بسم الله الرحمن الرحيم
هذا كلام نفيس للعلامة الشنقيطي في إبطال (قصة الغرانيق) بأدلة قاطعة من كتاب الله ، وأن القول بصحتها يمس مقام النبوة ،ويقتضى تكذيب صريح القرآن، أحب أن أنقله لإخواني للفائدة.
قال رحمه الله:
[إن القول بعدم صحتها له شاهد من القرآن العظيم في سورة النجم نفسها ، وشهادته لعدم صحتها واضحةٌ ، وهو أن قوله تعالى :" أَفَرَأَيْتُمُ اللَّاتَ وَالْعُزَّى وَمَنَاةَ الثَّالِثَةَ الْأُخْرَى " .الذي يقول القائل بصحة القصة : إن الشيطان القى بعده ما ألقى ، قرأ النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم بعد في تلك اللحظة في الكلمات التي تليه من سورة النجم قوله تعالى :"إِنْ هِيَ إِلَّا أَسْمَاء سَمَّيْتُمُوهَا أَنتُمْ وَآبَاؤُكُم مَّا أَنزَلَ اللَّهُ بِهَا مِن سُلْطَانٍ".
فهذا يتضمن منتهى ذم الغرانيق التي هي كناية عن الأصنام ، إذ لا ذمَّ أعظم من جعلها أسماء بلا مسميات ، وجعلها باطلاً ما أنزل الله به من سلطان .
فلو فرضنا أن الشيطان ألقى على لسانه صلى الله عليه وعلى آله وسلم تلك الغرانيق العلى بعد قوله :" وَمَنَاةَ الثَّالِثَةَ الْأُخْرَى " ، وفرح المشركون بأنه ذكر آلهتهم بخير ، ثم قال النبي في تلك اللحظة :" إِنْ هِيَ إِلَّا أَسْمَاء سَمَّيْتُمُوهَا أَنتُمْ وَآبَاؤُكُم مَّا أَنزَلَ اللَّهُ بِهَا مِن سُلْطَانٍ "
وذم الأصنام بذلك غاية الذم ، وأبطل شفاعتها غاية الإبطال ، فكيف يعقل بعد هذا سجود المشركين وسبُّ أصنامهم هو الأخير والعبرة بالأخير .
-ثم نقل كلاما للحافظ ابن حجر وعلق عليه ثم قال رحمه الله-
قال مقيد هذه الرحلة عفا الله عنه : اعلم أن براءة ساحة خاتم الرسل وأشرفهم وسيد ولد آدم بالإطلاق عليه صلوات الله وسلامه مما جاء في ظاهر هذه القصة تدل عليها البراهين القاطعة ، والأدلة الساطعة كما ستراه .
وقول الشيطان : تلك الغرانيق العلى . شركٌ أكبر صُراح ، وكفرٌ بواح ، وهو صلى الله عليه وعلى آله وسلم مبعوثٌ لإخلاص العبادة لله وحده مما تضمنته كلمة لا إله إلا الله ، كجميع إخوانه المرسلين ، قال تعالى :" وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَّسُولاً أَنِ اعْبُدُواْ اللّهَ وَاجْتَنِبُواْ الطَّاغُوتَ " وقال :" وَمَا أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ مِن رَّسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ "
وقال تعالى :" وَاسْأَلْ مَنْ أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ مِن رُّسُلِنَا أَجَعَلْنَا مِن دُونِ الرَّحْمَنِ آلِهَةً يُعْبَدُونَ".
فإخلاص العبادة لله وحده هو دعوة عامة الرسل ، وأشدهم فيه احتياطاً خاتمهم صلى الله عليه وعلى آله وسلم ، ولذا منع بعض الأمور التي كانت مباحة عندهم احتياطاً في توحيد الله وعبادته جل وعلا ، فالسجود لمخلوق في شريعته السمحة كفرٌ بالله تعالى ، مع أنه كان جائزاً في شرع غيره من الرسل عليهم الصلاة والسلام ، كما قال تعالى عن يعقوب وأولاده في سجودهم ليوسف :" وَخَرُّواْ لَهُ سُجَّداً ".
ولذلك أمر نبينا صلى الله عليه وعلى آله وسلم أن يقول للناس : إنه ما أوحي إليه توحيد الله تعالى في عبادته في قوله تعالى :" قُلْ إِنَّمَا يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَهَلْ أَنتُم مُّسْلِمُونَ " وقد تقرر عند الاصوليين والبيانيين أن لفظ ( إنما) من أدوات الحصر فدلت الآية على حصر الموحى إليه صلى الله عليه وعلى آله وسلم في أصله الأعظم الذي هو ( لا إله إلا الله ) لأنها دعوة جميع الرسل وغيرها من شرائع الإسلام وفروعها تابعة لها .
فإذا حققت هذا علمت أنه صلى الله عليه وعلى آله وسلم لا يقول : تلك الغرانيق العلا ، وإن شفاعتهن لترتجى . لما في هذا الكلام من الشرك الصراح والكفر البواح ، المضاد لما جاء به جميع الرسل عليهم الصلاة والسلام .
ولا يقدر الشيطان أن يجري ذلك على لسانه صلى الله عليه وعلى آله وسلم ، لانه ليس له عليه من سلطان بشهادة القرآن وبإقرار الشيطان قال جل وعلا :" َفإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِاللّهِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ ِإنَّهُ لَيْسَ لَهُ سُلْطَانٌ عَلَى الَّذِينَ آمَنُواْ وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ إِنَّمَا سُلْطَانُهُ عَلَى الَّذِينَ يَتَوَلَّوْنَهُ وَالَّذِينَ هُم بِهِ مُشْرِكُونَ " .
ومعلوم أن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم من الذين أمنوا وعلى ربهم يتوكلون ، وأنه ليس من الذين يتولونه والذين هم به مشركون
وقال تعالى: ( إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ إِلَّا مَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْغَاوِينَ) ومعلوم أن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم من عباده الذين ليس للشيطان عليهم سلطان وأنه ليس من الغاوين الذين اتبعوه ......
-ثم قال رحمه الله بعد كلام-:
قوله تعالى "لَا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ" يعم نفي كل باطل يأتي القرآن ، وقد أكد هذا العموم بقوله "مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلَا مِنْ خَلْفِهِ"
قلو قدرنا أن الشيطان أدخل في القرآن على لسان النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم : تلك الغرانيق العلى -وحاشاه من ذلك- لكان قد أتى القرآن أعظم باطل من بين يديه ومن خلفه فيكون تصريحاً بتكذيب الله جل وعلا في قوله : "لَا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلَا مِنْ خَلْفِهِ تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ"
وكل خبر ناقض القرآن العظيم فهو الكاذب للقطع بصدق القرآن العظيم ونقيض الصادق كاذب ضرورة.
ولا حجة في أن الله جل وعلا نسخ ما ألقاه الشيطان في القرآن على لسان النبي صلى الله عليه وسلم كما قال "فَيَنْسَخُ اللَّهُ مَا يُلْقِي الشَّيْطَانُ"
لأن الباطل إن أتي القرآن أولاً ثم نسخ فنسخه بعد إتيانه لا يرفع اسم الإتيان أولاً ، وقوله تعالى : (لَا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ) نص صريح في نفي أصل إتيان الباطل كما قدمنا.
وقال تعالى : (إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ) فهذه نصوص قرآنية قاطعة تدل على أن الشيطان لا سبيل له إلى أن يحمل النبي صلى الله عليه وسلم على أن يدخل في القرآن العظيم ما ليس منه من الكفر الصراح والشرك الأكبر ولم يبق في الأية الكريمة المسئول عنها إشكال....اهـ المقصود من كلامه رحمه الله.
المصدر [رحلة الحج إلى بيت الله الحرام 111 – 119(دار ابن تيمية)]
تنبيه: لا يلزم من هذا أن كل من صحح قصة الغرانيق وسلم بما فيها فهو يطعن في النبي والقرآن كما فهم البعض.
لأن من صححها فالعلماء يقولون لازم قوله هو هذا.
ومعلوم قاعدة (لازم المذهب ليس بلازم إلا إذا التزمه صاحبه وأقر به).
ولكن من مسلك العلماء أنهم يستدلون بلازم المذهب الباطل على إبطال المذهب مع عدم نسبة هذا اللازم إلى قائل المذهب إلا إذا التزمه.
والحمد لله رب العالمين.