((بعض الحكم والغايات المحمودة التى كانت فى وقعة أُحُد))
الحمد لله رب العالمين والعاقية للمتقين ولا عدوان إلا على الظالمين وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لاشريك له وأشهد أن محمدا عبده ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليما كثيراً .
أما بعد؛ فقد ذكر العلامة ابن القيم (رحمه الله) في كتابه الماتع (زاد المعاد في هدي خير العباد) فصلاً ماتعاً عقبَ غزوة أحد أحببتُ أنْ أُسليَ به أهلَ السنةِ فيما حصلَ لهم في حرب الروافض الأشرار،ورداً على كلِّ شامتٍ ومخذِّلٍ وحاسدٍ ؛ وهاهو دونكم :
قال رحمه الله تعالى:
" فصل: فى ذكر بعضِ الحكم والغايات المحمودة التى كانت فى وقعة أُحُد
وقد أشار اللهُ سبحانه وتعالى إلى أُمهاتِها وأُصولها فى سورة "آل عمران" حيث افتتح القصة بقوله: {وَإذْ غَدَوْتَ مِنْ أَهْلِكَ تُبَوِّئُ المُؤْمِنينَ مَقَاعِدَ لِلْقِتَالِ} [آل عمران: 121] إلى تمام ستين آية.
فمنها: تعريفُهم سوءَ عاقبة المعصية، والفَشَل، والتنازُعِ، وأن الذى أصابَهم إنما هو بِشُؤمِ ذلِكَ، كما قال تعالى: {وَلَقَدْ صَدَقَكُمُ اللهُ وَعْدَهُ إذْ تَحُسُّونَهُم بِإذْنِهِ، حَتَّى إذَا فَشِلْتُمْ وتَنَازَعْتُمْ فِى الأَمْرِ وَعَصَيْتُم مِّنْ بَعْدِ مَا أَرَاكُم مَّا تُحِبُّونَ، مِنْكُم مَّن يُرِيدُ الدُّنْيَا وَمِنْكُم مَّن يُرِيدُ الآخِرَةَ،
ثُمَّ صَرَفَكُمْ عَنْهُمْ لِيَبْتَلِيَكُمْ، وَلَقَدْ عَفَا عَنْكُمْ} [آل عمران: 152].
فلما ذاقُوا عاقبةَ معصيتهِم للرسول، وتنازعهم، وفشلهم، كانُوا بعد ذلك أشدَّ حذراً ويقظة، وتحرُّزاً مِن أسبابِ الخِذلان.
ومنها: أن حِكمة الله وسُنَّته فى رُسله، وأتباعِهم، جرت بأن يُدَالوا مَرَّةً، ويُدَالَ عليهم أُخرى، لكن تكونُ لهم العاقبةُُ، فإنهم لو انتصرُوا دائماً، دخلَ معهم المؤمنون وغيرُهم، ولم يتميَّز الصَّادِقُ مِن غيره، ولو انتُصِرَ عليهم دائماً، لم يحصل المقصودُ من البعثة والرسالة، فاقتضت حِكمة الله أن جمع لهم بينَ الأمرين ليتميز مَن يتبعُهم ويُطيعهُم للحق، وما جاؤوا به ممن يتبعُهم على الظهور والغلبة خاصة.
ومنها: أن هذا مِن أعلام الرسل، كما قال هِرَقْلُ لأبى سفيان:
هَلْ قَاتَلْتُمُوهُ ؟ قال: نعم. قَالَ: كَيْفَ الحَرْبُ بَيْنَكُم وبَيْنَه ؟ قالَ: سِجَال، يُدالُ علينا المرة، ونُدالُ عليه الأخرى. قال: كَذلِكَ الرُّسُل تُبْتَلَى، ثُمَّ تَكُونُ لَهُمُ العَاقِبَة.
ومنها: أن يتميَّز المؤمنُ الصَّادِقُ مِن المنافقِ الكاذبِ، فإنَّ المسلمين لما أظهرهم الله على أعدائهم يومَ بدر، وطار لهم الصِّيتُ، دخل معهم فى الإسلام ظاهراً مَنْ ليس معهم فيه باطناً، فاقتضت حِكمةُ اللهِ عَزَّ وجَلَّ أن سَبَّبَ لعباده مِحْنَةً ميَّزت بين المؤمن والمنافق، فأَطْلَعَ المنافقون رُؤوسَهم فى هذه الغزوة، وتكلَّموا بما كانوا يكتُمونه، وظهرت مُخَبَّآتُهم، وعاد تلويحُهم تصريحاً، وانقسم الناسُ إلى كافر، ومؤمن، ومنافق، انقساماً ظاهراً، وعَرَفَ المؤمنون أن لهم عدواً فى نفس دُورهم، وهم معهم لا يُفارقونهم، فاستعدُّوا لهم، وتحرَّزوا منهم. قال تعالى: {مَا كَانَ اللهُ لِيَذَرَ المُؤْمِنِينَ عَلَى مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ حَتَّى يَمِيزَ الخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ، وَمَا كَانَ اللهُ لِيُطْلِعَكُمْ عَلَى الغَيْبِ وَلَكِنَّ اللهَ يَجْتَبِى مِن رُّسُلِهِ مَن يَشَاءُ} [آل عمران: 179]. أى: ما كان اللهُ ليذركم على ما أنتم عليه من التباسِ المؤمنين بالمنافقين، حتى يميزَ أهلَ الإيمانِ مِن أهل النفاق، كما ميَّزهم بالمحنة يومَ أُحُد، وما كان الله لِيُطلعكم على الغيب الذى يَمِيزُ به بينَ هؤلاء وهؤلاء، فإنهم متميِّزون فى غيبه وعلمه، وهو سبحانه يُريد أن يميزهم تمييزاً مشهوداً، فيقع معلومهُ الذى هو غيبٌ شهادةً. وقوله: {وَلَكِنَّ اللهَ يَجْتَبِى مِن رُّسُلِهِ مَن يَشَاءُ} [آل عمران: 179] استدراك لما نفاه من اطلاع خلقه على الغيب، سوى الرسلِ، فإنه يُطلعهم على ما يشاء مِن غيبه، كما قال: {عَالِمُ الْغَيْبِ فَلا يُظْهِرُ عَلَى غَيْبِهِ أَحَداً إلاَّ مَنِ ارْتَضَى مِن رَّسُولٍ} [الجن: 26-27] فحظكم أنتم وسعادتكم فى الإيمان بالغيبِ الذى يُطْلِعُ عليه رسله، فإن آمنتم به وأيقنتم، فلكم أعظمُ الأجر والكرامة.
ومنها: استخراجُ عبوديةِ أوليائه وحزبِه فى السَّراء والضرَّاء، وفيما يُحبُّون وما يكرهون، وفى حال ظفرهم وظفر أعدائهم بهم، فإذا ثبتُوا على الطاعة والعبودية فيما يُحبون وما يكرهون، فهم عبيدهُ حقاً، وليسوا كمن يعبد الله على حرف واحد مِن السَّراء والنعمة والعافية.
ومنها: أنه سبحانه لو نصرهم دائماً، وأظفرهم بعدوِّهم فى كُلِّ موطن، وجعل لهم التَّمْكِينَ والقهرَ لأعدائهم أبداً، لطغتْ نفوسُهم، وشمخت وارتفعت، فلو بسط لهم النصرَ والظفرَ، لكانُوا فى الحال التى يكونون فيها لو بَسَطَ لهم الرِّزْقَ، فلا يُصْلِحُ عِباده إلا السَّراءُ والضَّراءُ، والشدةُ والرخاءُ، والقبضُ والبسطُ، فهو المدبِّرُ لأمر عباده كما يليقُ
بحكمته، إنه بهم خبير بصير.
ومنها: أنه إذا امتحنهم بالغَلَبَةِ، والكَسْرَةِ، والهزيمة، ذلُّوا وانكسَروا، وخضعُوا، فاستوجبوا منه العِزَّ والنَّصْرَ، فإن خِلعة النصر إنما تكونُ مع ولاية الذُّلِّ والانكسارِ، قال تعالى: {وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ اللهُ بِبَدْرٍ وَأَنْتُمْ أَذِلَّةٌ} [آل عمران: 123]، وقال: {وَيَوْمَ حُنَيْنٍ إذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ فَلَمْ تُغْنِ عَنْكُم شَيْئاً} [التوبة: 25]، فهو سبحانه إذا أراد أن يُعِزَّ عبدَه، ويجبُرَه، وينصُرَه، كسره أوَّلاً، ويكونُ جبرُه له ونصره، على مِقدار ذُلِّه وانكساره.
ومنها: أنه سبحانه هيَّأ لعباده المؤمنين منازِلَ فى دار كرامته، لم تبلُغْها أعمالهم، ولم يكونوا بالغيها إلا بالبلاء والمحنةِ، فقيَّض لهم الأسبابَ التى تُوصِلُهُم إليها من ابتلائه وامتحانه، كما وفقهم للأعمال الصالحة التى هى من جملة أسباب وصولهم إليها.
ومنها: أن النفوسَ تكتسِبُ من العافية الدائمة والنصر والغنى طغياناً ورُكوناً إلى العاجلة، وذلك مرض يَعُوقُها عن جِدِّها فى سيرها إلى الله والدارِ الآخرة، فإذا أراد بها ربُّهَا ومالِكُهَا وراحِمُهَا كرامته، قيَّض لها من الابتلاء والامتحان ما يكون دواء لذلك المرض العائق عن السير الحثيث إليه، فيكون ذلك البلاء والمحنة بمنزلة الطبيب يسقى العليلَ الدواءَ الكريه، ويقطع منه العروقَ المؤلمةَ لاستخراج الأدواء منه، ولو تركه، لَغَلَبَتْهُ الأدواءُ حتى يكون فيها هلاكه.
ومنها: أن الشهادة عنده من أعلى مراتب أوليائه، والشهداء هم خواصه والمقرَّبون من عباده، وليس بعد درجة الصِّدِّيقيَّة إلا الشهادةُ، وهو سبحانه يُحب أن يتّخِذَ مِن عباده شهداءَ، تُراقُ دماؤهم فى محبته ومرضاته، ويُؤْثرونَ رضاه ومحابَّه على نفوسهم، ولا سبيلَ إلى نيل هذه الدرجة إلا بتقدير الأسباب المفضية إليها من تسليط العدو.
ومنها: أن الله سبحانه إذا أراد أن يهلك أعداءه ويمحقهم، قيض لهم الأسباب التي يستوجبون بها هلاكهم ومحقهم، ومن أعظمها بعد كفرهم بغيهم، وطغيانهم، ومبالغتهم في أذي أوليائه، ومحاربتهم، وقتالهم، والتسلط عليهم، فيتمحص بذلك أولياؤه من ذنوبهم وعيوبهم، ويزداد بذلك أعداؤه من أسباب محقهم وهلاكهم.
وقد ذكر سبحانه وتعالى ذلك فى قوله: { وَلا تَهِنُواْ وَلا تَحْزَنُواْ وَأَنتُمُ الأَعْلَوْنَ إن كُنْتُم مُّؤْمِنِينَ إن يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ القَوْمَ قَرْحٌ مِثْلُهُ، وَتِلْكَ الأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا ويَتَّخِذَ مِنكُمْ شُهَدَاءَ، وَاللهُ لا يُحِبُّ الظَّالِمينَ ولِيُمَحِّصَ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَمْحَقَ الْكَافِرِينَ} [آل عمران: 139-141]، فجمع لهم فى هذا الخطاب بين تشجيعهم وتقوية نفوسهم، وإحياء عزائمهم وهِممهم، وبينَ حُسنِ التسلية، وذكر الحِكمِ الباهِرَة التى اقتضت إدالة الكفار عليهم فقال: {إن يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ القَوْمَ قَرْحٌ مِثْلُهُ} [آل عمران: 140]، فقد استويتُم فى القرح والألَمِ، وتباينتم فى الرجاء والثواب، كما قال: {إِن تَكُونُواْ تَأَلَمُونَ فَإنَّهُمْ يَأْلَمُونَ كَمَا تَألَمُونَ، وَتَرْجُونَ مِنَ اللهِ مَا لاَ يَرْجُونَ} [النساء: 104]، فما بالكم تَهِنُونَ وتضعُفُون عند القرحِ والألم، فقد أصابهم ذلك فى سبيلِ الشيطان، وأنتم أُصِبتم فى سبيلى وابتغاء مرضاتى.
ثم أخبرَ أنه يُدَاوِلُ أيامَ هذه الحياة الدنيا بين الناسِ، وأنها عَرَضٌ حاضِر، يقسمها دُوَلاً بين أوليائه وأعدائِهِ بخلاف الآخِرةِ، فإن عزَّها ونصرَها ورجاءَها خالصٌ للذين آمنُوا.
ثم ذكر حِكمة أُخرى، وهى أن يتميَّزَ المؤمنون من المنافقين، فيعلمُهم عِلْمَ رؤية ومشاهدة بعد أن كانوا معلومِين فى غيبه، وذلك العلم الغيبى لا يترتَّب عليه ثوابٌ ولا عقاب، وإنمَّا يترتب الثوابُ والعقابُ على المعلوم إذا صار مشاهداً واقعاً فى الحسِ.
ثم ذكر حكمة أُخرى، وهى اتخاذُه سبحانه منهم شهداء، فإنه يُحبُّ الشهداء من عباده، وقد أعَدَّ لهم أعلى المنازل وأفضلَها، وقد اتخذهم لنفسه، فلا بدَّ أن يُنِيلَهم درجة الشهادة.
وقوله: {واَللهُ لاَ يُحِبُّ الظَّالِمِينَ} [آل عمران: 57]، تنبيه لطيفٌ الموقِع جداً على كراهته وبغضه للمنافقين الذين انخَذَلُوا عن نبيه يومَ أُحُد، فلم يشهدوه، ولم يَتَّخِذْ منهم شهداء، لأنه لم يُحبهم، فأركَسَهم وردَّهُم لِيَحْرِمَهُم ما خصَّ به المؤمنين فى ذلكَ اليوم، وما أعطاهُ مَن استُشهِدَ منهم، فثبط هؤلاء الظالمين عن الأسباب التى وفق لها أولياءَهُ وحِزبه.
ثم ذكر حِِكمة أُخرى فيما أصابهم ذلك اليوم، وهو تمحيص الذين آمنوا، وهو تنقيتُهم وتخليصُهم من الذنوب، ومن آفاتِ النفوس، وأيضاً فإنه خلَّصهم ومحَّصهم من المنافقين، فتَمَيَّزوا منهم، فحصل لهم تمحيصان: تمحيص من نفوسهم، وتمحيص ممن كان يُظهِرُ أنه منهم، وهو عدوُّهم.
ثم ذكر حكمة أخرى، وهى محقُّ الكافرين بطغيانهم، وبغيهم، وعُدوانهم، ثم أنكر عليهم حُسبانَهم، وظنَّهُم أن يدخلُوا الجنَّة بدون الجهاد فى سبيله، والصبرِ على أذى أعدائه، وإن هذا ممتنع بحيثُ يُنْكَرُ على مَن ظنه وحَسِبَه.
فقال: {أَمْ حَسِبْتُمْ أَن تَدْخُلُواْ الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَعْلَمِ اللهُ الَّذِينَ جَاهَدُواْ مِنكُمْ ويَعْلَمَ الصَّابِرِينَ} [آل عمران: 142]، أى: ولما يَقَعْ ذلِكَ منكم، فيعلمه، فإنه لو وقع، لعلمه، فجازاكم عليه بالجنة، فيكونَ الجزاء على الواقع المعلوم، لا على مجرد العلم، فإن الله لا يجزى العبدَ على مجرد علمه فيه دون أن يقعَ معلومُه، ثم وبَّخهم على هزيمتهم مِن أمر كانوا يتمنَّونه ويودُّون لِقاءه.
فقال: {وَلَقَدْ كُنْتُمْ تَمَنَّوْنَ الْمَوْتَ مِن قَبْلِ أَن تَلْقَوْهُ فَقَدْ رَأَيْتُمُوهُ وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ} [آل عمران: 143].
قال ابن عباس: ولما أخبرهم الله تعالى على لسان نبيه بما فعل بشهداء بدر من الكرامة، رغبوا فى الشهادة، فتمنوا قتالاً يستشهِدُونَ فيه، فيلحقُونَ إخوانَهم، فأراهم الله ذلك يوم أُحُد، وسبّبه لهم، فلم يَلْبَثُوا أن انهزموا إلا مَن شاء الله منهم، فأنزل الله تعالى: {ولَقَدْ كُنْتُم تَمَنَّوْنَ المَوْتَ مِن قَبْلِ أَن تَلْقَوْهُ فَقَدْ رَأَيْتُمُوهُ وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ} [آل عمران: 143].
ومنها: أن وقعةَ أُحُدٍ كانت مُقَدِّمَةً وإرهاصاً بين يدى موتِ رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فثبَّتهم، ووبَّخهم على انقلابهم على أعقابهم أَنْ ماتَ رسولُ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، أو قُتِلَ، بل الواجبُ له عليهم أن يثبتُوا على دِينه وتوحِيدهِ ويموتوا عليه، أو يُقتلُوا، فإنهم إنما يعبدُون ربَّ محمد، وهو حىٌ لا يموت، فلو ماتَ محمد أو قُتِلَ، لا ينبغى لهم أن يَصْرِفَهم ذلِكَ عن دينه، وما جاء به، فكلُّ نفسٍ ذائِقةُ الموت، وما بُعِثَ محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِيخلَّد لا هُوَ ولا هُم، بل لِيمُوتُوا على الإسلامِ والتَّوحيدِ، فإن الموت لا بُدَّ منه، سواء ماتَ رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أو بَقِىَ، ولهذا وبَّخَهُم على رجوع مَن رجع منهم عن دينه لما صرخ الشَّيْطَانُ: إنَّ محمداً قد قُتِلَ، فقال: {وَمَا مُحَمَّدٌ إلاَّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ، أَفَإن مَّاتَ أوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ، وَمَن يَنْقَلِبْ عَلَى عَقِبَيْهِ فَلَن يَضُرَّ اللهَ شَيْئاً، وَسَيَجْزِى اللهُ الشَّاكِرِينَ} [آل عمران: 144]، والشاكرون: هم الذين عرفوا قدر النعمة، فثبتوا عليها حتى ماتوا أو قُتِلُوا، فظهر أثرُ هذا العِتَابِ، وحكمُ هذا الخطاب يومَ مات رسولُ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وارتدَّ مَن ارتدَّ على عقبيه، وثبت الشاكِرُون على دينهم، فنصرهم الله وأعزَّهم وظفَّرهم بأعدائهم، وجعل العاقبة لهم
ثم أخبر سبحانه أنه جعل لكل نفس أجلاً لا بُدَّ أن تستوفيه، ثم تلحَقَ به، فيَرِدُ الناسُ كُلُّهم حوضَ المنايا مَوْرِداً واحِداً، وإن تنوَّعت أسبابه، ويصدُرونَ عن موقف القِيامة مصادِرَ شتَّى، فريقٌ فى الجنة وفريقٌ فى السعير،ثم أخبر سبحانه أن جماعةً كثيرةً من أنبيائه قُتِلُوا وقُتِلَ معهم أتباعٌ لهم كثيرون، فما وَهَنَ مَنْ بقىَ منهم لِما أصابهم فى سبيله، وما ضَعُفُوا، وما استكانُوا، وما وَهَنُوا عندَ القتل، ولا ضعفُوا، ولا استكانوا، بل تَلَقَّوا الشهادةَ بالقُوَّةِ، والعزِيمةِ، والإقْدَامِ، فلم يُسْتَشْهَدُوا مُدَبِرِينَ مستكينين أذلةً، بل استُشْهِدُوا أعزَّةً كِراماً مقبلينَ غير مدبرين، والصحيح: أن الآية تتناول الفريقين كليهما."أهـ
كلامه بنصه وحرفه رحمه الله تعالى!
الحمد لله رب العالمين والعاقية للمتقين ولا عدوان إلا على الظالمين وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لاشريك له وأشهد أن محمدا عبده ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليما كثيراً .
أما بعد؛ فقد ذكر العلامة ابن القيم (رحمه الله) في كتابه الماتع (زاد المعاد في هدي خير العباد) فصلاً ماتعاً عقبَ غزوة أحد أحببتُ أنْ أُسليَ به أهلَ السنةِ فيما حصلَ لهم في حرب الروافض الأشرار،ورداً على كلِّ شامتٍ ومخذِّلٍ وحاسدٍ ؛ وهاهو دونكم :
قال رحمه الله تعالى:
" فصل: فى ذكر بعضِ الحكم والغايات المحمودة التى كانت فى وقعة أُحُد
وقد أشار اللهُ سبحانه وتعالى إلى أُمهاتِها وأُصولها فى سورة "آل عمران" حيث افتتح القصة بقوله: {وَإذْ غَدَوْتَ مِنْ أَهْلِكَ تُبَوِّئُ المُؤْمِنينَ مَقَاعِدَ لِلْقِتَالِ} [آل عمران: 121] إلى تمام ستين آية.
فمنها: تعريفُهم سوءَ عاقبة المعصية، والفَشَل، والتنازُعِ، وأن الذى أصابَهم إنما هو بِشُؤمِ ذلِكَ، كما قال تعالى: {وَلَقَدْ صَدَقَكُمُ اللهُ وَعْدَهُ إذْ تَحُسُّونَهُم بِإذْنِهِ، حَتَّى إذَا فَشِلْتُمْ وتَنَازَعْتُمْ فِى الأَمْرِ وَعَصَيْتُم مِّنْ بَعْدِ مَا أَرَاكُم مَّا تُحِبُّونَ، مِنْكُم مَّن يُرِيدُ الدُّنْيَا وَمِنْكُم مَّن يُرِيدُ الآخِرَةَ،
ثُمَّ صَرَفَكُمْ عَنْهُمْ لِيَبْتَلِيَكُمْ، وَلَقَدْ عَفَا عَنْكُمْ} [آل عمران: 152].
فلما ذاقُوا عاقبةَ معصيتهِم للرسول، وتنازعهم، وفشلهم، كانُوا بعد ذلك أشدَّ حذراً ويقظة، وتحرُّزاً مِن أسبابِ الخِذلان.
ومنها: أن حِكمة الله وسُنَّته فى رُسله، وأتباعِهم، جرت بأن يُدَالوا مَرَّةً، ويُدَالَ عليهم أُخرى، لكن تكونُ لهم العاقبةُُ، فإنهم لو انتصرُوا دائماً، دخلَ معهم المؤمنون وغيرُهم، ولم يتميَّز الصَّادِقُ مِن غيره، ولو انتُصِرَ عليهم دائماً، لم يحصل المقصودُ من البعثة والرسالة، فاقتضت حِكمة الله أن جمع لهم بينَ الأمرين ليتميز مَن يتبعُهم ويُطيعهُم للحق، وما جاؤوا به ممن يتبعُهم على الظهور والغلبة خاصة.
ومنها: أن هذا مِن أعلام الرسل، كما قال هِرَقْلُ لأبى سفيان:
هَلْ قَاتَلْتُمُوهُ ؟ قال: نعم. قَالَ: كَيْفَ الحَرْبُ بَيْنَكُم وبَيْنَه ؟ قالَ: سِجَال، يُدالُ علينا المرة، ونُدالُ عليه الأخرى. قال: كَذلِكَ الرُّسُل تُبْتَلَى، ثُمَّ تَكُونُ لَهُمُ العَاقِبَة.
ومنها: أن يتميَّز المؤمنُ الصَّادِقُ مِن المنافقِ الكاذبِ، فإنَّ المسلمين لما أظهرهم الله على أعدائهم يومَ بدر، وطار لهم الصِّيتُ، دخل معهم فى الإسلام ظاهراً مَنْ ليس معهم فيه باطناً، فاقتضت حِكمةُ اللهِ عَزَّ وجَلَّ أن سَبَّبَ لعباده مِحْنَةً ميَّزت بين المؤمن والمنافق، فأَطْلَعَ المنافقون رُؤوسَهم فى هذه الغزوة، وتكلَّموا بما كانوا يكتُمونه، وظهرت مُخَبَّآتُهم، وعاد تلويحُهم تصريحاً، وانقسم الناسُ إلى كافر، ومؤمن، ومنافق، انقساماً ظاهراً، وعَرَفَ المؤمنون أن لهم عدواً فى نفس دُورهم، وهم معهم لا يُفارقونهم، فاستعدُّوا لهم، وتحرَّزوا منهم. قال تعالى: {مَا كَانَ اللهُ لِيَذَرَ المُؤْمِنِينَ عَلَى مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ حَتَّى يَمِيزَ الخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ، وَمَا كَانَ اللهُ لِيُطْلِعَكُمْ عَلَى الغَيْبِ وَلَكِنَّ اللهَ يَجْتَبِى مِن رُّسُلِهِ مَن يَشَاءُ} [آل عمران: 179]. أى: ما كان اللهُ ليذركم على ما أنتم عليه من التباسِ المؤمنين بالمنافقين، حتى يميزَ أهلَ الإيمانِ مِن أهل النفاق، كما ميَّزهم بالمحنة يومَ أُحُد، وما كان الله لِيُطلعكم على الغيب الذى يَمِيزُ به بينَ هؤلاء وهؤلاء، فإنهم متميِّزون فى غيبه وعلمه، وهو سبحانه يُريد أن يميزهم تمييزاً مشهوداً، فيقع معلومهُ الذى هو غيبٌ شهادةً. وقوله: {وَلَكِنَّ اللهَ يَجْتَبِى مِن رُّسُلِهِ مَن يَشَاءُ} [آل عمران: 179] استدراك لما نفاه من اطلاع خلقه على الغيب، سوى الرسلِ، فإنه يُطلعهم على ما يشاء مِن غيبه، كما قال: {عَالِمُ الْغَيْبِ فَلا يُظْهِرُ عَلَى غَيْبِهِ أَحَداً إلاَّ مَنِ ارْتَضَى مِن رَّسُولٍ} [الجن: 26-27] فحظكم أنتم وسعادتكم فى الإيمان بالغيبِ الذى يُطْلِعُ عليه رسله، فإن آمنتم به وأيقنتم، فلكم أعظمُ الأجر والكرامة.
ومنها: استخراجُ عبوديةِ أوليائه وحزبِه فى السَّراء والضرَّاء، وفيما يُحبُّون وما يكرهون، وفى حال ظفرهم وظفر أعدائهم بهم، فإذا ثبتُوا على الطاعة والعبودية فيما يُحبون وما يكرهون، فهم عبيدهُ حقاً، وليسوا كمن يعبد الله على حرف واحد مِن السَّراء والنعمة والعافية.
ومنها: أنه سبحانه لو نصرهم دائماً، وأظفرهم بعدوِّهم فى كُلِّ موطن، وجعل لهم التَّمْكِينَ والقهرَ لأعدائهم أبداً، لطغتْ نفوسُهم، وشمخت وارتفعت، فلو بسط لهم النصرَ والظفرَ، لكانُوا فى الحال التى يكونون فيها لو بَسَطَ لهم الرِّزْقَ، فلا يُصْلِحُ عِباده إلا السَّراءُ والضَّراءُ، والشدةُ والرخاءُ، والقبضُ والبسطُ، فهو المدبِّرُ لأمر عباده كما يليقُ
بحكمته، إنه بهم خبير بصير.
ومنها: أنه إذا امتحنهم بالغَلَبَةِ، والكَسْرَةِ، والهزيمة، ذلُّوا وانكسَروا، وخضعُوا، فاستوجبوا منه العِزَّ والنَّصْرَ، فإن خِلعة النصر إنما تكونُ مع ولاية الذُّلِّ والانكسارِ، قال تعالى: {وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ اللهُ بِبَدْرٍ وَأَنْتُمْ أَذِلَّةٌ} [آل عمران: 123]، وقال: {وَيَوْمَ حُنَيْنٍ إذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ فَلَمْ تُغْنِ عَنْكُم شَيْئاً} [التوبة: 25]، فهو سبحانه إذا أراد أن يُعِزَّ عبدَه، ويجبُرَه، وينصُرَه، كسره أوَّلاً، ويكونُ جبرُه له ونصره، على مِقدار ذُلِّه وانكساره.
ومنها: أنه سبحانه هيَّأ لعباده المؤمنين منازِلَ فى دار كرامته، لم تبلُغْها أعمالهم، ولم يكونوا بالغيها إلا بالبلاء والمحنةِ، فقيَّض لهم الأسبابَ التى تُوصِلُهُم إليها من ابتلائه وامتحانه، كما وفقهم للأعمال الصالحة التى هى من جملة أسباب وصولهم إليها.
ومنها: أن النفوسَ تكتسِبُ من العافية الدائمة والنصر والغنى طغياناً ورُكوناً إلى العاجلة، وذلك مرض يَعُوقُها عن جِدِّها فى سيرها إلى الله والدارِ الآخرة، فإذا أراد بها ربُّهَا ومالِكُهَا وراحِمُهَا كرامته، قيَّض لها من الابتلاء والامتحان ما يكون دواء لذلك المرض العائق عن السير الحثيث إليه، فيكون ذلك البلاء والمحنة بمنزلة الطبيب يسقى العليلَ الدواءَ الكريه، ويقطع منه العروقَ المؤلمةَ لاستخراج الأدواء منه، ولو تركه، لَغَلَبَتْهُ الأدواءُ حتى يكون فيها هلاكه.
ومنها: أن الشهادة عنده من أعلى مراتب أوليائه، والشهداء هم خواصه والمقرَّبون من عباده، وليس بعد درجة الصِّدِّيقيَّة إلا الشهادةُ، وهو سبحانه يُحب أن يتّخِذَ مِن عباده شهداءَ، تُراقُ دماؤهم فى محبته ومرضاته، ويُؤْثرونَ رضاه ومحابَّه على نفوسهم، ولا سبيلَ إلى نيل هذه الدرجة إلا بتقدير الأسباب المفضية إليها من تسليط العدو.
ومنها: أن الله سبحانه إذا أراد أن يهلك أعداءه ويمحقهم، قيض لهم الأسباب التي يستوجبون بها هلاكهم ومحقهم، ومن أعظمها بعد كفرهم بغيهم، وطغيانهم، ومبالغتهم في أذي أوليائه، ومحاربتهم، وقتالهم، والتسلط عليهم، فيتمحص بذلك أولياؤه من ذنوبهم وعيوبهم، ويزداد بذلك أعداؤه من أسباب محقهم وهلاكهم.
وقد ذكر سبحانه وتعالى ذلك فى قوله: { وَلا تَهِنُواْ وَلا تَحْزَنُواْ وَأَنتُمُ الأَعْلَوْنَ إن كُنْتُم مُّؤْمِنِينَ إن يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ القَوْمَ قَرْحٌ مِثْلُهُ، وَتِلْكَ الأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا ويَتَّخِذَ مِنكُمْ شُهَدَاءَ، وَاللهُ لا يُحِبُّ الظَّالِمينَ ولِيُمَحِّصَ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَمْحَقَ الْكَافِرِينَ} [آل عمران: 139-141]، فجمع لهم فى هذا الخطاب بين تشجيعهم وتقوية نفوسهم، وإحياء عزائمهم وهِممهم، وبينَ حُسنِ التسلية، وذكر الحِكمِ الباهِرَة التى اقتضت إدالة الكفار عليهم فقال: {إن يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ القَوْمَ قَرْحٌ مِثْلُهُ} [آل عمران: 140]، فقد استويتُم فى القرح والألَمِ، وتباينتم فى الرجاء والثواب، كما قال: {إِن تَكُونُواْ تَأَلَمُونَ فَإنَّهُمْ يَأْلَمُونَ كَمَا تَألَمُونَ، وَتَرْجُونَ مِنَ اللهِ مَا لاَ يَرْجُونَ} [النساء: 104]، فما بالكم تَهِنُونَ وتضعُفُون عند القرحِ والألم، فقد أصابهم ذلك فى سبيلِ الشيطان، وأنتم أُصِبتم فى سبيلى وابتغاء مرضاتى.
ثم أخبرَ أنه يُدَاوِلُ أيامَ هذه الحياة الدنيا بين الناسِ، وأنها عَرَضٌ حاضِر، يقسمها دُوَلاً بين أوليائه وأعدائِهِ بخلاف الآخِرةِ، فإن عزَّها ونصرَها ورجاءَها خالصٌ للذين آمنُوا.
ثم ذكر حِكمة أُخرى، وهى أن يتميَّزَ المؤمنون من المنافقين، فيعلمُهم عِلْمَ رؤية ومشاهدة بعد أن كانوا معلومِين فى غيبه، وذلك العلم الغيبى لا يترتَّب عليه ثوابٌ ولا عقاب، وإنمَّا يترتب الثوابُ والعقابُ على المعلوم إذا صار مشاهداً واقعاً فى الحسِ.
ثم ذكر حكمة أُخرى، وهى اتخاذُه سبحانه منهم شهداء، فإنه يُحبُّ الشهداء من عباده، وقد أعَدَّ لهم أعلى المنازل وأفضلَها، وقد اتخذهم لنفسه، فلا بدَّ أن يُنِيلَهم درجة الشهادة.
وقوله: {واَللهُ لاَ يُحِبُّ الظَّالِمِينَ} [آل عمران: 57]، تنبيه لطيفٌ الموقِع جداً على كراهته وبغضه للمنافقين الذين انخَذَلُوا عن نبيه يومَ أُحُد، فلم يشهدوه، ولم يَتَّخِذْ منهم شهداء، لأنه لم يُحبهم، فأركَسَهم وردَّهُم لِيَحْرِمَهُم ما خصَّ به المؤمنين فى ذلكَ اليوم، وما أعطاهُ مَن استُشهِدَ منهم، فثبط هؤلاء الظالمين عن الأسباب التى وفق لها أولياءَهُ وحِزبه.
ثم ذكر حِِكمة أُخرى فيما أصابهم ذلك اليوم، وهو تمحيص الذين آمنوا، وهو تنقيتُهم وتخليصُهم من الذنوب، ومن آفاتِ النفوس، وأيضاً فإنه خلَّصهم ومحَّصهم من المنافقين، فتَمَيَّزوا منهم، فحصل لهم تمحيصان: تمحيص من نفوسهم، وتمحيص ممن كان يُظهِرُ أنه منهم، وهو عدوُّهم.
ثم ذكر حكمة أخرى، وهى محقُّ الكافرين بطغيانهم، وبغيهم، وعُدوانهم، ثم أنكر عليهم حُسبانَهم، وظنَّهُم أن يدخلُوا الجنَّة بدون الجهاد فى سبيله، والصبرِ على أذى أعدائه، وإن هذا ممتنع بحيثُ يُنْكَرُ على مَن ظنه وحَسِبَه.
فقال: {أَمْ حَسِبْتُمْ أَن تَدْخُلُواْ الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَعْلَمِ اللهُ الَّذِينَ جَاهَدُواْ مِنكُمْ ويَعْلَمَ الصَّابِرِينَ} [آل عمران: 142]، أى: ولما يَقَعْ ذلِكَ منكم، فيعلمه، فإنه لو وقع، لعلمه، فجازاكم عليه بالجنة، فيكونَ الجزاء على الواقع المعلوم، لا على مجرد العلم، فإن الله لا يجزى العبدَ على مجرد علمه فيه دون أن يقعَ معلومُه، ثم وبَّخهم على هزيمتهم مِن أمر كانوا يتمنَّونه ويودُّون لِقاءه.
فقال: {وَلَقَدْ كُنْتُمْ تَمَنَّوْنَ الْمَوْتَ مِن قَبْلِ أَن تَلْقَوْهُ فَقَدْ رَأَيْتُمُوهُ وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ} [آل عمران: 143].
قال ابن عباس: ولما أخبرهم الله تعالى على لسان نبيه بما فعل بشهداء بدر من الكرامة، رغبوا فى الشهادة، فتمنوا قتالاً يستشهِدُونَ فيه، فيلحقُونَ إخوانَهم، فأراهم الله ذلك يوم أُحُد، وسبّبه لهم، فلم يَلْبَثُوا أن انهزموا إلا مَن شاء الله منهم، فأنزل الله تعالى: {ولَقَدْ كُنْتُم تَمَنَّوْنَ المَوْتَ مِن قَبْلِ أَن تَلْقَوْهُ فَقَدْ رَأَيْتُمُوهُ وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ} [آل عمران: 143].
ومنها: أن وقعةَ أُحُدٍ كانت مُقَدِّمَةً وإرهاصاً بين يدى موتِ رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فثبَّتهم، ووبَّخهم على انقلابهم على أعقابهم أَنْ ماتَ رسولُ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، أو قُتِلَ، بل الواجبُ له عليهم أن يثبتُوا على دِينه وتوحِيدهِ ويموتوا عليه، أو يُقتلُوا، فإنهم إنما يعبدُون ربَّ محمد، وهو حىٌ لا يموت، فلو ماتَ محمد أو قُتِلَ، لا ينبغى لهم أن يَصْرِفَهم ذلِكَ عن دينه، وما جاء به، فكلُّ نفسٍ ذائِقةُ الموت، وما بُعِثَ محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِيخلَّد لا هُوَ ولا هُم، بل لِيمُوتُوا على الإسلامِ والتَّوحيدِ، فإن الموت لا بُدَّ منه، سواء ماتَ رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أو بَقِىَ، ولهذا وبَّخَهُم على رجوع مَن رجع منهم عن دينه لما صرخ الشَّيْطَانُ: إنَّ محمداً قد قُتِلَ، فقال: {وَمَا مُحَمَّدٌ إلاَّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ، أَفَإن مَّاتَ أوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ، وَمَن يَنْقَلِبْ عَلَى عَقِبَيْهِ فَلَن يَضُرَّ اللهَ شَيْئاً، وَسَيَجْزِى اللهُ الشَّاكِرِينَ} [آل عمران: 144]، والشاكرون: هم الذين عرفوا قدر النعمة، فثبتوا عليها حتى ماتوا أو قُتِلُوا، فظهر أثرُ هذا العِتَابِ، وحكمُ هذا الخطاب يومَ مات رسولُ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وارتدَّ مَن ارتدَّ على عقبيه، وثبت الشاكِرُون على دينهم، فنصرهم الله وأعزَّهم وظفَّرهم بأعدائهم، وجعل العاقبة لهم
ثم أخبر سبحانه أنه جعل لكل نفس أجلاً لا بُدَّ أن تستوفيه، ثم تلحَقَ به، فيَرِدُ الناسُ كُلُّهم حوضَ المنايا مَوْرِداً واحِداً، وإن تنوَّعت أسبابه، ويصدُرونَ عن موقف القِيامة مصادِرَ شتَّى، فريقٌ فى الجنة وفريقٌ فى السعير،ثم أخبر سبحانه أن جماعةً كثيرةً من أنبيائه قُتِلُوا وقُتِلَ معهم أتباعٌ لهم كثيرون، فما وَهَنَ مَنْ بقىَ منهم لِما أصابهم فى سبيله، وما ضَعُفُوا، وما استكانُوا، وما وَهَنُوا عندَ القتل، ولا ضعفُوا، ولا استكانوا، بل تَلَقَّوا الشهادةَ بالقُوَّةِ، والعزِيمةِ، والإقْدَامِ، فلم يُسْتَشْهَدُوا مُدَبِرِينَ مستكينين أذلةً، بل استُشْهِدُوا أعزَّةً كِراماً مقبلينَ غير مدبرين، والصحيح: أن الآية تتناول الفريقين كليهما."أهـ
كلامه بنصه وحرفه رحمه الله تعالى!