فقد كابرت. وإن قلت : لا. رجعت عن قولك : " إن الترجيح في باب الظنيات لا القطعيات "، لأن الصحابة قد يخطئون في التبليغ ولا تنس استدراك عائشة على الصحابة –رضوان الله عنهم-، ولضمان الله حفظ دينه فقد بينت أخطاؤهم في الرواية كما بينت أخطاء الرواة.
وما عدا أخطائهم مما رواه الصحابة ورواه غيرهم وصح عندهم وتلقته الأمة بالقبول تصديقاً به وعملاً بموجبه، وإن اعتبرنا فرقاً بين سماع الصحابة وسماع من روى عنهم ومن روى عمن روى عنهم إلى الصحيحين وإلى أبي داود فإنه فرق لا يقدح في علم ويقين من أفنوا حياتهم في حفظ سنة رسول الله -صلى الله عليه وسلّم-، فضلاً عن علماء الأمة السابقين. هذا الفرق لا يقدح في علم ويقين أهل الحديث وجماهير المسلمين بصحة حديث نبيهم -صلى الله عليه وسلّم- ولو طالت أسانيدها مادامت تلقيت هذه الأحاديث بالقبول من علماء الأمة الإسلامية.
كتبه
ربيع بن هادي عمير المدخلي
1/ربيع الثاني/1423هـ