تعيين الأشخاص والأسماء
عند ردّ الأباطيل والأخطاء
كتبه:
أبو فيروز عبد الرحمن بن سوكايا
الإندونيسي عفا الله عنه
بسم الله الرحمن الرحيم
مقدمة المؤلف عفا الله عنه
الحمد لله رب العالمين وأشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمدا عبده ورسوله، اللهم صل وسلم على محمد وعلى آله أجمعين أما بعد:عند ردّ الأباطيل والأخطاء
كتبه:
أبو فيروز عبد الرحمن بن سوكايا
الإندونيسي عفا الله عنه
بسم الله الرحمن الرحيم
مقدمة المؤلف عفا الله عنه
فقد تواردت تساؤلات من بعض الإخوة عن التيعيين بالأسماء عند الردّ والتحذير، لأن بعض العلماء الكبار يكرهون ذلك، وسعى الحزبيون في نشر بعض فتاويهم ردّاً على الأهل السنة، وحماية لرؤسائهم.
سأذكر الحكم في هذه الأمور متعمدا على الله تعالى وحده، مستدلا بالكتاب والسنة وستهديا بطريقة السلف رضي الله عنهم أجمعين.
فأقول بتوفيق الله وحده:
الباب الأول: ضرورة الرجوع إلى كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم على فهم سلف الأمة
إن القول لا يقبل إلا بشهادة الكتاب والسنة على فهم سلف الأمة. قال الله تعالى: ﴿اتَّبِعُوا مَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ وَلَا تَتَّبِعُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ قَلِيلًا مَا تَذَكَّرُونَ﴾ [الأعراف: 3]. وقال جل ذكره: ﴿وَمَا اخْتَلَفْتُمْ فِيهِ مِنْ شَيْءٍ فَحُكْمُهُ إِلَى اللَّهِ ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبِّي عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ﴾ [الشورى: 10]. وقال سبحانه وتعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا﴾ [النساء: 59].
عن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه و سلم قال: «إن لكل عمل شرة، ولكل شرة فترة. فمن كانت شرته إلى سنتي فقد أفلح. ومن كانت فترته إلى غير ذلك فقد هلك». (أخرجه الإمام أحمد (6764) وصححه الإمام الوادعي رحمه الله في "الجامع الصحيح مما ليس في الصحيحين" (3250)).
وعن العرباض بن سارية رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه و سلم: «قد تركتكم على البيضاء. ليلها كنهارها لا يزيغ عنها بعدي إلا هلك». (أخرجه ابن ماجه (42)/صحيح).
قال الله تعالى: ﴿فَإِنْ آَمَنُوا بِمِثْلِ مَا آَمَنْتُمْ بِهِ فَقَدِ اهْتَدَوْا وَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّمَا هُمْ فِي شِقَاقٍ﴾ [البقرة/137]، وقال الله تعالى: ﴿وَالسَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ رَضِيَ الله عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ﴾ الآية [التوبة/100]، وقال جل ذكره: ﴿وَمَنْ يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيرًا﴾ [النساء/115]
وعن العرباض بن سارية رضي الله عنه في حديث مشهور: ... فَقَالَ: « أُوصِيكُمْ بِتَقْوَى الله وَالسَّمْعِ وَالطَّاعَةِ وَإِنْ عَبْدًا حَبَشِيًّا فَإِنَّهُ مَنْ يَعِشْ مِنْكُمْ بَعْدِى فَسَيَرَى اخْتِلاَفًا كَثِيرًا فَعَلَيْكُمْ بِسُنَّتِي وَسُنَّةِ الْخُلَفَاءِ الْمَهْدِيِّينَ الرَّاشِدِينَ تَمَسَّكُوا بِهَا وَعَضُّوا عَلَيْهَا بِالنَّوَاجِذِ وَإِيَّاكُمْ وَمُحْدَثَاتِ الأُمُورِ فَإِنَّ كُلَّ مُحْدَثَةٍ بِدْعَةٌ وَكُلَّ بِدْعَةٍ ضَلاَلَةٌ ». (أخرجه أبو داود /(4607)/دار السلام) وحسنه الإمام الوادعي رحمه الله في "الصحيح المسند" (رقم (921)/دار الآثار)).
قال الإمام الآجري رحمه الله: فأمرهم بلزوم سنته وسنة أصحابه الخلفاء الراشدين المهديين ، وحثهم على أن يتمسكوا بها التمسك الشديد ، مثل ما يعضّ الإنسان بأضراسه على الشيء يريد أن لا يفلت منه ، فواجب على كل مسلم أن يتبع سنن رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ولا يعملوا أشياء إلا بسنته وسنة الخلفاء الراشدين بعده : أبي بكر ، وعمر ، وعثمان ، وعلي رضي الله عنهم أجمعين ، وكذا لا يخرج عن قول صحابته رحمة الله عليهم ، فإنه يرشد إن شاء الله . ومنها أنه حذرهم البدع وأعلمهم أنها ضلالة ، فكل من عمل عملا أو تكلم بكلام لا يوافق كتاب الله عز وجل ، ولا سنة رسوله صلى الله عليه وسلم ، وسنة الخلفاء الراشدين، وقول صحابته رضي الله عنهم فهو بدعة ، وهو ضلالة ، وهو مردود على قائله أو فاعله. ("الأربعون حديثا" /للآجري/ص 9).
وقال شيخ الإسلام رحمه الله: وأصل وقوع أهل الضلال في مثل هذا التحريف الإعراض عن فهم كتاب الله تعالى كما فهمه الصحابة والتابعون ومعارضة ما دل عليه بما يناقضه وهذا هو من أعظم المحادة لله ولرسول لكن على وجه النفاق والخداع. ("درء التعارض (3/ 95).
وقال الإمام ابن القيم رحمه الله: ولذلك كان الصحابة أعلم الأمة على الإطلاق وبينهم وبين من بعدهم في العلم واليقين كما بينهم وبينهم في الفضل والدين . ولهذا كان ما فهمه الصحابة من القرآن أولى أن يصار إليه مما فهمه من بعدهم فانضاف حسن قصدهم إلى حسن فهمهم فلم يختلفوا في التأويل في باب معرفة الله وصفاته وأسمائه وأفعاله واليوم الاخر ولا يحفظ عنهم في ذلك خلاف لا مشهور ولا شاذ. ("الصواعق المرسلة"/1/ 168).
هذا هو الصراط المستقيم.
قال الإمام ابن القيم رحمه الله: فقد تبين أن الصراط المستقيم طريق أصحابه وأتباعه. ("مدارج السالكين"/1 / ص65/دار الحديث).
فمن خرج عنه ضل وهلك.
قال الإمام ابن قدامة رحمه الله: ومن لم يرض الصراط المستقيم سلك إلى صراط الجحيم. ومن سلك غير طريق سلفه أفضت به إلى تلفه، ومن مال عن السنة فقد انحرف عن طريق الجنة. فاتقوا الله تعالى وخافوا على أنفسكم فإن الأمر صعب. وما بعد الجنة إلا النار وما بعد الحق إلا الضلال ولا بعد السنة إلا البدعة. ("تحريم النظر في كتب الكلام"/ص71).
وكذلك معرفة حكم هذه المسألة: تعيين الأشخاص والأسماء عند رد الأباطيل والأخطاء لا بد من الرجوع إلى هذه الأصول الثلاثة: الكتاب والسنة وفهم سلف الأمة.
قال شيخ الإسلام رحمه الله: وإنما المتبع في إثبات أحكام الله: كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم ، وسبيل السابقين أو الأولين ، لا يجوز إثبات حكم شرعي بدون هذه الأصول الثلاثة ، نصا واستنباطا بحال . ("اقتضاء الصراط المستقيم"/2/ص171).
الباب الثاني: الإيمان بحرمة عرض المسلم وخطر انتهاكه بغير الحق
أهل السنة والجماعة يؤمنون بأدلة احترام أعراض المسلمين وتحريم انتهاكها بدون عذر شرعي. قال الله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيرًا مِنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ وَلَا تَجَسَّسُوا وَلَا يَغْتَبْ بَعْضُكُمْ بَعْضًا أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَنْ يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتًا فَكَرِهْتُمُوهُ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ تَوَّابٌ رَحِيمٌ﴾ [الحجرات: 12].
عن ابن أبي بكرة رضي الله عنه: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «فإن دماءكم وأموالكم وأعراضكم عليكم حرام كحرمة يومكم هذا في شهركم هذا ألا ليبلغ الشاهد منكم الغائب». (أخرجه البخاري (105) ومسلم (1679)).
وعن فضالة بن عبيد رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه و سلم في حجة الوداع: «ألا أخبركم بالمؤمن من أمنه الناس على أموالهم وأنفسهم والمسلم من سلم الناس من لسانه ويده والمجاهد من جاهد نفسه في طاعة الله والمهاجر من هجر الخطايا والذنوب». (أخرجه الإمام أحمد (24004)/صحيح).
وعن أبي هريرة رضي الله عنه: أن رسول الله صلى الله عليه و سلم قال: «أتدرون ما الغيبة ؟» قالوا: الله ورسوله أعلم. قال: «ذكرك أخاك بما يكره». قيل: أفرأيت إن كان في أخي ما أقول ؟ قال: «إن كان فيه ما تقول فقد اغتبته وإن لم يكن فيه فقد بهته». (أخرجه مسلم (2589)).
قال الإمام ابن القيم رحمه الله: ومن العجب أن الإنسان يهون عليه التحفظ والاحتراز من أكل الحرام والظلم والزنا والسرقة وشرب الخمر ومن النظر المحرم وغيرذلك، ويصعب عليه التحفظ من حركة لسانه، حتى يري الرجل يشار إليه بالدين والزهد والعبادة وهو يتكلم بالكلمة من سخط الله لا يلقى لها بال يزال بالكلمة الواحدة بين المشرق والمغرب. وكم ترى من رجل متورع عن الفواحش والظلم ولسانه ثغري في أعراضه الأحياء والأموات ولا يبالى ما يقول. ("الجواب الكافي"/ص 111).
وعن عائشة رضي الله عنها قالت: قال النبي صلى الله عليه وسلم: «لا تسبوا الأموات فإنهم قد أفضوا إلى ما قدموا». (أخرجه البخاري (1393)).
وعن سعيد بن زيد رضي الله عنهما عن النبى -صلى الله عليه وسلم- قال: «إن من أربى الربا الاستطالة فى عرض المسلم بغير حق». (أخرجه أبو داود (4866)/عون/دار الكتب العلمية)، وصححه الإمام الوادعي رحمه الله في "الصحيح المسند"/(435) /دار الآثار).
ولا يحسبن أحد أن الله غافل عما يعمل الظالمون.
عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لتؤدن الحقوق إلى أهلها يوم القيامة حتى يقاد للشاة الجلحاء من الشاة القرناء ». (أخرجه مسلم (2582)).
فمن تعدى حدود الله فأؤلئك هم الخاسرون.
عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: « أَتَدْرُونَ مَا الْمُفْلِسُ ». قَالُوا: الْمُفْلِسُ فِينَا مَنْ لاَ دِرْهَمَ لَهُ وَلاَ مَتَاعَ. فَقَالَ: « إِنَّ الْمُفْلِسَ مِنْ أُمَّتِى يَأْتِي يَوْمَ الْقِيَامَةِ بِصَلاَةٍ وَصِيَامٍ وَزَكَاةٍ وَيَأْتِى قَدْ شَتَمَ هَذَا وَقَذَفَ هَذَا وَأَكَلَ مَالَ هَذَا وَسَفَكَ دَمَ هَذَا وَضَرَبَ هَذَا فَيُعْطَى هَذَا مِنْ حَسَنَاتِهِ وَهَذَا مِنْ حَسَنَاتِهِ فَإِنْ فَنِيَتْ حَسَنَاتُهُ قَبْلَ أَنْ يُقْضَى مَا عَلَيْهِ أُخِذَ مِنْ خَطَايَاهُمْ فَطُرِحَتْ عَلَيْهِ ثُمَّ طُرِحَ فِى النَّارِ ». (أخرجه مسلم (6744)).
وعن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما قال: سمعتُ رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «.... وَمَنْ قَالَ فِي مُؤْمِنٍ مَا لَيْسَ فِيهِ أَسْكَنَهُ الله رَدْغَةَ الْخَبَالِ حَتَّى يَخْرُجَ مِمَّا قَالَ». (أخرجه أبو داود (3592)، وصححه الإمام الوادعي رحمه الله في "الصحيح المسند" (755)).
فلا يجوز التهاون في عرض المسلم.
قال نافع رحمه الله: ونظر ابن عمر يوما إلى البيت أو إلى الكعبة فقال: ما أعظمك وأعظم حرمتك والمؤمن أعظم حرمة عند الله منك. (أخرجه الترمذي (2032) وحسنه الإمام الوادعي رحمه الله في الجامع الصحيح (3601)).
الباب الثالث: شرعية ستر معائب المسلم
فلما كان عرض المسلم محرما أصلا، شرع الله ورسوله صلى الله عليه وسلم الإبهام في النقد ما لم يدع داعي الحاجة إلى تعيين شحصيته، ويكون الجزاء من جنس العمل: أن من ستر عيب أخاه ستر الله عيبه، ومن سعى في فضيحة أخيه فضحه الله.
عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «المسلم أخو المسلم، لا يظلمه، ولا يسلمه. ومن كان في حاجة أخيه كان الله في حاجته، ومن فرج عن مسلم كربة فرج الله عنه كربة من كربات يوم القيامة، ومن ستر مسلما ستره الله يوم القيامة». (أخرجه البخاري (2447) ومسلم (2580)).
وعن ابن عمر رضي الله عنهما قال: صعد رسول الله صلى الله عليه و سلم المنبر فنادى بصوت رفيع فقال: «يا معشر من قد أسلم بلسانه ولم يفض الإيمان إلى قلبه لا تؤذوا المسلمين ولا تعيروهم ولا تتبعوا عوراتهم فإنه من تتبع عورة أخيه المسلم تتبع الله عورته ومن تتبع الله عورته يفضحه ولو في جوف رحلة»([1]) . (أخرجه الترمذي (2032)، وحسنه، ووافقه الإمام الوادعي رحمه الله في "الجامع الصحيح" ((3601)/دار الآثار).
ومن أدلة الستر:
عن عائشة رضي الله عنها في قصة بريرة رضي الله عنها: ... ثم خطب رسول الله صلى الله عليه و سلم عشية فحمد الله وأثنى عليه بما هو أهله ثم قال: «أما بعد فما بال أقوام يشترطون شروطا ليست في كتاب الله ؟ ما كان من شرط ليس في كتاب الله عز و جل فهو باطل وإن كان مائة شرط كتاب الله الحق وشرط الله أوثق ما بال رجال منكم يقول أحدهم أعتق فلانا والولاء لي إنما الولاء لمن أعتق». (أخرجه البخاري (2155) ومسلم (1504)).
وعن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: «ما بال أقوام يرفعون أبصارهم إلى السماء في صلاتهم» فاشتد قوله في ذلك حتى قال: «لينتهن عن ذلك أو لتخطفن أبصارهم». (أخرجه البخاري (750)).
وعن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه: أن رجلا من أسلم يقال له ماعز بن مالك أتى رسول الله صلى الله عليه و سلم فقال: إني أصبت فاحشة فأقمه علي. فرده النبي صلى الله عليه و سلم مرارا. قال: ثم سأل قومه ؟ فقالوا: ما نعلم به بأسا إلا أنه أصاب شيئا يرى أنه لا يخرجه منه إلا أن يقام فيه الحد. قال: فرجع إلى النبي صلى الله عليه و سلم، فأمرنا أن نرجمه. قال: فانطلقنا به إلى بقيع الغرقد. قال: فما أوثقناه ولا حفرنا له. قال: فرميناه بالعظم والمدر والخزف. قال: فاشتد واشتددنا خلفه حتى أتى عرض الحرة فانتصب لنا فرميناه بجلاميد الحرة ( يعني الحجارة ) حتى سكت. قال: ثم قام رسول الله صلى الله عليه و سلم خطيبا من العشي فقال: «أو كلما انطلقنا غزاة في سبيل الله تخلف رجل في عيالنا له نبيب كنبيب التيس على أن لا أوتى برجل فعل ذلك إلا نكلت به». قال: فاستغفر له ولا سبه. (أخرجه مسلم (1694)).
وعن عائشة رضي الله عنها قالت: صنع النبي صلى الله عليه وسلم شيئا فرخص فيه فتنزه عنه قوم. فبلغ ذلك النبي صلى الله عليه وسلم، فخطب فحمد الله ثم قال: «ما بال أقوام يتنزهون عن الشيء أصنعه فوالله إني لأعلمهم بالله وأشدهم له خشية». (أخرجه البخاري (6101) ومسلم (2356)).
وقد بوّب الإمام البخاري رحمه الله في صحيحه لهذا الحديث الأخري: باب من لم يواجه الناس بالعتاب.
قال الإمام النووي رحمه الله: أنه إذا كره شيئاً فخطب له ذكر كراهيته ولا يعين فاعله، وهذا من عظيم خلقه صلى الله عليه وسلم فإن المقصود من ذلك الشخص وجميع الحاضرين وغيرهم ممن يبلغه ذلك ولا يحصل توبيخ صاحبه في الملأ. ("المنهاج"/للنووي /9/ص10).
وقال ابن حجر رحمه الله: أما المعاتبة فقد حصلت منه لهم بلا ريب وإنما لم يميز الذي صدر منه ذلك سترا عليه فحصل منه الرفق من هذه الحيثية لا بترك العتاب أصلاً. ("فتح الباري"/10/ص513-514).
الباب الرابع: شرعية تعيين الأسماء والأشخاص عند رد الباطل والخطأ إذا دعت الحاجة إلى ذلك
قد تدعو الحاجة إلى التعيين لئلا يقع الناس في نفس الخطأ. وذلك موجود في الكتاب والسنة وطريقة سلف الأمة.
أما من أدلة الكتاب:
ففي قول الله تعالى: ﴿تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ﴾ [المسد: 1]. وفي قوله جل في علاه: ﴿فَعَصَى فِرْعَوْنُ الرَّسُولَ فَأَخَذْنَاهُ أَخْذًا وَبِيلًا﴾ [المزمل: 16].
من أجل ماذا تذكر أسماءهم؟ للاعتبار لئلا يسلك المؤمنون سلوكهم فيصيبهم من أصابهم. هذا من أهمية الاعتبار. قال شيخ الإسلام رحمه الله: والاعتبار أن يقرن الشيء بمثله فيعلم أن حكمه مثل حكمه، كما قال ابن عباس : هلا اعتبرتم الأصابع بالأسنان ؟ فإذا قال : ﴿فاعتبروا يا أولي الأبصار﴾ [الحشر : 2]، وقال : ﴿لقد كان في قصصهم عبرة لأولي الألباب﴾ أفاد أن من عمل مثل أعمالهم جوزي مثل جزائهم؛ ليحذر أن يعمل مثل أعمال الكفار؛ وليرغب في أن يعمل مثل أعمال المؤمنين أتباع الأنبياء، قال تعالى : ﴿قد خلت من قبلكم سنن فسيروا في الأرض فانظروا كيف كان عاقبة المكذبين﴾ [ آل عمران : 137 ] . ("مجموع الفتاوى"/13 /ص20).
وكذلك قول الله سبحانه: ﴿وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ كَانَ مِنَ الْجِنِّ فَفَسَقَ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِ أَفَتَتَّخِذُونَهُ وَذُرِّيَّتَهُ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِي وَهُمْ لَكُمْ عَدُوٌّ بِئْسَ لِلظَّالِمِينَ بَدَلًا﴾ [الكهف: 50].
ذكر إبليس وصنيعه ليعتبر الناس بسوء فعله فيعاقب بسوء العقوبة.
قال شيخ الإسلام رحمه الله: وأما في عقوبة المبطل فإن المبطلين رئيسهم من الجن إبليس وأعظم رؤسائهم في الإنس فرعون. وإبليس ترك طاعة الله تعالى وعبادته في السجود لآدم حذرا من نقص مرتبته بفضل آدم عليه فأداه ذلك إلى أن رضي بأن صار بأخس المراتب وباع آخرته بدنيا غيره كأخس القوادين فإنه يهلك نفسه في إغواء بني آدم بتحسين شهوات الغي لهم يتلذذون بالشهوات التي لا يلتذ هو بها ثم إنهم قد يتوبون فيغفر لهم وهو قد خسر وهلك من غير فائدة مع أنه ليس بين كونه تابعا لهؤلاء في إرادتهم الخسيسة وكونه تابعا لربه فيما أراد به من السجود لآدم نسبة في الشرف والرفعة. ("بيان تلبيس الجهمية"/1/ص 138).
هذا مما يدل على أهمية تعيين الأسماء للحاجة.
وأما الدليل من السنة:
الدليل الأول: عن أبي حميد الساعدى رضي الله عنه قال: استعمل النبى - صلى الله عليه وسلم - رجلا من بنى أسد يقال له: ابن الأتبية على صدقة فلما قدم قال: هذا لكم وهذا أهدي لي . فقام النبي - صلى الله عليه وسلم - على المنبر - فحمد الله وأثنى عليه ثم قال: «ما بال العامل نبعثه، فيأتي يقول هذا لك وهذا لي . فهلا جلس في بيت أبيه وأمه فينظر أيهدى له أم لا ، والذي نفسي بيده لا يأتي بشىء إلا جاء به يوم القيامة يحمله على رقبته ، إن كان بعيرا له رغاء ، أو بقرة لها خوار ، أو شاة تيعر». ثم رفع يديه حتى رأينا عفرتى إبطيه: «ألا هل بلغت» ثلاثاً. (أخرجه البخاري (7174)/فتح/دار السلام) ومسلم (1832)/دار السلام)).
قال الحافظ ابن حجر رحمه الله: وفيه أن من رأى متأولا أخطأ في تأويل يضر من أخذ به أن يشهر القول للناس ويبين خطأه ليحذر من الاغترار به. وفيه جواز توبيخ المخطئ ، ... انتهى المراد. ("فتح الباري"/13/ص208/دار السلام).
والدليل الثاني: عن عائشة رضي الله عنها: أن رجلا استأذن على النبي صلى الله عليه وسلم فلما رآه قال: «بئس أخو العشيرة وبئس ابن العشيرة». فلما جلس تطلق النبي صلى الله عليه وسلم في وجهه وانبسط إليه فلما انطلق الرجل قالت له عائشة: يا رسول الله حين رأيت الرجل قلت له كذا وكذا، ثم تطلقت في وجهه وانبسطت إليه. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «يا عائشة متى عهدتني فحاشا إن شر الناس عند الله منزلة يوم القيامة من تركه الناس اتقاء شره». (أخرجه البخاري (6032) ومسلم (2591)).
قال ابن حجر رحمه الله: إنه حيث ذمه كان لقصد التعريف بحاله وحيث تلقاه بالبشر كان لتأليفه أو لاتقاء شره، فما قصد بالحالتين إلا نفع المسلمين. ويؤيده أنه لم يصفه في حال لقائه بأنه فاضل ولا صالح. ("فتح الباري"/13/ص171).
الدليل الثالث: عن عائشة رضي الله عنها قالت: قال النبي صلى الله عليه وسلم: «ما أظن فلانا وفلانا يعرفان من ديننا شيئا». قال الليث –أحد الرواة-: كانا رجلين من المنافقين. (أخرجه البخاري (6067)).
قال ابن حجر رحمه الله: أن مثل هذا الذي وقع في الحديث ليس من الظن المنهي عنه لأنه في مقام التحذير من مثل من كان حاله كحال الرجلين. والنهي إنما هو عن الظن السوء بالمسلم السالم في دينه وعرضه. ("فتح الباري"/10/س485-486).
وكيف بحديث النهي عن الغيبة؟
قال الإمام ابن عبد البر رحمه الله: فقد استثنى من هذا الباب –باب تحريم الغيبة- من لا غيبة فيه من الفساق المعلنين المجاهرين وأهل البدع المضلين. ("الاستذكار"/8/ص563).
الدليل الرابع: عن أبي سلمة بن عبد الرحمن قال: سئل ابن عباس وأبو هريرة عن رجل توفي عن امرأته فوضعت قبل أن تمضي لها أربعة أشهر؟ فقال ابن عباس: تعتد آخر الأجلين. فقال أبو سلمة: فقلت: إذا وضعت حملها فقد حل أجلها. قال أبو هريرة: أنا مع ابن أخي –يعني: أبا سلمة- فأرسل ابن عباس وأبو هريرة إلى أم سلمة وهي في حجرتها، وهم في المسجد، يسألونها عن ذلك، فأخبرت أن سبيعة بنت الحارث توفي عنها زوجها فوضعت بعد وفاته بليال، فلقيها أبو السنابل بن بعكك حين تعلت من نفاسها، وقد اكتحلت ولبست، فقال: لعلك ترين أن قد حللت، إنك لا تحلين حتى تمضي لك أربعة أشهر وعشر من وفاة زوجك. فلما أمست أتت النبي صلى الله عليه و سلم فذكرت له شأنها وما قال لها أبو السنابل، فقال لها النبي صلي الله عليه وسلم: «إذا وضعت حملك فقد حل أجلك». قال: وحسبت أن النبي صلى الله عليه و سلم قال لها: «كذب أبو السنابل». (أخرجه عبد الرزاق (11723)/صحيح).
الدليل الخامس: عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: بعث النبي صلى الله عليه وسلم خالد بن الوليد إلى بني جذيمة فدعاهم إلى الإسلام فلم يحسنوا أن يقولوا: أسلمنا، فجعلوا يقولون: صبأنا صبأنا، فجعل خالد يقتل منهم ويأسر ودفع إلى كل رجل منا أسيره حتى إذا كان يوم أمر خالد أن يقتل كل رجل منا أسيره، فقلت: والله لا أقتل أسيري ولا يقتل رجل من أصحابي أسيره حتى قدمنا على النبي صلى الله عليه وسلم، فذكرناه، فرفع النبي صلى الله عليه وسلم يده فقال: «اللهم إني أبرأ إليك مما صنع خالد» مرتين. (أخرجه البخاري (4339)).
قال ابن حجر رحمه الله: وقال الخطابي: الحكمة في تبرئة صلى الله عليه و سلم من فعل خالد مع كونه لم يعاقبه على ذلك لكونه مجتهداً أن يعرف أنه لم يأذن له في ذلك خشية أن يعتقد أحد أنه كان بإذنه، ولينزجر غير خالد بعد ذلك عن مثل فعله اهـ ملخصا. ("فتح الباري"/13/ص182).
الدليل السادس: عن حديث عائشة رضي الله عنها في قصة الإفك، حين قال لها أهل الإفك ما قالوا، فدعا رسول الله صلى الله عليه وسلم علياً وأسامة حين استلبث الوحي يستأمرهما في فراق أهله. فأما أسامة فقال: أهلك، ولا نعلم إلا خيراً. وقالت بريرة: إن رأيت عليها أمراً أغمصه أكثر من أنها جارية حديثة السن تنام عن عجين أهلها فتأتي الداجن فتأكله. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من يعذرنا في رجل بلغني أذاه في أهل بيتي فوالله ما علمت من أهلي إلا خيرا ولقد ذكروا رجلا ما علمت عليه إلا خيرا». (أخرجه البخاري (2637) ومسلم (2770)).
قال الخطيب البغدادي رحمه الله في حديث الإفك: وفي استشارة النبي صلى الله عليه وسلم عليا وأسامة وسؤاله بريرة عما عندهم من العلم بأهله بيان واضح أنه لم يسألهم إلا وواجب عليهم إخباره بما يعلمون من ذلك ، فكذلك يجب على جميع من عنده علم من ناقل خبر أو حامل أثر ، ممن لا يبلغ محله في الدين محل عائشة أم المؤمنين ، ولا منزلته من رسول الله صلى الله عليه وسلم منزلتها منه –إلى قوله:- أن يبديها لمن لا علم له به ، ليكون بتحذير الناس إياه من الناصرين لدين الله ، الذابين للكذب عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فيا لها منزلة ما أعظمها ، أو مرتبة ما أشرفها ، وإن جهلها جاهل وأنكرها منكر. ("الكفاية"/1/ص 166/باب وجوب تعريف المزكي ...).
الدليل السابع: عن كعب بن مالك رضي الله قال في قصة تخلفه عن غزوة تبوك: ... ولم يذكرني رسول الله صلى الله عليه و سلم حتى بلغ تبوكاً فقال وهو جالس في القوم بتبوك: «ما فعل كعب بن مالك ؟» قال رجل من بني سلمة: يا رسول الله حبسه براده والنظر في عطفيه. فقال له معاذ بن جبل: بئس ما قلت. والله يا رسول الله ما علمنا عليه إلا خيراً. فسكت رسول الله صلى الله عليه و سلم. الحديث. (أخرجه البخاري (4418) ومسلم (2769)).
قال الإمام ابن القيم رحمه الله في قصة تخلف كعب بن مالك رضي الله عنه عن غزوة تبوك وتكلم أحد الصحابة رضي الله عنه فيه: ومنها : جواز الطعن في الرجل بما يغلب على اجتهاد الطاعن حمية أو ذبا عن الله ورسوله، ومن هذا طعن أهل الحديث فيمن طعنوا فيه من الرواة، ومن هذا طعن ورثة الأنبياء وأهل السنة في أهل الأهواء والبدع لله لا لحظوظهم وأغراضهم. ("زاد المعاد"/3 /ص501).
الدليل الثامن: في قصة كعب بن مالك رضي الله عنه أيضا: ... قال: ونهى رسول الله صلى الله عليه و سلم المسلمين عن كلامنا أيها الثلاثة من بين من تخلف عنه. قال: فاجتنبنا الناس وتغيروا لنا حتى تنكرت لي في نفسي الأرض، فما هي بالأرض التي أعرف. فلبثنا على ذلك خمسين ليلة. فأما صاحباي فاستكانا وقعدا في بيوتهما يبكيان. وأما أنا فكنت أشب القوم وأجلدهم، فكنت أخرج فأشهد الصلاة وأطوف في الأسواق ولا يكلمني أحد. الحديث. (أخرجه البخاري (4418) ومسلم (2769)).
ولا شك أن النبي صلى الله عليه وسلم ذكر أسماء هؤلاء الثلاثة عند تحذير الناس منهم لحاجة مهمة، مع عظيم مناقبهم رضي الله عنهم.
قال الإمام ابن رجب رحمه الله: وأمر النبي - صلى الله عليه وسلم - بهجرانهم لما خاف منهم النفاق. ("جامع العلوم والحكم"/الحديث الخامس والثلاثون).
وقال الإمام البغوي رحمه الله في شرح الحديث: فعلى المرء المسلم إذا رأى رجلاً يتعاطى شيئاً من الأهواء البدع معتقداً، أو يتهاون بشيء من السنن أن يهجره ويتبرأ منه، ويتركه حيا وميتاً، فلا يسلم عليه إذا لقيه ولا يجيبه إذا ابتدأ إلى أن يترك بدعته ويراجع الحق. ("شرح السنة" /للبغوي/1/ص224/ط. المكتب الإسلامي).
الدليل التاسع: عن فاطمة بنت قيس رضي الله عنها في قصة نكاحها: ... فقال رسول الله صلى الله عليه و سلم: «أما أبو جهم فلا يضع عصاه عن عاتقه وأما معاوية فصعلوك لا مال له انكحى أسامة بن زيد». فكرهته، ثم قال: «انكحى أسامة». فنكحته فجعل الله فيه خيرا واغتبطت. (أخرجه مسلم (1480)).
قال شيخ الإسلام رحمه الله: وهذان النوعان يجوز فيهما الغيبة بلا نزاع بين العلماء . أحدهما : أن يكون الرجل مظهرا للفجور، مثل : الظلم والفواحش والبدع المخالفة للسنة، فإذا أظهر المنكر، وجب الإنكار عليه بحسب القدرة، كما قال النبى صلى الله عليه وسلم : «من رأى منكم منكرا فليغيره بيده، فإن لم يستطع فبلسانه، فإن لم يستطع فبقلبه، وذلك أضعف الإيمان»([2]). رواه مسلم . وفي "المسند" و"السنن" عن أبى بكر الصديق رضى الله عنه أنه قال : أيها الناس، إنكم تقرؤون القرآن وتقرؤون هذه الآية وتضعونها على غير مواضعها ﴿يا أيها الذين آمنوا عليكم أنفسكم لا يضركم من ضل إذا اهتديتم﴾ [ المائدة : 105 ] وإنى سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : «إن الناس إذا رأوا المنكر ولم يغيروه، أوشك أن يعمهم الله بعقاب منه»([3]). فمن أظهر المنكر وجب عليه الإنكار، وأن يهجر ويذم على ذلك . فهذا معنى قولهم : من ألقى جلباب الحياء فلا غيبة له . بخلاف من كان مستترا بذنبه مستخفيا، فإن هذا يستر عليه، لكن ينصح سرا، ويهجره من عرف حاله حتى يتوب، ويذكر أمره على وجه النصيحة .
النوع الثانى : أن يستشار الرجل فى مناكحته ومعاملته أو استشهاده، ويعلم أنه لا يصلح لذلك، فينصحه مستشاره ببيان حاله، كما ثبت في الصحيح أن النبى صلى الله عليه وسلم قالت له فاطمة بنت قيس : قد خطبنى أبو جهم ومعاوية، فقال لها : «أما أبو جهم فرجل ضراب للنساء، وأما معاوية فصعلوك لا مال له»([4]). فبين النبي صلى الله عليه وسلم الخاطبين للمرأة . فهذا حجة لقول الحسن : أترغبون عن ذكر الفاجر ! اذكروه بما فيه يحذره الناس، فإن النصح فى الدين أعظم من النصح فى الدنيا، فإذا كان النبى صلى الله عليه وسلم نصح المرأة فى دنياها، فالنصيحة فى الدين أعظم .
وإذا كان الرجل يترك الصلوات، ويرتكب المنكرات، وقد عاشره من يخاف أن يفسد دينه، بين أمره له لتتقى معاشرته. وإذا كان مبتدعا يدعو إلى عقائد تخالف الكتاب والسنة، أو يسلك طريقا يخالف الكتاب والسنة، ويخاف أن يضل الرجل الناس بذلك، بين أمره للناس ليتقوا ضلاله ويعلموا حاله . وهذا كله يجب أن يكون على وجه النصح وابتغاء وجه الله تعالى لا لهوى الشخص مع الإنسان : مثل أن يكون بينهما عداوة دنيوية، أو تحاسد، أو تباغض، أو تنازع على الرئاسة، فيتكلم بمساوئه مظهرا للنصح، وقصده في الباطن الغض من الشخص واستيفاؤه منه، فهذا من عمل الشيطان و «إنما الأعمال بالنيات، وإنما لكل أمرئ ما نوى»([5])، بل يكون الناصح قصده أن الله يصلح ذلك الشخص، وأن يكفى المسلمين ضرره فى دينهم ودنياهم، ويسلك فى هذا المقصود أيسر الطرق التي تمكنه . ("مجموع الفتاوى"/28/ص219-221).
والأدلة في هذا كثيرة.
فما معنى حديث: «ومن ستر مسلما ستره الله يوم القيامة».
قال الإمام النووي رحمه الله: وأما الستر المندوب إليه هنا فالمراد به الستر على ذوي الهيئات ونحوهم ممن ليس هو معروفا بالاذى والفساد فأما المعروف بذلك فيستحب أن لا يستر عليه بل ترفع قضيته إلى ولي الأمر إن لم يخف من ذلك مفسدة لأن الستر على هذا يطمعه في الإيذاء والفساد وانتهاك الحرمات وجسارة غيره على مثل فعله هذا كله في ستر معصية وقعت وانقضت. أما معصية رآه عليها وهو بعد متلبس بها فتجب المبادرة بإنكارها عليه ومنعه منها على من قدر على ذلك، ولا يحل تأخيرها فإن عجز لزمه رفعها إلى ولي الأمر إذا لم تترتب على ذلك مفسدة. وأما جرح الرواة والشهود والأمناء على الصدقات والأوقاف والأيتام ونحوهم، فيجب جرحهم عند الحاجة، ولا يحل الستر عليهم إذا رأى منهم ما يقدح في أهليتهم، وليس هذا من الغيبة المحرمة بل من النصيحة الواجبة، وهذا مجمع عليه. ("المنهاج"/16 /ص351/دار المعرفة).
هذا الذي فهم السلف الصالح. فيجوز ذكر الأسماء لغرض صحيح شرعي.
طريقة السلف في هذا الباب:
عن سعيد بن جبير قال: قلت لابن عباس: إِنَّ نَوْفًا الْبِكَالِي يَزْعُمُ أَنَّ مُوسَى لَيْسَ بِمُوسَى بَنِي إِسْرَائِيلَ، إِنَّمَا هُوَ مُوسَى آخَرُ . فَقَالَ: كَذَبَ عَدُوُّ الله. (أخرجه البخاري (112) ومسلم (6313)).
قال ابن حجر رحمه الله: قوله: (كذب عدو الله)، قال ابن التين: لم يرد بن عباس إخراج نوف عن ولاية الله ولكن قلوب العلماء تنفر إذا سمعت غير الحق فيطلقون أمثال هذا الكلام لقصد الزجر والتحذير منه، وحقيقته غير مراده. قلت: ويجوز أن يكون بن عباس اتهم نوفا في صحة إسلامه فلهذا لم يقل في حق الحر بن قيس هذه المقالة مع تواردهما عليها. وأما تكذيبه فيستفاد منه أن للعالم إذا كان عنده علم بشيء فسمع غيره يذكر فيه شيئا بغير علم أن يكذبه. ("فتح الباري"/1/ص219).
وعن عاصم الأحول ، قال : جلست إلى قتادة فذكر عمرو بن عبيد فيه فقلت : يا أبا الخطاب ، ألا أرى العلماء يقع بعضهم في بعض ، قال : يا أحول ، ولا تدري أن الرجل إذا ابتدع بدعة فينبغي لها أن تذكر حتى تعلم. فجئت من عند قتادة ، وأنا مغتم لقوله في عمرو بن عبيد. وما رأيت من نسك عمرو بن عبيد ، وهديه ، فوضعت رأسي بنصف النهار. فإذا أنا بعمرو بن عبيد في النوم والمصحف في حجره وهو يحك آية من كتاب الله ، قلت : سبحان الله تحك آية من كتاب الله ، قال : إني سأعيدها فتركه حتى حكها ، فقلت له : أعدها ، فقال : إني لا أستطيع. ("شرح أصول اعتقاد أهل السنة والجماعة"/ للالكائي (1116)/صحيح).
وعن لحسن بن الربيع قال : قال ابن المبارك : المعلى بن هلال هو إلا أنه إذا جاء الحديث يكذب ، قال: فقال له بعض الصوفية: يا أبا عبد الرحمن تغتاب. قال: اسكت ، إذا لم نبين كيف يعرف الحق من الباطل ؟ أو نحو هذا من الكلام. (أخرجه الخطيب/"الكفاية"/رقم (93)/صحيح).
وقال أبو إسحاق إبراهيم بن عيسى الطالقاني رحمه الله: سَمِعْتُ ابْنَ الْمُبَارَكِ يَقُولُ: لَوْ خُيِّرْتُ بَيْنَ أَنْ أَدْخُلَ الْجَنَّةَ وَبَيْنَ أَنْ أَلْقَى عَبْدَ الله بْنَ مُحَرَّرٍ لاَخْتَرْتُ أَنْ أَلْقَاهُ ثُمَّ أَدْخُلَ الْجَنَّةَ، فَلَمَّا رَأَيْتُهُ كَانَتْ بَعْرَةٌ أَحَبَّ إِلَىَّ مِنْهُ. ("مقدمة صحيح مسلم"/ص104/صحيح).
وعن علي بن شقيق قال: سمعت عبدالله بن المبارك يقول على رؤوس الناس: دعوا حديث عمرو بن ثابت فإنه كان يسب السلف. ("مقدمة صحيح مسلم"/ص12/صحيح).
وقال يحيى بن السعيد القطان رحمه الله: سألت سفيان الثوري، وشعبة بن الحجاج، ومالك بن أنس، وسفيان بن عيينة عن الرجل يكون واهي الحديث يأتيني الرجل فيسألني عنه، فأجمعوا أن أقول: ليس هو بثبت، وأن أبين أمره. (الأثر صحيح، أخرجه الإمام ابن أبي حاتم (الجرح والتعديل/2/223) والخطيب البغدادي ("الكفاية" /1/ص 177-178 /دار الهدى)).
وقال أبو زرعة: سمعت أبو مسهر يسأل عن الرجل يطويهم ويصحف. فقال: بيِّن أمره. قلت لأبي مسهر: أترى ذلك من الغيبة ؟ قال: لا. ("تاريخ دمشق"/33/ص440).
وقال يحيى بن سعيد القطان رحمه الله: سألت شعبة وسفيان ومالك بن أنس وسفيان بن عيينة عن الرجل يتهم في الحديث أو لا يحفظ؟ قالوا: بين أمره للناس. (أخرجه الخطيب/"الكفاية"/رقم (81)/صحيح).
وعن محمد بن بندار السباك الجرجاني يقول: قلت لأحمد بن حنبل: إنه ليشتد علي أن أقول: فلان ضعيف، فلان كذاب، فقال أحمد : إذا سكت أنت وسكت أنا ، فمتى يعرف الجاهل الصحيح من السقيم ؟ (أخرجه الخطيب/"الكفاية"/رقم (95)/صحيح).
وعن عفان رحمه الله قال: كنت عند إسماعيل بن علية فحدث رجلٌ عن رجلٍ بحديث فقلت: لا تحدث عن هذا فإنه ليس بثبت، فقال: اغتبته. فقال إسماعيل: ما اغتابه، ولكنه حكم عليه أنه ليس بثبت اهـ. ("الجرح والتعديل"/ للإمام ابن أبي حاتم/2 / ص 23/دار الفكر/الأثر صحيح).
ذكر هذا الأثر الإمام ابن أبي حاتم الرازي رحمه الله تحت عنوان: باب وصف الرواة بالضعف وأن ذلك ليس بغيبة.
وكيف بحديث عائشة رضي الله عنها قالت: قال النبي صلى الله عليه وسلم: «لا تسبوا الأموات فإنهم قد أفضوا إلى ما قدموا». (أخرجه البخاري (1393))؟
قال العيني رحمه الله: أما في حق الفاسق أو المنافق أو الكافر وليس هذا بداخل في معنى حديث الباب. ("عمدة القاري"/13/ص174).
وقال أبو صالح الفراء رحمه الله: حكيت ليوسف بن أسباط عن وكيع شيئاً من أمر الفتن، فقال: ذاك يشبه أستاذه - يعنى الحسن بن حي. قلت ليوسف: أما تخاف أن تكون هذه غيبة ؟ فقال: لم يا أحمق ! أنا خير لهؤلاء من أمهاتهم وآبائهم، أنهى الناس أن يعملوا بما أحدثوا، فتتبعهم أوزارهم، ومن أطراهم كان أضرّ عليهم. ("الضعفاء"/1 /ص232/دار الكتب العلمية/صحيح).
وعن أبي بكر بن خلاد ، قال : قلت ليحيى بن سعيد القطان : أما تخشى أن يكون هؤلاء الذين تركت حديثهم خصماءك عند الله تعالى ؟ قال : قال : لأن يكون هؤلاء خصمائي أحب إلي من أن يكون خصمي رسول الله صلى الله عليه وسلم ، يقول : لم حدثت عني حديثا ترى أنه كذب. ("الكفاية"/للخطيب البغدادي /رقم (30)).
وذكر الإمام السخاوي رحمه الله أثر ابن القطان وغيره وقال: وحجتهم التوصل بذلك لصون الشريعة وأن حق الله ورسوله هو المقدم. ("فتح المغيث"/للسخاوي /3 /ص356).
قـال علي بن أبي خالد: قلت لأحمد بن حنبل –رحمه الله -: إنّ هذا الشيخ – لشيـخ حضر معنا – هو جاري، وقد نهيته عن رجل، ويحب أن يسمع قولك فيه: حارث القصير – يعني حارثاً المحاسبي – وكنت رأيتني معه منذ سنين كثيرة، فقلت لي: لا تـجالسه، فما تقول فيه؟ فرأيت أحمد قد احمرّ لونه، وانتفخـت أوداجه وعيناه، وما رأيتـه هكـذا قط، ثم جعل ينتفض، ويقول: ذاك؟ فعل الله به وفعل، ليـس يعـرف ذاك إلا من خَبَره وعرفه، أوّيه، أوّيه، أوّيه، ذاك لا يعرفـه إلا من قد خبره وعرفه، ذاك جالسه المغازلي ويعقوب وفلان، فأخرجهم إلى رأي جهم، هلكوا بسببه، فقال له الشيخ: يا أبا عبـد الله، يروي الحديث، ساكنٌ خاشعٌ، من قصته ومن قصته؟ فغضب أبو عبد الله، وجعـل يقول: لا يغرّك خشوعه ولِينه، ويقول: لا تغتر بتنكيس رأسه، فإنه رجل سـوء ذاك لا يعرفه إلا مـن خبره([6])، لا تكلمـه، ولا كرامة لـه، كل من حدّث بأحاديث رسول الله – صلى الله عليه وسلم- وكان مبتدعاً تجلـس إليـه؟! لا، ولا كـرامة ولا نُعْمَى عـين، وجعل يقول: ذاك، ذاك. ("طبقات الحنابلة"/1/ص 234 ).
هذا كله يدل على أهمية تعيين المذكورين لغرض صحيح.
قال شيخ الإسلام رحمه الله: فإذا كان أقوام منافقون يبتدعون بدعا تخالف الكتاب ويلبسونها على الناس ولم تبين للناس فسد أمر الكتاب وبُدّل الدين كما فسد دين أهل الكتاب قبلنا بما وقع فيه من التبديل الذي لم ينكر على أهله. وإذا كان أقوام ليسوا منافقين لكنهم سماعون للمنافقين قد التبس عليهم أمرهم حتى ظنوا قولهم حقاً وهو مخالف للكتاب وصاروا دعاة إلى بدع المنافقين كما قال تعالى: ﴿لو خرجوا فيكم ما زادوكم إلا خبالا ولأوضعوا خلالكم يبغونكم الفتنة وفيكم سماعون لهم﴾ فلا بد أيضا من بيان حال هؤلاء، بل الفتنة بحال هؤلاء أعظم فإن فيهم إيماناً يوجب موالاتهم وقد دخلوا في بدع من بدع المنافقين التي تفسد الدين فلا بد من التحذير من تلك البدع وإن اقتضى ذلك ذكرهم وتعيينهم، بل ولو لم يكن قد تلقوا تلك البدعة عن منافق لكن قالوها ظانين أنها هدى وأنها خير وأنها دين ولم تكن كذلك لوجب بيان حالها اهـ. ("مجموع الفتاوى" /28 / ص 233/إحالة/دار الوفاء).
وقال الإمام ابن رجب رحمه الله: وأما إذا كان مرادُ الرادِّ بذلك إظهارَ عيب من ردَّ عليه وتنقصَه وتبيينَ جهله وقصوره في العلم ونحو ذلك كان محرماً سواء كان ردُّه لذلك في وجه من ردِّ عليه أو في غيبته، وسواء كان في حياته أو بعد موته، وهذا داخل فيما ذمَّه الله تعالى في كتابه وتوعد عليه في الهمز واللمز وداخل أيضاً في قول النبي صلى الله عليه وسلم: «يا معشر من آمن بلسانه ولم يؤمن بقلبه لا تؤذوا المسلمين ولا تتبعوا عوراتهم فإنه من يتبع عوراتهم يتبع الله عورته ومن يتبع الله عورته يفضحه ولو في جوف بيته». وهذا كله في حق العلماء المقتدى بهم في الدين. فأما أهل البدع والضلالة ومن تشبه بالعلماء وليس منهم فيجوز بيان جهلهم وإظهار عيوبهم تحذيراً من الاقتداء بهم. اهـ. ("الفرق بين النصيحة والتعيير"/ص 7).
ومن أكبر الأدلة على فهم السلف في هذا الباب كتبهم في الجرح والتعديل، فإنها مليئة بذكر الأشخاص جرحاً وتعديلاً، كـ: "العلل ومعرفة الرجال" للإمام أحمد، و"تاريخ ابن معين"، و"تواريخ البخاري"، و"الجرح والتعديل" لابن أبي حاتم، و"طبقات النسائي"، و"الضعفاء الكبير" للعقيلي، و"الكامل في الضعفاء" لابن عدي، و"المجروحين" لابن حبان، و"تاريخ بغداد" للخطيب البغدادي، و"تاريخ دمشق" لابن عساكر، و"تهديب الكمال" للمزي، و"ميزان الاعتدال" للدهبي، وغير ذلك كثير.
فهل يقال إن هؤلاء السلف يغتابون آلاف الناس؟ بل هم حماة الإسلام وحراس الشريعة، يضحّون أنفسهم لصيانة الدين.
قال الخطيب البغدادي رحمه الله: فقد جعل رب العالمين الطائفة المنصورة حراس الدين ، وصرف عنهم كيد المعاندين ؛ لتمسكهم بالشرع المتين ، واقتفائهم آثار الصحابة والتابعين . فشأنهم حفظ الآثار وقطع المفاوز والقفار ، وركوب البراري والبحار في اقتباس ما شرع الرسول المصطفى ، لا يعرجون عنه إلى رأي ولا هوى . قبلوا شريعته قولا وفعلا ، وحرسوا سنته حفظا ونقلا حتى ثبتوا بذلك أصلها ، وكانوا أحق بها وأهلها . وكم من ملحد يروم أن يخلط بالشريعة ما ليس منها . والله تعالى يذب بأصحاب الحديث عنها . فهم الحفاظ لأركانها والقوامون بأمرها وشأنها . إذا صدف عن الدفاع عنها فهم دونها يناضلون ، ﴿أولئك حزب الله ألا إن حزب الله هم المفلحون﴾. ("شرف أصحاب الحديث"/ص 10).
وقال الإمام الذهبي رحمه الله: فوالله لولا الحفاظ الاكابر، لخطبت الزنادقة على المنابر. ("سير أعلام النبلاء"/11/ص82).
فذكر الأسماء لحاجة شرعية جائز، وقد يكون مستحباً بل واجباً، وليس من الغيبة المحرمة.
وفي مقدمة "صحيح الإمام مسلم رحمه الله": باب بيان أن الإسناد من الدين وأن الرواية لا تكون إلا عن الثقات وأن جرح الرواة بما هو فيهم جائز بل واجب وأنه ليس من الغيبة المحرمة بل من الذب عن الشريعة المكرمة اهـ. ("صحيح مسلم" /1 / ص 199-200/المنهاج/مكتبة المعارف).
وقال الإمام النووي رحمه الله في شرح حديث الغيبة: تباح الغيبة لغرض شرعي، وذلك لستة أسباب، أحدها: التظلم فيجوز للمظلوم أن يتظلم الي السلطان والقاضي وغيرهما ممن له ولاية، أو قدرة على إنصافه من ظالمه فيقول: (ظلمني فلان أو فعل بي كذا). الثاني: الاستغاثة على تغيير المنكر ورد العاصي إلى الصواب فيقول لمن يرجو قدرته: (فلان يعمل كذا فازجره عنه) ونحو ذلك. الثالث: الاستفتاء بأن يقول للمفتي: (ظلمني فلان أو أبي أو أخي أو زوجي بكذا، فهل له ذلك؟ وما طريقي في الخلاص منه ودفع ظلمه عني؟) ونحو ذلك، فهذا جائز للحاجة. والأجود أن يقول في رجل أو زوج أو والد وولد كان من أمره كذا. ومع ذلك فالتعيين جائز لحديث هند وقولها: (إن أبا سفيان رجل شحيح). الرابع: تحذير المسلمين من الشر وذلك من وجوه منها جرح المجروحين من الرواة والشهود والمصنفين، وذلك جائز بالإجماع بل واجب صوناً للشريعة. ومنها الإخبار بعيبه عند المشاورة في مواصلته. ومنها إذا رأيت من يشتري شيئاً معيباً أو عبداً سارقاً أو زانياً أو شارباً أو نحو ذلك، تذكره للمشتري إذا لم يعلمه نصيحة، لا بقصد الإيذاء والإفساد. ومنها إذا رأيت متفقهاً يتردد إلى فاسق أو مبتدع يأخذ عنه علماً وخفت عليه ضرره، فعليك نصيحته ببيان حاله قاصداً النصيحة. ومنها أن يكون له ولاية لا يقوم بها على وجهها لعدم أهليته أو لفسقه، فيذكره لمن له عليه ولاية ليستدل به على حاله، فلا يغتر به، ويلزم الاستقامة. الخامس: أن يكون مجاهراً بفسقه أو بدعته كالخمر ومصادرة الناس وجباية المكوس وتولي الأمور الباطلة فيجوز ذكره بما يجاهر به ولا يجوز بغيره إلا بسبب آخر. السادس: التعريف فإذا كان معروفاً بلقب كالأعمش والأعرج والأزرق والقصير والأعمى والأقطع ونحوها جاز تعريفه به، ويحرم ذكره به تنقصاً، ولو أمكن التعريف بغيره كان أولى. والله اعلم. ("المنهاج"/ 16 / ص 379/مكتبة المعارف).
الباب الخامس: لا بد من العلم في التورع
إن بعض الناس يريدون الخير ويخافون الشر، فيتورعون عن أشياء. ولا شك أن الورع يحتاج إلى العلم الشرعي حتى لا يقع في التقصير ولا الغلو، ولا يخطئ المصيب ولا يصوّب المخطئ.
قال شيخ الإسلام رحمه الله: الورع المشروع هو ترك ما قد يضر في الدار الآخرة، وهو ترك المحرمات والشبهات التي لا يستلزم تركها ترك ما فعله أرجح منها كالواجبات. فأما ما ينفع في الدار الآخرة بنفسه أو يعين على ما ينفع في الدار الآخرة فالزهد فيه ليس من الدين. ("مجموع الفتاوى"/10/ص21).
وقد بينا بأدلة الكتاب والسنة وأقوال السلف أن تعيين الأسماء والأشخاص لحاجة شرعية جائز أو مستحب أو واجب، لنصرة الحق ودحض الأباطيل ، فكل ذلك ينفع العبد –بل جميع الأمة- في الدنيا والآخرة. وترك ذلك ضرر عظيم ومحرّم. والعلم الشرعي هو الهادي إلى الصراط المستقيم.
قال الإمام ابن تيمية رحمه الله: ولهذا يحتاج المتدين المتورع إلى علم كثير بالكتاب والسنة والفقه في الدين وإلا فقد يفسد تورعه الفاسد أكثر مما يصلحه كما فعله الكفار وأهل البدع من الخوارج والروافض وغيرهم . –إلى قوله:- وقد تبين أن من جعل الورع الترك فقط وأدخل في هذا الورع أفعال قوم ذوي مقاصد صالحة بلا بصيرة من دينهم وأعرض عما فوتوه بورعهم من الحسنات الراجحة، فإن الذى فاته من دين الإسلام أعظم مما أدركه فإنه قد يعيب أقواما هم إلى النجاة والسعادة أقرب . وهذه القاعدة منفعتها لهذا الضرب وأمثاله كثيرة، فإنه ينتفع بها أهل الورع الناقص أو الفاسد؛ وكذلك أهل الزهد الناقص أوالفاسد فإن الزهد المشروع الذي به أمر الله ورسوله هو عدم الرغبة فيما لا ينفع من فضول المباح، فترك فضول المباح الذى لا ينفع في الدين زهد وليس بورع. ("مجموع الفتاوى"/20 /ص141-142).
فأئمتنا المحدثون الثقات والقضاة السلفيون قاموا بهذه الأعمال الجليلة ووقفوا على الحدود الشرعية بتوفيق الله والنور الذي وهبه الله لهم. بخلاف الجهال وأهل الأهواء فإن كثيرا منهم يقعون في حفرة أعراض المسلمين والصالحين لجهلهم وهواهم.
قال ابن دقيق العيد رحمه الله: أعراض المسلمين حفرة من حفر النار ، وقف على شفيرها طائفتان من الناس : المحدثون والحكام . ("الاقتراح"/لابن دقيق العيد /ص 34).
فالكتاب والسنة مع فهم السلف هي الحاكم على المسألة، فلا يجوز لأحد أن يقدم رأيه ولا ذوقه عليها. قال الله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ وَلَا تَجْهَرُوا لَهُ بِالْقَوْلِ كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ أَنْ تَحْبَطَ أَعْمَالُكُمْ وَأَنْتُمْ لَا تَشْعُرُونَ﴾ [الحجرات/2].
قال الإمام ابن القيم رحمه الله: فإذا كان رفع أصواتهم فوق صوته سببًا لحبوط أعمالهم فكيف تقديم آرائهم، وعقولهم، وأذواقهم، وسياستهم، ومعارفهم على ما جاء به، ورفعها عليه؟ أليس هذا أولى أن يكون محبطاً لأعمالهم؟! ("إعلام الموقعين"/النهي عن التقدم بين يدي الله ورسوله/1/ص 49).
والله تعالى أعلم، والحمد لله رب العالمين.
18 رجب 1435 هـ.
([1]) سنده حسن. وله شاهد أخرجه الإمام أحمد بن حنبل في مسنده (4 / ص 420) عن أبي برزة رضي الله عنه، وفي سنده سعيد بن عبد الله بن جريج وهو مجهول الحال. فالحديث جيد.
([2]) أخرجه مسلم (49) عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه.
([3]) أخرجه الإمام أحمد (16) وأبو داود (4338) والترمذي (2168) وصححه الإمام الوادعي رحمه الله في "الصحيح المسند مما ليس في الصحيحين" (707).
([4]) أخرجه مسلم (1480) عن فاطمة بنت قيس رضي الله عنها.
([5]) أخرجه البخاري (1) ومسلم (1907) عن عمر رضي الله عنه.
([6]) قال الإمام محمد بن إبراهيم الوزير رحمه الله: ومن علم حجّة على من جهل. ("الروض الباسم"/1 / ص 142).
وقال الحافظ ابن حجر رحمه الله: ومن علم حجة على من لم يعلم. ("فتح الباري" / تحت حديث (3585)).
(عفوا، النت هذا المساء عندي ضعيف فعجزت عن رفع الملف على صيغة بي دي إف. حفظكم الله جميعا).