رد كل المنكرات والأهواء والأخطاء
منهج شرعي في كل الرسالات
وسار عليه السلف الصالح الأجلاء
كتبه
ربيع بن هادي المدخلي
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه ومن اتبع هداه.
أما بعد:
فإن الصراع بين الحق والباطل والهدى والضلال قديم وموغل في القدم ومستمر لا ينقطع إلى يومنا هذا وإلى قيام الساعة، ولقد اشتد الصراع بين أول الرسل نوح عليه الصلاة والسلام وبين قومه الكافرين على امتداد ألف سنة إلا خمسين عاماً، يدعوهم عليه الصلاة والسلام ليلاً ونهاراً وسراً وجهاراً دون كلل ولا ملل ويقيم عليهم الحجج والبراهين الدامغة التي تبين الحق وتدحض الباطل والضلال حتى قال الكافرون بعد أن بلغوا نهاية الاستكبار والعناد والإصرار على الكفر والشرك: (يَا نُوحُ قَدْ جَادَلْتَنَا فَأَكْثَرْتَ جِدَالَنَا فَأْتِنَا بِمَا تَعِدُنَا إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ) (هود: من الآية32).
وهكذا يستمر هذا الصراع بين أهل الحق والباطل وأهل الإيمان والكفر.
فهذا إبراهيم يجادل قومه ويقيم عليهم الحجج الدامغة والبراهين القاطعة ، يحاج أباه ويحاج قومه ويحاج رأس الكفر والباطل ملك الكفر المتأله.
وهكذا موسى مع فرعون وقومه يدعو فرعون وقومه إلى الحق ويقيم عليهم الحجج والبراهين العقلية والشرعية ويدعمها بالآيات الكونية .
ويأتي خاتم الرسل محمد صلى الله عليه وسلم يدعو قومه العرب إلى الحق ويقيم عليهم الحجج الناصعة، والبراهين القاطعة ويدمغ أباطيلهم ويرد شبههم، وهكذا واجه أهل الكتاب من يهود ونصارى مدعماً حججه وبراهينه العقلية والشرعية بالآيات الكونية الكبيرة الكثيرة.
والقرآن والسنة مليئان بهذه الحجج، فمن تلك الحجج التي تبين الحق وتدحض الباطل:
1- قول الله تعالى: (وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْلا نُزِّلَ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ جُمْلَةً وَاحِدَةً كَذَلِكَ لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤَادَكَ وَرَتَّلْنَاهُ تَرْتِيلاً * وَلا يَأْتُونَكَ بِمَثَلٍ إِلا جِئْنَاكَ بِالْحَقِّ وَأَحْسَنَ تَفْسِيراً) (الفرقان:32-33).
ا- قال الحافظ ابن كثير :" يقول تعالى مخبراً عن كثرة اعتراض الكفار وتعنتهم وكلامهم فيما لا يعنيهم حيث قالوا: (لولا نزل عليه القرآن جملة واحدة) أي هلا أنزل عليه هذا الكتاب الذي أوحي إليه (جملة واحدة) كما نزلت الكتب قبله كالتوراة والإنجيل والزبور وغيرها من الكتب الإلهية فأجابهم الله عن ذلك بأنه إنما أنزل منجما في ثلاث وعشرين سنة بحسب الوقائع والحوادث وما يحتاج إليه من الأحكام لتثبيت قلوب المؤمنين به كما قال ( وقرآنا فرقناه لتقرأه على الناس على مكث ونزلناه تنزيلا)، ولهذا قال (لنثبت به فؤادك ورتلناه ترتيلا)، قال قتادة:" وبيناه تبييناً ، وقال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم وفسرناه تفسيراً".
(ولا يأتونك بمثل) أي بحجة وشبهة (إلا جئناك بالحق وأحسن تفسيراً) أي : ولا يقولون قولاً يعارضون به الحق إلا أجبناهم بما هو الحق في نفس الأمر وأبين وأوضح وأفصح من مقالتهم.
قال سعيد بن جبير عن ابن عباس :( ولا يأتونك بمثل ) أي بما يتلمسون به عيب القرآن والرسول (إلا جئناك بالحق وأحسن تفسيراً) إلا نزل جبريل من الله بجوابهم( )، ثم في هذا اعتناء كبير لشرف الرسول صلوات الله وسلامه عليه حيث كان يأتيه الوحي من الله بالقرآن صباحاً ومساء ليلا ونهاراً سفراً وحضراُ ". ( )
ب - وقال الإمام السعدي:" (ولا يأتونك بمثل) يعارضون به الحق ويدفعون به رسالتك ( إلا جئناك بالحق وأحسن تفسيراً) أي أنزلنا عليك قرآنا جامعاً للحق في معانيه والوضوح والبيان التام في ألفاضه، فمعانيه كلها حق وصدق لا يشوبها باطل ولا شبهة بوجه من الوجوه وألفاظه وحدوده للأشياء أوضح ألفاظاً وأحسن تفسيراً مبين للمعاني بياناً تاماً" ( ) .
2- وقال الله تعالى : (وَكَذَلِكَ نُفَصِّلُ الآياتِ وَلِتَسْتَبِينَ سَبِيلُ الْمُجْرِمِينَ) (الأنعام:55).
ا- قال الإمام ابن جرير:"(وكذلك نفصل الآيات ولتستبين سبيل المجرمين)، يعني تعالى ذكره بقوله:( وكذلك نفصل الآيات)، وكما فصلنا لك في هذه السورة من ابتدائها وفاتحتها، يا محمد إلى هذا الموضع، حجتنا على المشركين من عبدة الأوثان وأدلتنا وميزناها لك وبيناها كذلك نفصل لك أعلامنا وأدلتنا في كل حق ينكره أهل الباطل( ) من سائر أهل الملل غيرهم فنبينها لك حتى يبين حقه من باطله وصحيحه من سقيمه" ( ).
وقال أيضاً في تفسير قوله تعالى: ( ولتستبين سبيل المجرمين) وكأن معنى الكلام عندهم وكذلك نفصل الآيات ولتتضح لك وللمؤمنين طريقُ المجرمين"
وقال أيضاً:" لأن الله -تعالى ذكره- فصل آياته في كتابه وتنزيله ليتبين الحقَّ بها من الباطل جميعُ مَن خوطب بها لا بعضٌ دون بعض".
ب- وقال الإمام ابن كثير في تفسير هذه الآية:" يقول تعالى وكما بينا ما تقدم بيانه من الحجج والدلائل على طريق الهداية والرشاد وذم المجادلة والعناد (كذلك نفصل الآيات) أي: التي يحتاج المخاطبون إلى بيانها (ولتستبين سبيل المجرمين) أي ولتظهر طريق المجرمين المخالفين للرسل وقرئ (ولتستبين سبيل المجرمين) أي ولتستبين يا محمد أو يا مخاطب سبيل المجرمين" ( ) .
وفي الآية أن تبين سبيل المجرمين غاية كبيرة من غايات القرآن لأن في خفائها ضرراً على الناس في دينهم وعقولهم.
ج- قال ابن القيم في كتابه الفوائد ( ) :" قال الله تعالى ( وكذلك نفصل الآيات ولتستبين سبيل المجرمين)، وقال ( ومن يشاقق الرسول من بعدها ما تبين الهدى ويتبع غير سبيل المؤمنين نوله ما تولى)، والله تعالى قد بين في كتابه سبيل المؤمنين مفصلة وسبيل المجرمين مفصلة وعاقبة هؤلاء مفصلة وعاقبة هؤلاء مفصلة وأعمال هؤلاء، وأعمال هؤلاء، وأولياء هؤلاء وأولياء هؤلاء وخذلانه لهؤلاء وتوفيقه لهؤلاء والأسباب التي وفق بها هؤلاء والأسباب التي خذل بها هؤلاء وجلاَّ سبحانه الأمرين في كتابه، وكشفهما وأوضحهما وبينهما غاية البيان حتى شاهدتهما البصائر كمشاهدة الأبصار للضياء والظلام فالعالمون بالله وكتابه ودينه عرفوا سبيل المؤمنين معرفة تفصيلية، وسبيل المجرمين معرفة تفصيلية، فاستبانت لهم السبيلان كما يستبين للسالك الطريق الموصل إلي مقصوده والطريق الموصل إلى الهلكة، فهؤلاء أعلم الخلق وأنفعهم للناس وأنصحهم لهم، وهم الإدلاء الهداة ، وبذلك برَّز الصحابة علي جميع من أتي بعدهم إلى يوم القيامة، فإنهم نشأوا في سبيل الظلال والكفر والشرك، والسبل الموصلة إلي الهلاك وعرفوها مفصلة، ثم جاءهم الرسول فأخرجهم من تلك الظلمات إلى سبيل الهدى وصراط الله المستقيم فخرجوا من الظلمة الشديدة إلى النور التام، ومن الشرك إلى التوحيد ومن الجهل إلى العلم، ومن الغي إلى الرشاد، ومن الظلم إلى العدل، ومن الحيرة والعمى إلى الهدى والبصائر، فعرفوا مقدار ما نالوه وظفروا به، ومقدار ما كانوا فيه فان الضد يظهر حسنه الضد، وانما تتبين الأشياء بأضدادها، فازدادوا رغبة ومحبة فيما انتقلوا اليه، ونفرة وبغضاً لما انتقلوا عنه، وكانوا أحب الناس في التوحيد والإيمان والإسلام، وأبغض الناس في ضده، عالمين بالسبيل على التفصيل.
وأما من جاء بعد الصحابة فمنهم من نشأ في الإسلام غير عالم تفصيل ضده فالتبس عليه بعض تفاصيل سبيل المؤمنين بسبيل المجرمين فان اللبس إنما يقع إذا ضعف العلم بالسبيلين أو أحدهما، كما قال عمر بن الخطاب إنما تنقض عري الإسلام عروة إذا نشأ في الإسلام من لم يعرف الجاهلية، وهذا من كمال علم عمر رضي الله عنه فانه إذا لم يعرف الجاهلية وحكمها وهو كل ما خالف ما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم فإنه من الجاهلية فإنها منسوبة إلى الجهل، وكل ما خالف الرسول فهو من الجهل، فمن لم يعرف سبيل المجرمين، ولم تستبن له أوشك أن يظن في بعض سبيلهم أنها من سبيل المؤمنين كما وقع في هذه الأمة من أمور كثيرة في باب الاعتقاد والعلم والعمل هي من سبيل المجرمين والكفار وأعداء الرسل، أدخلها من لم يعرف أنها من سبيلهم في سبيل المؤمنين ودعا إليها وكفر من خالفها واستحل منه ما حرمه الله ورسوله كما وقع لأكثر أهل البدع من الجهمية والقدرية والخوارج والروافض وأشباههم ( ) ممن ابتدع بدعة ودعا إليها وكفر من خالفها.
والناس في هذا الموضع أربع:
الفرقة الأولى: من استبان له سبيل المؤمنين وسبيل المجرمين على التفصيل علما وعملا وهؤلاء أعلم الخلق.
الفرقة الثانية: من عميت عنه السبيلان من أشباه الأنعام وهؤلاء بسبيل المجرمين أحضر ولها أسلك .
الفرقة الثالثة: من صرف عنايته إلى معرفة سبيل المؤمنين دون ضدها فهو يعرف ضدها من حيث الجملة والمخالفة وأن كل ما خالف سبيل المؤمنين فهو باطل وان لم يتصوره على التفصيل بل إذا سمع شيئا مما خالف سبيل المؤمنين صرف سمعه عنه ولم يشغل نفسه بفهمه ومعرفة وجه بطلانه وهو بمنـزلة من سلمت نفسه من إرادة الشهوات فلم تخطر بقلبه ولم تدعه إليها نفسه بخلاف الفرقة الأولى فانهم يعرفونها وتميل إليها نفوسهم ويجاهدونها علي تركها لله ... وقد كتبوا إلى عمر بن الخطاب يسألونه عن هذه المسالة أيما أفضل رجل لم تخطر له الشهوات ولم تمر بباله أو رجل نازعته إليها نفسه فتركها لله فكتب عمر ان الذي تشتهى نفسه المعاصي ويتركها لله عز وجل من الذين امتحن الله قلوبهم للتقوى لهم مغفرة وأجر عظيم.
وهكذا من عرف البدع والشرك والباطل وطرقه فأبغضها لله وحذرها وحذر منها ودفعها عن نفسه ولم يدعها تخدش وجه إيمانه ولا تورثه شبهة ولا شكا بل يزداد بمعرفتها بصيرة في الحق ومحبة له وكراهة لها ونفرة عنها أفضل ممن لا تخطر بباله ولا تمر بقلبه....
الفرقة الرابعة: فرقة عرفت سبيل الشر والبدع والكفر مفصلة وسبيل المؤمنين مجملة وهذا حال كثير ممن اعتنى بمقالات الأمم ومقالات أهل البدع فعرفها على التفصيل ولم يعرف ما جاء به الرسول كذلك بل عرفه معرفة مجملة وإن تفصلت له في بعض الأشياء ومن تأمل كتبهم رأى ذلك عيانا وكذلك من كان عارفا بطرق الشر والظلم والفساد على التفصيل سالكا لها إذا تاب ورجع عنها إلى سبيل الأبرار يكون علمه بها مجملا غير عارف بها على التفصيل معرفة من أفنى عمره في تصرفها وسلوكها والمقصود ان الله سبحانه يحب أن تعرف سبيل أعدائه لتجتنب وتبغض كما يجب أن تعرف سبيل أوليائه لتحب وتسلك وفى هذه المعرفة من الفوائد والأسرار مالا يعلمه إلا الله من معرفة عموم ربوبيته سبحانه وحكمته وكمال أسمائه وصفاته وتعلقها بمتعلقاتها واقتضائها لآثارها وموجباتها وذلك من أعظم الدلالة على ربوبيته وملكه وإلهيته وحبه وبغضه وثوابه وعقابه والله أعلم".
والله سبحانه أثنى على هذه الأمة وميزها على سائر الأمم لأنها تأمر بالمعروف وتنهى عن المنكر قال تعالى:( كنتم خير أمة أخرجت للناس تأمرون بالمعروف وتنهون عن المنكر وتؤمنون بالله).
وذم الذين كفروا من بني إسرائيل ولعنهم لأنهم كانوا لا يتناهون عن منكر فعلوه قال الله تعالى:( لعن الذين كفروا من بني إسرائيل على لسان داوود وعيسى بن مريم ذلك بما عصوا وكانوا يعتدون كانوا لا يتناهون عن منكر فعلوه لبيس ما كانوا يفعلون).
فهذه شذرات من نصوص القرآن ومن كلام أئمة التفسير
أما السنة فقد كان رسول الله صلى الله وسلم يرد الأخطاء خطأ خطأ والشبهات شبهة شبهة ويقيم الحدود ومن تكرر منه ما يوجب إقامة الحد فقد كرر عليه الحد جلداً أو قطعاً وكان لا يقر على باطل أبداً صلى الله عليه وسلم وهذا كله إلى جانب بيان القرآن للحق بالتفصيل ودحضه للشبه والباطل بالتفصيل.
وكان مع هذا يجند الشعراء لنصرة الحق والذوذ عن حياضه ودحض الباطل بل والطعن القاتل للأعداء.
فعن الزهري قال أخبرني أبو سلمة بن عبد الرحمن أنه سمع حسان بن ثابت الأنصاري يستشهد أبا هريرة أنشدك الله هل سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: يا حسان أجب عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال أبو هريرة: نعم " ( ) .
وعن عدي بن ثابت قال سمعت البراء بن عازب قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول لحسان بن ثابت :" أهجهم أو هاجهم وجبريل معك" ( ) .
وعن عائشة رضي الله عنها أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:" اهجوا قريشاً فإنه أشد عليها من رشق النبل "، في حديث طويل عنها فيه انه دعا عبد الله بن رواحة ثم كعب بن مالك ثم حسانا رضي الله عنهم ، فقال من الشعر ما أرضى رسول الله صلى الله عليه وسلم ، قالت عائشة رضي الله عنها: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول:" هجاهم حسان فشفى واشتفى" ( ).
وروى الإمام أحمد رحمه الله تعالى في مسنده من طريق شعبة عن اسماعيل بن أبي خالد قال سمعت قيس بن أبي حازم يحدث عن أبي بكر الصديق انه خطب فقال :" يا أيها الناس إنكم تقرؤون هذه الآية وتضعونها على غير ما وضعها الله ( يا أيها الذين آمنوا عليكم أنفسكم لا يضركم من ضل إذا اهتديتم)، سمعت رسول الله عليه وسلم يقول:" إن الناس إذا رأوا المنكر بينهم فلم ينكروه يوشك ان يعمهم الله بعقاب" ( ) .
وعن النعمان بن بشير –رضي الله عنه-عن النبي صلى الله عليه قال:" مثل القائم على حدود الله والواقع فيها كمثل قوم استهموا على سفينة فأصاب بعضهم أعلاها وبعضهم أسفلها، فكان الذين في أسفلها إذا استقوا من مروا على من فوقهم، فقالوا: لو أنا خرقنا ولم نؤد من فوقنا، فإن يتركوهم وما أرادوا هلكوا جميعاً وإن أخذوا على أيديهم نجوا ونجوا جميعاً" ( ) .
أخرجه البخاري في الشهادات بهذا اللفظ وساقه في الشركات بلفظ:" مثل المداهن في حدود الله والواقع فيها .." الحديث.
وساقه الترمذي بلفظ :" مثل القائم على حدود الله والمداهن فيها.."، وقال حديث حسن صحيح.
قال في اللسان في مادة "دهن":
المداهنة والإدهان المصانعة واللين، وقيل المداهنة إظهار خلاف ما يضمر والإدهان الغش ودهن الرجل إذا نافق".
وقال العلامة المباركفوري:" والفرق بين المداهنة المنهية والمداراة المأمورة أن المداهنة في الشريعة أن يرى منكراً فيقدر على دفعه ولم يدفعه حفظاً لجانب مرتكبه أو جانب غيره لخوف أو طمع أو لاستحياء منه أو قلة مبالاة في الدين والمداراة موافقته بترك حظ نفسه وحق يتعلق بماله وعرضه فسكت عنه دفعاً للشر ووقوع الضرر" ( ) .
وهذا الحديث مثل رائع يبين خطورة النتائج المهلكة للسكوت عن الباطل والمداهنة فيه وأنه يجب على الأمة أن تضرب بيد من حديد على اهل البدع وأهل الفجور الذين تؤدي ضلالاتهم وفجورهم إلى إهلاك الأمة في دينها ودنياها.
ولقد اعتبر الرسول صلى الله عيه وسلم الأمر بالمعروف جهاداً ، فعن ابن مسعود رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:" ما من نبي بعثه الله في أمة قبلي إلا كان له من أمته حواريون وأصحاب يأخذون بسنته ويقتدون بأمره ثم إنها تخلف من بعدهم خلوف يقولون ما لا يفعلون ويفعلون ما لا يؤمرون فمن جاهدهم بيده فهو مؤمن ومن جاهدهم بلسانه فهو مؤمن ومن جاهدهم بقلبه فهو مؤمن وليس وراء ذلك من الإيمان حبة خردل" ( ) ، ومن هنا قال الإمام يحيى بن يحيى " الذب عن السنة أفضل من الضرب بالسيوف "، وقال شيخ الإسلام ابن تيمية :" الراد على أهل البدع مجاهد".
ولما وقع الضلال كما أخبر النبي صلى الله عليه وسلم بمثل قوله:" افترقت اليهود إلى إحدى وسبعين فرقة وافترقت النصارى إلى ثنتين وسبعين فرقة وستفترق أمتي إلى ثلاث وسبعين فرقة كلها في النار إلا واحدة قالوا من هي يا رسول الله قال الجماعة" وفي رواية من روايات هذا الحديث " من كان على ما أنا عليه وأصحابي".
ومثل قوله :" لتتبعن سنن من كان قبلكم حذوا القذة بالقذة حتى لو دخلوا جحر ضب لدخلتموه، قيل اليهود والنصارى يا رسول الله؟ قال نعم".
تصدى لهذه الطوائف أفراداً وجماعات أئمة الهدى وأعلام الدجى من صفوة هذه الأمة، فردوا أباطيلهم وضلالاتهم فما جاؤا بضلالة ولا شبهة إلا دحضوها وبينوا زيفها وبينوا الحق بياناً واضحاً تأسياً بالقرآن والسنة في تزييف الباطل وإزهاقه وإظهار الحق.
وقد دونت أعمالهم وجهادهم في إنكار المخالفات وبيان حال أهلها وبيان بُعْدِ هذه المخالفات عن هدي الكتاب والسنة وبيان أحكام هذه المخالفات وأحكام أهلها من تبديع واستنكار.
لقد نهضوا بهذا البيان القائم على النصيحة لله ولكتابه ولرسوله ولأئمة المسلمين وعامتهم، وحماية لدينهم في عدد من الكتب سواء كانت في مجال العقيدة كما في كتب العقائد، أو الأحكام كما في كتب الفقه وشروح الحديث، وفي باب الرواية ونقل السنة عن رسول الله صلى الله وسلم كما في كتب الرجال والعلل والكتب في ذلك لا تحصى.
وقد يتكلم على الخطأ الواحد عشرات من الأئمة وعلى العقيدة الفاسدة كذلك وفي الراوي عشرات الأئمة وقد يكون للرجل عشرات البدع فيتصدى له أحد العلماء فيفندها واحدة واحدة بالأدلة والبراهين، كما رد شيخ الإسلام ابن تيمية على ابن مطهر الحلي في كتابه " المنهاج" في تسع مجلدات، وكما رد على الرازي في " نقض التأسيس"، الذي يبلغ أربع مجلدات ولاحق الرازي في عدد من المؤلفات، وكما رد على البكري في كتاب "الاستغاثة الكبرى"، وكما رد على الأخنائي في كتابه " الرد على الأخنائي"، وكما رد ابن عبد الهادي على السبكي في كتابه " الصارم المنكي "، وقبلهم رد الإمام عثمان بن سعيد الدارمي على بشر في كتابه " الرد على بشر المريسي".
وقد يكون للطائفة عشرات البدع فيتصدى لها أحد العلماء فلا يترك لها شاذة ولا فاذة وقد يتصدى لها عدد من العلماء كل يطيل النفس في مناقشة ضلالاتها، والأمثلة على ذلك كبيرة، كما رد الإمام أحمد والإمام الدارمي على الجهمية وكما رد الإمام الشافعي على المعتزلة والروافض الطاعنين في السنة عموما وعلى الطاعنين في أخبار الآحاد خصوصاً في كتابيه " الرسالة" و" جماع العلم"وكما رد البخاري على الجهمية وغيرهم في " خلق أفعال العباد" وكما رد الخلال والآجري وابن بطة واللالكائي وغيرهم من أئمة الإسلام على طوائف أهل البدع.
فكم من إمام تناول عمرو بن عبيد وواصل بن عطاء والجاحظ والنظام وأمثالهم، وكم من إمام تناول كتبهم وفند ما فيها من الضلالات.
ولم يقف أئمة السنة عند نقد واستنكار ضلالات أهل الضلال بل تجاوزوا ذلك إلى نقد العلماء وعلى رأسهم كبار علماء السنة والحديث في أخطائهم.
فقد انتقد الإمام الليث بن سعد الإمام مالكاً في مسائل مشهورة، بل انتقد الإمام الشافعي شيخه الإمام مالكاً في مسائل كثيرة، وانتقد أحمد إسحاق والشافعي وغيرهما، بل انتقد أبو حاتم وأبو زرعة الإمام البخاري في كتابه "التاريخ" في عشرات الأسماء.
وانتقد الدارقطني الإمامين البخاري ومسلماً في حوالي مأتي حديث، وانتقد البيهقي الطحاوي في كثير من المسائل.
وكما انتقد أبو الحسين بن القطان الفاسي في كتابه " بيان الوهم والإيهام " الذي يبلغ خمس مجلدات، الإمام عبد الحق الإشبيلي في كتابه " الأحكام".
كما انتقد أبو إسحاق إبراهيم بن محمد الدمشقي في كتابه " عجالة الإملاء المتيسرة" في خمس مجلدات، انتقد فيها الحافظ المنذري في كتابه " الترغيب والترهيب"،وهذه أمور لا تحصى .
وهذا المنهج هو الذي عليه أئمة الدين سلفاً وخلفاً.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية ـ رحمه ا الله ـ ذاكراً من يجوز ذمه من الأنواع، وليس ذلك من الغيبة، كالكافر، والفاجر، والفاسق، والظالم، والغوي، والضال، والحاسد ...
إلى أن قال ":وأما الشخص فيُذكر ما فيه من الشر في مواضع"
وذكر منها : المظلوم يذكر ظالمه بما فيه، وساق الأدلة على ذلك، ثم قال :"ومنها : أن يكون على سبيل النصيحة للمسلمين في دينهم ودنياهم، كما في الحديث الصحيح عن فاطمة بنت قيس لما استشارت النبي من تنكح ؟ . قالت : إنه خطبني معاوية وأبوجهم، فقال:"أما معاوية فصعلوك لا مال له، وأما أبوجهم فرجل ضَرَّاب للنساء" .
فكان هذا نصحاً لها وإن تضمن ذكر عيب الخاطب .
وفي معنى هذا نصح الرجل فيمن يعامله، ومن يوكله، ومن يوصي إليه، ومن يستشهده، بل ومن يتحاكم إليه، وأمثال ذلك.
وإذا كان هذا في مصلحة خاصة فكيف بالنصح فيما يتعلق به حقوق عموم المسلمين من الأمراء، والحكام، والشهود، والعمال أهل الديـوان وغـيرهــا؛ فــلا ريب أن النصـح في ذلك أعـظم، كما قال النبي : "الدين النصــيحـة، الدين النصــيحـة "قالـوا : لمن يا رسول الله؟. قال:" لله، ولكتابه، ولرسوله، ولأئمة المسلمين، وعامتهم .
ثـم تحـدث عن وجـوب الكلام في نَقَـلَة الحـديث، الذين يغلطون، أو يكذبون، وأنه من باب المصالح الدينية العامة والخاصة .
ثم ثنى بالكلام على أئمة البدع من أهل المقالات المخالفة للكتاب والسنة؛ فقال:" فإن بيان حالهم، وتحذير الأمة منهم واجب باتفاق المسلمين، حتى قيل لأحمد بن حنبل : الرجل يصوم ويصلي ويعتكف أحب إليك، أو يتكلم في أهل البدع ؟ . فقال : "إذا صام وصلى واعتكف فإنما هو لنفسه، وإذا تكلم في أهل البدع فإنما هو للمسلمين".
فتبين أن نفع هذا عام للمسلمين في دينهم، من جنس الجهاد في سبيل ا الله؛ إذ تطهير سبيل ا الله، ودينه، ومنهاجه، وشرعته، ودفع بغي هؤلاء وعدوانهم على ذلك؛ واجب على الكفاية باتفاق المسلمين".
ولولا من يقيمه الله لدفع ضرر هؤلاء لفسد الدين، وكان فساده أعظم من فساد استيلاء العدو من أهل الحرب؛ فإن هؤلاء إذا استولوا لم يفسدوا القلوب وما فيها من الدين إلا تبعاً، وأما أولئك فهم يفسدون القلوب ابتداءً .
وأعداء الدين نوعان : الكفار والمنافقون .
وقد أمر الله بجهاد الطائفتين في قوله :(جاهد الكفار والمنافقين واغلظ عليهم) في آيتين من القرآن .
فإذا كان أقوام منافقون، يبتدعون بدعاً تخالف الكتاب، ويلبسونها على الناس، ولم تُـبَـيّـن للناس؛ فسد أمر الكتاب، وبدل الدين، كما فسد دين أهل الكتاب قبلنا بما وقع فيه من التبديل الذي لم ينكر على أهله . ( )
وقال ابن القيم - رحمه الله- في مدارج السالكين ( ) معلقاً على قول أبي إسماعيل الأنصاري رحمه الله :" وتخلص من رعونة المعارضات "، قال ابن القيم :" يريد أن هذه الملاحظة تخلص العبد من رعونة معارضة حكم الله الديني والكوني الذي لم يأمر بمعارضته فيستسلم للحكمين فإن ملاحظة عين الجمع تشهده أن الحكمين صدرا عن عزيز حكيم فلا يعارض حكمه برأي ولا عقل ولا ذوق ولا خاطر".
ثم ذكر ما معناه أن أمر الله لا يعارض بالشهوة وخبره بالشك والشبهة وأن المؤمن الواعي يخلص قلبه من هاتين المعارضتين ، وهذا القلب الذي هذا حاله هو القلب السليم الذي لا يفلح إلا من لقي الله به.
ثم قال:" وأما أهل الإلحاد فقالوا المراد بالمعارضات ههنا الإنكار على الخلق فيما يبدو منهم من أحكام البشرية لأن المشاهد لعين الجمع يعلم أن مراد الله من الخلق ما هم عليه فإذا علم ذلك بحقيقة الشهود كانت المعارضات والإنكار عليهم من رعونات الأنفس المحجوبة وقال قدوتهم في ذلك العارف: لا ينكر منكرا لاستبصاره بسر الله في القدر وهذا عين الاتحاد والإلحاد والانسلاخ من الدين بالكلية وقد أعاذ الله شيخ الإسلام من ذلك وإذا كان الملحد يحمل كلام الله ورسوله ما لا يحتمله فما الظن بكلام مخلوق مثله فيقال إنما بعث الله رسله وأنزل كتبه بالإنكار على الخلق بما هم عليه من أحكام البشرية وغيرها فبهذا أرسلت الرسل وأنزلت الكتب وانقسمت الدار إلى دار سعادة للمنكرين ودار شقاوة للمنكر عليهم فالطعن في ذلك طعن في الرسل والكتب والتخلص من ذلك انحلال من ربقة الدين ومن تأمل أحوال الرسل مع أممهم وجدهم كانوا قائمين بالإنكار عليهم أشد القيام حتى لقوا الله تعالى وأوصوا من آمن بهم بالإنكار على من خالفهم وأخبر النبي أن المتخلص من مقامات الإنكار الثلاثة ليس معه من الإيمان حبة خردل وبالغ في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر أشد المبالغة حتى قال إن الناس إذا تركوه أوشك أن يعمهم الله بعقاب من عنده وأخبر أن تركه يمنع إجابة دعاء الأخيار ويوجب تسلط الأشرار وأخبر أن تركه يوقع المخالفة بين القلوب والوجوه ويحل لعنة الله كما لعن الله بني إسرائيل على تركه فكيف يكون الإنكار من رعونات النفوس وهو مقصود الشريعة وهل الجهاد إلا على أنواع الإنكار وهو جهاد باليد وجهاد أهل العلم إنكار باللسان".
وقال الحافظ ابن رجب ـ رحمه الله ـ :
" اعلم أن ذكر الإنسان بما يكره محرم؛ إذا كان المقصود منه مجرد الذم، والعيب، والنقص.
فأما إذا كان فيه مصلحة لعامة المسلمين، أو خاصة لبعضهم، وكان المقصود به تحصيل تلك المصلحة؛ فليس بمحرم، بل مندوب إليه.
وقد قَرَّرَ علماء الحديث هذا في كتبهم في الجرح والتعديل، وذكروا الفرق بين جرح الرواة وبين الغيبة، وردوا على من سوى بينهما من المتعبدين وغيرهم ممن لا يتسع علمه .
ولا فـرق بـين الطـعن في رواة ألفـاظ الحـديث، ولا التمـيـيز بين ما تُقبل روايته منهم ومن لا تُقبل، وبين تبيين خطأ من أخطأ في فهم معاني الكتاب والسنة، وتأول شيئاً منها على غير تأويله، وتمسك بما لا يتمسك به؛ ليحذر من الاقتداء به فيما أخطأ فيه.
وقد أجمع العلماء على جواز ذلك ـ أيضاً ـ.
ولهذا تجد في كتبهم المصنَّفة في أنواع العلوم الشرعية من : التفسير، وشروح الحديث، والفقه، واختلاف العلماء، وغير ذلك؛ ممتلئة من المناظرات، وردّوا أقوال من تضعف أقواله من أئمة السلف والخلف، من الصحـابة والتابعين، ومن بعدهم، ولم يترك ذلك أحد من أهل العلم، ولا ادعى فيه طعناً على من رد عليه قوله، ولا ذماً، ولا نقصاً ... اللهم إلا أن يكون المصنِّف ممن يفحش في الكلام، ويسيء الأدب في العبارة؛ فـيُنكَر عليه فحاشته وإساءته، دون أصل رده ومخالفته؛ إقامة بالحجج الشرعية، والأدلة المعتبرة .
وسبب ذلك: أن علماء الدين كلهم مجمعون على قصد إظهار الحق، الذي بعث الله به رسوله ، وأن يكون الدين كله لله، وأن تكون كلمته هي العليا.
وكلهم معترفون بأن الإحاطة بالعلم كله من غير شذوذ شيء منه ليس هو مرتبة أحدٍ منهم، ولا ادعاه أحد من المتقدمين ولا من المتأخرين.
فلهذا كان أئمة السلف المجمع على علمهم وفضلهم، يقبلون الحق ممن أورده عليهم وإن كان صغيراً، ويوصون أصحابهم وأتباعهم بقبول الحق إذا ظهر في غير قولهم، كما قال عمر في مهور النساء، وردت المرأة بقوله تعالى {وآتيتم إحداهن قنطاراً}. ( ) فرجع عن قوله، وقال :" أصابت امرأة ورجل أخطأ ".
ورُوِيَ عنه أنه قال :" كل أحد أفقه من عمر ".
وكان بعض المشهورين إذا قال في رأيه بشيء يقول : "هذا رأينا؛ فمن جاءنا برأي أحسن منه قبلناه".
وكان الشافعي (150 ـ 204 هـ) يبالغ في هذا المعنى، ويوصي أصحابه باتباع الحق، وقبول السنة إذا ظهرت لهم على خلاف قوله، وأن يُضرب بقوله حينئذٍ الحائط، وكان يقول في كتبه : "لا بد أن يوجد فيها ما يخالف الكتاب أو السنة؛ لأن ا الله تعالى يقول{ ولو كان من عند غير الله لوجدوا فيه اختلافاً كثيراً } ( ) .
فحينئذٍ فَـرَدُّ المقالات الضعيفة، وتبيين الحق في خلافها بالأدلة الشرعية، ليس هو مما يكرهه أولئك العلماء، بل مما يحبونه ويمدحون فاعله، ويثنون عليه؛ فلا يكون داخلاً في باب الغيبة بالكلية.
فلو فُـرِضَ أن أحداً يكره إظهار خطئه المخالف للحق؛ فلا عبرة بكراهته لذلك، فإن كراهة إظهار الحق إذا كان مخالفاً لقول الرجل ليس من الخصال المحمودة.
بل الواجب على المسلم أن يحب ظهور الحق ومعرفة المسلمين له، سواء كان في موافقته أو مخالفته .
وهذا من النصيحة لله، ولكتابه، ورسوله، ودينه، وأئمة المسلمين، وعامتهم، وذلك هو الدين، كما أخبر به النبي.
وأما بيان خطأ من أخطأ من العلماء قبله، إذا تأدب في الخطاب، وأحسن الرد والجواب؛ فلا حرج عليه، ولا لوم يتوجه إليه، وإن صدر منه من الاغترار ( ) بمقالته فلا حرج عليه .
وقد كان بعض السلف إذا بلغه قول ينكره على قائله يقول : "كَـذَبَ فلان" .
ومن هذا قول النبي :" كذب أبو السنابل " لَـمَّا بلغه أنه أفتى : أن المتوفَّى عنها زوجها إذا كانت حاملاً لا تحل بوضع الحمل، حتى تأتي عليها أربعة أشهر وعشراً .
وقد بالغ الأئمة الورعون في إنكار مقالات ضعيفة لبعض العلماء، وردها أبلغ الرد، كما كان الإمام أحمد ينكر على أبي ثور وغيره مقالات ضعيفة تفردوا بها، ويبالغ في ردها عليهم .
هذا كله حكم الظاهر .
أما في باطن الأمر؛ فإن كان مقصوده في ذلك مجرد تبيين الحق، ولئلا يغتر الناس بمقالات من أخطأ في مقالاته؛ فلا ريب أنه مثاب على قصده، ودخل بفعله هذا بهذه النية في النصح لله، ورسوله، وأئمة المسلمين، وعامتهم .
وسواء كان الذي بين الخطأ صغيراً أم كبيراً، فله أسوة بمن رد من العلماء مقالات "ابن عباس" التي يشذ بها ( )وأنكرت عليه من العلماء، مثل : المتعة، والصرف، والعمرتين، وغير ذلك .
ثم ذَكَرَ :
أن العلماء ردوا مقالات لمثل : "سعيد بن المسيب"، و"الحسن"، و"عطاء"، و"طاووس"، وعلى غيرهم، ممن أجمع المسلمون على هدايتهم، ودرايتهم، ومحبتهم، والثناء عليهم .
ولم يعد أحد منهم مخالفوه ( ) في هذه المسائل طعناً في هؤلاء الأئمة، ولا عيباً لهم.
وقد امتلأت كتب أئمة المسلمين من السلف والخلف بتبيين هذه المقالات وما أشبهها، مثل : "كتب الشافعي"، و"إسحاق"، و"أبي عبيد"، و"أبي ثور"، ومن بعدهم من أئمة الفقه والحديث.
وإما مراد ( ) الراد بذلك : إظهار العيب على من رَدَّ عليه وتنقصه، وتبيين جهله، وقصوره في العلم، سواء كان رده لذلك في وجه من رَدَّ عليه أو في غيبته، وسواء كان في حياته أو بعد موته، وهذا داخل فيما ذمه الله في كتابه، وتوعد عليه، في الهمز واللمز، ودخل ـ أيضاً ـ في قول النبي :" يا معشر من آمن بلسانه ولم يؤمن بقلبه؛ لا تؤذوا المسلمين، لا تتبعوا عوراتهم؛ فإنه من يتبع عوراتهم يتبع الله عورته، ومن يتبع الله عورته يفضحه ولو في جوف بيته" ( ).
وهذا كله في حق العلماء المقتدى بعهم في الدين.
فأما أهل البدع والضلالة، ومن تَشَبَّه بالعلماء وليس منهم ( ) ، فيجوز بيان جهلهم، وإظهار عيوبهم، تحذيراً من الاقتداء بهم.
وليس كلامنا الآن في هذا القبيل، والله أعلم.
ومن عُرف منه أنه أراد برده على العلماء النصيحة لله ورسوله؛ فإنه يجب أن يعامل بالإكرام، والاحترام، والتعظيم، كسائر علماء المسلمين الذين سبق ذكرهم، وأمثالهم، ومن تبعهم بإحسان.
ومن عُرف أنه أراد برده عليهم التنقيص، والذم، وإظهار العيب ( ) ؛ فإنه يستحـق أن يقـابل بالعـقوبة؛ ليرتـدع هو ونظراؤه عن هذه الرذائل المحـرمــة.
أقول :
هذا هو منهج الله الذي شرعه في كتبه وعلى ألسنة رسله وهو توضيح دين الله عقيدة وعبادة وأحكاماً بالحجج والبراهين والجد في إبطال ما يضاده في أي جانب من جوانبه دق أو جل مهما كان مصدر هذه المضادة والمخالفة طالحين أو صالحين، ولو كانوا أئمة مجتهدين فكيف بالمبتدعين والضالين الجاهلين الأفاكين .
وعلى هذا المنهج سار علماء الإسلام وأئمته وأعلامه من فجر تأريخ الإسلام إلى يومنا هذا حماية للإسلام وذباً عن حياضه.
ولقد كان من عهود سابقة من يعارض هذا المنهج وعلى رأسهم الصوفية ثم تلقى هذا عنهم غلاتهم وملاحدتهم كما مر بك من كلام الإمام ابن القيم ثم رفع راية هذه المعارضة أهل الفتن والتحزب المقيت في هذا العصر وطوروا هذه المعارضة ودعموها بطرق وأساليب ماكرة لا يعرفها حتى غلاة الصوفية ومنها:
1- الحملات الشعواء بالأكاذيب والشائعات على من يرد ضلالات زعمائهم الباطلة ولو كانت طعناً في الأنبياء أو الصحابة ولو كانت إلحاداً كالحلول ووحدة الوجود وتفننوا جداً في نشر هذه الشائعات والحرب واستخدموا في إشاعتها وتعميمها كل الوسائل والطرق من الأشرطة والكتب إلى شبكات الإنترنيت لتصل لكل أحد.
2- كل هذا لنصرة الباطل وأهله وإسقاط الحق وأهله وإسقاط هذا المنهج العظيم الذي يرفع راية الحق ويسقط راية الباطل ومن هنا ركزوا على إسقاط علمائه لأن بإسقاطهم يسقط المنهج على الطريقة الماسونية " إذا أردت إسقاط فكرة فعليك بإسقاط رجالها".
3- إلباس أنفسهم لباس السلفية والتشبث بهذا الاسم والاستماتة في الذب عمن يلبسه ولو كان عنده أقل نسبة من السلفية يتظاهر بها للخداع والمكر والكيد.
4- دعاوى التأصيل وما أدراك ما دعاوى التأصيل ، إنه القذف بالأصول الباطلة لحماية أهل البدع والمحامات عن بدعهم وضلالاتهم ولضرب أصول أهل السنة وإسكات أهل الحق، ولمخادعة الشباب الغر الذي ينتمي إلى المنهج السلفي ثم الاستيلاء على عقولهم ومشاعرهم ليكونوا في الأخير جنداً لهم يوالون ويعادون من اجلهم ومن أجل أباطيلهم المغلفة بالتأصيل وبالسلفية.
وإني لأدعو أهل السنة علماء ودعاة إلى الحق ناصحين ومؤهلين إلى الاهتمام بهذا المنهج العظيم والنهوض به كما نهض به أسلافهم الكرام؛ لأنه منهج الله ومنهج رسله الكرام ، ومنهج أئمة الإسلام.
وبالنهوض به يظهر دين الله الحق وتكون كلمة الله هي العليا وكلمة أهل الكفر وأهل البدع والضلال هي السفلى .
وبإهماله والتقصير فيه ينتفش وينتشر الباطل في مشارق الأرض ومغاربها كما حصل في العصور التي أهمل فيها هذا المنهج أو حصل التقصير فيه والإخلال به ، حتى يأتي الله بمن ينهض بهذا المنهج فيظهر الله بهم الحق كما حصل ذلك بالإمام ابن تيمية وتلاميذه ثم بعد قرون بالإمام محمد بن عبد الوهاب وتلاميذه، وغبرهم ممن يظهر الله على أيديهم الحق.
واليوم قد استفحل أمر أهل الضلال وأمر أهل الإلحاد وغزوا أهل السنة في عقر دارهم وحققوا كثيراً من أهدافهم في كثير من شباب أهل السنة.
وعليه فلابد من النهوض بهذا المنهج الذي يعلي الحق ويزيل الباطل أو يذله وبه تعود الأمة أو يعود منهم من أراد الله به خيراً إلى الكتاب والسنة وإلى ما كان عليه السلف الصالح .
نسأل الله أن يوفق علماء السنة لما يحب ويرضى ولما يقود الأمة إلى شاطئ النجاة، وأن يجمع كلمتهم وكلمة الأمة على الحق، إن ربنا لسميع الدعاء.
وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليما كثيراً
كتبه
ربيع بن هادي عمير المدخلي
في 17 جمادى الآخرة من عام 1424هـ
منهج شرعي في كل الرسالات
وسار عليه السلف الصالح الأجلاء
كتبه
ربيع بن هادي المدخلي
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه ومن اتبع هداه.
أما بعد:
فإن الصراع بين الحق والباطل والهدى والضلال قديم وموغل في القدم ومستمر لا ينقطع إلى يومنا هذا وإلى قيام الساعة، ولقد اشتد الصراع بين أول الرسل نوح عليه الصلاة والسلام وبين قومه الكافرين على امتداد ألف سنة إلا خمسين عاماً، يدعوهم عليه الصلاة والسلام ليلاً ونهاراً وسراً وجهاراً دون كلل ولا ملل ويقيم عليهم الحجج والبراهين الدامغة التي تبين الحق وتدحض الباطل والضلال حتى قال الكافرون بعد أن بلغوا نهاية الاستكبار والعناد والإصرار على الكفر والشرك: (يَا نُوحُ قَدْ جَادَلْتَنَا فَأَكْثَرْتَ جِدَالَنَا فَأْتِنَا بِمَا تَعِدُنَا إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ) (هود: من الآية32).
وهكذا يستمر هذا الصراع بين أهل الحق والباطل وأهل الإيمان والكفر.
فهذا إبراهيم يجادل قومه ويقيم عليهم الحجج الدامغة والبراهين القاطعة ، يحاج أباه ويحاج قومه ويحاج رأس الكفر والباطل ملك الكفر المتأله.
وهكذا موسى مع فرعون وقومه يدعو فرعون وقومه إلى الحق ويقيم عليهم الحجج والبراهين العقلية والشرعية ويدعمها بالآيات الكونية .
ويأتي خاتم الرسل محمد صلى الله عليه وسلم يدعو قومه العرب إلى الحق ويقيم عليهم الحجج الناصعة، والبراهين القاطعة ويدمغ أباطيلهم ويرد شبههم، وهكذا واجه أهل الكتاب من يهود ونصارى مدعماً حججه وبراهينه العقلية والشرعية بالآيات الكونية الكبيرة الكثيرة.
والقرآن والسنة مليئان بهذه الحجج، فمن تلك الحجج التي تبين الحق وتدحض الباطل:
1- قول الله تعالى: (وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْلا نُزِّلَ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ جُمْلَةً وَاحِدَةً كَذَلِكَ لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤَادَكَ وَرَتَّلْنَاهُ تَرْتِيلاً * وَلا يَأْتُونَكَ بِمَثَلٍ إِلا جِئْنَاكَ بِالْحَقِّ وَأَحْسَنَ تَفْسِيراً) (الفرقان:32-33).
ا- قال الحافظ ابن كثير :" يقول تعالى مخبراً عن كثرة اعتراض الكفار وتعنتهم وكلامهم فيما لا يعنيهم حيث قالوا: (لولا نزل عليه القرآن جملة واحدة) أي هلا أنزل عليه هذا الكتاب الذي أوحي إليه (جملة واحدة) كما نزلت الكتب قبله كالتوراة والإنجيل والزبور وغيرها من الكتب الإلهية فأجابهم الله عن ذلك بأنه إنما أنزل منجما في ثلاث وعشرين سنة بحسب الوقائع والحوادث وما يحتاج إليه من الأحكام لتثبيت قلوب المؤمنين به كما قال ( وقرآنا فرقناه لتقرأه على الناس على مكث ونزلناه تنزيلا)، ولهذا قال (لنثبت به فؤادك ورتلناه ترتيلا)، قال قتادة:" وبيناه تبييناً ، وقال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم وفسرناه تفسيراً".
(ولا يأتونك بمثل) أي بحجة وشبهة (إلا جئناك بالحق وأحسن تفسيراً) أي : ولا يقولون قولاً يعارضون به الحق إلا أجبناهم بما هو الحق في نفس الأمر وأبين وأوضح وأفصح من مقالتهم.
قال سعيد بن جبير عن ابن عباس :( ولا يأتونك بمثل ) أي بما يتلمسون به عيب القرآن والرسول (إلا جئناك بالحق وأحسن تفسيراً) إلا نزل جبريل من الله بجوابهم( )، ثم في هذا اعتناء كبير لشرف الرسول صلوات الله وسلامه عليه حيث كان يأتيه الوحي من الله بالقرآن صباحاً ومساء ليلا ونهاراً سفراً وحضراُ ". ( )
ب - وقال الإمام السعدي:" (ولا يأتونك بمثل) يعارضون به الحق ويدفعون به رسالتك ( إلا جئناك بالحق وأحسن تفسيراً) أي أنزلنا عليك قرآنا جامعاً للحق في معانيه والوضوح والبيان التام في ألفاضه، فمعانيه كلها حق وصدق لا يشوبها باطل ولا شبهة بوجه من الوجوه وألفاظه وحدوده للأشياء أوضح ألفاظاً وأحسن تفسيراً مبين للمعاني بياناً تاماً" ( ) .
2- وقال الله تعالى : (وَكَذَلِكَ نُفَصِّلُ الآياتِ وَلِتَسْتَبِينَ سَبِيلُ الْمُجْرِمِينَ) (الأنعام:55).
ا- قال الإمام ابن جرير:"(وكذلك نفصل الآيات ولتستبين سبيل المجرمين)، يعني تعالى ذكره بقوله:( وكذلك نفصل الآيات)، وكما فصلنا لك في هذه السورة من ابتدائها وفاتحتها، يا محمد إلى هذا الموضع، حجتنا على المشركين من عبدة الأوثان وأدلتنا وميزناها لك وبيناها كذلك نفصل لك أعلامنا وأدلتنا في كل حق ينكره أهل الباطل( ) من سائر أهل الملل غيرهم فنبينها لك حتى يبين حقه من باطله وصحيحه من سقيمه" ( ).
وقال أيضاً في تفسير قوله تعالى: ( ولتستبين سبيل المجرمين) وكأن معنى الكلام عندهم وكذلك نفصل الآيات ولتتضح لك وللمؤمنين طريقُ المجرمين"
وقال أيضاً:" لأن الله -تعالى ذكره- فصل آياته في كتابه وتنزيله ليتبين الحقَّ بها من الباطل جميعُ مَن خوطب بها لا بعضٌ دون بعض".
ب- وقال الإمام ابن كثير في تفسير هذه الآية:" يقول تعالى وكما بينا ما تقدم بيانه من الحجج والدلائل على طريق الهداية والرشاد وذم المجادلة والعناد (كذلك نفصل الآيات) أي: التي يحتاج المخاطبون إلى بيانها (ولتستبين سبيل المجرمين) أي ولتظهر طريق المجرمين المخالفين للرسل وقرئ (ولتستبين سبيل المجرمين) أي ولتستبين يا محمد أو يا مخاطب سبيل المجرمين" ( ) .
وفي الآية أن تبين سبيل المجرمين غاية كبيرة من غايات القرآن لأن في خفائها ضرراً على الناس في دينهم وعقولهم.
ج- قال ابن القيم في كتابه الفوائد ( ) :" قال الله تعالى ( وكذلك نفصل الآيات ولتستبين سبيل المجرمين)، وقال ( ومن يشاقق الرسول من بعدها ما تبين الهدى ويتبع غير سبيل المؤمنين نوله ما تولى)، والله تعالى قد بين في كتابه سبيل المؤمنين مفصلة وسبيل المجرمين مفصلة وعاقبة هؤلاء مفصلة وعاقبة هؤلاء مفصلة وأعمال هؤلاء، وأعمال هؤلاء، وأولياء هؤلاء وأولياء هؤلاء وخذلانه لهؤلاء وتوفيقه لهؤلاء والأسباب التي وفق بها هؤلاء والأسباب التي خذل بها هؤلاء وجلاَّ سبحانه الأمرين في كتابه، وكشفهما وأوضحهما وبينهما غاية البيان حتى شاهدتهما البصائر كمشاهدة الأبصار للضياء والظلام فالعالمون بالله وكتابه ودينه عرفوا سبيل المؤمنين معرفة تفصيلية، وسبيل المجرمين معرفة تفصيلية، فاستبانت لهم السبيلان كما يستبين للسالك الطريق الموصل إلي مقصوده والطريق الموصل إلى الهلكة، فهؤلاء أعلم الخلق وأنفعهم للناس وأنصحهم لهم، وهم الإدلاء الهداة ، وبذلك برَّز الصحابة علي جميع من أتي بعدهم إلى يوم القيامة، فإنهم نشأوا في سبيل الظلال والكفر والشرك، والسبل الموصلة إلي الهلاك وعرفوها مفصلة، ثم جاءهم الرسول فأخرجهم من تلك الظلمات إلى سبيل الهدى وصراط الله المستقيم فخرجوا من الظلمة الشديدة إلى النور التام، ومن الشرك إلى التوحيد ومن الجهل إلى العلم، ومن الغي إلى الرشاد، ومن الظلم إلى العدل، ومن الحيرة والعمى إلى الهدى والبصائر، فعرفوا مقدار ما نالوه وظفروا به، ومقدار ما كانوا فيه فان الضد يظهر حسنه الضد، وانما تتبين الأشياء بأضدادها، فازدادوا رغبة ومحبة فيما انتقلوا اليه، ونفرة وبغضاً لما انتقلوا عنه، وكانوا أحب الناس في التوحيد والإيمان والإسلام، وأبغض الناس في ضده، عالمين بالسبيل على التفصيل.
وأما من جاء بعد الصحابة فمنهم من نشأ في الإسلام غير عالم تفصيل ضده فالتبس عليه بعض تفاصيل سبيل المؤمنين بسبيل المجرمين فان اللبس إنما يقع إذا ضعف العلم بالسبيلين أو أحدهما، كما قال عمر بن الخطاب إنما تنقض عري الإسلام عروة إذا نشأ في الإسلام من لم يعرف الجاهلية، وهذا من كمال علم عمر رضي الله عنه فانه إذا لم يعرف الجاهلية وحكمها وهو كل ما خالف ما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم فإنه من الجاهلية فإنها منسوبة إلى الجهل، وكل ما خالف الرسول فهو من الجهل، فمن لم يعرف سبيل المجرمين، ولم تستبن له أوشك أن يظن في بعض سبيلهم أنها من سبيل المؤمنين كما وقع في هذه الأمة من أمور كثيرة في باب الاعتقاد والعلم والعمل هي من سبيل المجرمين والكفار وأعداء الرسل، أدخلها من لم يعرف أنها من سبيلهم في سبيل المؤمنين ودعا إليها وكفر من خالفها واستحل منه ما حرمه الله ورسوله كما وقع لأكثر أهل البدع من الجهمية والقدرية والخوارج والروافض وأشباههم ( ) ممن ابتدع بدعة ودعا إليها وكفر من خالفها.
والناس في هذا الموضع أربع:
الفرقة الأولى: من استبان له سبيل المؤمنين وسبيل المجرمين على التفصيل علما وعملا وهؤلاء أعلم الخلق.
الفرقة الثانية: من عميت عنه السبيلان من أشباه الأنعام وهؤلاء بسبيل المجرمين أحضر ولها أسلك .
الفرقة الثالثة: من صرف عنايته إلى معرفة سبيل المؤمنين دون ضدها فهو يعرف ضدها من حيث الجملة والمخالفة وأن كل ما خالف سبيل المؤمنين فهو باطل وان لم يتصوره على التفصيل بل إذا سمع شيئا مما خالف سبيل المؤمنين صرف سمعه عنه ولم يشغل نفسه بفهمه ومعرفة وجه بطلانه وهو بمنـزلة من سلمت نفسه من إرادة الشهوات فلم تخطر بقلبه ولم تدعه إليها نفسه بخلاف الفرقة الأولى فانهم يعرفونها وتميل إليها نفوسهم ويجاهدونها علي تركها لله ... وقد كتبوا إلى عمر بن الخطاب يسألونه عن هذه المسالة أيما أفضل رجل لم تخطر له الشهوات ولم تمر بباله أو رجل نازعته إليها نفسه فتركها لله فكتب عمر ان الذي تشتهى نفسه المعاصي ويتركها لله عز وجل من الذين امتحن الله قلوبهم للتقوى لهم مغفرة وأجر عظيم.
وهكذا من عرف البدع والشرك والباطل وطرقه فأبغضها لله وحذرها وحذر منها ودفعها عن نفسه ولم يدعها تخدش وجه إيمانه ولا تورثه شبهة ولا شكا بل يزداد بمعرفتها بصيرة في الحق ومحبة له وكراهة لها ونفرة عنها أفضل ممن لا تخطر بباله ولا تمر بقلبه....
الفرقة الرابعة: فرقة عرفت سبيل الشر والبدع والكفر مفصلة وسبيل المؤمنين مجملة وهذا حال كثير ممن اعتنى بمقالات الأمم ومقالات أهل البدع فعرفها على التفصيل ولم يعرف ما جاء به الرسول كذلك بل عرفه معرفة مجملة وإن تفصلت له في بعض الأشياء ومن تأمل كتبهم رأى ذلك عيانا وكذلك من كان عارفا بطرق الشر والظلم والفساد على التفصيل سالكا لها إذا تاب ورجع عنها إلى سبيل الأبرار يكون علمه بها مجملا غير عارف بها على التفصيل معرفة من أفنى عمره في تصرفها وسلوكها والمقصود ان الله سبحانه يحب أن تعرف سبيل أعدائه لتجتنب وتبغض كما يجب أن تعرف سبيل أوليائه لتحب وتسلك وفى هذه المعرفة من الفوائد والأسرار مالا يعلمه إلا الله من معرفة عموم ربوبيته سبحانه وحكمته وكمال أسمائه وصفاته وتعلقها بمتعلقاتها واقتضائها لآثارها وموجباتها وذلك من أعظم الدلالة على ربوبيته وملكه وإلهيته وحبه وبغضه وثوابه وعقابه والله أعلم".
والله سبحانه أثنى على هذه الأمة وميزها على سائر الأمم لأنها تأمر بالمعروف وتنهى عن المنكر قال تعالى:( كنتم خير أمة أخرجت للناس تأمرون بالمعروف وتنهون عن المنكر وتؤمنون بالله).
وذم الذين كفروا من بني إسرائيل ولعنهم لأنهم كانوا لا يتناهون عن منكر فعلوه قال الله تعالى:( لعن الذين كفروا من بني إسرائيل على لسان داوود وعيسى بن مريم ذلك بما عصوا وكانوا يعتدون كانوا لا يتناهون عن منكر فعلوه لبيس ما كانوا يفعلون).
فهذه شذرات من نصوص القرآن ومن كلام أئمة التفسير
أما السنة فقد كان رسول الله صلى الله وسلم يرد الأخطاء خطأ خطأ والشبهات شبهة شبهة ويقيم الحدود ومن تكرر منه ما يوجب إقامة الحد فقد كرر عليه الحد جلداً أو قطعاً وكان لا يقر على باطل أبداً صلى الله عليه وسلم وهذا كله إلى جانب بيان القرآن للحق بالتفصيل ودحضه للشبه والباطل بالتفصيل.
وكان مع هذا يجند الشعراء لنصرة الحق والذوذ عن حياضه ودحض الباطل بل والطعن القاتل للأعداء.
فعن الزهري قال أخبرني أبو سلمة بن عبد الرحمن أنه سمع حسان بن ثابت الأنصاري يستشهد أبا هريرة أنشدك الله هل سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: يا حسان أجب عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال أبو هريرة: نعم " ( ) .
وعن عدي بن ثابت قال سمعت البراء بن عازب قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول لحسان بن ثابت :" أهجهم أو هاجهم وجبريل معك" ( ) .
وعن عائشة رضي الله عنها أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:" اهجوا قريشاً فإنه أشد عليها من رشق النبل "، في حديث طويل عنها فيه انه دعا عبد الله بن رواحة ثم كعب بن مالك ثم حسانا رضي الله عنهم ، فقال من الشعر ما أرضى رسول الله صلى الله عليه وسلم ، قالت عائشة رضي الله عنها: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول:" هجاهم حسان فشفى واشتفى" ( ).
وروى الإمام أحمد رحمه الله تعالى في مسنده من طريق شعبة عن اسماعيل بن أبي خالد قال سمعت قيس بن أبي حازم يحدث عن أبي بكر الصديق انه خطب فقال :" يا أيها الناس إنكم تقرؤون هذه الآية وتضعونها على غير ما وضعها الله ( يا أيها الذين آمنوا عليكم أنفسكم لا يضركم من ضل إذا اهتديتم)، سمعت رسول الله عليه وسلم يقول:" إن الناس إذا رأوا المنكر بينهم فلم ينكروه يوشك ان يعمهم الله بعقاب" ( ) .
وعن النعمان بن بشير –رضي الله عنه-عن النبي صلى الله عليه قال:" مثل القائم على حدود الله والواقع فيها كمثل قوم استهموا على سفينة فأصاب بعضهم أعلاها وبعضهم أسفلها، فكان الذين في أسفلها إذا استقوا من مروا على من فوقهم، فقالوا: لو أنا خرقنا ولم نؤد من فوقنا، فإن يتركوهم وما أرادوا هلكوا جميعاً وإن أخذوا على أيديهم نجوا ونجوا جميعاً" ( ) .
أخرجه البخاري في الشهادات بهذا اللفظ وساقه في الشركات بلفظ:" مثل المداهن في حدود الله والواقع فيها .." الحديث.
وساقه الترمذي بلفظ :" مثل القائم على حدود الله والمداهن فيها.."، وقال حديث حسن صحيح.
قال في اللسان في مادة "دهن":
المداهنة والإدهان المصانعة واللين، وقيل المداهنة إظهار خلاف ما يضمر والإدهان الغش ودهن الرجل إذا نافق".
وقال العلامة المباركفوري:" والفرق بين المداهنة المنهية والمداراة المأمورة أن المداهنة في الشريعة أن يرى منكراً فيقدر على دفعه ولم يدفعه حفظاً لجانب مرتكبه أو جانب غيره لخوف أو طمع أو لاستحياء منه أو قلة مبالاة في الدين والمداراة موافقته بترك حظ نفسه وحق يتعلق بماله وعرضه فسكت عنه دفعاً للشر ووقوع الضرر" ( ) .
وهذا الحديث مثل رائع يبين خطورة النتائج المهلكة للسكوت عن الباطل والمداهنة فيه وأنه يجب على الأمة أن تضرب بيد من حديد على اهل البدع وأهل الفجور الذين تؤدي ضلالاتهم وفجورهم إلى إهلاك الأمة في دينها ودنياها.
ولقد اعتبر الرسول صلى الله عيه وسلم الأمر بالمعروف جهاداً ، فعن ابن مسعود رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:" ما من نبي بعثه الله في أمة قبلي إلا كان له من أمته حواريون وأصحاب يأخذون بسنته ويقتدون بأمره ثم إنها تخلف من بعدهم خلوف يقولون ما لا يفعلون ويفعلون ما لا يؤمرون فمن جاهدهم بيده فهو مؤمن ومن جاهدهم بلسانه فهو مؤمن ومن جاهدهم بقلبه فهو مؤمن وليس وراء ذلك من الإيمان حبة خردل" ( ) ، ومن هنا قال الإمام يحيى بن يحيى " الذب عن السنة أفضل من الضرب بالسيوف "، وقال شيخ الإسلام ابن تيمية :" الراد على أهل البدع مجاهد".
ولما وقع الضلال كما أخبر النبي صلى الله عليه وسلم بمثل قوله:" افترقت اليهود إلى إحدى وسبعين فرقة وافترقت النصارى إلى ثنتين وسبعين فرقة وستفترق أمتي إلى ثلاث وسبعين فرقة كلها في النار إلا واحدة قالوا من هي يا رسول الله قال الجماعة" وفي رواية من روايات هذا الحديث " من كان على ما أنا عليه وأصحابي".
ومثل قوله :" لتتبعن سنن من كان قبلكم حذوا القذة بالقذة حتى لو دخلوا جحر ضب لدخلتموه، قيل اليهود والنصارى يا رسول الله؟ قال نعم".
تصدى لهذه الطوائف أفراداً وجماعات أئمة الهدى وأعلام الدجى من صفوة هذه الأمة، فردوا أباطيلهم وضلالاتهم فما جاؤا بضلالة ولا شبهة إلا دحضوها وبينوا زيفها وبينوا الحق بياناً واضحاً تأسياً بالقرآن والسنة في تزييف الباطل وإزهاقه وإظهار الحق.
وقد دونت أعمالهم وجهادهم في إنكار المخالفات وبيان حال أهلها وبيان بُعْدِ هذه المخالفات عن هدي الكتاب والسنة وبيان أحكام هذه المخالفات وأحكام أهلها من تبديع واستنكار.
لقد نهضوا بهذا البيان القائم على النصيحة لله ولكتابه ولرسوله ولأئمة المسلمين وعامتهم، وحماية لدينهم في عدد من الكتب سواء كانت في مجال العقيدة كما في كتب العقائد، أو الأحكام كما في كتب الفقه وشروح الحديث، وفي باب الرواية ونقل السنة عن رسول الله صلى الله وسلم كما في كتب الرجال والعلل والكتب في ذلك لا تحصى.
وقد يتكلم على الخطأ الواحد عشرات من الأئمة وعلى العقيدة الفاسدة كذلك وفي الراوي عشرات الأئمة وقد يكون للرجل عشرات البدع فيتصدى له أحد العلماء فيفندها واحدة واحدة بالأدلة والبراهين، كما رد شيخ الإسلام ابن تيمية على ابن مطهر الحلي في كتابه " المنهاج" في تسع مجلدات، وكما رد على الرازي في " نقض التأسيس"، الذي يبلغ أربع مجلدات ولاحق الرازي في عدد من المؤلفات، وكما رد على البكري في كتاب "الاستغاثة الكبرى"، وكما رد على الأخنائي في كتابه " الرد على الأخنائي"، وكما رد ابن عبد الهادي على السبكي في كتابه " الصارم المنكي "، وقبلهم رد الإمام عثمان بن سعيد الدارمي على بشر في كتابه " الرد على بشر المريسي".
وقد يكون للطائفة عشرات البدع فيتصدى لها أحد العلماء فلا يترك لها شاذة ولا فاذة وقد يتصدى لها عدد من العلماء كل يطيل النفس في مناقشة ضلالاتها، والأمثلة على ذلك كبيرة، كما رد الإمام أحمد والإمام الدارمي على الجهمية وكما رد الإمام الشافعي على المعتزلة والروافض الطاعنين في السنة عموما وعلى الطاعنين في أخبار الآحاد خصوصاً في كتابيه " الرسالة" و" جماع العلم"وكما رد البخاري على الجهمية وغيرهم في " خلق أفعال العباد" وكما رد الخلال والآجري وابن بطة واللالكائي وغيرهم من أئمة الإسلام على طوائف أهل البدع.
فكم من إمام تناول عمرو بن عبيد وواصل بن عطاء والجاحظ والنظام وأمثالهم، وكم من إمام تناول كتبهم وفند ما فيها من الضلالات.
ولم يقف أئمة السنة عند نقد واستنكار ضلالات أهل الضلال بل تجاوزوا ذلك إلى نقد العلماء وعلى رأسهم كبار علماء السنة والحديث في أخطائهم.
فقد انتقد الإمام الليث بن سعد الإمام مالكاً في مسائل مشهورة، بل انتقد الإمام الشافعي شيخه الإمام مالكاً في مسائل كثيرة، وانتقد أحمد إسحاق والشافعي وغيرهما، بل انتقد أبو حاتم وأبو زرعة الإمام البخاري في كتابه "التاريخ" في عشرات الأسماء.
وانتقد الدارقطني الإمامين البخاري ومسلماً في حوالي مأتي حديث، وانتقد البيهقي الطحاوي في كثير من المسائل.
وكما انتقد أبو الحسين بن القطان الفاسي في كتابه " بيان الوهم والإيهام " الذي يبلغ خمس مجلدات، الإمام عبد الحق الإشبيلي في كتابه " الأحكام".
كما انتقد أبو إسحاق إبراهيم بن محمد الدمشقي في كتابه " عجالة الإملاء المتيسرة" في خمس مجلدات، انتقد فيها الحافظ المنذري في كتابه " الترغيب والترهيب"،وهذه أمور لا تحصى .
وهذا المنهج هو الذي عليه أئمة الدين سلفاً وخلفاً.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية ـ رحمه ا الله ـ ذاكراً من يجوز ذمه من الأنواع، وليس ذلك من الغيبة، كالكافر، والفاجر، والفاسق، والظالم، والغوي، والضال، والحاسد ...
إلى أن قال ":وأما الشخص فيُذكر ما فيه من الشر في مواضع"
وذكر منها : المظلوم يذكر ظالمه بما فيه، وساق الأدلة على ذلك، ثم قال :"ومنها : أن يكون على سبيل النصيحة للمسلمين في دينهم ودنياهم، كما في الحديث الصحيح عن فاطمة بنت قيس لما استشارت النبي من تنكح ؟ . قالت : إنه خطبني معاوية وأبوجهم، فقال:"أما معاوية فصعلوك لا مال له، وأما أبوجهم فرجل ضَرَّاب للنساء" .
فكان هذا نصحاً لها وإن تضمن ذكر عيب الخاطب .
وفي معنى هذا نصح الرجل فيمن يعامله، ومن يوكله، ومن يوصي إليه، ومن يستشهده، بل ومن يتحاكم إليه، وأمثال ذلك.
وإذا كان هذا في مصلحة خاصة فكيف بالنصح فيما يتعلق به حقوق عموم المسلمين من الأمراء، والحكام، والشهود، والعمال أهل الديـوان وغـيرهــا؛ فــلا ريب أن النصـح في ذلك أعـظم، كما قال النبي : "الدين النصــيحـة، الدين النصــيحـة "قالـوا : لمن يا رسول الله؟. قال:" لله، ولكتابه، ولرسوله، ولأئمة المسلمين، وعامتهم .
ثـم تحـدث عن وجـوب الكلام في نَقَـلَة الحـديث، الذين يغلطون، أو يكذبون، وأنه من باب المصالح الدينية العامة والخاصة .
ثم ثنى بالكلام على أئمة البدع من أهل المقالات المخالفة للكتاب والسنة؛ فقال:" فإن بيان حالهم، وتحذير الأمة منهم واجب باتفاق المسلمين، حتى قيل لأحمد بن حنبل : الرجل يصوم ويصلي ويعتكف أحب إليك، أو يتكلم في أهل البدع ؟ . فقال : "إذا صام وصلى واعتكف فإنما هو لنفسه، وإذا تكلم في أهل البدع فإنما هو للمسلمين".
فتبين أن نفع هذا عام للمسلمين في دينهم، من جنس الجهاد في سبيل ا الله؛ إذ تطهير سبيل ا الله، ودينه، ومنهاجه، وشرعته، ودفع بغي هؤلاء وعدوانهم على ذلك؛ واجب على الكفاية باتفاق المسلمين".
ولولا من يقيمه الله لدفع ضرر هؤلاء لفسد الدين، وكان فساده أعظم من فساد استيلاء العدو من أهل الحرب؛ فإن هؤلاء إذا استولوا لم يفسدوا القلوب وما فيها من الدين إلا تبعاً، وأما أولئك فهم يفسدون القلوب ابتداءً .
وأعداء الدين نوعان : الكفار والمنافقون .
وقد أمر الله بجهاد الطائفتين في قوله :(جاهد الكفار والمنافقين واغلظ عليهم) في آيتين من القرآن .
فإذا كان أقوام منافقون، يبتدعون بدعاً تخالف الكتاب، ويلبسونها على الناس، ولم تُـبَـيّـن للناس؛ فسد أمر الكتاب، وبدل الدين، كما فسد دين أهل الكتاب قبلنا بما وقع فيه من التبديل الذي لم ينكر على أهله . ( )
وقال ابن القيم - رحمه الله- في مدارج السالكين ( ) معلقاً على قول أبي إسماعيل الأنصاري رحمه الله :" وتخلص من رعونة المعارضات "، قال ابن القيم :" يريد أن هذه الملاحظة تخلص العبد من رعونة معارضة حكم الله الديني والكوني الذي لم يأمر بمعارضته فيستسلم للحكمين فإن ملاحظة عين الجمع تشهده أن الحكمين صدرا عن عزيز حكيم فلا يعارض حكمه برأي ولا عقل ولا ذوق ولا خاطر".
ثم ذكر ما معناه أن أمر الله لا يعارض بالشهوة وخبره بالشك والشبهة وأن المؤمن الواعي يخلص قلبه من هاتين المعارضتين ، وهذا القلب الذي هذا حاله هو القلب السليم الذي لا يفلح إلا من لقي الله به.
ثم قال:" وأما أهل الإلحاد فقالوا المراد بالمعارضات ههنا الإنكار على الخلق فيما يبدو منهم من أحكام البشرية لأن المشاهد لعين الجمع يعلم أن مراد الله من الخلق ما هم عليه فإذا علم ذلك بحقيقة الشهود كانت المعارضات والإنكار عليهم من رعونات الأنفس المحجوبة وقال قدوتهم في ذلك العارف: لا ينكر منكرا لاستبصاره بسر الله في القدر وهذا عين الاتحاد والإلحاد والانسلاخ من الدين بالكلية وقد أعاذ الله شيخ الإسلام من ذلك وإذا كان الملحد يحمل كلام الله ورسوله ما لا يحتمله فما الظن بكلام مخلوق مثله فيقال إنما بعث الله رسله وأنزل كتبه بالإنكار على الخلق بما هم عليه من أحكام البشرية وغيرها فبهذا أرسلت الرسل وأنزلت الكتب وانقسمت الدار إلى دار سعادة للمنكرين ودار شقاوة للمنكر عليهم فالطعن في ذلك طعن في الرسل والكتب والتخلص من ذلك انحلال من ربقة الدين ومن تأمل أحوال الرسل مع أممهم وجدهم كانوا قائمين بالإنكار عليهم أشد القيام حتى لقوا الله تعالى وأوصوا من آمن بهم بالإنكار على من خالفهم وأخبر النبي أن المتخلص من مقامات الإنكار الثلاثة ليس معه من الإيمان حبة خردل وبالغ في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر أشد المبالغة حتى قال إن الناس إذا تركوه أوشك أن يعمهم الله بعقاب من عنده وأخبر أن تركه يمنع إجابة دعاء الأخيار ويوجب تسلط الأشرار وأخبر أن تركه يوقع المخالفة بين القلوب والوجوه ويحل لعنة الله كما لعن الله بني إسرائيل على تركه فكيف يكون الإنكار من رعونات النفوس وهو مقصود الشريعة وهل الجهاد إلا على أنواع الإنكار وهو جهاد باليد وجهاد أهل العلم إنكار باللسان".
وقال الحافظ ابن رجب ـ رحمه الله ـ :
" اعلم أن ذكر الإنسان بما يكره محرم؛ إذا كان المقصود منه مجرد الذم، والعيب، والنقص.
فأما إذا كان فيه مصلحة لعامة المسلمين، أو خاصة لبعضهم، وكان المقصود به تحصيل تلك المصلحة؛ فليس بمحرم، بل مندوب إليه.
وقد قَرَّرَ علماء الحديث هذا في كتبهم في الجرح والتعديل، وذكروا الفرق بين جرح الرواة وبين الغيبة، وردوا على من سوى بينهما من المتعبدين وغيرهم ممن لا يتسع علمه .
ولا فـرق بـين الطـعن في رواة ألفـاظ الحـديث، ولا التمـيـيز بين ما تُقبل روايته منهم ومن لا تُقبل، وبين تبيين خطأ من أخطأ في فهم معاني الكتاب والسنة، وتأول شيئاً منها على غير تأويله، وتمسك بما لا يتمسك به؛ ليحذر من الاقتداء به فيما أخطأ فيه.
وقد أجمع العلماء على جواز ذلك ـ أيضاً ـ.
ولهذا تجد في كتبهم المصنَّفة في أنواع العلوم الشرعية من : التفسير، وشروح الحديث، والفقه، واختلاف العلماء، وغير ذلك؛ ممتلئة من المناظرات، وردّوا أقوال من تضعف أقواله من أئمة السلف والخلف، من الصحـابة والتابعين، ومن بعدهم، ولم يترك ذلك أحد من أهل العلم، ولا ادعى فيه طعناً على من رد عليه قوله، ولا ذماً، ولا نقصاً ... اللهم إلا أن يكون المصنِّف ممن يفحش في الكلام، ويسيء الأدب في العبارة؛ فـيُنكَر عليه فحاشته وإساءته، دون أصل رده ومخالفته؛ إقامة بالحجج الشرعية، والأدلة المعتبرة .
وسبب ذلك: أن علماء الدين كلهم مجمعون على قصد إظهار الحق، الذي بعث الله به رسوله ، وأن يكون الدين كله لله، وأن تكون كلمته هي العليا.
وكلهم معترفون بأن الإحاطة بالعلم كله من غير شذوذ شيء منه ليس هو مرتبة أحدٍ منهم، ولا ادعاه أحد من المتقدمين ولا من المتأخرين.
فلهذا كان أئمة السلف المجمع على علمهم وفضلهم، يقبلون الحق ممن أورده عليهم وإن كان صغيراً، ويوصون أصحابهم وأتباعهم بقبول الحق إذا ظهر في غير قولهم، كما قال عمر في مهور النساء، وردت المرأة بقوله تعالى {وآتيتم إحداهن قنطاراً}. ( ) فرجع عن قوله، وقال :" أصابت امرأة ورجل أخطأ ".
ورُوِيَ عنه أنه قال :" كل أحد أفقه من عمر ".
وكان بعض المشهورين إذا قال في رأيه بشيء يقول : "هذا رأينا؛ فمن جاءنا برأي أحسن منه قبلناه".
وكان الشافعي (150 ـ 204 هـ) يبالغ في هذا المعنى، ويوصي أصحابه باتباع الحق، وقبول السنة إذا ظهرت لهم على خلاف قوله، وأن يُضرب بقوله حينئذٍ الحائط، وكان يقول في كتبه : "لا بد أن يوجد فيها ما يخالف الكتاب أو السنة؛ لأن ا الله تعالى يقول{ ولو كان من عند غير الله لوجدوا فيه اختلافاً كثيراً } ( ) .
فحينئذٍ فَـرَدُّ المقالات الضعيفة، وتبيين الحق في خلافها بالأدلة الشرعية، ليس هو مما يكرهه أولئك العلماء، بل مما يحبونه ويمدحون فاعله، ويثنون عليه؛ فلا يكون داخلاً في باب الغيبة بالكلية.
فلو فُـرِضَ أن أحداً يكره إظهار خطئه المخالف للحق؛ فلا عبرة بكراهته لذلك، فإن كراهة إظهار الحق إذا كان مخالفاً لقول الرجل ليس من الخصال المحمودة.
بل الواجب على المسلم أن يحب ظهور الحق ومعرفة المسلمين له، سواء كان في موافقته أو مخالفته .
وهذا من النصيحة لله، ولكتابه، ورسوله، ودينه، وأئمة المسلمين، وعامتهم، وذلك هو الدين، كما أخبر به النبي.
وأما بيان خطأ من أخطأ من العلماء قبله، إذا تأدب في الخطاب، وأحسن الرد والجواب؛ فلا حرج عليه، ولا لوم يتوجه إليه، وإن صدر منه من الاغترار ( ) بمقالته فلا حرج عليه .
وقد كان بعض السلف إذا بلغه قول ينكره على قائله يقول : "كَـذَبَ فلان" .
ومن هذا قول النبي :" كذب أبو السنابل " لَـمَّا بلغه أنه أفتى : أن المتوفَّى عنها زوجها إذا كانت حاملاً لا تحل بوضع الحمل، حتى تأتي عليها أربعة أشهر وعشراً .
وقد بالغ الأئمة الورعون في إنكار مقالات ضعيفة لبعض العلماء، وردها أبلغ الرد، كما كان الإمام أحمد ينكر على أبي ثور وغيره مقالات ضعيفة تفردوا بها، ويبالغ في ردها عليهم .
هذا كله حكم الظاهر .
أما في باطن الأمر؛ فإن كان مقصوده في ذلك مجرد تبيين الحق، ولئلا يغتر الناس بمقالات من أخطأ في مقالاته؛ فلا ريب أنه مثاب على قصده، ودخل بفعله هذا بهذه النية في النصح لله، ورسوله، وأئمة المسلمين، وعامتهم .
وسواء كان الذي بين الخطأ صغيراً أم كبيراً، فله أسوة بمن رد من العلماء مقالات "ابن عباس" التي يشذ بها ( )وأنكرت عليه من العلماء، مثل : المتعة، والصرف، والعمرتين، وغير ذلك .
ثم ذَكَرَ :
أن العلماء ردوا مقالات لمثل : "سعيد بن المسيب"، و"الحسن"، و"عطاء"، و"طاووس"، وعلى غيرهم، ممن أجمع المسلمون على هدايتهم، ودرايتهم، ومحبتهم، والثناء عليهم .
ولم يعد أحد منهم مخالفوه ( ) في هذه المسائل طعناً في هؤلاء الأئمة، ولا عيباً لهم.
وقد امتلأت كتب أئمة المسلمين من السلف والخلف بتبيين هذه المقالات وما أشبهها، مثل : "كتب الشافعي"، و"إسحاق"، و"أبي عبيد"، و"أبي ثور"، ومن بعدهم من أئمة الفقه والحديث.
وإما مراد ( ) الراد بذلك : إظهار العيب على من رَدَّ عليه وتنقصه، وتبيين جهله، وقصوره في العلم، سواء كان رده لذلك في وجه من رَدَّ عليه أو في غيبته، وسواء كان في حياته أو بعد موته، وهذا داخل فيما ذمه الله في كتابه، وتوعد عليه، في الهمز واللمز، ودخل ـ أيضاً ـ في قول النبي :" يا معشر من آمن بلسانه ولم يؤمن بقلبه؛ لا تؤذوا المسلمين، لا تتبعوا عوراتهم؛ فإنه من يتبع عوراتهم يتبع الله عورته، ومن يتبع الله عورته يفضحه ولو في جوف بيته" ( ).
وهذا كله في حق العلماء المقتدى بعهم في الدين.
فأما أهل البدع والضلالة، ومن تَشَبَّه بالعلماء وليس منهم ( ) ، فيجوز بيان جهلهم، وإظهار عيوبهم، تحذيراً من الاقتداء بهم.
وليس كلامنا الآن في هذا القبيل، والله أعلم.
ومن عُرف منه أنه أراد برده على العلماء النصيحة لله ورسوله؛ فإنه يجب أن يعامل بالإكرام، والاحترام، والتعظيم، كسائر علماء المسلمين الذين سبق ذكرهم، وأمثالهم، ومن تبعهم بإحسان.
ومن عُرف أنه أراد برده عليهم التنقيص، والذم، وإظهار العيب ( ) ؛ فإنه يستحـق أن يقـابل بالعـقوبة؛ ليرتـدع هو ونظراؤه عن هذه الرذائل المحـرمــة.
أقول :
هذا هو منهج الله الذي شرعه في كتبه وعلى ألسنة رسله وهو توضيح دين الله عقيدة وعبادة وأحكاماً بالحجج والبراهين والجد في إبطال ما يضاده في أي جانب من جوانبه دق أو جل مهما كان مصدر هذه المضادة والمخالفة طالحين أو صالحين، ولو كانوا أئمة مجتهدين فكيف بالمبتدعين والضالين الجاهلين الأفاكين .
وعلى هذا المنهج سار علماء الإسلام وأئمته وأعلامه من فجر تأريخ الإسلام إلى يومنا هذا حماية للإسلام وذباً عن حياضه.
ولقد كان من عهود سابقة من يعارض هذا المنهج وعلى رأسهم الصوفية ثم تلقى هذا عنهم غلاتهم وملاحدتهم كما مر بك من كلام الإمام ابن القيم ثم رفع راية هذه المعارضة أهل الفتن والتحزب المقيت في هذا العصر وطوروا هذه المعارضة ودعموها بطرق وأساليب ماكرة لا يعرفها حتى غلاة الصوفية ومنها:
1- الحملات الشعواء بالأكاذيب والشائعات على من يرد ضلالات زعمائهم الباطلة ولو كانت طعناً في الأنبياء أو الصحابة ولو كانت إلحاداً كالحلول ووحدة الوجود وتفننوا جداً في نشر هذه الشائعات والحرب واستخدموا في إشاعتها وتعميمها كل الوسائل والطرق من الأشرطة والكتب إلى شبكات الإنترنيت لتصل لكل أحد.
2- كل هذا لنصرة الباطل وأهله وإسقاط الحق وأهله وإسقاط هذا المنهج العظيم الذي يرفع راية الحق ويسقط راية الباطل ومن هنا ركزوا على إسقاط علمائه لأن بإسقاطهم يسقط المنهج على الطريقة الماسونية " إذا أردت إسقاط فكرة فعليك بإسقاط رجالها".
3- إلباس أنفسهم لباس السلفية والتشبث بهذا الاسم والاستماتة في الذب عمن يلبسه ولو كان عنده أقل نسبة من السلفية يتظاهر بها للخداع والمكر والكيد.
4- دعاوى التأصيل وما أدراك ما دعاوى التأصيل ، إنه القذف بالأصول الباطلة لحماية أهل البدع والمحامات عن بدعهم وضلالاتهم ولضرب أصول أهل السنة وإسكات أهل الحق، ولمخادعة الشباب الغر الذي ينتمي إلى المنهج السلفي ثم الاستيلاء على عقولهم ومشاعرهم ليكونوا في الأخير جنداً لهم يوالون ويعادون من اجلهم ومن أجل أباطيلهم المغلفة بالتأصيل وبالسلفية.
وإني لأدعو أهل السنة علماء ودعاة إلى الحق ناصحين ومؤهلين إلى الاهتمام بهذا المنهج العظيم والنهوض به كما نهض به أسلافهم الكرام؛ لأنه منهج الله ومنهج رسله الكرام ، ومنهج أئمة الإسلام.
وبالنهوض به يظهر دين الله الحق وتكون كلمة الله هي العليا وكلمة أهل الكفر وأهل البدع والضلال هي السفلى .
وبإهماله والتقصير فيه ينتفش وينتشر الباطل في مشارق الأرض ومغاربها كما حصل في العصور التي أهمل فيها هذا المنهج أو حصل التقصير فيه والإخلال به ، حتى يأتي الله بمن ينهض بهذا المنهج فيظهر الله بهم الحق كما حصل ذلك بالإمام ابن تيمية وتلاميذه ثم بعد قرون بالإمام محمد بن عبد الوهاب وتلاميذه، وغبرهم ممن يظهر الله على أيديهم الحق.
واليوم قد استفحل أمر أهل الضلال وأمر أهل الإلحاد وغزوا أهل السنة في عقر دارهم وحققوا كثيراً من أهدافهم في كثير من شباب أهل السنة.
وعليه فلابد من النهوض بهذا المنهج الذي يعلي الحق ويزيل الباطل أو يذله وبه تعود الأمة أو يعود منهم من أراد الله به خيراً إلى الكتاب والسنة وإلى ما كان عليه السلف الصالح .
نسأل الله أن يوفق علماء السنة لما يحب ويرضى ولما يقود الأمة إلى شاطئ النجاة، وأن يجمع كلمتهم وكلمة الأمة على الحق، إن ربنا لسميع الدعاء.
وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليما كثيراً
كتبه
ربيع بن هادي عمير المدخلي
في 17 جمادى الآخرة من عام 1424هـ