بسم الله الرحمن الرحيم
لا يخفى على إخواني مدى غيرة علماء السنة على دين الله وصدعهم بالحق لا يخافون في ذلك لومة لائم لأنهم أرادوا بذلك إرضاء رب العباد فلا يبالون بمن سخِط إن أرضوا الله؛ ولا يحابون في دين الله أحدًا ولو كان إمامًا من أئمة الدين عاملين بقول النبي صلى الله عليه وسلم:
"من أرضى الله بسخط الناس رضي الله عنه وأرضى عنه الناس ،ومن أرضى الناس بسخط الله ، سخط الله عليه وأسخط عليه الناس" [1]؛
ومن هؤلاء الأئمة العلاّمة ناصر السنة وقامع البدعة محدث العصر الشيخ الألباني -رحمه الله- حيث سطّر في رسالته القيّمة "التصفية والتربية"
كلامًا لو عقِله كل متعصب لما أتم الرسالة إلا والتعصب أبغض شيء إلى قلبه؛ ولو تدبر ما فيها مقلد لما أتمها إلا وقد دعى الله أن ينجيه من حبال التقليد ولله الحكمة البالغة يهدي ويرفع من يشاء ويضل ويذل ويخفض من يشاء. أسأل الله أن يوفقنا لمرضاته إنه ولي ذلك والقادر عليه وإلى
ما قصدناه :
قال الشيخ الألباني -رحمه الله- وهو يتكلم عن تشبث المسلمين بآراء بعض أئمة المذاهب الذين خالفوا الدليل في بعض أقوالهم ومثّل بذلك أن بعض كتب فقه المذاهب لا تزال تتبنّى القول بأن الخمر قسمان: قسم مستنبط من العنب؛ فهذا قليله وكثيره حرام؛
وقسم مستنبط من الشعير والذرة أو التمر فهذا النوع من الخمر ليس كله حرامًا؛ وإنما الذي يسكر منه فقط فهو حرام! فقال:" مع أننا نقرأ في كتب السنة وبالأسانيد الصحيحة قول النبي صلى الله عليه وسلم: "ما أسكر كثيره فقليله حرام"[2]؛
وقوله: "كل مسكر خمر؛ وكل خمر حرام"[3].
لماذا يظل مثل هذا القول الخطير الذي يشجع الناس - الذين هم على شفا حفرة من الفسق؛ أو قد وقعوا فيها فيها فعلاً-؛ ويُزيٍّنُ لهم شرب القليل من خمر غير العنب؛ بحجة أن الإمام الفلاني -وهو عالم فاضل- قال هذا ?! يا للحجة!
نحن نعتقد أنه عالم فاضل؛ ولكن الفرق أننا لا ننسى أنه عالم فاضل غير معصوم عن الخطأ؛ وهم يتناسون هذه الحقيقة؛ فيظلون يدافعون عن هذه الكلمة؛ فبعضهم يستغل هذا القول بنشر المادة المسكرة بين المسلمين؛ وبعضهم يدافع عن الإمام لا عن القول.
ولعل الكثيرين منكم يعلم أن "مجلة العربي" منذ بضع سنين نشرت مقالة لبعضهم يذهب ويتبنى هذا القول ! أي: المشروبات المستنبطة من غير العنب؛ والمشروبات المعروفة اليوم فيما يبدو أكثرها مستنبط من غير العنب؛ فنشر مقالاً في "مجلة العربي" أباح للمسلمين أن يشربوا ما شاؤوا من المسكرات الحديثة؛ بحجة: لا تشرب ما يسكرك.
وهذه عملية خيالية؛ لأنه في الحقيقة -كما نعلم جميعًا- أن القطرة الأولى تجلب الثانية؛ والثالثة تجلب الرابعة؛ وهكذا؛ والكمية القليلة التي لا تسكر-هي عملية لا يمكن أن تحدد وتُضبط- فستأتي بالكثيرة التي تسكر.
فأقول: لماذا يبقى مثل هذا القول في كتب الفقه مع مصادمته الأحاديث القاطعة الدلالة والثابة عن الرسول صلى الله عليه وسلم في إبطال مثل هذا القول?! لماذا نفسح المجال لكاتب مغرض؛ فينشر هذا القول؛ ويبني عليه علالي وقصورًا؛ ويبيح للمسلمين شرب المشروبات المحرمة بقيد: لا تشرب مسكرًا؛ واشرب قليلاً ولا تشرب كثيرًا ! ......... ; ولكن ما بالنا نرى أحد علماء الشام الأفاضل يؤلف رسالة في الرد على هذه المقالة؛ فتراه في رده حيران؛ تارة ينتصر لمن قال بهذا القول الذي تبناه الكاتب؛ وتارة يسوق الأحاديث - التي ذكرنا بعضها- مما هو ردٌّ على الكاتب وعلى من ركن إليه الكاتب. لماذا نرى هذا العالم الفاضل مترددًا ؟! ذلك لأنه يقدس هذا القول نظرًا لأنه صدر عن عالم من علماء المسلمين؛ وهذا العالم لا يتكلم بهوىً؛ أو جهل؛ وأنا أقول معه: لا يتكلم بهوى أو جهل. ولكن هل هو معصوم في اجتهاده الذي ابتعد فيه عن الجهل والهوى ؟! كلنا يقول: لا. وكلنا يذكر قول الرسول عليه الصلاة والسلام:
"إذا حكم الحاكم فاجتهد ثم أصاب؛ فله أجران؛ وإذا حكم فاجتهد ثم أخطأ؛ فله أجر" [4].
فلماذا ننسى أن المجتهد قد يؤجر أجرًا واحدًا؛ ولا نقول نحن: يُخطىء؟! لأن بعض الناس يصعب عليهم أن يقول قائل:إن فلانًا الإمام أخطأ.
لكن كل الدروب على الطاحون كما يقولون. فنحن نقول: لماذا هذا التنطع؟!أو لماذا نجبن أن نقول: إن إمامًا من أئمة المسلمين أخطأ في مسألة؛ أو في اجتهاد؛ أو في رأي له؛ فيُؤجرُ أجرًا واحدًا بدل أن يؤجر أجرين؟! لماذا لا نقول هذا أولاً كمبدأ؛
وثانيًا كتطبيق لبعض الفروع؛ ومنها هذا الفرع الذي نحن في صدده؟!
وعندما تقرأ الرسالة التي ألفها هذا العالم ردًا على ذلك الكاتب؛ لا تخرج منها بنتيجة أن ذلك الكاتب أخطأ في اعتماده على رأي إمام من أئمة المسلمين؛ لأن هذا الرأي بعد تمحيصه وعرضه على الأدلة الشرعية؛ اضطر بعض أتباع الإمام نفسه أن يعرض عن هذه المسألة؛ ويدعها للإمام كأجر واحد؛ ويتمسك بالأحاديث الصحيحة فلماذا لم نقرأ في تلك الرسالة أن الإمام قد أخطأ وهو مأجور؛ وأنه ليس لذلك الكاتب الاعتراض على السنة برأي هذا الإمام؟!
الجواب: لأنه قد ران علينا؛ وفي قلوبنا تقديس الأئمة واحترامهم أكثر مما أوجب الله علينا.
ونحن نؤمن بقول الرسول عليه الصلاة والسلام: "ليس منا من لم يجّل كبيرنا؛ ويرحم صغيرنا؛ ويعرف لعالمنا حقه" [5].
هذا مما حض عليه الرسول عليه الصلاة والسلام المسلمين حق العالم؛ ولكن هل من حق العالم أن نرفعه إلى مستوى النبوة والرسالة؛ حتى نعطيه العصمة بلسان حالنا؟! فلسان الحال أنطق من لسان المقال.
إذا كان علينا أن نحترم العالم ونقدره حق قدره؛ وأن نقلده حينما يبرز الدليل؛ فليس لنا أن نرفع من قوله ونضع من قول رسول الله عليه الصلاة والسلام! هذا مثال آخر من الأمثلة التي لا تزال سارية بيننا دون إنكار أو اعتراض من أهل العلم بالكتاب والسنة ....... ؛
وذلك الكاتب في "مجلة العربي" مخطئ؛ ومن استند عليه من أهل العلم فهو مخطئ؛ وليس عندنا محاباةٌ لأحد إذا أخطأ؛ فالخطأ خطأ؛ والكفر كفر؛ سواء وقع من الصغير أو الكبير؛ الذكر أو الأنثى؛ فكله خطأ؛ فلا يختلف الخطأ بالنسبة إلى المصدر."
انتهى -بتصرف يسير-
{التصفية والتربية} [ص:18-23]
__________________________________________________ ___________________________
[1]_ صحيح الجامع (6010)
[2]_ الإرواء (2375)
[3]_ الإرواء (2373)
[4]_ البخاري (7352) ومسلم (1716)
[5]_ صحيح الجامع (5443)