النَّهجُ الثاَّبتُ الرَّشيد
في إبطال دَعَاوَى فالح الحربي فيما سمَّاه بـ (إشراع الأسنة) و (التحقيق السديد)
( الحلقة الثانية )
ربيع بن هادي عمير المدخلي
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه ومن اتبع هداه أما بعد : ففي هذه الحلقة -بالإضافة إلى ما سبق- كشفٌ لبعض تلبيسات فالح وخياناته عافا الله المسلمين منها .
· التاسع عشر : من أعجب العجائب والغرائب تعلق فالح بفتوى الغزالي الآتية على علاتها وإطلاقها :
حيث قال في (القسم 2- ص10) من "تحقيقه" : " وقال أبو حامد محمد الغزالي -رحمه الله- في المستصفى 4/140) : " ويجب على العامي اتباع المفتي ؛إذ دلَّ الإجماع على أن فرض العوام اتباع ذلك كذب المفتي أم صدق أخطأ أم أصاب .
فقبول قول المفتي والشاهد لزم بحجة الإجماع فهو قبول قول بحجة فلم يكن تقليداً (1) فإنا نعني بالتقليد قبول قول بلا حجة فحيث لم تقم حجة ولم يعلم الصدق بضرورة ولا بدليل فالإتباع فيه اعتماد على الجهل" .
إلى أن قال (4/147) : " الإجماع منعقد على أن العامي مكلف بالأحكام ،وتكليفه طلب رتبة الاجتهاد محال ؛لأنه يؤدي إلى أن ينقطع الحرث والنسل وتتعطل الحرف والصنائع ويؤدي إلى خراب الدنيا لو اشتغل الناس بجملتهم بطلب العلم ،وذلك يرد العلماء إلى طلب المعايش ويؤدي إلى اندراس العلم بل إلى إهلاك العلماء وخراب العالم وإذا استحال هذا (2) لم يبق إلا سؤال العلماء " .
أقول لفالح : لو أن مجموعة من العوام بَهرهم صيت عالم مفتٍ لبلاد إسلامية كبيرة فشدوا الرحال إليه وسألوه عن الاستغاثة بالأولياء في الشدائد وعن التوسل بالأموات وعن البناء على القبور وعن زواج المتعة فأفتاهم بالجواز في كل ذلك وزخرف لهم هذه الفتوى، وفي هؤلاء العوام رجل ذكي فأنكر هذه الفتوى، وقال لهؤلاء العوام: إن هذه فتوى باطلة، فإني جلست في حلقة بعض العلماء، وهو يقرر أن الاستغاثة بغير الله شرك، وأن التوسل بالأشخاص والبناء على القبور من المحرمات ومن وسائل الشرك، وسمعته يستدل على ذلك بآيات قرآنية وأحاديث نبوية على ما يقول، فاستجاب بعض هؤلاء العوام لملاحظة هذا العامي الذكي، ورفضوا فتوى ذلك المفتي، وعاند آخرون وأصروا على تقليد ذلك المفتي الكبير، فقال لهم ذلك الذكي: تعالوا إلى ذلك العالم الذي ذكرت لكم أنه يقرر أن الاستغاثة بغير الله شرك..الخ، فعاندوا وقالوا: يكفينا فتوى ذلك المفتي الكبير صاحب الشهرة الطائرة والصيت المدوي في العالم، ولن نسمع لذلك العالم الذي لم يصل إلى هذه المنـزلة، وقد سمعنا من العلامة فالح الحربي يحكي عن أبي حامد الغزالي أنه قال: " ويجب على العامي اتباع المفتي؛ إذ دل الإجماع على أن فرض العوام اتباع ذلك كذب المفتي أم صدق أخطأ أم أصاب"، فهذا واجبنا بالإجماع وقد قمنا به لاسيما ومفتينا من الكبراء العظماء.
فما رأي فالح - الذي يوجب التقليد على حملة العلم المدرسين ويحكم عليهم بالأحكام الغليظه إذا لم يقلدوا- في العوام الذين رفضوا فتوى هذا المفتي أيكونون قد نسفوا رسالات الرسل والكتب جميعاً؛ لأنهم لم يأخذوا بفتوى هذا المفتي الكبير؟ وما رأيه في العوام الذين قبلوا فتوى هذا المفتي وتشبثوا بفتوى الغزالي التي نقلها عنه العلامة فالح الحربي؟
أيا فالح ما السر في نقلك لكلام الغزالي هذا على علاته وبهذا الإطلاق؟!
ألا يدل هذا على أنك لا تنافح وتكافح هذه السنين إلا عن التقليد المذموم شرعاً وعقلاً ؟!
كثير من عقلاء العوام يدركون بعقولهم وفطرهم الفتاوى الباطلة .
فعلى مذهب فالح المتعلق بهذه الفتوى يلزمهم قبول فتوى العالم والمتعالم، ولو كذب، ولو أفتى بالشرك والضلال وأحل الحرام وحرم الحلال، ( اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أرباباً من دون الله ).
إن هذا لمن غلو فالح في الدعوة إلى التلقيد الأعمى، فلذا تراه يخبط خبط عشواء؛ ليوهم الناس أنه بريء من هذا الداء، فينقل كلام من يذم التقليد ويمنع منه منعاً مطلقاً، ثم تعود حليمة لعادتها القديمة، فينقل كلاماً يناسب غلوه في التقليد ولا يستنكره؛ بل يسلم به، ولعله يرى فيه قاصمة الظهور لمن يخالفونه في غلوه .
خذ كلام هؤلاء الأئمة الذي عليه نور الكتاب والسنة، والموافق للعقول وللفطر السليمة :
1- قال الإمام ابن القيم -رحمه الله- في "إعلام الموقعين" (4/254) : " الْفَائِدَةُ السَّادِسَةُ وَالْخَمْسُونَ : لَا يَجُوزُ الْعَمَلُ بِمُجَرَّدِ فَتْوَى الْمُفْتِي إذا لم تَطْمَئِنَّ نَفْسُهُ وَحَاكَ في صَدْرِهِ من قَبُولِهِ وَتَرَدَّدَ فيها لِقَوْلِهِ صلى اللَّهُ عليه وسلم "اسْتَفْتِ نَفْسَكَ وَإِنْ أفتاك الناس وأفتوك" فَيَجِبُ عليه أن يَسْتَفْتِيَ نَفْسَهُ أولاً وَلَا تُخَلِّصُهُ فَتْوَى الْمُفْتِي من اللَّهِ إذا كان يَعْلَمُ أن الْأَمْرَ في الْبَاطِنِ بِخِلَافِ ما أفتاه كما لَا يَنْفَعُهُ قَضَاءُ الْقَاضِي له بِذَلِكَ كما قال النبي صلى اللَّهُ عليه وسلم "من قَضَيْتُ له بِشَيْءٍ من حَقِّ أخيه فَلَا يَأْخُذُهُ فَإِنَّمَا اقطع له قِطْعَةً من نَارٍ" .
وَالْمُفْتِي وَالْقَاضِي في هذا سَوَاءٌ وَلَا يَظُنُّ الْمُسْتَفْتِي أن مُجَرَّدَ فَتْوَى الْفَقِيهِ تُبِيحُ له ما سَأَلَ عنه إذا كان يَعْلَمُ أن الْأَمْرَ بِخِلَافِهِ في الْبَاطِنِ سَوَاءٌ تَرَدَّدَ أو حاك في صَدْرِهِ لِعِلْمِهِ بِالْحَالِ في الْبَاطِنِ أو لشكه فيه أو لجهله بِهِ أو لعلمه جَهْلَ الْمُفْتِي أو محاباته في فَتْوَاهُ أو عدم تَقْيِيدِهِ بِالْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ أو لأنه مَعْرُوفٌ بِالْفَتْوَى بِالْحِيَلِ وَالرُّخَصِ الْمُخَالِفَةِ لِلسُّنَّةِ وَغَيْرِ ذلك من الْأَسْبَابِ الْمَانِعَةِ من الثِّقَةِ بِفَتْوَاهُ وَسُكُونِ النَّفْسِ إلَيْهَا فَإِنْ كان عَدَمُ الثِّقَةِ وَالطُّمَأْنِينَةِ لِأَجْلِ المفتى يَسْأَلُ ثَانِيًا وَثَالِثًا حتى تَحْصُلَ له الطُّمَأْنِينَةُ فَإِنْ لم يَجِدْ فَلَا يُكَلِّفْ اللَّهُ نَفْسًا إلَّا وُسْعَهَا وَالْوَاجِبُ تَقْوَى اللَّهِ بِحَسَبِ الِاسْتِطَاعَةِ " اهـ.
2- وقال أبو شامة -رحمه الله- في "الباعث على إنكار البدع" (ص176-179): " وفي الصحيح أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " إن الله لا يقبض العلم انتزاعا ينتزعه من الناس ولكن يقبض العلم بموت العلماء حتى إذا لم يبق عالم اتخذ الناس رؤساء جهالا فأفتوا بغير علم فأضلّوا وأضلوا " قال الإمام الطرطوشي رحمه الله تعالى: فتدبّروا هذا الحديث فإنه يدل على أنه لا يُؤتَى الناس قط من قِبَل علمائهم، وإنما يؤتون من قِبَل أنّه إذا مات علماؤهم أفتى من ليس بعالم فيؤتى الناس من قبله .
قال: وقد صرّف عمر رضي الله عنه هذا المعنى تصريفا فقال: "ما خان أمين قط ولكنه اؤتمن غير أمين فخان " .
قال : ونحن نقول : ما ابتدع عالم قط، ولكنه استفتى من ليس بعالم فضلّ وأضلّ .
وكذلك فعل ربيعة، قال مالك : بكى ربيعة يوما بكاء شديدا فقيل له: أمصيبة نزلت بك ؟ قال: لا ،ولكن استفتي من لا علم عنده وظهر في الإسلام أمر عظيم " اهـ.
- أقول : فإذا كان هذا وقع في زمن ربيعة ومالك فما بالك بما بعدهما من الأزمنة ؟!
ولا سيما في زماننا هذا الذي ظهر فيه أمثال فالح !
ولا سيما إذا كان المفتي يرى أنَّه لا يلزمه ذكر الدليل كما هو مذهب فالح !
3- وجاء في فتاوى اللجنة الدائمة (5/28) :
سؤال : ما حكم التقيد بالمذاهب الأربعة واتباع أقوالهم على كل الأحوال والزمان ؟
فأجابت اللجنة الدائمة : الحمد لله والصلاة والسلام على رسوله وآله وصحبه وبعد :
أولاً : المذاهب الأربعة منسوبة إلى الأئمة الأربعة الإمام أبي حنيفة والإمام مالك والإمام الشافعي والإمام أحمد ، فمذهب الحنفية منسوب إلى أبي حنيفة وهكذا بقية المذاهب.
ثانياً : هؤلاء الأئمة أخذوا الفقه من الكتاب والسنة وهم مجتهدون في ذلك ، والمجتهد إما مصيب فله أجران ، أجر اجتهاده وأجر إصابته ، وإما مخطئ فيؤجر على اجتهاده ويعذر في خطئه.
ثالثاً : القادر على الاستنباط من الكتاب والسنة يأخذ منهما كما أخذ من قبله ولا يسوغ له التقليد فيما يعتقد الحق بخلافه بل يأخذ بما يعتقد أنه حق ، ويجوز له التقليد فيما عجز عنه واحتاج إليه.
رابعاً : من لا قدرة له على الاستنباط يجوز له أن يقلد من تطمئن نفسه إلى تقليده ، وإذا حصل في نفسه عدم الاطمئنان سأل حتى يحصل عنده اطمئنان .
خامساً : يتبين مما تقدم أنه لا تتبع أقوالهم على كل الأحوال والأزمان ؛ لأنهم قد يخطئون ، بل يتبع الحق من أقوالهم الذي قام عليه الدليل ) اهـ.
فما رأي فالح في أقوال هؤلاء الأئمة التي تخالف ما نقله عن الغزالي وفرح به في أنه يجب على العامي مطلقاً أن يقبل قول المفتي وإن كذب أو أخطأ؟ ألا يدل هذا على أن فالحاً يدعو إلى التقليد الباطل المحرم لا سيما وهو يلزم حملة العلم بفتوى أمثاله ويحكم الأحكام الغليظة على من يخالفونه ولا يترك لهم أي خيار ؟
· العشرون : ومن عجائب فالح فرحه وتعلُّقه بشدةٍ بكلام القرطبي الآتي :
قال فالح (2/11) : " وقال القرطبي -رحمه الله- (في تفسيره 2/211) عند قوله - تعالى- : ] وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ قَالُوا بَلْ نَتَّبِعُ مَا أَلْفَيْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا ... [ : " تعلق قوم بهذه الآية في ذم التقليد لذم الله الكفار باتباعهم لآبائهم في الباطل، واقتدائهم بهم في الكفر والمعصية، وهذا في الباطل صحيح، أما التقليد في الحق فأصل من أصول الدين، وعصمة من عصم المسلمين، يلجأ إليها الجاهل المقصر عن درك النظر ".
وقال – أيضاً (في الموضع السابق 2/212): "فرض العامي الذي لا يشتغل باستنباط الأحكام من أصولها لعدم أهليته فيما لا يعلمه من أمر دينه ويحتاج إليه: أن يقصد أعلم من في زمانه وبلده فيسأله عن نازلته، فيمتثل فيها فتواه؛ لقوله - تعالى- : ] فَاسْأَلوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ [، وعليه الاجتهاد في أعلم أهل وقته بالبحث عنه حتى يقع عليه الاتفاق من الأكثر من الناس.
وعلى العالم - أيضاً - فرض أن يقلد عالماً مثله في نازلة خفي عليه فيها وجه الدليل والنظر، وأراد أن يجدد الفكر فيها والنظر حتى يقف على المطلوب، فضاق الوقت عن ذلك، وخاف على العبادة أن تفوت، أو على الحكم أن يذهب، سواء كان ذلك المجتهد الآخر صحابياً أو غيره، وإليه ذهب القاضي أبو بكر وجماعة من المحققين"([1]).
التعليق على كلام القرطبي الأوّل:
1- القرطبي ينكر على أئمة الإسلام الذين يحتجون بهذه الآية الكريمة وغيرها من كلامه تعالى على بطلان التقليد المحرم الذي وقع فيه كثير من المسلمين ، وليس ما قاله بصواب.
قال الإمام ابن عبد البر في "جامع بيان العلم" (2/978) -بعد أن ساق عدداً من الآيات الكريمة في ذم الكفار على تقليدهم الكفر-:
"قال أبو عمر: وقد احتج العلماء بهذه الآيات في إبطال التقليد، ولم يمنعهم كفر أولئك من جهة الاحتجاج بها؛ لأن التشبيه لم يقع من جهة كفر أحدهما وإيمان الآخر، وإنما وقع التشبيه بين التقليدين بغير حجة للمقلِّد؛ كما لو قلَّد رجل فكفر، وقلد آخر فأذنب، وقلد آخر في مسألة دنياه فأخطأ وجهها، كان كل واحد ملوماً على التقليد بغير حجة؛ لأن كل ذلك تقليد يشبه بعضه بعضاً وإن اختلفت الآثام فيه ".
2- كان على القرطبي أن يؤيد كلام العلماء ويبين مقصودهم من الاحتجاج بالآيات القرآنية ألا وهو التقليد المذموم الذي فرَّق الأمة في عقائدها وعباداتها...الخ لا أن يعترض عليهم، فالتقليد فرق الأمة إلى طوائف في المجالين المذكورين وغيرهما، فهذا جهمي وهذا شيعي وهذا معتزلي وهذا خارجي وهذا صوفي وهذا مرجىء وكل طائفة تتعصب لمذهب أو رأي توالي وتعادي عليه، ولا تسمع ولا تأخذ بقوارع الحجج من القرآن والسنة على بطلان طريقة ومذهب من قلدتهم.
وكذلك مقلدي أئمة السنة حصل من كثير منهم حتى من علمائهم التقليد في قضايا كثيرة، قامت الأدلة من الكتاب والسنة على خطأ رأي صاحب ذلك المذهب أو ذاك، فلا يتزحزح كثير عن مذهب من قلده تعصباً واتباعاً للأهواء مخالفين في ذلك الأدلة من القرآن والسنة ولأقوال أئمتهم الذين حاربوا التقليد ونهوا عنه، وأمروا الناس عموماً باتباع الدليل وترك ما خالفه ولو قاله من قاله من الأئمة وغيرهم.
فالأئمة نهوا عن التقليد في العقائد وفي الأحكام وأمروا باتباع الكتاب والسنة، وخالفهم المقلدون في هذا أو ذاك، فهب العلماء الناصحون لمواجهة هذا الواقع المرير، وساقوا الأدلة من الكتاب والسنة على بطلان هذا التقليد.
3- يظهر من هذا قصور كلام القرطبي عن بيان التقليد الذي حذّر منه الأئمة، واحتجوا عليه بالآيات والأحاديث والآثار السلفية.
4- أخطأ القرطبي -غفر الله له- في وصف التقليد بأنه أصل من أصول الدين، والأصل الأصيل الذي دل عليه الكتاب والسنة وكلام الأئمة إنما هو اتباع محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي لا ينطق عن الهوى والمعصوم في كل ما يبلغه عن الله رب العالمين.
وأما من سواه فيصيبون ويخطئون، وجاء من يقلدهم في صوابهم وخطئهم، وقالوا : نصّ الإمام في حق مقلده كنصّ النبي في حق أمته، وأدى بهم هذا التقليد إلى التمزق والتفرق والتباغض والعداوات ما سجله التاريخ.
فالصواب أن يقال: الأصل اتباع كتاب الله وسنة رسول الله كما دل عليه نصوص الكتاب والسنة، ومنها قوله تعالى : ( واعتصموا بحبل الله جميعاً ولا تفرقوا ).
والتقليد إنما هو استثناء كاستثناء أكل الميتة للمضطرين، ولو كان أصلاً من أصول الدين فلماذا حذّر منه العلماء، وكثير منهم يحذر منه بدون استثناء فيكونون قد حذّروا من أصل من أصول الدين على منهج فالح !!
- قال الإمام ابن القيم في إعلام الموقعين (2/241) في رده على المقلدين :
" الْخَامِسُ أَنَّ من ذَكَرْتُمْ من الْأَئِمَّةِ لم يُقَلِّدُوا تَقْلِيدَكُمْ وَلَا سَوَّغُوهُ بَتَّةً بَلْ غَايَةُ ما نُقِلَ عَنْهُمْ من التَّقْلِيدِ في مَسَائِلَ يَسِيرَةٍ لم يَظْفَرُوا فيها بِنَصٍّ عن اللَّهِ وَرَسُولِهِ ولم يَجِدُوا فيها سِوَى قَوْلِ من هو أَعْلَمُ منهم فَقَلَّدُوهُ وَهَذَا فِعْلُ أَهْلِ الْعِلْمِ وهو الْوَاجِبُ فإن التَّقْلِيدَ إنَّمَا يُبَاحُ لِلْمُضْطَرِّ وَأَمَّا من عَدَلَ عن الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَأَقْوَالِ الصَّحَابَةِ وَعَنْ مَعْرِفَةِ الْحَقِّ بِالدَّلِيلِ مع تَمَكُّنِهِ منه إلَى التَّقْلِيدِ فَهُوَ كَمَنْ عَدَلَ إلَى الْمَيْتَةِ مع قُدْرَتِهِ على الْمُذَكَّى فإن الْأَصْلَ أَنْ لَا يَقْبَلَ قَوْلُ الْغَيْرِ إلَّا بِدَلِيلٍ إلا عِنْدَ الضَّرُورَةِ فَجَعَلْتُمْ أَنْتُمْ حَالَ الضَّرُورَةِ رَأْسَ أَمْوَالِكُمْ (1)" اهـ.
وأقول : يؤكد بطلان ما تعلَّق به فالح من كلام القرطبي من أنَّ التقليد أصل من أصول الدِّين قول الإمام ابن القيم الآتي من "إعلام الموقعين" (2/267) :
" الْوَجْهُ الثَّالِثُ وَالسَّبْعُونَ : قَوْلُكُمْ إنَّ التَّقْلِيدَ من لَوَازِمِ الشَّرْعِ وَالْقَدَرِ وَالْمُنْكِرُونَ له مُضْطَرُّونَ إلَيْهِ وَلَا بُدَّ كما تَقَدَّمَ بَيَانُهُ من الْأَحْكَامِ .
جَوَابُهُ أَنَّ التَّقْلِيدَ الْمُنْكَرَ الْمَذْمُومَ ليس من لَوَازِمِ الشَّرْعِ وَإِنْ كان من لَوَازِمِ الْقَدَرِ بَلْ بُطْلَانُهُ وَفَسَادُهُ من لَوَازِمِ الشَّرْعِ كما عُرِفَ بِهَذِهِ الْوُجُوهِ التي ذَكَرْنَاهَا وَأَضْعَافِهَا وَإِنَّمَا الذي من لَوَازِمِ الشَّرْعِ الْمُتَابَعَةُ وَهَذِهِ الْمَسَائِلُ التي ذَكَرْتُمْ أنها من لَوَازِمِ الشَّرْعِ لَيْسَتْ تَقْلِيدًا وَإِنَّمَا هِيَ مُتَابَعَةٌ وَامْتِثَالٌ لِلْأَمْرِ فَإِنْ أَبَيْتُمْ إلَّا تَسْمِيَتَهَا تَقْلِيدًا فَالتَّقْلِيدُ بهذا الِاعْتِبَارِ حَقٌّ وهو من الشَّرْعِ وَلَا يَلْزَمُ من ذلك أَنْ يَكُونَ التَّقْلِيدُ الذي وَقَعَ النِّزَاعُ فيه من الشَّرْعِ وَلَا من لَوَازِمِهِ وَإِنَّمَا بُطْلَانُهُ من لَوَازِمِهِ .
يُوَضِّحُهُ الْوَجْهُ الرَّابِعُ وَالسَّبْعُونَ : أَنَّ ما كان من لَوَازِمِ الشَّرْعِ فَبُطْلَانُ ضِدِّهِ من لَوَازِمِ الشَّرْعِ، فَلَوْ كان التَّقْلِيدُ الذي وَقَعَ فيه النِّزَاعُ من لَوَازِمِ الشَّرْعِ لَكَانَ بُطْلَانُ الِاسْتِدْلَالِ وَاتِّبَاعِ الْحُجَّةِ في مَوْضِعِ التَّقْلِيدِ من لَوَازِمِ الشَّرْعِ، فإن ثُبُوتَ أَحَدِ النَّقِيضَيْنِ يَقْتَضِي انْتِفَاءَ الْآخَرِ وَصِحَّةَ أَحَدِ الضِّدَّيْنِ يُوجِبُ بُطْلَانَ الْآخَرِ ونحرره دَلِيلًا فَنَقُولُ : لو كان التَّقْلِيدُ من الدِّينِ لم يَجُزْ الْعُدُولُ عنه إلَى الِاجْتِهَادِ وَالِاسْتِدْلَالِ لِأَنَّهُ يَتَضَمَّنُ بُطْلَانَهُ .
فَإِنْ قِيلَ كِلَاهُمَا من الدِّينِ أو أَحَدُهُمَا أَكْمَلُ من الْآخَرِ فَيَجُوزُ الْعُدُولُ عن الْمَفْضُولِ إلَى الْفَاضِلِ .
قِيلَ إذَا كان قد انْسَدَّ بَابُ الِاجْتِهَادِ عِنْدَكُمْ وَقَطَعْتُمْ طَرِيقَهُ وَصَارَ الفرض هو التَّقْلِيدُ فَالْعُدُولُ عنه إلَى ما قد سُدَّ بَابُهُ وَقُطِعَتْ طَرِيقُهُ يَكُونُ عِنْدَكُمْ مَعْصِيَةً وَفَاعِلُهُ آثِمًا وفي هذا من قَطْعِ طَرِيقِ الْعِلْمِ وَإِبْطَالِ حُجَجِ اللَّهِ وَبَيِّنَاتِهِ وَخُلُوِّ الْأَرْضِ من قَائِمٍ لِلَّهِ بِحُجَجِهِ ما يُبْطِلُ هذا الْقَوْلَ وَيَدْحَضُهُ .
وقد ضَمِنَ النبي صلى اللَّهُ عليه وسلم أَنَّهُ لَا تُزَالُ طَائِفَةٌ من أُمَّتِهِ على الْحَقِّ لَا يَضُرُّهُمْ من خَذَلَهُمْ وَلَا من خَالَفَهُمْ حتى تَقُومَ السَّاعَةُ .
وَهَؤُلَاءِ هُمْ أُولُو الْعِلْمِ وَالْمَعْرِفَةِ بِمَا بَعَثَ اللَّهُ بِهِ رَسُولَهُ ؛فَإِنَّهُمْ على بَصِيرَةٍ وَبَيِّنَةٍ بِخِلَافِ الْأَعْمَى الذي قد شَهِدَ على نَفْسِهِ بِأَنَّهُ ليس من أولي الْعِلْمِ وَالْبَصَائِرِ .
وَالْمَقْصُودُ أَنَّ الذي هو من لَوَازِمِ الشَّرْعِ الْمُتَابَعَةُ وَالِاقْتِدَاءُ وَتَقْدِيمُ النُّصُوصِ على آرَاءِ الرِّجَالِ وَتَحْكِيمُ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ في كل ما تَنَازَعَ فيه الْعُلَمَاءُ .
وَأَمَّا الزُّهْدُ في النُّصُوصِ وَالِاسْتِغْنَاءُ عنها بِآرَاءِ الرِّجَالِ وَتَقْدِيمُهَا عليها وَالْإِنْكَارُ على من جَعَلَ كِتَابَ اللَّهِ وَسُنَّةَ رَسُولِهِ وَأَقْوَالَ الصَّحَابَةِ نُصْبَ عَيْنَيْهِ وَعَرَضَ أَقْوَالَ الْعُلَمَاءِ عليها ولم يَتَّخِذْ من دُونِ اللَّهِ وَلَا رَسُولِهِ وَلَا الْمُؤْمِنِينَ وَلِيجَةً فَبُطْلَانُهُ من لَوَازِمِ الشَّرْعِ وَلَا يَتِمُّ الدِّينُ إلَّا بِإِنْكَارِهِ ([2]) وَإِبْطَالِهِ فَهَذَا لَوْنٌ وَالِاتِّبَاعُ لَوْنٌ وَاَللَّهُ الْمُوَفِّقُ " اهـ.
أقول : فترى ابن القيم -رحمه الله- يرفض أن يكون التقليد من لوازم الشرع ويبطل ذلك إبطالاً قوياً .فكيف يرضى هو وغيره من علماء الإسلام الذين حاربوا التقليد أن يكون هذا التقليد من أصول الدين وعصمة من عصم المسلمين ؟!!
وأخطأ القرطبي في قوله "عصمة من عصم المسلمين"، فالعصمة إنما هي في كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم قال تعالى : ( واعتصموا بحبل الله جميعاً ولا تفرقوا )، وقال صلى الله عليه وسلم : " إِنَّ اللَّهَ يَرْضَى لَكُمْ ثَلَاثًا وَيَكْرَهُ لَكُمْ ثَلَاثًا فَيَرْضَى لَكُمْ أَنْ تَعْبُدُوهُ ولا تُشْرِكُوا بِهِ شيئا وَأَنْ تَعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جميعا ولا تَفَرَّقُوا وَيَكْرَهُ لَكُمْ قِيلَ وقال وَكَثْرَةَ السُّؤَالِ وَإِضَاعَةِ الْمَالِ" ([3])
5- والتقليد كان من أسباب تفريق الأمة فكيف يكون عصمة؛ ولا سيما بعد أن سيطر التقليد على كثير من العلماء والعامة من قبل عهد القرطبي وفي عصره وبعد عصره، فكيف يقول القرطبي هذا في التقليد وهذه آثاره المؤلمة .
إن غاية ما عند المقلد العامي أن يكون معذوراً عندما يخطئ مفتيه فيما يفتيه به، فإن أفتاه بالدليل من كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم حصلت له العصمة من الضلال بهذا الدليل.
وقال – صلى الله عليه وسلم -: " تَرَكْتُ فِيكُمْ ما لَنْ تَضِلُّوا بَعْدَهُ إن اعْتَصَمْتُمْ بِهِ كِتَابُ اللَّهِ وَأَنْتُمْ تُسْأَلُونَ عَنِّي فما أَنْتُمْ قَائِلُونَ؟ قالوا: نَشْهَدُ أَنَّكَ قد بَلَّغْتَ وَأَدَّيْتَ وَنَصَحْتَ فقال بِإِصْبَعِهِ السَّبَّابَةِ يَرْفَعُهَا إلى السَّمَاءِ وَيَنْكُتُهَا إلى الناس اللهم اشْهَدْ اللهم اشْهَدْ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ" رواه مسلم في الحج حديث (1218).
وقال صلَّى الله عليه وسلَّم : " تركت فيكم ما إن تمسكتم به لن تضلوا بعدي أبداً : كتاب الله وسنتي " ([4]).
فلم يوصِ رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم بالتقليد في هذه المناسبات العظيمة ولا في غيرها أرأيتَ لو كان أصلا من أصول الدين وعصمة من عصم المسلمين أكان يهمله صلَّى الله عليه وسلَّم ؟! حاشاه صلَّى الله عليه وسلَّم .
فنصوص القرآن والسنَّة تقتضي ذمَّ التقليد والتحذير منه . وهذا الذي فقهه أئمة الإسلام الذين جعلوه كالميتة لا يجوز أن يرجع إليه إلاَّ المعذورون العاجزون .
ونقول لفالح - الذي يتعلق بكل ما هبّ ودبّ لنصرة القول بالتقليد الأعمى -: لو كنت صادقاً في أنك تدعو إلى الكتاب والسنة لما فرحتَ وتعلقتَ بمثل كلام القرطبي؛ بل لأنكرته.
· الحادي والعشرون : نَقْلُ فالح عن الشوكاني ما يوافق هواه وغلوه في التقليد الأعمى، وكتمانه لما يدينه ويدين التقليد من كلام الشوكاني الذي بثه في عدد من مؤلفاته المعروفة المنتشرة :
قال فالح في (2/17) من "التحقيق السديد" :
" وقال الشوكاني (في السيل الجرار 1/6) : " وأما عمل العامي بقول المفتي فلوقوع الإجماع على ذلك ".
أقول : ماذا يريد فالح من وراء نقل هذا الكلام عن الإمام الشوكاني رحمه الله تعالى ؟
يريد أن يموِّه على الناس بأنَّ هذا الإمام معي ضد ربيع الذي يحارب التقليد مطلقا ولا يفصِّل !
وأقول : إنِّي قد أوضحت للقرّاء مراراً أنِّي أدعو إلى الكتاب والسنَّة وأبيِّن من يجوز له التقليد ومن يجب عليه الإتباع . فأنا لا أخالف في أنَّ للعوام أن يقلِّدوا العلماء بالكتاب والسنة. فهذا النَّقل من فالح عن الشوكاني من التمويهات الباطلة .
ثمَّ نقول لفالح : لو كان عندك شيء من الإنصاف لما تركت أقوال الشوكاني التي حارب فيها التقليد، والتي أودعها في كتبه؛ بل ألّف في ذلك عدداً من الكتب، منها :
- الأوَّل : " القول المفيد في أدلة الاجتهاد والتقليد " : الذي ردّ فيه شبهات المقلدين .
- والثاني : " بغية المستفيد في الرد على من أنكر العمل بالاجتهاد من أهل التقليد " .
- والثالث : " التشكيك على التفكيك " .
راجع كتاب " الفتح الرباني من فتاوى الإمام الشوكاني" المجلد الخامس .
وهذه بعض أقوال الإمام الشوكاني ننقلها لكم من "القول المفيد في حكم التقليد" ومن " إرشاد الفحول " :
1- قال رحمه الله في "القول المفيد في حكم التقليد" (ص11-12):
( ومن جملة ما استدلوا به ([5]) قوله تعالى : ( أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم )، وقالوا: وأولوا الأمر هم العلماء وطاعتهم تقليدهم فيما يفتون به.
والجواب أن للمفسرين في تفسير أولي الأمر قولين أحدهما أنهم الأمراء والثاني أنهم العلماء ولا تمتنع إرادة الطائفتين من الآية الكريمة ولكن أين هذا من الدلالة على مراد المقلدين فإنه لا طاعة للعلماء ولا للأمراء إلا إذا أمروا بطاعة الله على وفق شريعته وإلا فقد ثبت عنه - صلى الله عليه وسلم - أنه قال لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق وأيضا العلماء إنما أرشدوا غيرهم إلى ترك تقليدهم، ونهوا عن ذلك كما سيأتي بيان طرف منه عن الأئمة الأربعة وغيرهم فطاعتهم ترك تقليدهم ولو فرضنا أن في العلماء من يرشد الناس إلى التقليد ويرغبهم فيه لكان مرشدا إلى معصية الله ([6]) ولا طاعة له بنص حديث رسول الله – صلى الله عليه وسلم - وإنما قلنا أنه مرشد إلى معصية الله لأن من أرشد هؤلاء العامة الذين لا يعقلون الحجج ولا يعرفون الصواب من الخطأ إلى التمسك بالتقليد كان هذا الإرشاد منه مستلزما لإرشادهم إلى ترك العمل بالكتاب إلا بواسطة آراء العلماء الذين يقلدونهم فما عملوا به عملوا به وما لم يعملوا به لم يعملوا به ولا يلتفتون إلى كتاب ولا سنة بل من شرط التقليد الذي أصيبوا به أن يقبل من إمامه رأيه ولا يعتزل عن روايته ولا يسأله عن كتاب ولا سنة فإن سأله عنهما خرج عن التقليد لأنه قد صار مطالبا بالحجة ) اهـ.
2- وقال رحمه الله في "القول المفيد" ص(37-38) :
( والحاصل أن كون الرأي ليس من العلم لا خلاف فيه بين الصحابة والتابعين وتابعيهم قال ابن عبد البر : ولا أعلم بين متقدمي علماء هذه الأمة وسلفها خلافا أن الرأي ليس بعلم حقيقة . قال : أما أصول العلم فالكتاب والسنة .اهـ.
وقال ابن عبد البر : حد العلم عند العلماء والمتكلمين في هذا المعنى هو ما استيقنته وتبينته وكل من استيقن شيئا وتبينه فقد علمه وعلى هذا من لم يستيقن الشيء وقال به تقليدا فلم يعلم والتقليد عند جماعة العلماء غير الإتباع لأن الإتباع هو أن تتبع القائل على ما بان لك من فضل قوله وصحة مذهبه والتقليد أن تقول بقوله وأنت لا تعرفه ولا وجه القول ولا معناه وتأبى من ([7]) سواه وإن تبين لك خطؤه فتتبعه مهابة خلافه وأنت قد بان لك فساد قوله وهذا يحرم القول به في دين الله سبحانه وتعالى اهـ.
ومما يدل على ما أجمع عليه السلف من أن الرأي ليس بعلم قول الله عز وجل: ( فإن تنازعتم في شيء فردوه إلى الله والرسول ) قال عطاء بن أبي رباح وميمون بن مهران وغيرهما الرد إلى الله هو الرد إلى كتابه والرد إلى رسوله – صلى الله عليه وسلم - هو الرد إلى سنته بعد موته وعن عطاء في قوله تعالى: ( أطيعوا الله وأطيعوا الرسول ) قال طاعة الله ورسوله إتباع الكتاب والسنة ( وأولي الأمر منكم ) قال أولوا العلم والفقه وكذا قال مجاهد ويدل على ذلك من السنة حديث العرباض بن سارية وهو ثابت في السنن ورجاله رجال الصحيح قال : " وعظنا رسول الله – صلى الله عليه وسلم - موعظة ذرفت منها العيون ووجلت منها القلوب فقلنا يا رسول الله إن هذه موعظة مودع فماذا تعهد إلينا فقال تركتكم على البيضاء ليلها كنهارها لا يزيغ عنها بعدي إلا هالك ومن يعش منكم فسيرى اختلافا كثيرا فعليكم بما عرفتكم من سنتي وسنة الخلفاء المهديين الراشدين وعليكم بالطاعة وإن كان عبدا حبشيا عضوا عليها بالنواجذ إنما المؤمن كالجمل الأنف كلما قيد انقاد وأخرجه أيضا ابن عبد البر بإسناد صحيح وزاد وإياكم ومحدثات الأمور فإن كل محدثة بدعة وكل بدعة ضلالة.
والأحاديث في هذا الباب كثيرة جدا ويكفي من(2) رفع الرأي وأنه ليس من الدين قول الله عز وجل: ( اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الإسلام دينا ) فإذا كان الله قد أكمل دينه قبل أن يقبض نبيه – صلى الله عليه وسلم - فما هذا الرأي الذي أحدثه أهله بعد أن أكمل الله دينه؟ إن كان من الدين في اعتقادهم فهو لم يكمل عندهم إلا برأيهم وهذا فيه رد للقرآن وإن لم يكن من الدين فأي فائدة من الاشتغال بما ليس من الدين.
وهذه حجة قاهرة ودليل عظيم لا يمكن صاحب الرأي أن يدفعه بدافع أبدا فاجعل هذه الآية الشريفة أول ما تصك به وجوه أهل الرأي وترغم به آنافهم وتدحض به حججهم فقد أخبرنا الله في محكم كتابه أنه أكمل دينه ولم يمت رسول الله – صلى الله عليه وسلم - إلا بعد أن أخبرنا بهذا الخبر عن الله عز وجل فمن جاءنا بالشيء من عند نفسه وزعم أنه من ديننا قلنا له الله أصدق منك فاذهب فلا حاجة لنا في رأيك.
وليت المقلدة فهموا هذه الآية حق الفهم حتى يستريحوا ويتركوا ) اهـ.
3- ساق الشوكاني آيات كثيرة في الرد على المقلدين، ثم قال -رحمه الله- في (ص39-40) من "القول المفيد" :
" وإنما أوردنا هذه الآيات الشريفة لقصد تليين قلب المقلد الذي قد جمد وصار كالجلمد فإنه إذا سمع مثل هذه الأوامر ربما امتثلها وأخذ دينه عن كتاب الله وسنة رسوله – صلى الله عليه وسلم - طاعة لأوامر الله تعالى فإن هذه الطاعة وإن كانت معلومة لكل مسلم كما تقدم لكن الإنسان يذهل عن القوارع القرآنية والزواجر النبوية فإذا ذكرتها زجر ولا سيما من نشأ على التقليد وأدرك سلفه ثابتين عليه غير متزحزحين عنه فإنه يقع في قلبه أن دين الإسلام هو هذا الذي هو عليه وما كان مخالفا له فليس من الإسلام في شيء . فإذا راجع نفسه رجع ولهذا تجد الرجل إذا نشأ على مذهب من هذه المذاهب ثم سمع قبل أن يتمرن بالعلم ويعرف ما قاله الناس خلافا يخالف ذلك المألوف استنكره وأباه قلبه ونفر عنه طبعه وقد رأينا وسمعنا من هذا الجنس من لا يأتي عليه الحصر .ولكن إذا وازن العاقل بعقله بين من اتبع أحد أئمة المذاهب في مسألة من مسائله التي رواها عنه المقلد ولا مستند لذلك العالم فيها بل قالها بمحض الرأي لعدم وقوفه على الدليل وبين من تمسك في تلك المسألة بخصوصها بالدليل الثابت في القرآن أو السنة أفاده العقل أن بينهما مسافات تنقطع فيها أعناق الإبل بل لا جامع بينهما أن(1) من تمسك بالدليل أخذ بما أوجب الله عليه الأخذ به واتبع ما شرعه الشارع بجمع(2) الأمة أولها وآخرها وحيها وميتها . وأخذهم هذا العالم الذي تمسك المقلد له بمحض رأيه هو محكوم عليه بالشريعة لا أنه حاكم فيها وهو تابع لها لا متبوع فيها فهو كمن اتبعه في أن كل واحد منهما فرضه الأخذ بما جاء عن الشارع لا فرق بينهما إلا من كون المتبوع عالما والتابع جاهلا فالعالم يمكنه الوقوف على الدليل من دون أن يرجع إلى غيره لأنه قد استعد لذلك بما اشتغل به من الطلب والوقوف بين يدي أهل العلم والتحرج لهم في معارف الاجتهاد والجاهل يمكنه الوقوف على الدليل بسؤال علماء الشريعة على طريقة طلب الدليل واسترواء النص وكيف حكم به في محكم كتاب الله أو على لسان رسوله -صلى الله عليه وسلم - في تلك المسألة فيفيدونه النص إن كان ممن يعقل الحجة إذا دُلَّ عليها أو يفيدونه مضمون النص بالتعبير عنه بعبارة يفهمها فهم رواة وهو مسترو وهذا عامل بالرواية لا بالرأي والمقلد عامل بالرأي لا بالرواية لأنه يقبل قول الغير من دون أن يطالبه بحجة وذلك هو في سؤاله له مطالب بالحجة لا بالرأي فهو قَبِلَ رواية الغير لا رأيه وهما من هذه الحيثية متقابلان، فانظر كم الفرق بين المنـزلتين " اهـ.
4- وقال -رحمه الله- في " إرشاد الفحول " (ص451) :
" المسألة الخامسة : إذا تقرر لك أن العامي يسأل العالم والمقصر يسأل الكامل فعليه أن يسأل أهل العلم المعروفين بالدين وكمال الورع عن العالم بالكتاب والسنة العارف بما فيهما المطلع على ما يحتاج إليه في فهمهما من العلوم الآلية حتى يدلوه عليه ويرشدوه إليه فيسأله عن حادثته طلبا منه أن يذكر له فيها ما في كتاب الله سبحانه أو ما في سنة رسول الله e فحينئذ يأخذ الحق من معدنه ويستفيد الحكم من موضعه ويستريح من الرأي الذي لا يأمن المتمسك به أن يقع في الخطأ المخالف للشرع المباين للحق ومن سلك هذا المنهج ومشى في هذا الطريق لا يعدم مطلبه ولا يفقد من يرشده إلى الحق فإن الله سبحانه وتعالى قد اوجد لهذا الشأن من يقوم به ويعرفه حق معرفته وما من مدينة من المدائن إلا وفيها جماعة من علماء الكتاب والسنة وعند ذلك يكون حكم هذا المقصر حكم المقصرين من الصحابة والتابعين وتابعيهم فإنهم كانوا يستروون النصوص من العلماء ويعملون على ما يرشدونهم إليه ويدلوهم عليه وقد ذكر أهل الأصول أنه يكفي العامي في الاستدلال على من له أهلية الفتوى بأن يرى الناس متفقين على سؤاله مجتمعين على الرجوع إليه ولا يستفتي من هو مجهول الحال كما صرح به الغزالي والآمدي وابن الحاجب وحكي في المحصول الاتفاق على المنع .." اهـ.
5- وقال الشوكاني -رحمه الله- في مقدمة بحثٍ له سمَّاه ( أعظم أسباب التفرق في الدين هو علم الرأي ) قال بعد أن أثنى على القرون المفضلة واتحاد كلمتهم وتمسكهم بالكتاب والسنَّة : ( فلمَّا ظهر علم الرأي بعد الصحابة والتابعين تفرقوا فرقاً وصاروا منتسبين إلى أهل المذاهب إلاَّ من عصمه الله وقليل ما هم .
وقد أوضحت هذا في كثير من مؤلفاتي كالكتاب الذي سميته " أدب الطلب في منتهى الأرب" والرسالة التي سمَّيتها " القول المفيد في حكم التقليد " والكتاب الذي سمَّيته " قطر الولي على حديث الولي " والكتاب الذي سمَّيته " نثر الجوهر على حديث أبي ذر " ) اهـ. انظر (5/2447) من الفتح الرباني من فتاوى الإمام الشوكاني .
- أقول : هذا كلام الشوكاني في التقليد، رأيتَ فيه من الشدة ما رأيتَ، ومع ذلك لم ينـزعج منه علماء السنة في العالم الإسلامي، لا أهل الجزيرة ولا أهل الهند ولا أهل مصر ولا غيرهم، فكيف يطيقه فالح وقد انزعج انزعاجاً شديداً وأقام الدنيا ولم يقعدها على ربيع الذي نصح فالحاً ودعاه إلى سلوك منهج السلف في الدعوة إلى اتباع الكتاب والسنة، ونصحه بالابتعاد عن الغلو في التقليد وعن الأحكام الغليظة على من لا يلزمه التقليد؛ بل يجب عليه الاتباع، وفي الوقت نفسه ذكر مراراً من يجوز له التقليد ممن لا يستطيعون إدراك معاني نصوص الكتاب والسنة.
ثم نقول لفالح علامَ يدل نقلك تلك الجملة عن الشوكاني التي لعله غيَّر رأيه فيها وإعراضك عن هذه الكتب التي تضمنت هذه الأقوال الشديدة على التقليد والمقلدين ودعاة التقليد، أليس هذا من فعل أهل الأهواء ؟
· الثاني والعشرون : كذب فالح على الأئمة وابن القيَِِّم وخياناته في النَّقل عن ابن القيِّم :
أقول :
قال فالح في (2/21-23) من "التحقيق السديد" : ( وقال (في الإعلام 2/187) : " وقد صرح الأئمة بجواز التقليد فقال حفص بن غياث: (سمعت سفيان يقول: إذا رأيت الرجل يعمل العمل الذي قد اختلف فيه، وأنت ترى تحريمه فلا تنهه).
وقال محمد بن الحسن : ( يجوز للعالم تقليد من هو أعلم منه، ولا يجوز له تقليد من هو مثله).
وقد صرح الشافعي بالتقليد، فقال: (في الضلع بعير، قلته تقليداً لعمر).
وقال في مسألة بيع الحيوان بالبراءة من العيوب: (قلته تقليداً لعثمان).
وقال في مسألة الجد مع الإخوة: (إنه يقاسمهم)، ثم قال: (وإنما قلت بقول زيد، وعنه قبلنا أكثر الفرائض)، وقال في موضع آخر من كتابه الجديد: (قلته تقليداً لعطاء).
وهذا أبو حنيفة - رحمه الله - قال في مسائل الآبار: ليس معه فيها إلا تقليد من تقدمه من التابعين فيها.
وهذا مالك لا يخرج عن عمل أهل المدينة، ويصرح في موطئه بأنه أدرك العمل على هذا، وهو الذي عليه أهل العلم ببلدنا. ويقول في غير موضع: (ما رأيت أحداً أقتدي به يفعله)، ولو جمعنا ذلك من كلامه لطال.
وقد قال الشافعي في الصحابة : ( رأيهم لنا خير من رأينا لأنفسنا) ،ونحن نقول ونصدق أن رأي الشافعي والأئمة معه خير من رأينا لأنفسنا.
وقد جعل الله -سبحانه- في فطر العباد تقليد المتعلمين للأستاذين والمعلمين، ولا تقوم مصالح الخلق إلا بهذا، وذلك عام في كل علم وصناعة وقد فاوت الله سبحانه بين قوى الأذهان، كما فاوت بين قوى الأبدان، فلا يحسن في حكمته وعدله ورحمته أن يفرض على جميع خلقه معرفة الحق بدليله، والجواب عن معارضه في جميع مسائل الدين دقيقها وجليلها، ولو كان ذلك لتساوت أقدام الخلائق في كونهم علماء، بل جعل سبحانه هذا عالماً وهذا متعلماً، وهذا متبعاً للعالم مؤتماً به بمنزلة المأموم مع الإمام والتابع مع المتبوع وأين حرم الله - تعالى- على الجاهل أن يكون متبعاً للعالم مؤتماً به مقلداً له يسير بسيره وينـزل بنـزوله، وقد علم الله سبحانه أن الحوادث والنوازل كل وقت نازلة بالخلق، فهل فرض على كل منهم فرض عين أن يأخذ حكم نازلته من الأدلة الشرعية بشروطها ولوازمها؟ وهل ذلك في إمكان أحد فضلاً عن كونه مشروعاً ؟ وهؤلاء أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فتحوا البلاد وكان الحديث العهد بالإسلام يسألهم، فيفتونه ولا يقولون له: عليك أن تطلب معرفة الحق في هذه الفتوى بالدليل، ولا يعرف ذلك عن أحد منهم البتة، وهل التقليد إلا من لوازم التكليف ولوازم الوجود، فهو من لوازم الشرع والقدر. والمنكرون له مضطرون إليه ولابد، وذلك فيما تقدم بيانه من الأحكام وغيرها. ونقول لمن احتج على إبطاله : كل حجة أثرية ذكرتها فأنت مقلد لحملتها ورواتها، إذ لم يقم دليل قطعي على صدقهم، فليس بيدك إلا تقليد الراوي، وليس بيد الحاكم إلا تقليد الشاهد، وكذلك ليس بيد العامي إلا تقليد العالم ، فما الذي سوغ لك تقليد الراوي والشاهد ومنعنا من تقليد العالم، وهذا سمع بأذنه ما رواه وهذا عقل بقلبه ما سمعه، فأدى هذا مسموعه وأدى هذا معقوله، وفرض على هذا تأدية ما سمعه، وعلى هذا تأدية ما عقله، وعلى من لم يبلغ منزلتهما القبول منهما. ثم يقال للمانعين من التقليد: أنتم منعتموه خشية وقوع المقلد في الخطأ، بأن يكون من قلده مخطأً في فتواه، ثم أوجبتم عليه النظر والاستدلال في طلب الحق. ولا ريب أن صوابه في تقليده للعالم أقرب من صوابه في اجتهاده هو لنفسه، وهذا كمن أراد شراء سلعة لا خبرة له بها، فإنه إذا قلد عالماً بتلك السلعة خبيراً بها أميناً ناصحاً كان صوابه وحصول غرضه أقرب من اجتهاده لنفسه، وهذا متفق عليه بين العقلاء".
أقول :
1- لقد أطال فالح النفس في نقل هذه الشبه؛ لأنه فيما خيل له أنه يقوي جانبه وجانب الغلاة في التقليد لا سيما والأئمة معهم في جواز هذا التقليد المطلق.
2- إن هذا الكلام من ابن القيم إنما حكاه عن مقلد مدافع عن التقليد الممنوع، وليس احتجاجاً منه على جواز التقليد المحرم كما أوهم فالح ذلك.
3- صوَّر فالح بهذا التصرف كلاً من الأئمة وابن القيم مدافعين عن التقليد محتجين له.
وهذا افتراء منه على الأئمة وعلى ابن القيم، فإن المشهور عن الأئمة إنما هو الدعوة إلى اتباع السنة والزجر عن التقليد(1).
وابن القيم مشهور عنه ذم التقليد والزجر عنه، ومن ذلك دحضه للتقليد المحرم في كتابه "إعلام الموقعين" وفي "النونية" وغيرهما، وما حكى ابن القيم هذه الشبه إلا ليردها، ويبين بطلانها، وقد أبطلها من واحد وثمانين وجهاً.
ومن دحضه له ما يأتي:
قال -رحمه الله- في الإعلام (2/182-187) وهو يعرض شبه المقلدين ومن هذه الشبه الكلام الذي نسبه فالح لابن القيم تلبيساً وخيانة.
قال -رحمه الله- : " فَصْلٌ في عَقْدِ مَجْلِسِ مُنَاظَرَةٍ بين مُقَلِّدٍ وَبَيْنَ صَاحِبِ حُجَّةٍ مُنْقَادٍ لِلْحَقِّ حَيْثُ كان.
قال الْمُقَلِّدُ نَحْنُ مَعَاشِرَ الْمُقَلِّدِينَ مُمْتَثِلُونَ قَوْلَ اللَّهِ تَعَالَى : ( فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ ) فَأَمَرَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ من لَا عِلْمَ له أَنْ يَسْأَلَ من هو أَعْلَمُ منه وَهَذَا نَصُّ قَوْلِنَا وقد أَرْشَدَ النبي صلى اللَّهُ عليه وسلم من لَا يَعْلَمُ إلَى سُؤَالِ من يَعْلَمُ فقال في حديث صَاحِبِ الشَّجَّةِ أَلَا سَأَلُوا إذَا لم يَعْلَمُوا إنَّمَا شِفَاءُ الْعِيِّ السُّؤَالُ وقال أبو الْعَسِيفِ الذي زَنَى بِامْرَأَةِ مُسْتَأْجِرِهِ وإني سَأَلْت أَهْلَ الْعِلْمِ فَأَخْبَرُونِي أَنَّمَا علي ابني جَلْدُ مِائَةٍ وَتَغْرِيبُ عَامٍ وَأَنَّ على امْرَأَةِ هذا الرَّجْمَ فلم يُنْكَرْ عليه تَقْلِيدُ من هو أَعْلَمُ منه.
وَهَذَا عَالِمُ الْأَرْضِ عُمَرُ قد قَلَّدَ أَبَا بَكْرٍ فَرَوَى شُعْبَةُ عن عَاصِمٍ الْأَحْوَلِ عن الشَّعْبِيِّ أَنَّ أَبَا بَكْرٍ قال في الْكَلَالَةِ أَقْضِي فيها فَإِنْ يَكُنْ صَوَابًا فَمِنْ اللَّهِ وَإِنْ يَكُنْ خَطَأً فَمِنِّي وَمِنْ الشَّيْطَانِ وَاَللَّهُ منه بَرِيءٌ هو ما دُونَ الْوَلَدِ وَالْوَالِدِ فقال عُمَرُ بن الْخَطَّابِ إنِّي لأستحي من اللَّهِ أَنْ أُخَالِفَ أَبَا بَكْرٍ، وَصَحَّ عنه أَنَّهُ قال له رَأْيُنَا لِرَأْيِك تَبَعٌ وَصَحَّ عن ابن مَسْعُودٍ أَنَّهُ كان يَأْخُذُ بِقَوْلِ عُمَرَ .
وقال الشَّعْبِيُّ عن مَسْرُوقٍ كان سِتَّةٌ من أَصْحَابِ النبي صلى اللَّهُ عليه وسلم يُفْتُونَ الناس ابن مَسْعُودٍ وَعُمَرُ بن الْخَطَّابِ وَعَلِيٌّ وَزَيْدُ بن ثَابِتٍ وَأُبَيُّ بن كَعْبٍ وأبو مُوسَى وكان ثَلَاثَةٌ منهم يَدَعُونَ قَوْلَهُمْ لِقَوْلِ ثَلَاثَةٍ كان عبد اللَّهِ يَدَعُ قَوْلَهُ لِقَوْلِ عُمَرَ وكان أبو مُوسَى يَدَعُ قَوْلَهُ لِقَوْلِ عَلِيٍّ وكان زَيْدٌ يَدَعُ قَوْلَهُ لِقَوْلِ أُبَيِّ بن كَعْبٍ وقال جُنْدُبٌ ما كُنْت أَدَعُ قَوْلَ ابن مَسْعُودٍ لِقَوْلِ أَحَدٍ من الناس وقد قال النبي صلى اللَّهُ عليه وسلم إنَّ مُعَاذًا قد سَنَّ لَكُمْ سُنَّةً فَكَذَلِكَ فَافْعَلُوا في شَأْنِ الصَّلَاةِ حَيْثُ أَخَّرَ فَصَلَّى ما فَاتَهُ من الصَّلَاةِ مع الْإِمَامِ بَعْدَ الْفَرَاغِ وَكَانُوا يُصَلُّونَ ما فَاتَهُمْ أَوَّلًا ثُمَّ يَدْخُلُونَ مع الْإِمَامِ.
قال الْمُقَلَّدُ وقد أَمَرَ اللَّهُ تَعَالَى بِطَاعَتِهِ وَطَاعَةِ رَسُولِهِ وَأُولِي الْأَمْرِ وَهُمْ الْعُلَمَاءُ أو الْعُلَمَاءُ وَالْأُمَرَاءُ وَطَاعَتُهُمْ تَقْلِيدُهُمْ فِيمَا يُفْتُونَ بِهِ فإنه لَوْلَا التَّقْلِيدُ لم يَكُنْ هُنَاكَ طَاعَةٌ تَخْتَصُّ بِهِمْ.
وقال تَعَالَى ( وَالسَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ من الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ وَاَلَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ رضي اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عنه ) وَتَقْلِيدُهُمْ اتِّبَاعٌ لهم فَفَاعِلُهُ مِمَّنْ رضي اللَّهُ عَنْهُمْ وَيَكْفِي في ذلك الْحَدِيثُ الْمَشْهُورُ "أَصْحَابِي كَالنُّجُومِ فَبِأَيِّهِمْ اقْتَدَيْتُمْ اهْتَدَيْتُمْ"(1) .
وقال عبد اللَّهِ بن مَسْعُودٍ : من كان مِنْكُمْ مُسْتَنًّا فَلْيَسْتَنَّ بِمَنْ قد مَاتَ فإن الْحَيَّ لَا تُؤْمَنُ عليه الْفِتْنَةُ أُولَئِكَ أَصْحَابُ مُحَمَّدٍ أَبَرُّ هذه الْأُمَّةِ قُلُوبًا وَأَعْمَقُهَا عِلْمًا وَأَقَلُّهَا تَكَلُّفًا قَوْمٌ اخْتَارَهُمْ اللَّهُ لِصُحْبَةِ نَبِيِّهِ وَإِقَامَةِ دِينِهِ فَاعْرِفُوا لهم حَقَّهُمْ وَتَمَسَّكُوا بِهَدْيِهِمْ فَإِنَّهُمْ كَانُوا على الْهُدَى الْمُسْتَقِيمِ .
وقد رُوِيَ عن النبي صلى اللَّهُ عليه وسلم أَنَّهُ قال عَلَيْكُمْ بِسُنَّتِي وَسُنَّةِ الْخُلَفَاءِ الرَّاشِدِينَ الْمَهْدِيِّينَ من بَعْدِي وقال اقْتَدُوا بِاَللَّذَيْنِ من بَعْدِي أبي بَكْرٍ وَعُمَرَ وَاهْتَدَوْا بِهَدْيِ عَمَّارٍ وَتَمَسَّكُوا بِعَهْدِ ابن أُمِّ عَبْدٍ.
وقد كَتَبَ عُمَرُ إلَى شُرَيْحٍ أَنْ اقْضِ بِمَا في كِتَابِ اللَّهِ فَإِنْ لم يَكُنْ في كِتَابِ اللَّهِ فَبِسُنَّةِ رسول اللَّهِ صلى اللَّهُ عليه وسلم فَإِنْ لم يَكُنْ في سُنَّةِ رسول اللَّهِ صلى اللَّهُ عليه وسلم فَاقْضِ بِمَا قَضَى بِهِ الصَّالِحُونَ.
وقد مَنَعَ عُمَرُ عن بَيْعِ أُمَّهَاتِ الْأَوْلَادِ وَتَبِعَهُ الصَّحَابَةُ وَأَلْزَمَ بِالطَّلَاقِ الثَّلَاثِ وَتَبِعُوهُ أَيْضًا وَاحْتَلَمَ مَرَّةً فقال له عَمْرُو بن الْعَاصِ خُذْ ثَوْبًا غير ثَوْبِك فقال لو فَعَلْتهَا صَارَتْ سُنَّةً.
وقال أُبَيّ بن كَعْبٍ وَغَيْرُهُ من الصَّحَابَةِ ما اسْتَبَانَ لَك فَاعْمَلْ بِهِ وما اشْتَبَهَ عَلَيْك فَكِلْهُ إلَى عَالِمِهِ.
وقد كان الصَّحَابَةُ يُفْتُونَ وَرَسُولُ اللَّهِ صلى اللَّهُ عليه وسلم حَيٌّ بين أَظْهُرِهِمْ وَهَذَا تَقْلِيدٌ لهم قَطْعًا إذْ قَوْلُهُمْ لَا يَكُونُ حُجَّةً في حَيَاةِ النبي صلى اللَّهُ عليه وسلم.
وقد قال تَعَالَى: ( فَلَوْلَا نَفَرَ من كل فِرْقَةٍ منهم طَائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا في الدِّينِ وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إذَا رَجَعُوا إلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ ) فَأَوْجَبَ عليهم قَبُولَ ما أَنْذَرُوهُمْ بِهِ إذَا رَجَعُوا إلَيْهِمْ وَهَذَا تَقْلِيدٌ منهم لِلْعُلَمَاءِ.
وَصَحَّ عن بن الزُّبَيْرِ أَنَّهُ سُئِلَ عن الْجَدِّ وَالْإِخْوَةِ فقال أَمَّا الذي قال رسول اللَّهِ صلى اللَّهُ عليه وسلم لو كُنْت مُتَّخِذًا من أَهْلِ الْأَرْضِ خليلا لاتخذته خَلِيلًا فإنه أَنْزَلَهُ أَبًا وَهَذَا ظَاهِرٌ في تَقْلِيدِهِ له.
وقد أَمَرَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ بِقَبُولِ شَهَادَةِ الشَّاهِدِ وَذَلِكَ تَقْلِيدٌ له وَجَاءَتْ الشَّرِيعَةُ بِقَبُولِ قَوْلِ الْقَائِفِ وَالْخَارِصِ وَالْقَاسِمِ وَالْمُقَوِّمِ لِلْمُتْلَفَاتِ وَغَيْرِهَا وَالْحَاكِمِينَ بِالْمِثْلِ في جَزَاءِ الصَّيْدِ وَذَلِكَ تَقْلِيدٌ مَحْضٌ.
وَأَجْمَعَتْ الْأُمَّةُ على قَبُولِ قَوْلِ الْمُتَرْجِمِ وَالرَّسُولِ وَالْمُعَرِّفِ وَالْمُعَدِّلِ وَإِنْ اخْتَلَفُوا في جَوَازِ الِاكْتِفَاءِ بِوَاحِدٍ وَذَلِكَ تَقْلِيدٌ مَحْضٌ لِهَؤُلَاءِ.
وَأَجْمَعُوا على جَوَازِ شِرَاءِ اللَّحْمَانِ وَالثِّيَابِ وَالْأَطْعِمَةِ وَغَيْرِهَا من غَيْرِ سُؤَالٍ عن أَسْبَابِ حِلِّهَا وَتَحْرِيمِهَا اكْتِفَاءً بِتَقْلِيدِ أَرْبَابِهَا وَلَوْ كُلِّفَ الناس كلهم الِاجْتِهَادَ وَأَنْ يَكُونُوا عُلَمَاءَ فُضَلَاءَ لَضَاعَتْ مَصَالِحُ الْعِبَادِ وَتَعَطَّلَتْ الصَّنَائِعُ وَالْمَتَاجِرُ وكان الناس كلهم عُلَمَاءَ مُجْتَهِدِينَ وَهَذَا مِمَّا لَا سَبِيلَ إلَيْهِ شَرْعًا وَالْقَدَرُ قد مَنَعَ من وُقُوعِهِ.
وقد أَجْمَعَ الناس على تَقْلِيدِ الزَّوْجِ لِلنِّسَاءِ اللَّاتِي يُهْدِينَ إلَيْهِ زَوْجَتَهُ وَجَوَازِ وَطْئِهَا تَقْلِيدًا لَهُنَّ في كَوْنِهَا هِيَ زَوْجَتَهُ.
وَأَجْمَعُوا على أَنَّ الْأَعْمَى يُقَلِّدُ في الْقِبْلَةِ وَعَلَى تَقْلِيدِ الْأَئِمَّةِ في الطَّهَارَةِ وَقِرَاءَةِ الْفَاتِحَةِ وما يَصِحُّ بِهِ الِاقْتِدَاءُ وَعَلَى تَقْلِيدِ الزَّوْجَةِ مُسْلِمَةً كانت أو ذِمِّيَّةً أَنَّ حَيْضَهَا قد انْقَطَعَ فَيُبَاحُ لِلزَّوْجِ وَطْؤُهَا بِالتَّقْلِيدِ وَيُبَاحُ للولي تَزْوِيجُهَا بِالتَّقْلِيدِ لها في انْقِضَاءِ عِدَّتِهَا وَعَلَى جَوَازِ تَقْلِيدِ الناس لِلْمُؤَذِّنِينَ في دُخُولِ أَوْقَاتِ الصَّلَوَاتِ وَلَا يَجِبُ عليهم الِاجْتِهَادُ وَمَعْرِفَةُ ذلك بِالدَّلِيلِ.
وقد قالت الْأَمَةُ السَّوْدَاءُ لِعُقْبَةَ بن الْحَارِثِ أَرْضَعْتُك وَأَرْضَعْت امْرَأَتَك فَأَمَرَهُ النبي صلى اللَّهُ عليه وسلم بِفِرَاقِهَا وَتَقْلِيدِهَا فِيمَا أَخْبَرَتْهُ بِهِ من ذلك.
وقد صَرَّحَ(1) الْأَئِمَّةُ بِجَوَازِ التَّقْلِيدِ فقال حَفْصُ بن غِيَاثٍ سَمِعْت سُفْيَانَ يقول إذَا رَأَيْت الرَّجُلَ يَعْمَلُ الْعَمَلَ الذي قد اُخْتُلِفَ فيه وَأَنْتَ تَرَى تَحْرِيمَهُ فَلَا تَنْهَهُ.
وقال محمد بن الْحَسَنِ يَجُوزُ لِلْعَالِمِ تَقْلِيدُ من هو أَعْلَمُ منه وَلَا يَجُوزُ له تَقْلِيدُ من هو مِثْلُهُ
وقد صَرَّحَ الشَّافِعِيُّ بِالتَّقْلِيدِ فقال في الضَّبُعِ بَعِيرٌ قُلْته تَقْلِيدًا لِعُمَرَ وقال في مَسْأَلَةِ بَيْعِ الْحَيَوَانِ بِالْبَرَاءَةِ من الْعُيُوبِ قُلْته تَقْلِيدًا لِعُثْمَانَ وقال في مَسْأَلَةِ الْجَدِّ مع الْإِخْوَةِ إنَّهُ يُقَاسِمُهُمْ ثُمَّ قال وَإِنَّمَا قُلْت بِقَوْلِ زَيْدٍ وَعَنْهُ قَبِلْنَا أَكْثَرَ الْفَرَائِضِ وقد قال في مَوْضِعٍ آخَرَ من كِتَابِهِ الْجَدِيدِ قُلْته تَقْلِيدًا لِعَطَاءٍ.
وَهَذَا أبو حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ قال في مَسَائِلِ الْآبَارِ ليس معه فيها إلَّا تَقْلِيدُ من تَقَدَّمَهُ من التَّابِعِينَ فيها وَهَذَا مَالِكٌ لَا يَخْرُجُ عن عَمَلِ أَهْلِ الْمَدِينَةِ وَيُصَرِّحُ في مُوَطَّئِهِ بِأَنَّهُ أَدْرَكَ الْعَمَلَ على هذا وهو الذي عليه أَهْلُ الْعِلْمِ بِبَلَدِنَا وَيَقُولُ في غَيْرِ مَوْضِعٍ ما رَأَيْت أَحَدًا أقتدي بِهِ يَفْعَلُهُ وَلَوْ جَمَعْنَا ذلك من كَلَامِهِ لَطَالَ.
وقد قال الشَّافِعِيُّ في الصَّحَابَةِ رَأْيُهُمْ لنا خَيْرٌ من رَأْيِنَا لِأَنْفُسِنَا وَنَحْنُ نَقُولُ وَنُصَدِّقُ أَنَّ رأى الشَّافِعِيِّ وَالْأَئِمَّةِ معه لنا خَيْرٌ من رَأْيِنَا لِأَنْفُسِنَا.
وقد جَعَلَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ في فِطَرِ الْعِبَادِ تَقْلِيدَ الْمُتَعَلِّمِينَ لِلْأُسْتَاذَيْنِ وَالْمُعَلِّمِينَ وَلَا تَقُومُ مَصَالِحُ الْخَلْقِ إلَّا بهذا وَذَلِكَ عَامٌّ في كل عِلْمٍ وَصِنَاعَةٍ وقد فَاوَتَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ بين قُوَى الْأَذْهَانِ كما فَاوَتَ بين قُوَى الْأَبَدَانِ فَلَا يُحْسَنُ في حِكْمَتِهِ وَعَدْلِهِ وَرَحْمَتِهِ أَنْ يَفْرِضَ على جَمِيعِ خَلْقِهِ مَعْرِفَةَ الْحَقِّ بِدَلِيلِهِ وَالْجَوَابَ عن مُعَارِضِهِ في جَمِيعِ مَسَائِلِ الدِّينِ دَقِيقِهَا وَجَلِيلِهَا وَلَوْ كان كَذَلِكَ لَتَسَاوَتْ أَقْدَامُ الْخَلَائِقِ في كَوْنِهِمْ عُلَمَاءَ بَلْ جَعَلَ سُبْحَانَهُ هذا عَالِمًا وَهَذَا مُتَعَلِّمًا وَهَذَا مُتَّبِعًا لِلْعَالِمِ مُؤْتَمًّا بِهِ بِمَنْزِلَةِ الْمَأْمُومِ مع الْإِمَامِ وَالتَّابِعِ مع الْمَتْبُوعِ وَأَيْنَ حَرَّمَ اللَّهُ تَعَالَى على الْجَاهِلِ أَنْ يَكُونَ مُتَّبِعًا لِلْعَالِمِ مُؤْتَمًّا بِهِ مُقَلِّدًا له يَسِيرُ بِسَيْرِهِ وَيَنْزِلُ بِنُزُولِهِ وقد عَلِمَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ أَنَّ الْحَوَادِثَ وَالنَّوَازِلَ كُلَّ وَقْتٍ نَازِلَةٌ بِالْخَلْقِ فَهَلْ فَرَضَ على كُلٍّ منهم فَرْضَ عَيْنٍ أَنْ يَأْخُذَ حُكْمَ نَازِلَتِهِ من الْأَدِلَّةِ الشَّرْعِيَّةِ بِشُرُوطِهَا وَلَوَازِمِهَا وَهَلْ ذلك في إمْكَانِ أَحَدٍ فَضْلًا عن كَوْنِهِ مَشْرُوعًا وَهَؤُلَاءِ أَصْحَابُ رسول اللَّهِ صلى اللَّهُ عليه وسلم فَتَحُوا الْبِلَادَ وكان الْحَدِيثُ الْعَهْدِ بِالْإِسْلَامِ يَسْأَلُهُمْ فَيُفْتُونَهُ وَلَا يَقُولُونَ له عَلَيْك أَنْ تَطْلُبَ مَعْرِفَةَ الْحَقِّ في هذه الْفَتْوَى بِالدَّلِيلِ وَلَا يُعْرَفُ ذلك عن أَحَدٍ منهم البتة وَهَلْ التَّقْلِيدُ إلا من لَوَازِمِ التَّكْلِيفِ وَلَوَازِمِ الْوُجُودِ فَهُوَ من لَوَازِمِ الشَّرْعِ وَالْقَدَرِ وَالْمُنْكِرُونَ له مُضْطَرُّونَ إلَيْهِ وَلَا بُدَّ وَذَلِكَ فِيمَا تَقَدَّمَ بَيَانُهُ من الْأَحْكَامِ وَغَيْرِهَا.
وَنَقُولُ لِمَنْ احْتَجَّ على إبْطَالِهِ كُلُّ حُجَّةٍ أَثَرِيَّةٍ ذَكَرْتهَا فَأَنْتَ مُقَلِّدٌ لحملتها وَرُوَاتِهَا إذْ لم يَقُمْ دَلِيلٌ قَطْعِيٌّ على صِدْقِهِمْ فَلَيْسَ بِيَدِك إلَّا تَقْلِيدَ الرَّاوِي وَلَيْسَ بِيَدِ الْحَاكِمِ إلَّا تَقْلِيدُ الشَّاهِدِ وَكَذَلِكَ ليس بِيَدِ الْعَامِّيِّ إلَّا تَقْلِيدُ الْعَالِمِ فما الذي سَوَّغَ لَك تَقْلِيدَ الرَّاوِي وَالشَّاهِدِ وَمَنْعَنَا من تَقْلِيدِ الْعَالِمِ وَهَذَا سمع بِأُذُنِهِ ما رَوَاهُ وَهَذَا عَقَلَ بِقَلْبِهِ ما سَمِعَهُ فَأَدَّى هذا مَسْمُوعَهُ وَأَدَّى هذا مَعْقُولَهُ وَفُرِضَ على هذا تَأْدِيَةُ ما سَمِعَهُ وَعَلَى هذا تَأْدِيَةُ ما عَقَلَهُ وَعَلَى من لم يَبْلُغْ مَنْزِلَتَهُمَا القبول مِنْهُمَا .
ثُمَّ يُقَالُ لِلْمَانِعِينَ من التَّقْلِيدِ أَنْتُمْ مَنَعْتُمُوهُ خَشْيَةَ وُقُوعِ الْمُقَلَّدِ في الْخَطَأِ بِأَنْ يَكُونَ من قَلَّدَهُ مُخْطِئًا في فَتْوَاهُ ثُمَّ أَوْجَبْتُمْ عليه النَّظَرَ وَالِاسْتِدْلَالَ في طَلَبِ الْحَقِّ وَلَا رَيْبَ أَنَّ صَوَابَهُ في تَقْلِيدِهِ لِلْعَالِمِ أَقْرَبُ من صَوَابِهِ في اجْتِهَادِهِ هو لِنَفْسِهِ وَهَذَا كَمَنْ أَرَادَ شِرَاءَ سِلْعَةً لَا خِبْرَةَ له بها فإنه إذَا قَلَّدَ عَالِمًا بِتِلْكَ السِّلْعَةِ خَبِيرًا بها أَمِينًا نَاصِحًا كان صَوَابُهُ وَحُصُولُ غَرَضِهِ أَقْرَبُ من اجْتِهَادِهِ لِنَفْسِهِ وَهَذَا مُتَّفَقٌ عليه بين الْعُقَلَاءِ " اهـ.
هذا ما حكاه الإمام ابن القيم من شبه المقلدين.
ثم كرَّ ابن القيم -رحمه الله- على هذه الشبه ينقدها ويبطلها شبهة شبهة في أجوبته القوية السديدة التي بلغت واحداً وثمانين وجهاً حيث قال في بداية ردِّه : " قال أَصْحَابُ الْحُجَّةِ عَجَبًا لَكُمْ مُعَاشِرَ الْمُقَلَّدِينَ الشَّاهِدِينَ على أَنْفُسِهِمْ مع شَهَادَةِ أَهْلِ الْعِلْمِ بِأَنَّهُمْ لَيْسُوا من أَهْلِهِ وَلَا مَعْدُودِينَ في زُمْرَةِ أَهْلِهِ كَيْفَ أَبْطَلْتُمْ مَذْهَبَكُمْ بِنَفْسِ دَلِيلِكُمْ فما لِلْمُقَلِّدِ وما لِلِاسْتِدْلَالِ وَأَيْنَ مَنْصِبُ الْمُقَلِّدِ من مَنْصِبِ الْمُسْتَدِلِّ وَهَلْ ما ذَكَرْتُمْ من الْأَدِلَّةِ إلَّا ثِيَابًا اسْتَعَرْتُمُوهَا من صَاحِبِ الْحُجَّةِ فَتَجَمَّلْتُمْ بها بين الناس وَكُنْتُمْ في ذلك مُتَشَبِّعِينَ بِمَا لم تُعْطُوهُ نَاطِقِينَ من الْعِلْمِ بِمَا شَهِدْتُمْ على أَنْفُسِكُمْ أَنَّكُمْ لم تُؤْتَوْهُ وَذَلِكَ ثَوْبُ زُورٍ لَبِسْتُمُوهُ وَمَنْصِبٌ لَسْتُمْ من أَهْلِهِ غَصَبْتُمُوهُ فاخبرونا هل صِرْتُمْ إلَى التَّقْلِيدِ لِدَلِيلٍ قَادَكُمْ إلَيْهِ وَبُرْهَانٍ دَلَّكُمْ عليه فَنَزَلْتُمْ بِهِ من الِاسْتِدْلَالِ أَقْرَبَ مَنْزِلٍ وَكُنْتُمْ بِهِ عن التَّقْلِيدِ بِمَعْزِلٍ أَمْ سَلَكْتُمْ سَبِيلَهُ اتِّفَاقًا وَتَخْمِينًا من غَيْرِ دَلِيلٍ وَلَيْسَ إلَى خُرُوجِكُمْ عن أَحَدِ هَذَيْنِ الْقِسْمَيْنِ سَبِيلٌ وَأَيُّهُمَا كان فَهُوَ بِفَسَادِ مَذْهَبِ التَّقْلِيدِ حَاكِمٌ وَالرُّجُوعُ إلَى مَذْهَبِ الْحُجَّةِ منه لَازِمٌ وَنَحْنُ إنْ خَاطَبْنَاكُمْ بِلِسَانِ الْحُجَّةِ قلتم لَسْنَا من أَهْلِ هذه السَّبِيلِ وَإِنْ خَاطَبْنَاكُمْ بِحُكْمِ التَّقْلِيدِ فَلَا مَعْنَى لِمَا أَقَمْتُمُوهُ من الدَّلِيلِ " اهـ.
ثم واصل رده عليهم حتى بلغ الوجوه التي أسلفنا ذكرها . بدأت هذه الوجوه من (ص186) وانتهت بصحيفة (260).
فماذا صنع فالح بهذه الأجوبة السديدة والذخيرة العظيمة لأهل السنة والاتباع ؟
1- لم يشر إلى هذا الجهد العظيم ([8]) -ولم ينقل منه إلا القليل نقلاً مُشوَهاً يتخلله الخيانات والتلبيس (!)- لأن هذا الجهد العظيم يهدم دعوة فالح الباطلة إلى التقليد المذموم وينصر الحق وأهله ومنهم ربيع الذي يحاربه فالح ظلماً وبغياً وبالأكاذيب والخيانات .
2- لم ينقل كل شبه المقلدين التي ذكرها ابن القيم لا اختصاراً منه، ولكن لأن شبه المقلدين أقواها قائم على الآية الكريمة : ( فاسألوا أهل الذكر إن كنتم لا تعلمون ).
وقد جعلها ابن القيم في طليعة أدلتهم، فهرب منها فالح لئلا يقال : إنَّ حجة فالح إنما هي حجة المقلدين المبطلين !
3- فرَّ فالح عن أجوبة ابن القيم التي افتتح بها الرد على المقلدين إلى الوجه التاسع والخمسين من أجوبة ابن القيم، ولم يشر إلى أنه الوجه التاسع والخمسون؛ لأن ذلك يكشف حاله وسوء تصرفه !
4- لقد ردَّ ابن القيم على هذه الشبه في الوجه الخامس والستين فما بعده من الوجوه ردّاً قوياًّ ،وذلك ممَّا يؤكد أن فالحاً قد مكر مكراً كباراً في نسبته هذه الشبه للإمام ابن القيم الذي يحارب التقليد الباطل أشدَّ الحرب ويردُّ على أهله بأقوى الردود في كتابه هذا وغيره فكيف يقول : " وقد صرَّح الأئمة بجواز التقليد ... " ؟! ويسوق ابن القيم شبه المقلدين كأنَّه من كبارهم ؟! حاشاه ثم حاشاه من ذلك .
- قال -رحمه الله- في ردُّه على هذه الشبه (2/239-241) من "الإعلام" :
" الْوَجْهُ الْخَامِسُ وَالسِّتُّونَ : قَوْلُكُمْ : "قد صَرَّحَ الْأَئِمَّةُ بِجَوَازِ التَّقْلِيدِ كما قال سُفْيَانُ إذَا رَأَيْت الرَّجُلَ يَعْمَلُ الْعَمَلَ وَأَنْتَ تَرَى غَيْرَهُ فَلَا تَنْهَهُ وقال محمد بن الْحَسَنِ يَجُوزُ لِلْعَالِمِ تَقْلِيدُ من هو أَعْلَمُ منه وَلَا يَجُوزُ له تَقْلِيدُ مِثْلِهِ وقال الشَّافِعِيُّ في غَيْرِ مَوْضِعٍ قُلْته تَقْلِيدًا لِعُمَرَ وَقُلْته تَقْلِيدًا لِعُثْمَانَ وَقُلْته تَقْلِيدًا لِعَطَاءٍ.
جَوَابُهُ من وُجُوهٍ :
أَحَدُهَا : أَنَّكُمْ إنْ ادَّعَيْتُمْ أَنَّ جَمِيعَ الْعُلَمَاءِ صَرَّحُوا بِجَوَازِ التَّقْلِيدِ فَدَعْوَى بَاطِلَةٌ فَقَدْ ذَكَرْنَا من كَلَامِ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ وَأَئِمَّةِ الْإِسْلَامِ في ذَمِّ التَّقْلِيدِ وَأَهْلِهِ وَالنَّهْيِ عنه ما فيه كِفَايَةٌ وَكَانُوا يُسَمُّونَ الْمُقَلِّدَ الْإِمَّعَةَ وَمُحْقِبُُ دِينَهُ كما قال ابن مَسْعُودٍ الْإِمَّعَةُ الذي يُحْقِبُ دِينَهُ الرِّجَالَ وَكَانُوا يُسَمُّونَهُ الْأَعْمَى الذي لَا بَصِيرَةَ له وَيُسَمُّونَ الْمُقَلِّدِينَ أَتْبَاعَ كل نَاعِقٍ يَمِيلُونَ مع كل صَائِحٍ لم يَسْتَضِيئُوا بِنُورِ الْعِلْمِ ولم يَرْكَنُوا إلَى رُكْنٍ وَثِيقٍ كما قال فِيهِمْ أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ عَلِيُّ بن أبي طَالِبٍ رضي الله عنه ([9]) وَكَمَا سَمَّاهُ الشَّافِعِيُّ حَاطِبُ لَيْلٍ وَنَهَى عن تَقْلِيدِهِ وَتَقْلِيدِ غَيْرِهِ فَجَزَاهُ اللَّهُ عن الْإِسْلَامِ خَيْرًا لقد نَصَحَ لِلَّهِ ولرسوله وَالْمُسْلِمِينَ وَدَعَا إلَى كِتَابِ اللَّهِ وَسُنَّةِ رَسُولِهِ وَأَمَرَ بِاتِّبَاعِهِمَا دُونَ قَوْلِهِ وَأَمَرَنَا بِأَنْ نَعْرِضَ أَقْوَالَهُ عَلَيْهِمَا فَنَقْبَلُ منها ما وَافَقَهُمَا وَنَرُدُّ ما خَالَفَهُمَا فَنَحْنُ نُنَاشِدُ الْمُقَلِّدِينَ هل حَفِظُوا في ذلك وَصِيَّتَهُ وَأَطَاعُوهُ أَمْ عَصَوْهُ وَخَالَفُوهُ وَإِنْ ادَّعَيْتُمْ أَنَّ من الْعُلَمَاءِ من جَوَّزَ التَّقْلِيدَ فَكَانَ ما رَأَى ([10]).
الثَّانِي : أَنَّ هَؤُلَاءِ الَّذِينَ حَكَيْتُمْ عَنْهُمْ أَنَّهُمْ جَوَّزُوا التَّقْلِيدَ لِمَنْ هو أَعْلَمُ منهم هُمْ من أَعْظَمِ الناس رَغْبَةً عن التَّقْلِيدِ وَاتِّبَاعًا لِلْحُجَّةِ وَمُخَالَفَةً لِمَنْ هو أَعْلَمُ منهم فَأَنْتُمْ مُقِرُّونَ أَنَّ أَبَا حَنِيفَةَ أَعْلَمُ من مُحَمَّدِ بن الْحَسَنِ وَمِنْ أبي يُوسُفَ وَخِلَافُهُمَا له مَعْرُوفٌ وقد صَحَّ عن أبي يُوسُفَ أَنَّهُ قال لَا يَحِلُّ لِأَحَدٍ أَنْ يَقُولَ مَقَالَتَنَا حتى يَعْلَمَ من أَيْنَ قُلْنَا.
الثَّالِثُ : أَنَّكُمْ مُنْكِرُونَ أَنْ يَكُونَ من قَلَّدْتُمُوهُ من الْأَئِمَّةِ مُقَلِّدًا لِغَيْرِهِ أَشَدَّ الْإِنْكَارِ وَقُمْتُمْ وَقَعَدْتُمْ في قَوْلِ الشَّافِعِيِّ : " قلته تَقْلِيدًا لِعُمَرَ " وَقُلْته " تَقْلِيدًا لِعُثْمَانَ " وَقُلْته تَقْلِيدًا لِعَطَاءٍ " وَاضْطَرَبْتُمْ في حَمْلِ كَلَامِهِ على مُوَافَقَةِ الِاجْتِهَادِ أَشَدَّ الِاضْطِرَابِ وَادَّعَيْتُمْ أَنَّهُ لم يُقَلِّدْ زَيْدًا في الْفَرَائِضِ وَإِنَّمَا اجتهد فَوَافَقَ اجْتِهَادُهُ اجْتِهَادَهُ وَوَقَعَ الْخَاطِرُ على الْخَاطِرِ حتى وَافَقَ اجْتِهَادُهُ في مَسَائِلِ الْمُعَادَّةِ حتى في الْأَكْدَرِيَّةِ وَجَاءَ الِاجْتِهَادُ حَذْوَ الْقُذَّةِ بِالْقُذَّةِ فَكَيْفَ نَصَبْتُمُوهُ مُقَلَّدًا ها هنا وَلَكِنَّ هذا التَّنَاقُضَ جاء من بَرَكَةِ التَّقْلِيدِ وَلَوْ اتبعتم الْعِلْمِ من حَيْثُ هو وَاقْتَدَيْتُمْ بِالدَّلِيلِ وَجَعَلْتُمْ الْحُجَّةَ إمَامًا لَمَا تَنَاقَضْتُمْ هذا التَّنَاقُضَ وَأَعْطَيْتُمْ كُلَّ ذِي حَقٍّ حَقَّهُ.
الرَّابِعُ : أَنَّ هذا من أَكْبَرِ الْحُجَجِ عَلَيْكُمْ فإن الشَّافِعِيَّ قد صَرَّحَ بِتَقْلِيدِ عُمَرَ وَعُثْمَانَ وَعَطَاءٍ مع كَوْنِهِ من أَئِمَّةِ الْمُجْتَهِدِينَ وَأَنْتُمْ مع إقْرَارِكُمْ بأنكم من الْمُقَلَّدِينَ لَا تَرَوْنَ تَقْلِيدَ وَاحِدٍ من هَؤُلَاءِ بَلْ إذَا قال الشَّافِعِيُّ وقال عُمَرُ وَعُثْمَانُ وابن مَسْعُودٍ فَضْلًا عن سَعِيدِ بن الْمُسَيِّبِ وَعَطَاءٍ وَالْحَسَنِ تَرَكْتُمْ تَقْلِيدَ هَؤُلَاءِ وَقَلَّدْتُمْ الشَّافِعِيَّ وَهَذَا عَيْنُ التَّنَاقُضِ فَخَالَفْتُمُوهُ من حَيْثُ زَعَمْتُمْ أَنَّكُمْ قَلَّدْتُمُوهُ فَإِنْ قَلَّدْتُمْ الشَّافِعِيَّ فَقَلِّدُوا من قَلَّدَهُ الشَّافِعِيُّ فَإِنْ قُلْتُمْ بَلْ قَلَّدْنَاهُمْ فِيمَا قَلَّدَهُمْ فيه الشَّافِعِيُّ قِيلَ لم يَكُنْ ذلك تَقْلِيدًا مِنْكُمْ لهم بَلْ تَقْلِيدًا له وَإِلَّا فَلَوْ جاء عَنْهُمْ خِلَافُ قَوْلِهِ لم تَلْتَفِتُوا إلَى أَحَدٍ منهم.
الْخَامِسُ : أَنَّ من ذَكَرْتُمْ من الْأَئِمَّةِ لم يُقَلِّدُوا تَقْلِيدَكُمْ وَلَا سَوَّغُوهُ بَتَّةً بَلْ غَايَةُ ما نُقِلَ عَنْهُمْ من التَّقْلِيدِ في مَسَائِلَ يَسِيرَةٍ لم يَظْفَرُوا فيها بِنَصٍّ عن اللَّهِ وَرَسُولِهِ ولم يَجِدُوا فيها سِوَى قَوْلِ من هو أَعْلَمُ منهم فَقَلَّدُوهُ وَهَذَا فِعْلُ أَهْلِ الْعِلْمِ وهو الْوَاجِبُ فإن التَّقْلِيدَ إنَّمَا يُبَاحُ لِلْمُضْطَرِّ وَأَمَّا من عَدَلَ عن الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَأَقْوَالِ الصَّحَابَةِ، وَعَنْ مَعْرِفَةِ الْحَقِّ بِالدَّلِيلِ مع تَمَكُّنِهِ منه إلَى التَّقْلِيدِ، فَهُوَ كَمَنْ عَدَلَ إلَى الْمَيْتَةِ مع قُدْرَتِهِ على الْمُذَكَّى فإن الْأَصْلَ أَنْ لَا يُقْبَلَ قَوْلُ الْغَيْرِ إلَّا بِدَلِيلٍ إلاَّ عِنْدَ الضَّرُورَةِ فَجَعَلْتُمْ أَنْتُمْ حَالَ الضَّرُورَةِ رَأْسَ أَمْوَالِكُمْ " اهـ.
· الثالث والعشرون : خيانتان ارتكبهما فالح مرَّة أخرى في نقله عن ابن القيم رحمه الله :
قال فالح في ص(20-21) من كتابه الذي نناقشه (التحقيق) :
" وقال - أيضاً - (في الإعلام 2/221) عن التقليد الذي لا يستغـنى عنـه : " ... فإن الله –سبحانه- أمر بسؤال أهل الذكر، والذكر هو القرآن والحديث الذي أمر الله نساء نبيه أن يذْكرنه بقوله: ]وَاذْكُرْنَ مَا يُتْلَى فِي بُيُوتِكُنَّ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ وَالْحِكْمَةِ[، فهذا هو الذكر الذي أمرنا الله باتباعه، وأمر من لا علم عنده أن يسأل أهله، وهذا هو الواجب على كل أحد أن يسأل أهل العلم بالذكر الذي أنـزله على رسوله ليخبروه به، فإذا أخبروه به لم يسعه غير اتباعه، وهذا كان شأن أئمة أهل العلم، لم يكن لهم مقلَّدٌ معين يتبعونه في كل ما قال ..." اهـ نقل فالح !
أقول : ماذا فعل فالح بهذا النَّص ؟!
- أولاً : حذف قول ابن القيم رحمه الله في صدر هذا النَّص الذي يوضِّح مقصده وهو الرد على المقلدين .
والمحذوف هو قوله : " يُوَضِّحُهُ الْوَجْهُ الرَّابِعُ وَالثَّلَاثُونَ أَنَّ ما ذَكَرْتُمْ بِعَيْنِهِ حُجَّةٌ عَلَيْكُمْ "
يشير رحمه الله إلى احتجاجهم بقوله تعالى : ( فاسألوا أهل الذكر إن كنتم لا تعلمون )
فهذا الوجه إنَّما ساقه الإمام ابن القيم لإبطال احتجاج المقلدين التقليد المحرم بهذه الآية . فحرَّف فالح مقصود ابن القيِّم إلى " التقليد الذي لا يستغـنى عنـه " !
فابن القيم في وادٍ وما نسبه إليه فالح في وادٍ آخر !
ارتكب ذلك فالح عمداً للانتصار لنفسه بالباطل وللانتصار للمقلدين بالهوى . وسياق كلام ابن القيم يدين فالحاً الذي حاول أن يلبِّس على الناس ويقلب لهم الحقائق .
1- فانظر إلى قول هذا الإمام : " أَنَّ ما ذَكَرْتُمْ بِعَيْنِهِ حُجَّةٌ عَلَيْكُمْ "، يريد أن يبطل بذلك استدلالهم بالآية المذكورة التي يشغب بها فالح بناءً على هواه وفهمه الباطل لها على طريقة غلاة التقليد .
2- تفسير هذا الإمام الذِّكر الذي أمر الله بالسؤال عنه بأنَّه الكتاب والسنَّة .
3- قوله : " فَهَذَا هو الذِّكْرُ الذي أَمَرَنَا اللَّهُ بِاتِّبَاعِهِ وَأَمَرَ من لَا عِلْمَ عِنْدَهُ أَنْ يَسْأَلَ أَهْلَهُ وَهَذَا هو الْوَاجِبُ على كل أَحَدٍ أَنْ يَسْأَلَ أَهْلَ الْعِلْمِ بِالذِّكْرِ الذي أَنْزَلَهُ على رَسُولِهِ لِيُخْبِرُوهُ بِهِ فإذا أَخْبَرُوهُ بِهِ لم يَسَعْهُ غَيْرُ اتِّبَاعِهِ(1) " .
4- قوله : " وَهَذَا كان شَأْنُ أَئِمَّةِ أَهْلِ الْعِلْمِ لم يَكُنْ لهم مُقَلَّدٌ مُعَيَّنٌ يَتْبَعُونَهُ في كل ما قال ".
أقول: وهذا ردٌّ على مقلدي المذاهب حيث تجد كل فرقة تتعصَّب لواحدٍ معيَّن .
-ثانياً : حذف من آخر هذا الكلام أمراً مهماً جداً يوضِّح مقصود ابن القيم الذي حرَّفه فالح أَلاَ وهو قوله : " فَكَانَ عبد اللَّهِ بن عَبَّاسٍ يَسْأَلُ الصَّحَابَةَ عَمَّا قَالَهُ رسول اللَّهِ صلى اللَّهُ عليه وسلم أو فَعَلَهُ أو سَنَّهُ لَا يَسْأَلُهُمْ عن غَيْرِ ذلك وَكَذَلِكَ الصَّحَابَةُ كَانُوا يَسْأَلُونَ أُمَّهَاتِ الْمُؤْمِنِينَ خُصُوصًا عَائِشَةَ عن فِعْلِ رسول اللَّهِ صلى اللَّهُ عليه وسلم في بَيْتِهِ وَكَذَلِكَ التَّابِعُونَ كَانُوا يَسْأَلُونَ الصَّحَابَةَ عن شَأْنِ نَبِيِّهِمْ فَقَطْ وَكَذَلِكَ أَئِمَّةُ الْفِقْهِ كما قال الشَّافِعِيُّ لِأَحْمَدَ يا أَبَا عبد اللَّهِ أنت أَعْلَمُ بِالْحَدِيثِ مِنِّي فإذا صَحَّ الْحَدِيثُ فَأَعْلِمْنِي حتى أَذْهَبَ إلَيْهِ شَامِيًّا كان أو كُوفِيًّا أو بَصْرِيًّا ولم يَكُنْ أَحَدٌ من أَهْلِ الْعِلْمِ قَطُّ يَسْأَلُ عن رَأْيِ رَجُلٍ بِعَيْنِهِ وَمَذْهَبِهِ فَيَأْخُذُ بِهِ وَحْدَهُ وَيُخَالِفُ له ما سِوَاهُ " اهـ.
قصد الإمام ابن القيم رحمه الله من الكلام في هذا المقطع تنزيه الصحابة رضوان الله عليهم والائمة رحمهم الله من التقليد ,ولا أستبعد أنَّ فالحاً أدرك هذا فتخلَّص منه بحذفه !.
فما قول العلماء والعقلاء والشرفاء في تصرفات هذا الرَّجل القائمة على التحريف والكتمان والخيانات ؟!
ثم ألا تدلُّ هذه الخيانات وهذا التصرف المزري بأهله على أن فالحاً لا يزال متشبثاً بالتقليد المحرم الذي عبّر عنه فالح بالتقليد الذي لا يستغنى عنه.
ومهما تكن عند امرىء من خليقة وإن خالها تخفى على الناس تعلم
إن من منهج فالح أنه لا يعترف بأخطائه الجسيمة، ويستحيل عنده الاعتراف بأخطائه وإعلان توبته ورجوعه عنها؛ لأن ذلك من أشد العيوب في المنهج الحدادي.
فماذا يفعل لإقناع الناس بأنه لم يخطىء وأنه في الثبات على منهج السلف كالجبل الأشم؛ بل هو فوق هذه المنـزلة، وأن من خطّأه ظالم وكاذب (!) ؛ بل هادم للدين في شخص فالح (!!) ، وأنه لا بد أن يبين ضلال هذا الذي تطاول على هذا الجبل (!) ولو بالخيانات والمخازي (!!) ،وإن لم يفعل فإنه قد خان الأمة وخان الإسلام، كل هذا حتم عليه أن يؤلف هذا الكتاب العظيم "التحقيق السديد".
لقد ملأ هذا الكتاب بالعجائب والغرائب ! ومنها الخيانات والكذب والبتر . ومع هذا فقد سمَّاه بالتحقيق السَّديد (!).
وليسمح القرّاء أن أسميه بـ" التلفيق البليد الذي هو عن أدنى أدنى أدنى درجات التحقيق بِمُنتأى بعيد ".
· بعض نصوص الإمام ابن القيم والشيخ سليمان بن عبد الله رحمهما الله تعالى في ذم التقليد المحرَّم :
1- قال الإمام ابن القيم رحمه الله في "إعلام الموقعين" (2/200) :
فَصْلٌ نهى الْأَئِمَّةُ عن تَقْلِيدِهِمْ(1)
وقد نهى الْأَئِمَّةُ الْأَرْبَعَةُ عن تَقْلِيدِهِمْ وَذَمُّوا من أَخَذَ أَقْوَالَهُمْ بِغَيْرِ حُجَّةٍ فقال الشَّافِعِيُّ مَثَلُ الذي يَطْلُبُ الْعِلْمَ بِلَا حُجَّةٍ كَمَثَلِ حَاطِبِ لَيْلٍ يَحْمِلُ حُزْمَةَ حَطَبٍ وَفِيهِ أَفْعَى تَلْدَغُهُ وهو لَا يَدْرِي ذَكَرَهُ الْبَيْهَقِيُّ.
وقال إسْمَاعِيلُ بن يحيى الْمُزَنِيّ في أَوَّلِ مُخْتَصَرِهِ اخْتَصَرَتْ هذا من عِلْمِ الشَّافِعِيِّ وَمِنْ مَعْنَى قَوْلِهِ لِأُقَرِّبَهُ على من أَرَادَهُ مع إعلاميه نَهْيه عن تَقْلِيدِهِ وَتَقْلِيدِ غَيْرِهِ لِيَنْظُرَ فيه لِدِينِهِ وَيَحْتَاطُ فيه لِنَفْسِهِ.
وقال أبو دَاوُد قُلْت لِأَحْمَدَ الْأَوْزَاعِيُّ هو أَتْبَعُ من مَالِكٍ قال لَا تُقَلِّدْ دِينَك أَحَدًا من هَؤُلَاءِ ما جاء عن النبي صلى اللَّهُ عليه وسلم وَأَصْحَابِهِ فَخُذْ بِهِ ثُمَّ التَّابِعِيُّ بَعْدُ الرَّجُلِ فيه مُخَيَّرٌ.
وقد فَرَّقَ أَحْمَدُ بين التَّقْلِيدِ وَالِاتِّبَاعِ فقال أبو دَاوُد سَمِعَتْهُ يقول الِاتِّبَاعُ أَنْ يَتْبَعَ الرَّجُلُ ما جاء عن النبي صلى اللَّهُ عليه وسلم وَعَنْ أَصْحَابِهِ ثُمَّ هو من بَعْدُ في التَّابِعِينَ مُخَيَّرٌ وقال أَيْضًا لَا تُقَلِّدْنِي وَلَا تُقَلِّدْ مَالِكًا وَلَا الثَّوْرِيَّ وَلَا الْأَوْزَاعِيَّ وَخُذْ من حَيْثُ أَخَذُوا وقال من قِلَّةِ فِقْهِ الرَّجُلِ أَنْ يُقَلِّدَ دِينَهُ الرِّجَالَ(2).
وقال بِشْرُ بن الْوَلِيدِ قال أبو يُوسُفَ لَا يَحِلُّ لِأَحَدٍ ان يَقُولَ مَقَالَتَنَا حتى يَعْلَمَ من أَيْنَ قُلْنَا
وقد صَرَّحَ مَالِكٌ بِأَنَّ من تَرَكَ قَوْلَ عُمَرَ بن الْخَطَّابِ لِقَوْلِ إبْرَاهِيمَ النَّخَعِيِّ أَنَّهُ يُسْتَتَابُ فَكَيْفَ بِمَنْ تَرَكَ قَوْلَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِقَوْلِ من هو دُونَ إبْرَاهِيمَ أو مِثْلِهِ.
وقال جَعْفَرٌ الْفِرْيَابِيُّ حدثني أَحْمَدُ بن إبْرَاهِيمَ الدَّوْرَقِيُّ حدثني الْهَيْثَمُ بن جَمِيلٍ قال قُلْت لِمَالِكِ بن أَنَسٍ يا أَبَا عبد اللَّهِ إنَّ عِنْدَنَا قَوْمًا وَضَعُوا كُتُبًا يقول أَحَدُهُمْ ثنا فُلَانٌ عن فُلَانٍ عن عُمَرَ بن الْخَطَّابِ بِكَذَا وَكَذَا وَفُلَانٌ عن إبْرَاهِيمَ بِكَذَا وَيَأْخُذُ بِقَوْلِ إبْرَاهِيمَ قال مَالِكٌ وَصَحَّ عِنْدَهُمْ قَوْلُ عُمَرَ قُلْت إنَّمَا هِيَ رِوَايَةٌ كما صَحَّ عِنْدَهُمْ قَوْلُ إبْرَاهِيمَ فقال مَالِكٌ هَؤُلَاءِ يُسْتَتَابُونَ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ " اهـ.
2- وقال رحمه الله في "إعلام الموقعين" (4/207) : "
دَلَالَةُ الْعَالِمِ لِلْمُسْتَفْتِي على غَيْرِهِ
الْفَائِدَةُ الْخَامِسَةُ وَالْعِشْرُونَ : في دَلَالَةِ الْعَالِمِ للمستفتى على غَيْرِهِ وهو مَوْضِعُ خَطَرٍ جِدًّا فَلْيَنْظُرْ الرَّجُلُ ما يَحْدُثُ من ذلك فإنه مُتَسَبِّبٌ بِدَلَالَتِهِ إمَّا إلَى الْكَذِبِ على اللَّهِ وَرَسُولِهِ في أَحْكَامِهِ أو القول عليه بِلَا عِلْمٍ فَهُوَ مُعِينٌ على الإثم وَالْعُدْوَانِ وَإِمَّا مُعِينٌ على الْبِرِّ وَالتَّقْوَى فَلْيَنْظُرْ الإنسان إلَى من يَدُلُّ عليه وَلْيَتَّقِ اللَّهَ رَبَّهُ فَكَانَ شَيْخُنَا قَدَّسَ اللَّهُ رُوحَهُ شَدِيدَ التَّجَنُّبِ لِذَلِكَ وَدَلَّلْتُ مَرَّةً بِحَضْرَتِهِ على مُفْتٍ أو مذهب فَانْتَهَرَنِي وقال مالك وَلَهُ دَعْهُ فَفَهِمْتُ من كَلَامِهِ إنك لَتَبُوءُ بِمَا عَسَاهُ يَحْصُلُ له من الْإِثْمِ وَلِمَنْ أَفْتَاهُ ثُمَّ رأيت هذه الْمَسْأَلَةَ بِعَيْنِهَا مَنْصُوصَةً عن الْإِمَامِ أَحْمَدَ قال أبو دَاوُد في مسائلة قلت لِأَحْمَدَ الرَّجُلُ يَسْأَلُ عن الْمَسْأَلَةِ فَأَدُلُّهُ على إنْسَانٍ يَسْأَلُهُ، فقال إذَا كان يَعْنِي الذي أَرْشَدْتَهُ إلَيْهِ مُتَّبِعًا وَيُفْتِي بِالسُّنَّةِ فَقِيلَ لِأَحْمَدَ إنَّهُ يُرِيدُ الإتباع وَلَيْسَ كُلُّ قَوْلِهِ يُصِيبُ فقال أَحْمَدُ وَمَنْ يُصِيبُ في كل شَيْءٍ قلت له فَرَأْيُ مَالِكٍ فقال لَا تَتَقَلَّدْ في مِثْلِ هذا بِشَيْءٍ.
قلت : وَأَحْمَدُ كان يَدُلُّ على أَهْلِ الْمَدِينَةِ وَيَدُلُّ على الشَّافِعِيِّ وَيَدُلُّ على إِسْحَاقَ وَلَا خِلَافَ عنه في اسْتِفْتَاءِ هَؤُلَاءِ وَلَا خِلَافَ عنه في أَنَّهُ لَا يَسْتَفْتِي أَهْلَ الرَّأْيِ الْمُخَالِفُونَ لِسُنَّةِ رسول اللَّهِ صلى اللَّهُ عليه وسلم وَبِاَللَّهِ التَّوْفِيقُ وَلَا سِيَّمَا كَثِيرٌ من الْمُنْتَسِبِينَ إلَى الْفَتْوَى في هذا الزَّمَانِ وَغَيْرِهِ.
وقد رَأَى رَجُلٌ رَبِيعَةَ بن أبي عبد الرحمن يَبْكِي فقال ما يُبْكِيكَ فقال استفتي من لَا عِلْمَ له وَظَهَرَ في الْإِسْلَامِ أَمْرٌ عَظِيمٌ قال وَلِبَعْضِ من يُفْتِي ها هنا أَحَقُّ بِالسِّجْنِ من السُّرَّاقِ.
قال بَعْضُ الْعُلَمَاءِ : فَكَيْفَ لو رَأَى رَبِيعَةُ زَمَانَنَا وَإِقْدَامُ من لَا عِلْمَ عِنْدَهُ على الْفُتْيَا وَتَوَثُّبَهُ عليها وَمَدَّ بَاعِ التَّكَلُّفِ إلَيْهَا وَتَسَلُّقَهُ بِالْجَهْلِ وَالْجُرْأَةَ عليها مع قِلَّةِ الْخِبْرَةِ وَسُوءِ السِّيرَةِ وَشُؤْمِ السَّرِيرَةِ وهو من بَيْنِ أَهْلِ الْعِلْمِ مُنْكَرٌ أو غريب فَلَيْسَ له في مَعْرِفَةِ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَآثَارِ السَّلَفِ نَصِيبٌ وَلَا يُبْدِي جَوَابًا بِإِحْسَانٍ وَإِنْ سَاعَدَ الْقَدْرُ فَتْوَاهُ كَذَلِكَ يقول فُلَانُ ابن فُلَانٍ .
يَمُدُّونَ لِلْإِفْتَاءِ بَاعًا قَصِيرَةً *** وَأَكْثَرُهُمْ عِنْدَ الفتاوى يُكَذْلِكُ (1)
وَكَثِيرٌ منهم نَصِيبُهُمْ مِثْلُ ما حَكَاهُ أبو مُحَمَّدِ بن حَزْمٍ قال كان عِنْدَنَا مُفْتٍ قَلِيلُ الْبِضَاعَةِ فَكَانَ لَا يُفْتِي حتى يَتَقَدَّمَهُ من يَكْتُبُ الْجَوَابَ فَيَكْتُبُ تَحْتَهُ جَوَابِي مِثْلُ جَوَابِ الشَّيْخِ فَقُدِّرَ أَنْ اخْتَلَفَ مُفْتِيَانِ في جَوَابٍ فَكَتَبَ تَحْتَهُمَا جَوَابِي مِثْلُ جَوَابِ الشَّيْخَيْنِ فَقِيلَ له إنَّهُمَا قد تَنَاقَضَا فقال وأنا أَيْضًا تَنَاقَضْتُ كما تَنَاقَضَا وقد أَقَامَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ لِكُلِّ عَالِمٍ وَرَئِيسٍ وَفَاضِلٍ من يُظْهِرُ مُمَاثَلَتَهُ وَيَرَى الْجُهَّالُ وَهُمْ الْأَكْثَرُونَ مُسَاجَلَتَهُ وَمُشَاكَلَتَهُ وانه يَجْرِي معه في الْمَيْدَانِ وَأَنَّهُمَا عِنْدَ الْمُسَابَقَةِ كَفَرَسَيْ رِهَانٍ وَلَا سِيَّمَا إذَا طَوَّلَ الْأَرْدَانَ وأرخي الذَّوَائِبَ الطَّوِيلَةَ وَرَاءَهُ كَذَنَبِ الْأَتَانِ وَهَدَرَ بِاللِّسَانِ وَخَلَا له الْمَيْدَانُ الطَّوِيلُ من الْفُرْسَانِ .
فَلَوْ لَبِسَ الْحِمَارُ ثِيَابَ خَزٍّ *** لَقَالَ الناس يا لك من حِمَارِ
وَهَذَا الضَّرْبُ إنَّمَا يَسْتَفْتُونَ بِالشَّكْلِ لَا بِالْفَضْلِ وَبِالْمَنَاصِبِ لَا بِالْأَهْلِيَّةِ قد غَرَّهُمْ عُكُوفُ من لَا عِلْمَ عِنْدَهُ عليهم وَمُسَارَعَةُ أَجْهَلُ منهم إلَيْهِمْ تَعِجُّ منهم الْحُقُوقُ إلَى اللَّهِ تَعَالَى عَجِيجًا وتضج منهم الْأَحْكَامُ إلَى من أَنْزَلَهَا ضَجِيجًا فَمَنْ أَقْدَمَ بِالْجُرْأَةِ على ما ليس له من فُتْيَا أو قضاء أو تدريس اسْتَحَقَّ اسْمَ الذَّمِّ ولم يَحِلَّ قَبُولَ فُتْيَاهُ وَلَا قَضَائِهِ هذا حُكْمُ دِينِ الْإِسْلَامِ (1).
وَإِنْ رَغِمَتْ أُنُوفٌ من أناس *** فَقُلْ يارب لَا تُرْغِمْ سِوَاهَا " اهـ.
3- قال العلامة سليمان بن عبد الله في تيسير العزيز الحميد (2/1085-1086): " وقال أبو طالب عن أحمد وقيل له إن قوماً يدعون الحديث ويذهبون إلى رأي سفيان فقال أعجب لقوم سمعوا الحديث وعرفوا الإسناد وصحته يدعونه ويذهبون إلى رأي سفيان وغيره قال الله ( فليحذر الذين يخالفون عن أمره أن تصيبهم فتنة أو يصيبهم عذاب أليم ) وتدري ما الفتنة الكفر قال الله تعالى : ( والفتنة أكبر من القتل ) فيدعون الحديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وتغلبهم أهواؤهم إلى الرأي " ذكر ذلك شيخ الإسلام . قلت : وكلام أحمد في ذمه التقليد وإنكار تأليف كتب الرأي كثير مشهور .
قوله : " عرفوا الإسناد " أي إسناد الحديث وصحته أي صحة الإسناد وصحته دليل على صحة الحديث . قوله : " يذهبون إلى رأي سفيان " أي الثوري الإمام الزاهد العابد الثقة الفقيه وكان له أصحاب ومذهب مشهور فانقطع .
ومراد أحمد الإنكار على من يعرف إسناد الحديث وصحته ثم بعد ذلك يقلد سفيان أو غيره ويعتذر بالأعذار الباطلة إما بأن الأخذ بالحديث اجتهاد والاجتهاد انقطع منذ زمان وإما بأن هذا الإمام الذي قلدته أعلم مني فهو لا يقول إلا بعلم ولا يترك هذا الحديث مثلاً إلا عن علم وإما بأن ذلك اجتهاد ويشترط في المجتهد أن يكون عالماً بكتاب الله عالماً بسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم وناسخ ذلك ومنسوخه وصحيح السنة وسقيمها عالماً بوجوه الدلالات عالماً بالعربية والنحو والأصول ونحو ذلك من الشروط التي لعلها لا توجد تامة في أبي بكر وعمر رضي الله عنهما كما قاله المصنف ... " اهـ.
ثم واصل الكلام إلى أن قال : (2/1087-1088) : " وقد وقع في هذا التقليد المحرم خلق كثير ممن يدعي العلم والمعرفة بالعلوم ويصنف التصانيف في الحديث والسنن ثم بعد ذلك تجده جامداً على أحد هذه المذاهب ويرى الخروج عنها من العظائم .
وفي كلام أحمد إشارة إلى أن التقليد قبل بلوغ الحجة لا يذم إنما المذموم المنكر الحرام الإقامة على ذلك بعد بلوغ الحجة نعم وينكر الإعراض عن كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم والإقبال على تعلم الكتب المصنفة في الفقه استغناء بها عن الكتاب والسنة .." اهـ.
أقول : وقد أسهب الشيخ سليمان بن عبد الله بن محمد بن عبد الوهاب -رحمهم الله- في أمر التقليد انظر "تيسير العزيز الحميد" (2/1081-1098- طبعة أسامة العتيبي ) .
تمت بحمد الله الحلقة الثانية
... ويتبع إن شاء الله تعالى
وكتب : ربيع بن هادي بن عمير المدخلي
24 ذو القعدة 1429
من هجرة المصطفى صلَّى الله عليه وسلَّم
--------------------------------------------------------------------------------
(1) كيف لا يكون تقليداً باطلاً قبول قول المفتي إذا كذب أو أخطأ وأي حجة في الكذب والخطأ وأي حجة في قول المفتي إذا كذب أو أخطأ؟، والعجب من فرح فالح بهذا الكلام.
(2) كلام الغزالي هذا فيه تهويل وكان ينبغي أن يحث الناس على طلب العلم والحق فيدرك كل أحدٍ من دينه ما يستطيعه فإنَّ الاجتهاد يتجزأ . ثمَّ إنَّ هناك مرتبة بين الاجتهاد والتقليد ألا وهي مرتبة المتبع الذي يلزمه نبذ التقليد واتباع الدليل .
([1]) كلام القرطبي هنا جيّد في أنّ على العامي أن يقصد أعلم من في زمانه فيسأله عن نازلته .. وأن على العالم أن يقلد عالماً آخر في نازلة خفي عليه فيها وجه الدليل .. إلخ .
(1) وفالح يراه أصلاً من أصول الدين، والذي حصل من القرطبي نعتقد أنه من فلتات اللسان، أما فالح فالتقليد من أهم أصوله.
([2]) وفالح يحارب من ينكره أشد الحرب.
([3]) رواه مسلم في الأقضية حديث (1715)، ورواه أبو عوانة في مستخرجه (4/165)، كلاهما من حديث أبي هريرة -رضي الله عنه- وزاد أبو عوانة : " وأن تنصحوا لمن ولاه الله أمركم ".
([4]) أخرجه مالك في الموطأ (2/899)، بلاغاً، والحاكم في المستدرك (1/93) متصلاً مرفوعاً، وصححه الألباني في صحيح الجامع (2937)، وقال ابن عبدالبر في التمهيد (24/331) : (( وهذا أيضاً محفوظ معروف مشهور عن النبي r عند أهل العلم شهرة يكاد يستغنى بها عن الإسناد )).
([5]) أي دعاة التقليد .
([6]) كيف لو رأى الشوكاني فالحاً وهو يُلزم حملة العلم من المدرسين وغيرهم بالتقليد ويحكم على من يخالفه بأنَّه قد نسف رسالات الرسل والكتب التي نزلت عليهم ؟! وأحكام أخرى من هذا الباب.
([7]) كذا . ولعله : قول من سواه .
(2) كذا، ولعله " في ".
(1) لعله " لأن ".
(2) كذا . ولعله : لجميع الأمة .
(1) وقد عقد الإمام ابن القيم فصلاً في نهي الأئمة الأربعة عن التقليد وذمهم لمن يأخذ أقوالهم بغير حجة، انظر "إعلام الموقعين" (2/181-182).
(1) هذا الحديث ضعيف.
(1) من هنا بدأ فالح نقله لهذه الشبه موهماً للناس أنها من كلام ابن القيم، وإنما هي من شبه المقلدين.
([8]) لا ننتظر منه أن ينقل هذه الوجوه كلَّها ولكن كان عليه أن يذكرها في الجملة حتى يعلم الناس نصح ابن القيم لله ولدينه ولرسوله ولأمته ويعلموا بجهوده ولو في الجملة . وسوف ننشرها إن شاء الله تعالى.
([9]) كان في الأصل (كَرَّمَ اللَّهُ وَجْهَهُ في الْجَنَّةِ ) وأبدلنا ذلك بـ ( رضي الله عنه ) أسوة بالصحابة الكرام وبناءً على إشارة مشهور حسن في النسخة التي حققها من الإعلام أنه وجد في إحدى نسخ الكتاب : ( رضي الله عنه ) . انظر إعلام الموقعين بتحقيقه (3/573) .
([10]) هكذا والظاهر أن أصل هذه الكلمة : فكان ماذا .
(1) هذا الكلام من ابن القيم يريد أن يبين فيه الشروط التي تلزم المقلد عندما يسأل أهل الذكر، وهذا يخالف مذهب فالح والغلاة في التقليد.
(1)، (2) هذا هو الثابت عن الأئمة، والثابت عن الإمام أحمد الذي يجب اعتماده عنه، وما خالفه فلا يثبت، ومن نسبه إليه فلا يقبل منه؛ لأنه لم يأتِ بإسناد ثابت عنه.
(1) ذاك زمان ربيعة وهذا زمان ابن القيم، فكيف لو رأيا مثل فالح في هذا الزمان، وهو يصول ويجول في الفتاوى، ويفرض التقليد الأعمى على من لا يجب عليه و لا يجوز له أن يأخذ بفتاوى هذا الصنف.
(1) أقول: كيف لو سمع ابن القيم فتاوى فالح الذي يوجب قبول فتاوى أمثاله، ويحكم على من لا يلتزمها بأنه قد كذّب الكتاب والسنة والإسلام أو نسف رسالات الرسل والكتب السماوية.
منقول من موقع الشيخ العلامة ربيع بن هادي المدخلي حفظه الله
في إبطال دَعَاوَى فالح الحربي فيما سمَّاه بـ (إشراع الأسنة) و (التحقيق السديد)
( الحلقة الثانية )
ربيع بن هادي عمير المدخلي
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه ومن اتبع هداه أما بعد : ففي هذه الحلقة -بالإضافة إلى ما سبق- كشفٌ لبعض تلبيسات فالح وخياناته عافا الله المسلمين منها .
· التاسع عشر : من أعجب العجائب والغرائب تعلق فالح بفتوى الغزالي الآتية على علاتها وإطلاقها :
حيث قال في (القسم 2- ص10) من "تحقيقه" : " وقال أبو حامد محمد الغزالي -رحمه الله- في المستصفى 4/140) : " ويجب على العامي اتباع المفتي ؛إذ دلَّ الإجماع على أن فرض العوام اتباع ذلك كذب المفتي أم صدق أخطأ أم أصاب .
فقبول قول المفتي والشاهد لزم بحجة الإجماع فهو قبول قول بحجة فلم يكن تقليداً (1) فإنا نعني بالتقليد قبول قول بلا حجة فحيث لم تقم حجة ولم يعلم الصدق بضرورة ولا بدليل فالإتباع فيه اعتماد على الجهل" .
إلى أن قال (4/147) : " الإجماع منعقد على أن العامي مكلف بالأحكام ،وتكليفه طلب رتبة الاجتهاد محال ؛لأنه يؤدي إلى أن ينقطع الحرث والنسل وتتعطل الحرف والصنائع ويؤدي إلى خراب الدنيا لو اشتغل الناس بجملتهم بطلب العلم ،وذلك يرد العلماء إلى طلب المعايش ويؤدي إلى اندراس العلم بل إلى إهلاك العلماء وخراب العالم وإذا استحال هذا (2) لم يبق إلا سؤال العلماء " .
أقول لفالح : لو أن مجموعة من العوام بَهرهم صيت عالم مفتٍ لبلاد إسلامية كبيرة فشدوا الرحال إليه وسألوه عن الاستغاثة بالأولياء في الشدائد وعن التوسل بالأموات وعن البناء على القبور وعن زواج المتعة فأفتاهم بالجواز في كل ذلك وزخرف لهم هذه الفتوى، وفي هؤلاء العوام رجل ذكي فأنكر هذه الفتوى، وقال لهؤلاء العوام: إن هذه فتوى باطلة، فإني جلست في حلقة بعض العلماء، وهو يقرر أن الاستغاثة بغير الله شرك، وأن التوسل بالأشخاص والبناء على القبور من المحرمات ومن وسائل الشرك، وسمعته يستدل على ذلك بآيات قرآنية وأحاديث نبوية على ما يقول، فاستجاب بعض هؤلاء العوام لملاحظة هذا العامي الذكي، ورفضوا فتوى ذلك المفتي، وعاند آخرون وأصروا على تقليد ذلك المفتي الكبير، فقال لهم ذلك الذكي: تعالوا إلى ذلك العالم الذي ذكرت لكم أنه يقرر أن الاستغاثة بغير الله شرك..الخ، فعاندوا وقالوا: يكفينا فتوى ذلك المفتي الكبير صاحب الشهرة الطائرة والصيت المدوي في العالم، ولن نسمع لذلك العالم الذي لم يصل إلى هذه المنـزلة، وقد سمعنا من العلامة فالح الحربي يحكي عن أبي حامد الغزالي أنه قال: " ويجب على العامي اتباع المفتي؛ إذ دل الإجماع على أن فرض العوام اتباع ذلك كذب المفتي أم صدق أخطأ أم أصاب"، فهذا واجبنا بالإجماع وقد قمنا به لاسيما ومفتينا من الكبراء العظماء.
فما رأي فالح - الذي يوجب التقليد على حملة العلم المدرسين ويحكم عليهم بالأحكام الغليظه إذا لم يقلدوا- في العوام الذين رفضوا فتوى هذا المفتي أيكونون قد نسفوا رسالات الرسل والكتب جميعاً؛ لأنهم لم يأخذوا بفتوى هذا المفتي الكبير؟ وما رأيه في العوام الذين قبلوا فتوى هذا المفتي وتشبثوا بفتوى الغزالي التي نقلها عنه العلامة فالح الحربي؟
أيا فالح ما السر في نقلك لكلام الغزالي هذا على علاته وبهذا الإطلاق؟!
ألا يدل هذا على أنك لا تنافح وتكافح هذه السنين إلا عن التقليد المذموم شرعاً وعقلاً ؟!
كثير من عقلاء العوام يدركون بعقولهم وفطرهم الفتاوى الباطلة .
فعلى مذهب فالح المتعلق بهذه الفتوى يلزمهم قبول فتوى العالم والمتعالم، ولو كذب، ولو أفتى بالشرك والضلال وأحل الحرام وحرم الحلال، ( اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أرباباً من دون الله ).
إن هذا لمن غلو فالح في الدعوة إلى التلقيد الأعمى، فلذا تراه يخبط خبط عشواء؛ ليوهم الناس أنه بريء من هذا الداء، فينقل كلام من يذم التقليد ويمنع منه منعاً مطلقاً، ثم تعود حليمة لعادتها القديمة، فينقل كلاماً يناسب غلوه في التقليد ولا يستنكره؛ بل يسلم به، ولعله يرى فيه قاصمة الظهور لمن يخالفونه في غلوه .
خذ كلام هؤلاء الأئمة الذي عليه نور الكتاب والسنة، والموافق للعقول وللفطر السليمة :
1- قال الإمام ابن القيم -رحمه الله- في "إعلام الموقعين" (4/254) : " الْفَائِدَةُ السَّادِسَةُ وَالْخَمْسُونَ : لَا يَجُوزُ الْعَمَلُ بِمُجَرَّدِ فَتْوَى الْمُفْتِي إذا لم تَطْمَئِنَّ نَفْسُهُ وَحَاكَ في صَدْرِهِ من قَبُولِهِ وَتَرَدَّدَ فيها لِقَوْلِهِ صلى اللَّهُ عليه وسلم "اسْتَفْتِ نَفْسَكَ وَإِنْ أفتاك الناس وأفتوك" فَيَجِبُ عليه أن يَسْتَفْتِيَ نَفْسَهُ أولاً وَلَا تُخَلِّصُهُ فَتْوَى الْمُفْتِي من اللَّهِ إذا كان يَعْلَمُ أن الْأَمْرَ في الْبَاطِنِ بِخِلَافِ ما أفتاه كما لَا يَنْفَعُهُ قَضَاءُ الْقَاضِي له بِذَلِكَ كما قال النبي صلى اللَّهُ عليه وسلم "من قَضَيْتُ له بِشَيْءٍ من حَقِّ أخيه فَلَا يَأْخُذُهُ فَإِنَّمَا اقطع له قِطْعَةً من نَارٍ" .
وَالْمُفْتِي وَالْقَاضِي في هذا سَوَاءٌ وَلَا يَظُنُّ الْمُسْتَفْتِي أن مُجَرَّدَ فَتْوَى الْفَقِيهِ تُبِيحُ له ما سَأَلَ عنه إذا كان يَعْلَمُ أن الْأَمْرَ بِخِلَافِهِ في الْبَاطِنِ سَوَاءٌ تَرَدَّدَ أو حاك في صَدْرِهِ لِعِلْمِهِ بِالْحَالِ في الْبَاطِنِ أو لشكه فيه أو لجهله بِهِ أو لعلمه جَهْلَ الْمُفْتِي أو محاباته في فَتْوَاهُ أو عدم تَقْيِيدِهِ بِالْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ أو لأنه مَعْرُوفٌ بِالْفَتْوَى بِالْحِيَلِ وَالرُّخَصِ الْمُخَالِفَةِ لِلسُّنَّةِ وَغَيْرِ ذلك من الْأَسْبَابِ الْمَانِعَةِ من الثِّقَةِ بِفَتْوَاهُ وَسُكُونِ النَّفْسِ إلَيْهَا فَإِنْ كان عَدَمُ الثِّقَةِ وَالطُّمَأْنِينَةِ لِأَجْلِ المفتى يَسْأَلُ ثَانِيًا وَثَالِثًا حتى تَحْصُلَ له الطُّمَأْنِينَةُ فَإِنْ لم يَجِدْ فَلَا يُكَلِّفْ اللَّهُ نَفْسًا إلَّا وُسْعَهَا وَالْوَاجِبُ تَقْوَى اللَّهِ بِحَسَبِ الِاسْتِطَاعَةِ " اهـ.
2- وقال أبو شامة -رحمه الله- في "الباعث على إنكار البدع" (ص176-179): " وفي الصحيح أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " إن الله لا يقبض العلم انتزاعا ينتزعه من الناس ولكن يقبض العلم بموت العلماء حتى إذا لم يبق عالم اتخذ الناس رؤساء جهالا فأفتوا بغير علم فأضلّوا وأضلوا " قال الإمام الطرطوشي رحمه الله تعالى: فتدبّروا هذا الحديث فإنه يدل على أنه لا يُؤتَى الناس قط من قِبَل علمائهم، وإنما يؤتون من قِبَل أنّه إذا مات علماؤهم أفتى من ليس بعالم فيؤتى الناس من قبله .
قال: وقد صرّف عمر رضي الله عنه هذا المعنى تصريفا فقال: "ما خان أمين قط ولكنه اؤتمن غير أمين فخان " .
قال : ونحن نقول : ما ابتدع عالم قط، ولكنه استفتى من ليس بعالم فضلّ وأضلّ .
وكذلك فعل ربيعة، قال مالك : بكى ربيعة يوما بكاء شديدا فقيل له: أمصيبة نزلت بك ؟ قال: لا ،ولكن استفتي من لا علم عنده وظهر في الإسلام أمر عظيم " اهـ.
- أقول : فإذا كان هذا وقع في زمن ربيعة ومالك فما بالك بما بعدهما من الأزمنة ؟!
ولا سيما في زماننا هذا الذي ظهر فيه أمثال فالح !
ولا سيما إذا كان المفتي يرى أنَّه لا يلزمه ذكر الدليل كما هو مذهب فالح !
3- وجاء في فتاوى اللجنة الدائمة (5/28) :
سؤال : ما حكم التقيد بالمذاهب الأربعة واتباع أقوالهم على كل الأحوال والزمان ؟
فأجابت اللجنة الدائمة : الحمد لله والصلاة والسلام على رسوله وآله وصحبه وبعد :
أولاً : المذاهب الأربعة منسوبة إلى الأئمة الأربعة الإمام أبي حنيفة والإمام مالك والإمام الشافعي والإمام أحمد ، فمذهب الحنفية منسوب إلى أبي حنيفة وهكذا بقية المذاهب.
ثانياً : هؤلاء الأئمة أخذوا الفقه من الكتاب والسنة وهم مجتهدون في ذلك ، والمجتهد إما مصيب فله أجران ، أجر اجتهاده وأجر إصابته ، وإما مخطئ فيؤجر على اجتهاده ويعذر في خطئه.
ثالثاً : القادر على الاستنباط من الكتاب والسنة يأخذ منهما كما أخذ من قبله ولا يسوغ له التقليد فيما يعتقد الحق بخلافه بل يأخذ بما يعتقد أنه حق ، ويجوز له التقليد فيما عجز عنه واحتاج إليه.
رابعاً : من لا قدرة له على الاستنباط يجوز له أن يقلد من تطمئن نفسه إلى تقليده ، وإذا حصل في نفسه عدم الاطمئنان سأل حتى يحصل عنده اطمئنان .
خامساً : يتبين مما تقدم أنه لا تتبع أقوالهم على كل الأحوال والأزمان ؛ لأنهم قد يخطئون ، بل يتبع الحق من أقوالهم الذي قام عليه الدليل ) اهـ.
فما رأي فالح في أقوال هؤلاء الأئمة التي تخالف ما نقله عن الغزالي وفرح به في أنه يجب على العامي مطلقاً أن يقبل قول المفتي وإن كذب أو أخطأ؟ ألا يدل هذا على أن فالحاً يدعو إلى التقليد الباطل المحرم لا سيما وهو يلزم حملة العلم بفتوى أمثاله ويحكم الأحكام الغليظة على من يخالفونه ولا يترك لهم أي خيار ؟
· العشرون : ومن عجائب فالح فرحه وتعلُّقه بشدةٍ بكلام القرطبي الآتي :
قال فالح (2/11) : " وقال القرطبي -رحمه الله- (في تفسيره 2/211) عند قوله - تعالى- : ] وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ قَالُوا بَلْ نَتَّبِعُ مَا أَلْفَيْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا ... [ : " تعلق قوم بهذه الآية في ذم التقليد لذم الله الكفار باتباعهم لآبائهم في الباطل، واقتدائهم بهم في الكفر والمعصية، وهذا في الباطل صحيح، أما التقليد في الحق فأصل من أصول الدين، وعصمة من عصم المسلمين، يلجأ إليها الجاهل المقصر عن درك النظر ".
وقال – أيضاً (في الموضع السابق 2/212): "فرض العامي الذي لا يشتغل باستنباط الأحكام من أصولها لعدم أهليته فيما لا يعلمه من أمر دينه ويحتاج إليه: أن يقصد أعلم من في زمانه وبلده فيسأله عن نازلته، فيمتثل فيها فتواه؛ لقوله - تعالى- : ] فَاسْأَلوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ [، وعليه الاجتهاد في أعلم أهل وقته بالبحث عنه حتى يقع عليه الاتفاق من الأكثر من الناس.
وعلى العالم - أيضاً - فرض أن يقلد عالماً مثله في نازلة خفي عليه فيها وجه الدليل والنظر، وأراد أن يجدد الفكر فيها والنظر حتى يقف على المطلوب، فضاق الوقت عن ذلك، وخاف على العبادة أن تفوت، أو على الحكم أن يذهب، سواء كان ذلك المجتهد الآخر صحابياً أو غيره، وإليه ذهب القاضي أبو بكر وجماعة من المحققين"([1]).
التعليق على كلام القرطبي الأوّل:
1- القرطبي ينكر على أئمة الإسلام الذين يحتجون بهذه الآية الكريمة وغيرها من كلامه تعالى على بطلان التقليد المحرم الذي وقع فيه كثير من المسلمين ، وليس ما قاله بصواب.
قال الإمام ابن عبد البر في "جامع بيان العلم" (2/978) -بعد أن ساق عدداً من الآيات الكريمة في ذم الكفار على تقليدهم الكفر-:
"قال أبو عمر: وقد احتج العلماء بهذه الآيات في إبطال التقليد، ولم يمنعهم كفر أولئك من جهة الاحتجاج بها؛ لأن التشبيه لم يقع من جهة كفر أحدهما وإيمان الآخر، وإنما وقع التشبيه بين التقليدين بغير حجة للمقلِّد؛ كما لو قلَّد رجل فكفر، وقلد آخر فأذنب، وقلد آخر في مسألة دنياه فأخطأ وجهها، كان كل واحد ملوماً على التقليد بغير حجة؛ لأن كل ذلك تقليد يشبه بعضه بعضاً وإن اختلفت الآثام فيه ".
2- كان على القرطبي أن يؤيد كلام العلماء ويبين مقصودهم من الاحتجاج بالآيات القرآنية ألا وهو التقليد المذموم الذي فرَّق الأمة في عقائدها وعباداتها...الخ لا أن يعترض عليهم، فالتقليد فرق الأمة إلى طوائف في المجالين المذكورين وغيرهما، فهذا جهمي وهذا شيعي وهذا معتزلي وهذا خارجي وهذا صوفي وهذا مرجىء وكل طائفة تتعصب لمذهب أو رأي توالي وتعادي عليه، ولا تسمع ولا تأخذ بقوارع الحجج من القرآن والسنة على بطلان طريقة ومذهب من قلدتهم.
وكذلك مقلدي أئمة السنة حصل من كثير منهم حتى من علمائهم التقليد في قضايا كثيرة، قامت الأدلة من الكتاب والسنة على خطأ رأي صاحب ذلك المذهب أو ذاك، فلا يتزحزح كثير عن مذهب من قلده تعصباً واتباعاً للأهواء مخالفين في ذلك الأدلة من القرآن والسنة ولأقوال أئمتهم الذين حاربوا التقليد ونهوا عنه، وأمروا الناس عموماً باتباع الدليل وترك ما خالفه ولو قاله من قاله من الأئمة وغيرهم.
فالأئمة نهوا عن التقليد في العقائد وفي الأحكام وأمروا باتباع الكتاب والسنة، وخالفهم المقلدون في هذا أو ذاك، فهب العلماء الناصحون لمواجهة هذا الواقع المرير، وساقوا الأدلة من الكتاب والسنة على بطلان هذا التقليد.
3- يظهر من هذا قصور كلام القرطبي عن بيان التقليد الذي حذّر منه الأئمة، واحتجوا عليه بالآيات والأحاديث والآثار السلفية.
4- أخطأ القرطبي -غفر الله له- في وصف التقليد بأنه أصل من أصول الدين، والأصل الأصيل الذي دل عليه الكتاب والسنة وكلام الأئمة إنما هو اتباع محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي لا ينطق عن الهوى والمعصوم في كل ما يبلغه عن الله رب العالمين.
وأما من سواه فيصيبون ويخطئون، وجاء من يقلدهم في صوابهم وخطئهم، وقالوا : نصّ الإمام في حق مقلده كنصّ النبي في حق أمته، وأدى بهم هذا التقليد إلى التمزق والتفرق والتباغض والعداوات ما سجله التاريخ.
فالصواب أن يقال: الأصل اتباع كتاب الله وسنة رسول الله كما دل عليه نصوص الكتاب والسنة، ومنها قوله تعالى : ( واعتصموا بحبل الله جميعاً ولا تفرقوا ).
والتقليد إنما هو استثناء كاستثناء أكل الميتة للمضطرين، ولو كان أصلاً من أصول الدين فلماذا حذّر منه العلماء، وكثير منهم يحذر منه بدون استثناء فيكونون قد حذّروا من أصل من أصول الدين على منهج فالح !!
- قال الإمام ابن القيم في إعلام الموقعين (2/241) في رده على المقلدين :
" الْخَامِسُ أَنَّ من ذَكَرْتُمْ من الْأَئِمَّةِ لم يُقَلِّدُوا تَقْلِيدَكُمْ وَلَا سَوَّغُوهُ بَتَّةً بَلْ غَايَةُ ما نُقِلَ عَنْهُمْ من التَّقْلِيدِ في مَسَائِلَ يَسِيرَةٍ لم يَظْفَرُوا فيها بِنَصٍّ عن اللَّهِ وَرَسُولِهِ ولم يَجِدُوا فيها سِوَى قَوْلِ من هو أَعْلَمُ منهم فَقَلَّدُوهُ وَهَذَا فِعْلُ أَهْلِ الْعِلْمِ وهو الْوَاجِبُ فإن التَّقْلِيدَ إنَّمَا يُبَاحُ لِلْمُضْطَرِّ وَأَمَّا من عَدَلَ عن الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَأَقْوَالِ الصَّحَابَةِ وَعَنْ مَعْرِفَةِ الْحَقِّ بِالدَّلِيلِ مع تَمَكُّنِهِ منه إلَى التَّقْلِيدِ فَهُوَ كَمَنْ عَدَلَ إلَى الْمَيْتَةِ مع قُدْرَتِهِ على الْمُذَكَّى فإن الْأَصْلَ أَنْ لَا يَقْبَلَ قَوْلُ الْغَيْرِ إلَّا بِدَلِيلٍ إلا عِنْدَ الضَّرُورَةِ فَجَعَلْتُمْ أَنْتُمْ حَالَ الضَّرُورَةِ رَأْسَ أَمْوَالِكُمْ (1)" اهـ.
وأقول : يؤكد بطلان ما تعلَّق به فالح من كلام القرطبي من أنَّ التقليد أصل من أصول الدِّين قول الإمام ابن القيم الآتي من "إعلام الموقعين" (2/267) :
" الْوَجْهُ الثَّالِثُ وَالسَّبْعُونَ : قَوْلُكُمْ إنَّ التَّقْلِيدَ من لَوَازِمِ الشَّرْعِ وَالْقَدَرِ وَالْمُنْكِرُونَ له مُضْطَرُّونَ إلَيْهِ وَلَا بُدَّ كما تَقَدَّمَ بَيَانُهُ من الْأَحْكَامِ .
جَوَابُهُ أَنَّ التَّقْلِيدَ الْمُنْكَرَ الْمَذْمُومَ ليس من لَوَازِمِ الشَّرْعِ وَإِنْ كان من لَوَازِمِ الْقَدَرِ بَلْ بُطْلَانُهُ وَفَسَادُهُ من لَوَازِمِ الشَّرْعِ كما عُرِفَ بِهَذِهِ الْوُجُوهِ التي ذَكَرْنَاهَا وَأَضْعَافِهَا وَإِنَّمَا الذي من لَوَازِمِ الشَّرْعِ الْمُتَابَعَةُ وَهَذِهِ الْمَسَائِلُ التي ذَكَرْتُمْ أنها من لَوَازِمِ الشَّرْعِ لَيْسَتْ تَقْلِيدًا وَإِنَّمَا هِيَ مُتَابَعَةٌ وَامْتِثَالٌ لِلْأَمْرِ فَإِنْ أَبَيْتُمْ إلَّا تَسْمِيَتَهَا تَقْلِيدًا فَالتَّقْلِيدُ بهذا الِاعْتِبَارِ حَقٌّ وهو من الشَّرْعِ وَلَا يَلْزَمُ من ذلك أَنْ يَكُونَ التَّقْلِيدُ الذي وَقَعَ النِّزَاعُ فيه من الشَّرْعِ وَلَا من لَوَازِمِهِ وَإِنَّمَا بُطْلَانُهُ من لَوَازِمِهِ .
يُوَضِّحُهُ الْوَجْهُ الرَّابِعُ وَالسَّبْعُونَ : أَنَّ ما كان من لَوَازِمِ الشَّرْعِ فَبُطْلَانُ ضِدِّهِ من لَوَازِمِ الشَّرْعِ، فَلَوْ كان التَّقْلِيدُ الذي وَقَعَ فيه النِّزَاعُ من لَوَازِمِ الشَّرْعِ لَكَانَ بُطْلَانُ الِاسْتِدْلَالِ وَاتِّبَاعِ الْحُجَّةِ في مَوْضِعِ التَّقْلِيدِ من لَوَازِمِ الشَّرْعِ، فإن ثُبُوتَ أَحَدِ النَّقِيضَيْنِ يَقْتَضِي انْتِفَاءَ الْآخَرِ وَصِحَّةَ أَحَدِ الضِّدَّيْنِ يُوجِبُ بُطْلَانَ الْآخَرِ ونحرره دَلِيلًا فَنَقُولُ : لو كان التَّقْلِيدُ من الدِّينِ لم يَجُزْ الْعُدُولُ عنه إلَى الِاجْتِهَادِ وَالِاسْتِدْلَالِ لِأَنَّهُ يَتَضَمَّنُ بُطْلَانَهُ .
فَإِنْ قِيلَ كِلَاهُمَا من الدِّينِ أو أَحَدُهُمَا أَكْمَلُ من الْآخَرِ فَيَجُوزُ الْعُدُولُ عن الْمَفْضُولِ إلَى الْفَاضِلِ .
قِيلَ إذَا كان قد انْسَدَّ بَابُ الِاجْتِهَادِ عِنْدَكُمْ وَقَطَعْتُمْ طَرِيقَهُ وَصَارَ الفرض هو التَّقْلِيدُ فَالْعُدُولُ عنه إلَى ما قد سُدَّ بَابُهُ وَقُطِعَتْ طَرِيقُهُ يَكُونُ عِنْدَكُمْ مَعْصِيَةً وَفَاعِلُهُ آثِمًا وفي هذا من قَطْعِ طَرِيقِ الْعِلْمِ وَإِبْطَالِ حُجَجِ اللَّهِ وَبَيِّنَاتِهِ وَخُلُوِّ الْأَرْضِ من قَائِمٍ لِلَّهِ بِحُجَجِهِ ما يُبْطِلُ هذا الْقَوْلَ وَيَدْحَضُهُ .
وقد ضَمِنَ النبي صلى اللَّهُ عليه وسلم أَنَّهُ لَا تُزَالُ طَائِفَةٌ من أُمَّتِهِ على الْحَقِّ لَا يَضُرُّهُمْ من خَذَلَهُمْ وَلَا من خَالَفَهُمْ حتى تَقُومَ السَّاعَةُ .
وَهَؤُلَاءِ هُمْ أُولُو الْعِلْمِ وَالْمَعْرِفَةِ بِمَا بَعَثَ اللَّهُ بِهِ رَسُولَهُ ؛فَإِنَّهُمْ على بَصِيرَةٍ وَبَيِّنَةٍ بِخِلَافِ الْأَعْمَى الذي قد شَهِدَ على نَفْسِهِ بِأَنَّهُ ليس من أولي الْعِلْمِ وَالْبَصَائِرِ .
وَالْمَقْصُودُ أَنَّ الذي هو من لَوَازِمِ الشَّرْعِ الْمُتَابَعَةُ وَالِاقْتِدَاءُ وَتَقْدِيمُ النُّصُوصِ على آرَاءِ الرِّجَالِ وَتَحْكِيمُ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ في كل ما تَنَازَعَ فيه الْعُلَمَاءُ .
وَأَمَّا الزُّهْدُ في النُّصُوصِ وَالِاسْتِغْنَاءُ عنها بِآرَاءِ الرِّجَالِ وَتَقْدِيمُهَا عليها وَالْإِنْكَارُ على من جَعَلَ كِتَابَ اللَّهِ وَسُنَّةَ رَسُولِهِ وَأَقْوَالَ الصَّحَابَةِ نُصْبَ عَيْنَيْهِ وَعَرَضَ أَقْوَالَ الْعُلَمَاءِ عليها ولم يَتَّخِذْ من دُونِ اللَّهِ وَلَا رَسُولِهِ وَلَا الْمُؤْمِنِينَ وَلِيجَةً فَبُطْلَانُهُ من لَوَازِمِ الشَّرْعِ وَلَا يَتِمُّ الدِّينُ إلَّا بِإِنْكَارِهِ ([2]) وَإِبْطَالِهِ فَهَذَا لَوْنٌ وَالِاتِّبَاعُ لَوْنٌ وَاَللَّهُ الْمُوَفِّقُ " اهـ.
أقول : فترى ابن القيم -رحمه الله- يرفض أن يكون التقليد من لوازم الشرع ويبطل ذلك إبطالاً قوياً .فكيف يرضى هو وغيره من علماء الإسلام الذين حاربوا التقليد أن يكون هذا التقليد من أصول الدين وعصمة من عصم المسلمين ؟!!
وأخطأ القرطبي في قوله "عصمة من عصم المسلمين"، فالعصمة إنما هي في كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم قال تعالى : ( واعتصموا بحبل الله جميعاً ولا تفرقوا )، وقال صلى الله عليه وسلم : " إِنَّ اللَّهَ يَرْضَى لَكُمْ ثَلَاثًا وَيَكْرَهُ لَكُمْ ثَلَاثًا فَيَرْضَى لَكُمْ أَنْ تَعْبُدُوهُ ولا تُشْرِكُوا بِهِ شيئا وَأَنْ تَعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جميعا ولا تَفَرَّقُوا وَيَكْرَهُ لَكُمْ قِيلَ وقال وَكَثْرَةَ السُّؤَالِ وَإِضَاعَةِ الْمَالِ" ([3])
5- والتقليد كان من أسباب تفريق الأمة فكيف يكون عصمة؛ ولا سيما بعد أن سيطر التقليد على كثير من العلماء والعامة من قبل عهد القرطبي وفي عصره وبعد عصره، فكيف يقول القرطبي هذا في التقليد وهذه آثاره المؤلمة .
إن غاية ما عند المقلد العامي أن يكون معذوراً عندما يخطئ مفتيه فيما يفتيه به، فإن أفتاه بالدليل من كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم حصلت له العصمة من الضلال بهذا الدليل.
وقال – صلى الله عليه وسلم -: " تَرَكْتُ فِيكُمْ ما لَنْ تَضِلُّوا بَعْدَهُ إن اعْتَصَمْتُمْ بِهِ كِتَابُ اللَّهِ وَأَنْتُمْ تُسْأَلُونَ عَنِّي فما أَنْتُمْ قَائِلُونَ؟ قالوا: نَشْهَدُ أَنَّكَ قد بَلَّغْتَ وَأَدَّيْتَ وَنَصَحْتَ فقال بِإِصْبَعِهِ السَّبَّابَةِ يَرْفَعُهَا إلى السَّمَاءِ وَيَنْكُتُهَا إلى الناس اللهم اشْهَدْ اللهم اشْهَدْ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ" رواه مسلم في الحج حديث (1218).
وقال صلَّى الله عليه وسلَّم : " تركت فيكم ما إن تمسكتم به لن تضلوا بعدي أبداً : كتاب الله وسنتي " ([4]).
فلم يوصِ رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم بالتقليد في هذه المناسبات العظيمة ولا في غيرها أرأيتَ لو كان أصلا من أصول الدين وعصمة من عصم المسلمين أكان يهمله صلَّى الله عليه وسلَّم ؟! حاشاه صلَّى الله عليه وسلَّم .
فنصوص القرآن والسنَّة تقتضي ذمَّ التقليد والتحذير منه . وهذا الذي فقهه أئمة الإسلام الذين جعلوه كالميتة لا يجوز أن يرجع إليه إلاَّ المعذورون العاجزون .
ونقول لفالح - الذي يتعلق بكل ما هبّ ودبّ لنصرة القول بالتقليد الأعمى -: لو كنت صادقاً في أنك تدعو إلى الكتاب والسنة لما فرحتَ وتعلقتَ بمثل كلام القرطبي؛ بل لأنكرته.
· الحادي والعشرون : نَقْلُ فالح عن الشوكاني ما يوافق هواه وغلوه في التقليد الأعمى، وكتمانه لما يدينه ويدين التقليد من كلام الشوكاني الذي بثه في عدد من مؤلفاته المعروفة المنتشرة :
قال فالح في (2/17) من "التحقيق السديد" :
" وقال الشوكاني (في السيل الجرار 1/6) : " وأما عمل العامي بقول المفتي فلوقوع الإجماع على ذلك ".
أقول : ماذا يريد فالح من وراء نقل هذا الكلام عن الإمام الشوكاني رحمه الله تعالى ؟
يريد أن يموِّه على الناس بأنَّ هذا الإمام معي ضد ربيع الذي يحارب التقليد مطلقا ولا يفصِّل !
وأقول : إنِّي قد أوضحت للقرّاء مراراً أنِّي أدعو إلى الكتاب والسنَّة وأبيِّن من يجوز له التقليد ومن يجب عليه الإتباع . فأنا لا أخالف في أنَّ للعوام أن يقلِّدوا العلماء بالكتاب والسنة. فهذا النَّقل من فالح عن الشوكاني من التمويهات الباطلة .
ثمَّ نقول لفالح : لو كان عندك شيء من الإنصاف لما تركت أقوال الشوكاني التي حارب فيها التقليد، والتي أودعها في كتبه؛ بل ألّف في ذلك عدداً من الكتب، منها :
- الأوَّل : " القول المفيد في أدلة الاجتهاد والتقليد " : الذي ردّ فيه شبهات المقلدين .
- والثاني : " بغية المستفيد في الرد على من أنكر العمل بالاجتهاد من أهل التقليد " .
- والثالث : " التشكيك على التفكيك " .
راجع كتاب " الفتح الرباني من فتاوى الإمام الشوكاني" المجلد الخامس .
وهذه بعض أقوال الإمام الشوكاني ننقلها لكم من "القول المفيد في حكم التقليد" ومن " إرشاد الفحول " :
1- قال رحمه الله في "القول المفيد في حكم التقليد" (ص11-12):
( ومن جملة ما استدلوا به ([5]) قوله تعالى : ( أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم )، وقالوا: وأولوا الأمر هم العلماء وطاعتهم تقليدهم فيما يفتون به.
والجواب أن للمفسرين في تفسير أولي الأمر قولين أحدهما أنهم الأمراء والثاني أنهم العلماء ولا تمتنع إرادة الطائفتين من الآية الكريمة ولكن أين هذا من الدلالة على مراد المقلدين فإنه لا طاعة للعلماء ولا للأمراء إلا إذا أمروا بطاعة الله على وفق شريعته وإلا فقد ثبت عنه - صلى الله عليه وسلم - أنه قال لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق وأيضا العلماء إنما أرشدوا غيرهم إلى ترك تقليدهم، ونهوا عن ذلك كما سيأتي بيان طرف منه عن الأئمة الأربعة وغيرهم فطاعتهم ترك تقليدهم ولو فرضنا أن في العلماء من يرشد الناس إلى التقليد ويرغبهم فيه لكان مرشدا إلى معصية الله ([6]) ولا طاعة له بنص حديث رسول الله – صلى الله عليه وسلم - وإنما قلنا أنه مرشد إلى معصية الله لأن من أرشد هؤلاء العامة الذين لا يعقلون الحجج ولا يعرفون الصواب من الخطأ إلى التمسك بالتقليد كان هذا الإرشاد منه مستلزما لإرشادهم إلى ترك العمل بالكتاب إلا بواسطة آراء العلماء الذين يقلدونهم فما عملوا به عملوا به وما لم يعملوا به لم يعملوا به ولا يلتفتون إلى كتاب ولا سنة بل من شرط التقليد الذي أصيبوا به أن يقبل من إمامه رأيه ولا يعتزل عن روايته ولا يسأله عن كتاب ولا سنة فإن سأله عنهما خرج عن التقليد لأنه قد صار مطالبا بالحجة ) اهـ.
2- وقال رحمه الله في "القول المفيد" ص(37-38) :
( والحاصل أن كون الرأي ليس من العلم لا خلاف فيه بين الصحابة والتابعين وتابعيهم قال ابن عبد البر : ولا أعلم بين متقدمي علماء هذه الأمة وسلفها خلافا أن الرأي ليس بعلم حقيقة . قال : أما أصول العلم فالكتاب والسنة .اهـ.
وقال ابن عبد البر : حد العلم عند العلماء والمتكلمين في هذا المعنى هو ما استيقنته وتبينته وكل من استيقن شيئا وتبينه فقد علمه وعلى هذا من لم يستيقن الشيء وقال به تقليدا فلم يعلم والتقليد عند جماعة العلماء غير الإتباع لأن الإتباع هو أن تتبع القائل على ما بان لك من فضل قوله وصحة مذهبه والتقليد أن تقول بقوله وأنت لا تعرفه ولا وجه القول ولا معناه وتأبى من ([7]) سواه وإن تبين لك خطؤه فتتبعه مهابة خلافه وأنت قد بان لك فساد قوله وهذا يحرم القول به في دين الله سبحانه وتعالى اهـ.
ومما يدل على ما أجمع عليه السلف من أن الرأي ليس بعلم قول الله عز وجل: ( فإن تنازعتم في شيء فردوه إلى الله والرسول ) قال عطاء بن أبي رباح وميمون بن مهران وغيرهما الرد إلى الله هو الرد إلى كتابه والرد إلى رسوله – صلى الله عليه وسلم - هو الرد إلى سنته بعد موته وعن عطاء في قوله تعالى: ( أطيعوا الله وأطيعوا الرسول ) قال طاعة الله ورسوله إتباع الكتاب والسنة ( وأولي الأمر منكم ) قال أولوا العلم والفقه وكذا قال مجاهد ويدل على ذلك من السنة حديث العرباض بن سارية وهو ثابت في السنن ورجاله رجال الصحيح قال : " وعظنا رسول الله – صلى الله عليه وسلم - موعظة ذرفت منها العيون ووجلت منها القلوب فقلنا يا رسول الله إن هذه موعظة مودع فماذا تعهد إلينا فقال تركتكم على البيضاء ليلها كنهارها لا يزيغ عنها بعدي إلا هالك ومن يعش منكم فسيرى اختلافا كثيرا فعليكم بما عرفتكم من سنتي وسنة الخلفاء المهديين الراشدين وعليكم بالطاعة وإن كان عبدا حبشيا عضوا عليها بالنواجذ إنما المؤمن كالجمل الأنف كلما قيد انقاد وأخرجه أيضا ابن عبد البر بإسناد صحيح وزاد وإياكم ومحدثات الأمور فإن كل محدثة بدعة وكل بدعة ضلالة.
والأحاديث في هذا الباب كثيرة جدا ويكفي من(2) رفع الرأي وأنه ليس من الدين قول الله عز وجل: ( اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الإسلام دينا ) فإذا كان الله قد أكمل دينه قبل أن يقبض نبيه – صلى الله عليه وسلم - فما هذا الرأي الذي أحدثه أهله بعد أن أكمل الله دينه؟ إن كان من الدين في اعتقادهم فهو لم يكمل عندهم إلا برأيهم وهذا فيه رد للقرآن وإن لم يكن من الدين فأي فائدة من الاشتغال بما ليس من الدين.
وهذه حجة قاهرة ودليل عظيم لا يمكن صاحب الرأي أن يدفعه بدافع أبدا فاجعل هذه الآية الشريفة أول ما تصك به وجوه أهل الرأي وترغم به آنافهم وتدحض به حججهم فقد أخبرنا الله في محكم كتابه أنه أكمل دينه ولم يمت رسول الله – صلى الله عليه وسلم - إلا بعد أن أخبرنا بهذا الخبر عن الله عز وجل فمن جاءنا بالشيء من عند نفسه وزعم أنه من ديننا قلنا له الله أصدق منك فاذهب فلا حاجة لنا في رأيك.
وليت المقلدة فهموا هذه الآية حق الفهم حتى يستريحوا ويتركوا ) اهـ.
3- ساق الشوكاني آيات كثيرة في الرد على المقلدين، ثم قال -رحمه الله- في (ص39-40) من "القول المفيد" :
" وإنما أوردنا هذه الآيات الشريفة لقصد تليين قلب المقلد الذي قد جمد وصار كالجلمد فإنه إذا سمع مثل هذه الأوامر ربما امتثلها وأخذ دينه عن كتاب الله وسنة رسوله – صلى الله عليه وسلم - طاعة لأوامر الله تعالى فإن هذه الطاعة وإن كانت معلومة لكل مسلم كما تقدم لكن الإنسان يذهل عن القوارع القرآنية والزواجر النبوية فإذا ذكرتها زجر ولا سيما من نشأ على التقليد وأدرك سلفه ثابتين عليه غير متزحزحين عنه فإنه يقع في قلبه أن دين الإسلام هو هذا الذي هو عليه وما كان مخالفا له فليس من الإسلام في شيء . فإذا راجع نفسه رجع ولهذا تجد الرجل إذا نشأ على مذهب من هذه المذاهب ثم سمع قبل أن يتمرن بالعلم ويعرف ما قاله الناس خلافا يخالف ذلك المألوف استنكره وأباه قلبه ونفر عنه طبعه وقد رأينا وسمعنا من هذا الجنس من لا يأتي عليه الحصر .ولكن إذا وازن العاقل بعقله بين من اتبع أحد أئمة المذاهب في مسألة من مسائله التي رواها عنه المقلد ولا مستند لذلك العالم فيها بل قالها بمحض الرأي لعدم وقوفه على الدليل وبين من تمسك في تلك المسألة بخصوصها بالدليل الثابت في القرآن أو السنة أفاده العقل أن بينهما مسافات تنقطع فيها أعناق الإبل بل لا جامع بينهما أن(1) من تمسك بالدليل أخذ بما أوجب الله عليه الأخذ به واتبع ما شرعه الشارع بجمع(2) الأمة أولها وآخرها وحيها وميتها . وأخذهم هذا العالم الذي تمسك المقلد له بمحض رأيه هو محكوم عليه بالشريعة لا أنه حاكم فيها وهو تابع لها لا متبوع فيها فهو كمن اتبعه في أن كل واحد منهما فرضه الأخذ بما جاء عن الشارع لا فرق بينهما إلا من كون المتبوع عالما والتابع جاهلا فالعالم يمكنه الوقوف على الدليل من دون أن يرجع إلى غيره لأنه قد استعد لذلك بما اشتغل به من الطلب والوقوف بين يدي أهل العلم والتحرج لهم في معارف الاجتهاد والجاهل يمكنه الوقوف على الدليل بسؤال علماء الشريعة على طريقة طلب الدليل واسترواء النص وكيف حكم به في محكم كتاب الله أو على لسان رسوله -صلى الله عليه وسلم - في تلك المسألة فيفيدونه النص إن كان ممن يعقل الحجة إذا دُلَّ عليها أو يفيدونه مضمون النص بالتعبير عنه بعبارة يفهمها فهم رواة وهو مسترو وهذا عامل بالرواية لا بالرأي والمقلد عامل بالرأي لا بالرواية لأنه يقبل قول الغير من دون أن يطالبه بحجة وذلك هو في سؤاله له مطالب بالحجة لا بالرأي فهو قَبِلَ رواية الغير لا رأيه وهما من هذه الحيثية متقابلان، فانظر كم الفرق بين المنـزلتين " اهـ.
4- وقال -رحمه الله- في " إرشاد الفحول " (ص451) :
" المسألة الخامسة : إذا تقرر لك أن العامي يسأل العالم والمقصر يسأل الكامل فعليه أن يسأل أهل العلم المعروفين بالدين وكمال الورع عن العالم بالكتاب والسنة العارف بما فيهما المطلع على ما يحتاج إليه في فهمهما من العلوم الآلية حتى يدلوه عليه ويرشدوه إليه فيسأله عن حادثته طلبا منه أن يذكر له فيها ما في كتاب الله سبحانه أو ما في سنة رسول الله e فحينئذ يأخذ الحق من معدنه ويستفيد الحكم من موضعه ويستريح من الرأي الذي لا يأمن المتمسك به أن يقع في الخطأ المخالف للشرع المباين للحق ومن سلك هذا المنهج ومشى في هذا الطريق لا يعدم مطلبه ولا يفقد من يرشده إلى الحق فإن الله سبحانه وتعالى قد اوجد لهذا الشأن من يقوم به ويعرفه حق معرفته وما من مدينة من المدائن إلا وفيها جماعة من علماء الكتاب والسنة وعند ذلك يكون حكم هذا المقصر حكم المقصرين من الصحابة والتابعين وتابعيهم فإنهم كانوا يستروون النصوص من العلماء ويعملون على ما يرشدونهم إليه ويدلوهم عليه وقد ذكر أهل الأصول أنه يكفي العامي في الاستدلال على من له أهلية الفتوى بأن يرى الناس متفقين على سؤاله مجتمعين على الرجوع إليه ولا يستفتي من هو مجهول الحال كما صرح به الغزالي والآمدي وابن الحاجب وحكي في المحصول الاتفاق على المنع .." اهـ.
5- وقال الشوكاني -رحمه الله- في مقدمة بحثٍ له سمَّاه ( أعظم أسباب التفرق في الدين هو علم الرأي ) قال بعد أن أثنى على القرون المفضلة واتحاد كلمتهم وتمسكهم بالكتاب والسنَّة : ( فلمَّا ظهر علم الرأي بعد الصحابة والتابعين تفرقوا فرقاً وصاروا منتسبين إلى أهل المذاهب إلاَّ من عصمه الله وقليل ما هم .
وقد أوضحت هذا في كثير من مؤلفاتي كالكتاب الذي سميته " أدب الطلب في منتهى الأرب" والرسالة التي سمَّيتها " القول المفيد في حكم التقليد " والكتاب الذي سمَّيته " قطر الولي على حديث الولي " والكتاب الذي سمَّيته " نثر الجوهر على حديث أبي ذر " ) اهـ. انظر (5/2447) من الفتح الرباني من فتاوى الإمام الشوكاني .
- أقول : هذا كلام الشوكاني في التقليد، رأيتَ فيه من الشدة ما رأيتَ، ومع ذلك لم ينـزعج منه علماء السنة في العالم الإسلامي، لا أهل الجزيرة ولا أهل الهند ولا أهل مصر ولا غيرهم، فكيف يطيقه فالح وقد انزعج انزعاجاً شديداً وأقام الدنيا ولم يقعدها على ربيع الذي نصح فالحاً ودعاه إلى سلوك منهج السلف في الدعوة إلى اتباع الكتاب والسنة، ونصحه بالابتعاد عن الغلو في التقليد وعن الأحكام الغليظة على من لا يلزمه التقليد؛ بل يجب عليه الاتباع، وفي الوقت نفسه ذكر مراراً من يجوز له التقليد ممن لا يستطيعون إدراك معاني نصوص الكتاب والسنة.
ثم نقول لفالح علامَ يدل نقلك تلك الجملة عن الشوكاني التي لعله غيَّر رأيه فيها وإعراضك عن هذه الكتب التي تضمنت هذه الأقوال الشديدة على التقليد والمقلدين ودعاة التقليد، أليس هذا من فعل أهل الأهواء ؟
· الثاني والعشرون : كذب فالح على الأئمة وابن القيَِِّم وخياناته في النَّقل عن ابن القيِّم :
أقول :
قال فالح في (2/21-23) من "التحقيق السديد" : ( وقال (في الإعلام 2/187) : " وقد صرح الأئمة بجواز التقليد فقال حفص بن غياث: (سمعت سفيان يقول: إذا رأيت الرجل يعمل العمل الذي قد اختلف فيه، وأنت ترى تحريمه فلا تنهه).
وقال محمد بن الحسن : ( يجوز للعالم تقليد من هو أعلم منه، ولا يجوز له تقليد من هو مثله).
وقد صرح الشافعي بالتقليد، فقال: (في الضلع بعير، قلته تقليداً لعمر).
وقال في مسألة بيع الحيوان بالبراءة من العيوب: (قلته تقليداً لعثمان).
وقال في مسألة الجد مع الإخوة: (إنه يقاسمهم)، ثم قال: (وإنما قلت بقول زيد، وعنه قبلنا أكثر الفرائض)، وقال في موضع آخر من كتابه الجديد: (قلته تقليداً لعطاء).
وهذا أبو حنيفة - رحمه الله - قال في مسائل الآبار: ليس معه فيها إلا تقليد من تقدمه من التابعين فيها.
وهذا مالك لا يخرج عن عمل أهل المدينة، ويصرح في موطئه بأنه أدرك العمل على هذا، وهو الذي عليه أهل العلم ببلدنا. ويقول في غير موضع: (ما رأيت أحداً أقتدي به يفعله)، ولو جمعنا ذلك من كلامه لطال.
وقد قال الشافعي في الصحابة : ( رأيهم لنا خير من رأينا لأنفسنا) ،ونحن نقول ونصدق أن رأي الشافعي والأئمة معه خير من رأينا لأنفسنا.
وقد جعل الله -سبحانه- في فطر العباد تقليد المتعلمين للأستاذين والمعلمين، ولا تقوم مصالح الخلق إلا بهذا، وذلك عام في كل علم وصناعة وقد فاوت الله سبحانه بين قوى الأذهان، كما فاوت بين قوى الأبدان، فلا يحسن في حكمته وعدله ورحمته أن يفرض على جميع خلقه معرفة الحق بدليله، والجواب عن معارضه في جميع مسائل الدين دقيقها وجليلها، ولو كان ذلك لتساوت أقدام الخلائق في كونهم علماء، بل جعل سبحانه هذا عالماً وهذا متعلماً، وهذا متبعاً للعالم مؤتماً به بمنزلة المأموم مع الإمام والتابع مع المتبوع وأين حرم الله - تعالى- على الجاهل أن يكون متبعاً للعالم مؤتماً به مقلداً له يسير بسيره وينـزل بنـزوله، وقد علم الله سبحانه أن الحوادث والنوازل كل وقت نازلة بالخلق، فهل فرض على كل منهم فرض عين أن يأخذ حكم نازلته من الأدلة الشرعية بشروطها ولوازمها؟ وهل ذلك في إمكان أحد فضلاً عن كونه مشروعاً ؟ وهؤلاء أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فتحوا البلاد وكان الحديث العهد بالإسلام يسألهم، فيفتونه ولا يقولون له: عليك أن تطلب معرفة الحق في هذه الفتوى بالدليل، ولا يعرف ذلك عن أحد منهم البتة، وهل التقليد إلا من لوازم التكليف ولوازم الوجود، فهو من لوازم الشرع والقدر. والمنكرون له مضطرون إليه ولابد، وذلك فيما تقدم بيانه من الأحكام وغيرها. ونقول لمن احتج على إبطاله : كل حجة أثرية ذكرتها فأنت مقلد لحملتها ورواتها، إذ لم يقم دليل قطعي على صدقهم، فليس بيدك إلا تقليد الراوي، وليس بيد الحاكم إلا تقليد الشاهد، وكذلك ليس بيد العامي إلا تقليد العالم ، فما الذي سوغ لك تقليد الراوي والشاهد ومنعنا من تقليد العالم، وهذا سمع بأذنه ما رواه وهذا عقل بقلبه ما سمعه، فأدى هذا مسموعه وأدى هذا معقوله، وفرض على هذا تأدية ما سمعه، وعلى هذا تأدية ما عقله، وعلى من لم يبلغ منزلتهما القبول منهما. ثم يقال للمانعين من التقليد: أنتم منعتموه خشية وقوع المقلد في الخطأ، بأن يكون من قلده مخطأً في فتواه، ثم أوجبتم عليه النظر والاستدلال في طلب الحق. ولا ريب أن صوابه في تقليده للعالم أقرب من صوابه في اجتهاده هو لنفسه، وهذا كمن أراد شراء سلعة لا خبرة له بها، فإنه إذا قلد عالماً بتلك السلعة خبيراً بها أميناً ناصحاً كان صوابه وحصول غرضه أقرب من اجتهاده لنفسه، وهذا متفق عليه بين العقلاء".
أقول :
1- لقد أطال فالح النفس في نقل هذه الشبه؛ لأنه فيما خيل له أنه يقوي جانبه وجانب الغلاة في التقليد لا سيما والأئمة معهم في جواز هذا التقليد المطلق.
2- إن هذا الكلام من ابن القيم إنما حكاه عن مقلد مدافع عن التقليد الممنوع، وليس احتجاجاً منه على جواز التقليد المحرم كما أوهم فالح ذلك.
3- صوَّر فالح بهذا التصرف كلاً من الأئمة وابن القيم مدافعين عن التقليد محتجين له.
وهذا افتراء منه على الأئمة وعلى ابن القيم، فإن المشهور عن الأئمة إنما هو الدعوة إلى اتباع السنة والزجر عن التقليد(1).
وابن القيم مشهور عنه ذم التقليد والزجر عنه، ومن ذلك دحضه للتقليد المحرم في كتابه "إعلام الموقعين" وفي "النونية" وغيرهما، وما حكى ابن القيم هذه الشبه إلا ليردها، ويبين بطلانها، وقد أبطلها من واحد وثمانين وجهاً.
ومن دحضه له ما يأتي:
قال -رحمه الله- في الإعلام (2/182-187) وهو يعرض شبه المقلدين ومن هذه الشبه الكلام الذي نسبه فالح لابن القيم تلبيساً وخيانة.
قال -رحمه الله- : " فَصْلٌ في عَقْدِ مَجْلِسِ مُنَاظَرَةٍ بين مُقَلِّدٍ وَبَيْنَ صَاحِبِ حُجَّةٍ مُنْقَادٍ لِلْحَقِّ حَيْثُ كان.
قال الْمُقَلِّدُ نَحْنُ مَعَاشِرَ الْمُقَلِّدِينَ مُمْتَثِلُونَ قَوْلَ اللَّهِ تَعَالَى : ( فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ ) فَأَمَرَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ من لَا عِلْمَ له أَنْ يَسْأَلَ من هو أَعْلَمُ منه وَهَذَا نَصُّ قَوْلِنَا وقد أَرْشَدَ النبي صلى اللَّهُ عليه وسلم من لَا يَعْلَمُ إلَى سُؤَالِ من يَعْلَمُ فقال في حديث صَاحِبِ الشَّجَّةِ أَلَا سَأَلُوا إذَا لم يَعْلَمُوا إنَّمَا شِفَاءُ الْعِيِّ السُّؤَالُ وقال أبو الْعَسِيفِ الذي زَنَى بِامْرَأَةِ مُسْتَأْجِرِهِ وإني سَأَلْت أَهْلَ الْعِلْمِ فَأَخْبَرُونِي أَنَّمَا علي ابني جَلْدُ مِائَةٍ وَتَغْرِيبُ عَامٍ وَأَنَّ على امْرَأَةِ هذا الرَّجْمَ فلم يُنْكَرْ عليه تَقْلِيدُ من هو أَعْلَمُ منه.
وَهَذَا عَالِمُ الْأَرْضِ عُمَرُ قد قَلَّدَ أَبَا بَكْرٍ فَرَوَى شُعْبَةُ عن عَاصِمٍ الْأَحْوَلِ عن الشَّعْبِيِّ أَنَّ أَبَا بَكْرٍ قال في الْكَلَالَةِ أَقْضِي فيها فَإِنْ يَكُنْ صَوَابًا فَمِنْ اللَّهِ وَإِنْ يَكُنْ خَطَأً فَمِنِّي وَمِنْ الشَّيْطَانِ وَاَللَّهُ منه بَرِيءٌ هو ما دُونَ الْوَلَدِ وَالْوَالِدِ فقال عُمَرُ بن الْخَطَّابِ إنِّي لأستحي من اللَّهِ أَنْ أُخَالِفَ أَبَا بَكْرٍ، وَصَحَّ عنه أَنَّهُ قال له رَأْيُنَا لِرَأْيِك تَبَعٌ وَصَحَّ عن ابن مَسْعُودٍ أَنَّهُ كان يَأْخُذُ بِقَوْلِ عُمَرَ .
وقال الشَّعْبِيُّ عن مَسْرُوقٍ كان سِتَّةٌ من أَصْحَابِ النبي صلى اللَّهُ عليه وسلم يُفْتُونَ الناس ابن مَسْعُودٍ وَعُمَرُ بن الْخَطَّابِ وَعَلِيٌّ وَزَيْدُ بن ثَابِتٍ وَأُبَيُّ بن كَعْبٍ وأبو مُوسَى وكان ثَلَاثَةٌ منهم يَدَعُونَ قَوْلَهُمْ لِقَوْلِ ثَلَاثَةٍ كان عبد اللَّهِ يَدَعُ قَوْلَهُ لِقَوْلِ عُمَرَ وكان أبو مُوسَى يَدَعُ قَوْلَهُ لِقَوْلِ عَلِيٍّ وكان زَيْدٌ يَدَعُ قَوْلَهُ لِقَوْلِ أُبَيِّ بن كَعْبٍ وقال جُنْدُبٌ ما كُنْت أَدَعُ قَوْلَ ابن مَسْعُودٍ لِقَوْلِ أَحَدٍ من الناس وقد قال النبي صلى اللَّهُ عليه وسلم إنَّ مُعَاذًا قد سَنَّ لَكُمْ سُنَّةً فَكَذَلِكَ فَافْعَلُوا في شَأْنِ الصَّلَاةِ حَيْثُ أَخَّرَ فَصَلَّى ما فَاتَهُ من الصَّلَاةِ مع الْإِمَامِ بَعْدَ الْفَرَاغِ وَكَانُوا يُصَلُّونَ ما فَاتَهُمْ أَوَّلًا ثُمَّ يَدْخُلُونَ مع الْإِمَامِ.
قال الْمُقَلَّدُ وقد أَمَرَ اللَّهُ تَعَالَى بِطَاعَتِهِ وَطَاعَةِ رَسُولِهِ وَأُولِي الْأَمْرِ وَهُمْ الْعُلَمَاءُ أو الْعُلَمَاءُ وَالْأُمَرَاءُ وَطَاعَتُهُمْ تَقْلِيدُهُمْ فِيمَا يُفْتُونَ بِهِ فإنه لَوْلَا التَّقْلِيدُ لم يَكُنْ هُنَاكَ طَاعَةٌ تَخْتَصُّ بِهِمْ.
وقال تَعَالَى ( وَالسَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ من الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ وَاَلَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ رضي اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عنه ) وَتَقْلِيدُهُمْ اتِّبَاعٌ لهم فَفَاعِلُهُ مِمَّنْ رضي اللَّهُ عَنْهُمْ وَيَكْفِي في ذلك الْحَدِيثُ الْمَشْهُورُ "أَصْحَابِي كَالنُّجُومِ فَبِأَيِّهِمْ اقْتَدَيْتُمْ اهْتَدَيْتُمْ"(1) .
وقال عبد اللَّهِ بن مَسْعُودٍ : من كان مِنْكُمْ مُسْتَنًّا فَلْيَسْتَنَّ بِمَنْ قد مَاتَ فإن الْحَيَّ لَا تُؤْمَنُ عليه الْفِتْنَةُ أُولَئِكَ أَصْحَابُ مُحَمَّدٍ أَبَرُّ هذه الْأُمَّةِ قُلُوبًا وَأَعْمَقُهَا عِلْمًا وَأَقَلُّهَا تَكَلُّفًا قَوْمٌ اخْتَارَهُمْ اللَّهُ لِصُحْبَةِ نَبِيِّهِ وَإِقَامَةِ دِينِهِ فَاعْرِفُوا لهم حَقَّهُمْ وَتَمَسَّكُوا بِهَدْيِهِمْ فَإِنَّهُمْ كَانُوا على الْهُدَى الْمُسْتَقِيمِ .
وقد رُوِيَ عن النبي صلى اللَّهُ عليه وسلم أَنَّهُ قال عَلَيْكُمْ بِسُنَّتِي وَسُنَّةِ الْخُلَفَاءِ الرَّاشِدِينَ الْمَهْدِيِّينَ من بَعْدِي وقال اقْتَدُوا بِاَللَّذَيْنِ من بَعْدِي أبي بَكْرٍ وَعُمَرَ وَاهْتَدَوْا بِهَدْيِ عَمَّارٍ وَتَمَسَّكُوا بِعَهْدِ ابن أُمِّ عَبْدٍ.
وقد كَتَبَ عُمَرُ إلَى شُرَيْحٍ أَنْ اقْضِ بِمَا في كِتَابِ اللَّهِ فَإِنْ لم يَكُنْ في كِتَابِ اللَّهِ فَبِسُنَّةِ رسول اللَّهِ صلى اللَّهُ عليه وسلم فَإِنْ لم يَكُنْ في سُنَّةِ رسول اللَّهِ صلى اللَّهُ عليه وسلم فَاقْضِ بِمَا قَضَى بِهِ الصَّالِحُونَ.
وقد مَنَعَ عُمَرُ عن بَيْعِ أُمَّهَاتِ الْأَوْلَادِ وَتَبِعَهُ الصَّحَابَةُ وَأَلْزَمَ بِالطَّلَاقِ الثَّلَاثِ وَتَبِعُوهُ أَيْضًا وَاحْتَلَمَ مَرَّةً فقال له عَمْرُو بن الْعَاصِ خُذْ ثَوْبًا غير ثَوْبِك فقال لو فَعَلْتهَا صَارَتْ سُنَّةً.
وقال أُبَيّ بن كَعْبٍ وَغَيْرُهُ من الصَّحَابَةِ ما اسْتَبَانَ لَك فَاعْمَلْ بِهِ وما اشْتَبَهَ عَلَيْك فَكِلْهُ إلَى عَالِمِهِ.
وقد كان الصَّحَابَةُ يُفْتُونَ وَرَسُولُ اللَّهِ صلى اللَّهُ عليه وسلم حَيٌّ بين أَظْهُرِهِمْ وَهَذَا تَقْلِيدٌ لهم قَطْعًا إذْ قَوْلُهُمْ لَا يَكُونُ حُجَّةً في حَيَاةِ النبي صلى اللَّهُ عليه وسلم.
وقد قال تَعَالَى: ( فَلَوْلَا نَفَرَ من كل فِرْقَةٍ منهم طَائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا في الدِّينِ وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إذَا رَجَعُوا إلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ ) فَأَوْجَبَ عليهم قَبُولَ ما أَنْذَرُوهُمْ بِهِ إذَا رَجَعُوا إلَيْهِمْ وَهَذَا تَقْلِيدٌ منهم لِلْعُلَمَاءِ.
وَصَحَّ عن بن الزُّبَيْرِ أَنَّهُ سُئِلَ عن الْجَدِّ وَالْإِخْوَةِ فقال أَمَّا الذي قال رسول اللَّهِ صلى اللَّهُ عليه وسلم لو كُنْت مُتَّخِذًا من أَهْلِ الْأَرْضِ خليلا لاتخذته خَلِيلًا فإنه أَنْزَلَهُ أَبًا وَهَذَا ظَاهِرٌ في تَقْلِيدِهِ له.
وقد أَمَرَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ بِقَبُولِ شَهَادَةِ الشَّاهِدِ وَذَلِكَ تَقْلِيدٌ له وَجَاءَتْ الشَّرِيعَةُ بِقَبُولِ قَوْلِ الْقَائِفِ وَالْخَارِصِ وَالْقَاسِمِ وَالْمُقَوِّمِ لِلْمُتْلَفَاتِ وَغَيْرِهَا وَالْحَاكِمِينَ بِالْمِثْلِ في جَزَاءِ الصَّيْدِ وَذَلِكَ تَقْلِيدٌ مَحْضٌ.
وَأَجْمَعَتْ الْأُمَّةُ على قَبُولِ قَوْلِ الْمُتَرْجِمِ وَالرَّسُولِ وَالْمُعَرِّفِ وَالْمُعَدِّلِ وَإِنْ اخْتَلَفُوا في جَوَازِ الِاكْتِفَاءِ بِوَاحِدٍ وَذَلِكَ تَقْلِيدٌ مَحْضٌ لِهَؤُلَاءِ.
وَأَجْمَعُوا على جَوَازِ شِرَاءِ اللَّحْمَانِ وَالثِّيَابِ وَالْأَطْعِمَةِ وَغَيْرِهَا من غَيْرِ سُؤَالٍ عن أَسْبَابِ حِلِّهَا وَتَحْرِيمِهَا اكْتِفَاءً بِتَقْلِيدِ أَرْبَابِهَا وَلَوْ كُلِّفَ الناس كلهم الِاجْتِهَادَ وَأَنْ يَكُونُوا عُلَمَاءَ فُضَلَاءَ لَضَاعَتْ مَصَالِحُ الْعِبَادِ وَتَعَطَّلَتْ الصَّنَائِعُ وَالْمَتَاجِرُ وكان الناس كلهم عُلَمَاءَ مُجْتَهِدِينَ وَهَذَا مِمَّا لَا سَبِيلَ إلَيْهِ شَرْعًا وَالْقَدَرُ قد مَنَعَ من وُقُوعِهِ.
وقد أَجْمَعَ الناس على تَقْلِيدِ الزَّوْجِ لِلنِّسَاءِ اللَّاتِي يُهْدِينَ إلَيْهِ زَوْجَتَهُ وَجَوَازِ وَطْئِهَا تَقْلِيدًا لَهُنَّ في كَوْنِهَا هِيَ زَوْجَتَهُ.
وَأَجْمَعُوا على أَنَّ الْأَعْمَى يُقَلِّدُ في الْقِبْلَةِ وَعَلَى تَقْلِيدِ الْأَئِمَّةِ في الطَّهَارَةِ وَقِرَاءَةِ الْفَاتِحَةِ وما يَصِحُّ بِهِ الِاقْتِدَاءُ وَعَلَى تَقْلِيدِ الزَّوْجَةِ مُسْلِمَةً كانت أو ذِمِّيَّةً أَنَّ حَيْضَهَا قد انْقَطَعَ فَيُبَاحُ لِلزَّوْجِ وَطْؤُهَا بِالتَّقْلِيدِ وَيُبَاحُ للولي تَزْوِيجُهَا بِالتَّقْلِيدِ لها في انْقِضَاءِ عِدَّتِهَا وَعَلَى جَوَازِ تَقْلِيدِ الناس لِلْمُؤَذِّنِينَ في دُخُولِ أَوْقَاتِ الصَّلَوَاتِ وَلَا يَجِبُ عليهم الِاجْتِهَادُ وَمَعْرِفَةُ ذلك بِالدَّلِيلِ.
وقد قالت الْأَمَةُ السَّوْدَاءُ لِعُقْبَةَ بن الْحَارِثِ أَرْضَعْتُك وَأَرْضَعْت امْرَأَتَك فَأَمَرَهُ النبي صلى اللَّهُ عليه وسلم بِفِرَاقِهَا وَتَقْلِيدِهَا فِيمَا أَخْبَرَتْهُ بِهِ من ذلك.
وقد صَرَّحَ(1) الْأَئِمَّةُ بِجَوَازِ التَّقْلِيدِ فقال حَفْصُ بن غِيَاثٍ سَمِعْت سُفْيَانَ يقول إذَا رَأَيْت الرَّجُلَ يَعْمَلُ الْعَمَلَ الذي قد اُخْتُلِفَ فيه وَأَنْتَ تَرَى تَحْرِيمَهُ فَلَا تَنْهَهُ.
وقال محمد بن الْحَسَنِ يَجُوزُ لِلْعَالِمِ تَقْلِيدُ من هو أَعْلَمُ منه وَلَا يَجُوزُ له تَقْلِيدُ من هو مِثْلُهُ
وقد صَرَّحَ الشَّافِعِيُّ بِالتَّقْلِيدِ فقال في الضَّبُعِ بَعِيرٌ قُلْته تَقْلِيدًا لِعُمَرَ وقال في مَسْأَلَةِ بَيْعِ الْحَيَوَانِ بِالْبَرَاءَةِ من الْعُيُوبِ قُلْته تَقْلِيدًا لِعُثْمَانَ وقال في مَسْأَلَةِ الْجَدِّ مع الْإِخْوَةِ إنَّهُ يُقَاسِمُهُمْ ثُمَّ قال وَإِنَّمَا قُلْت بِقَوْلِ زَيْدٍ وَعَنْهُ قَبِلْنَا أَكْثَرَ الْفَرَائِضِ وقد قال في مَوْضِعٍ آخَرَ من كِتَابِهِ الْجَدِيدِ قُلْته تَقْلِيدًا لِعَطَاءٍ.
وَهَذَا أبو حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ قال في مَسَائِلِ الْآبَارِ ليس معه فيها إلَّا تَقْلِيدُ من تَقَدَّمَهُ من التَّابِعِينَ فيها وَهَذَا مَالِكٌ لَا يَخْرُجُ عن عَمَلِ أَهْلِ الْمَدِينَةِ وَيُصَرِّحُ في مُوَطَّئِهِ بِأَنَّهُ أَدْرَكَ الْعَمَلَ على هذا وهو الذي عليه أَهْلُ الْعِلْمِ بِبَلَدِنَا وَيَقُولُ في غَيْرِ مَوْضِعٍ ما رَأَيْت أَحَدًا أقتدي بِهِ يَفْعَلُهُ وَلَوْ جَمَعْنَا ذلك من كَلَامِهِ لَطَالَ.
وقد قال الشَّافِعِيُّ في الصَّحَابَةِ رَأْيُهُمْ لنا خَيْرٌ من رَأْيِنَا لِأَنْفُسِنَا وَنَحْنُ نَقُولُ وَنُصَدِّقُ أَنَّ رأى الشَّافِعِيِّ وَالْأَئِمَّةِ معه لنا خَيْرٌ من رَأْيِنَا لِأَنْفُسِنَا.
وقد جَعَلَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ في فِطَرِ الْعِبَادِ تَقْلِيدَ الْمُتَعَلِّمِينَ لِلْأُسْتَاذَيْنِ وَالْمُعَلِّمِينَ وَلَا تَقُومُ مَصَالِحُ الْخَلْقِ إلَّا بهذا وَذَلِكَ عَامٌّ في كل عِلْمٍ وَصِنَاعَةٍ وقد فَاوَتَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ بين قُوَى الْأَذْهَانِ كما فَاوَتَ بين قُوَى الْأَبَدَانِ فَلَا يُحْسَنُ في حِكْمَتِهِ وَعَدْلِهِ وَرَحْمَتِهِ أَنْ يَفْرِضَ على جَمِيعِ خَلْقِهِ مَعْرِفَةَ الْحَقِّ بِدَلِيلِهِ وَالْجَوَابَ عن مُعَارِضِهِ في جَمِيعِ مَسَائِلِ الدِّينِ دَقِيقِهَا وَجَلِيلِهَا وَلَوْ كان كَذَلِكَ لَتَسَاوَتْ أَقْدَامُ الْخَلَائِقِ في كَوْنِهِمْ عُلَمَاءَ بَلْ جَعَلَ سُبْحَانَهُ هذا عَالِمًا وَهَذَا مُتَعَلِّمًا وَهَذَا مُتَّبِعًا لِلْعَالِمِ مُؤْتَمًّا بِهِ بِمَنْزِلَةِ الْمَأْمُومِ مع الْإِمَامِ وَالتَّابِعِ مع الْمَتْبُوعِ وَأَيْنَ حَرَّمَ اللَّهُ تَعَالَى على الْجَاهِلِ أَنْ يَكُونَ مُتَّبِعًا لِلْعَالِمِ مُؤْتَمًّا بِهِ مُقَلِّدًا له يَسِيرُ بِسَيْرِهِ وَيَنْزِلُ بِنُزُولِهِ وقد عَلِمَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ أَنَّ الْحَوَادِثَ وَالنَّوَازِلَ كُلَّ وَقْتٍ نَازِلَةٌ بِالْخَلْقِ فَهَلْ فَرَضَ على كُلٍّ منهم فَرْضَ عَيْنٍ أَنْ يَأْخُذَ حُكْمَ نَازِلَتِهِ من الْأَدِلَّةِ الشَّرْعِيَّةِ بِشُرُوطِهَا وَلَوَازِمِهَا وَهَلْ ذلك في إمْكَانِ أَحَدٍ فَضْلًا عن كَوْنِهِ مَشْرُوعًا وَهَؤُلَاءِ أَصْحَابُ رسول اللَّهِ صلى اللَّهُ عليه وسلم فَتَحُوا الْبِلَادَ وكان الْحَدِيثُ الْعَهْدِ بِالْإِسْلَامِ يَسْأَلُهُمْ فَيُفْتُونَهُ وَلَا يَقُولُونَ له عَلَيْك أَنْ تَطْلُبَ مَعْرِفَةَ الْحَقِّ في هذه الْفَتْوَى بِالدَّلِيلِ وَلَا يُعْرَفُ ذلك عن أَحَدٍ منهم البتة وَهَلْ التَّقْلِيدُ إلا من لَوَازِمِ التَّكْلِيفِ وَلَوَازِمِ الْوُجُودِ فَهُوَ من لَوَازِمِ الشَّرْعِ وَالْقَدَرِ وَالْمُنْكِرُونَ له مُضْطَرُّونَ إلَيْهِ وَلَا بُدَّ وَذَلِكَ فِيمَا تَقَدَّمَ بَيَانُهُ من الْأَحْكَامِ وَغَيْرِهَا.
وَنَقُولُ لِمَنْ احْتَجَّ على إبْطَالِهِ كُلُّ حُجَّةٍ أَثَرِيَّةٍ ذَكَرْتهَا فَأَنْتَ مُقَلِّدٌ لحملتها وَرُوَاتِهَا إذْ لم يَقُمْ دَلِيلٌ قَطْعِيٌّ على صِدْقِهِمْ فَلَيْسَ بِيَدِك إلَّا تَقْلِيدَ الرَّاوِي وَلَيْسَ بِيَدِ الْحَاكِمِ إلَّا تَقْلِيدُ الشَّاهِدِ وَكَذَلِكَ ليس بِيَدِ الْعَامِّيِّ إلَّا تَقْلِيدُ الْعَالِمِ فما الذي سَوَّغَ لَك تَقْلِيدَ الرَّاوِي وَالشَّاهِدِ وَمَنْعَنَا من تَقْلِيدِ الْعَالِمِ وَهَذَا سمع بِأُذُنِهِ ما رَوَاهُ وَهَذَا عَقَلَ بِقَلْبِهِ ما سَمِعَهُ فَأَدَّى هذا مَسْمُوعَهُ وَأَدَّى هذا مَعْقُولَهُ وَفُرِضَ على هذا تَأْدِيَةُ ما سَمِعَهُ وَعَلَى هذا تَأْدِيَةُ ما عَقَلَهُ وَعَلَى من لم يَبْلُغْ مَنْزِلَتَهُمَا القبول مِنْهُمَا .
ثُمَّ يُقَالُ لِلْمَانِعِينَ من التَّقْلِيدِ أَنْتُمْ مَنَعْتُمُوهُ خَشْيَةَ وُقُوعِ الْمُقَلَّدِ في الْخَطَأِ بِأَنْ يَكُونَ من قَلَّدَهُ مُخْطِئًا في فَتْوَاهُ ثُمَّ أَوْجَبْتُمْ عليه النَّظَرَ وَالِاسْتِدْلَالَ في طَلَبِ الْحَقِّ وَلَا رَيْبَ أَنَّ صَوَابَهُ في تَقْلِيدِهِ لِلْعَالِمِ أَقْرَبُ من صَوَابِهِ في اجْتِهَادِهِ هو لِنَفْسِهِ وَهَذَا كَمَنْ أَرَادَ شِرَاءَ سِلْعَةً لَا خِبْرَةَ له بها فإنه إذَا قَلَّدَ عَالِمًا بِتِلْكَ السِّلْعَةِ خَبِيرًا بها أَمِينًا نَاصِحًا كان صَوَابُهُ وَحُصُولُ غَرَضِهِ أَقْرَبُ من اجْتِهَادِهِ لِنَفْسِهِ وَهَذَا مُتَّفَقٌ عليه بين الْعُقَلَاءِ " اهـ.
هذا ما حكاه الإمام ابن القيم من شبه المقلدين.
ثم كرَّ ابن القيم -رحمه الله- على هذه الشبه ينقدها ويبطلها شبهة شبهة في أجوبته القوية السديدة التي بلغت واحداً وثمانين وجهاً حيث قال في بداية ردِّه : " قال أَصْحَابُ الْحُجَّةِ عَجَبًا لَكُمْ مُعَاشِرَ الْمُقَلَّدِينَ الشَّاهِدِينَ على أَنْفُسِهِمْ مع شَهَادَةِ أَهْلِ الْعِلْمِ بِأَنَّهُمْ لَيْسُوا من أَهْلِهِ وَلَا مَعْدُودِينَ في زُمْرَةِ أَهْلِهِ كَيْفَ أَبْطَلْتُمْ مَذْهَبَكُمْ بِنَفْسِ دَلِيلِكُمْ فما لِلْمُقَلِّدِ وما لِلِاسْتِدْلَالِ وَأَيْنَ مَنْصِبُ الْمُقَلِّدِ من مَنْصِبِ الْمُسْتَدِلِّ وَهَلْ ما ذَكَرْتُمْ من الْأَدِلَّةِ إلَّا ثِيَابًا اسْتَعَرْتُمُوهَا من صَاحِبِ الْحُجَّةِ فَتَجَمَّلْتُمْ بها بين الناس وَكُنْتُمْ في ذلك مُتَشَبِّعِينَ بِمَا لم تُعْطُوهُ نَاطِقِينَ من الْعِلْمِ بِمَا شَهِدْتُمْ على أَنْفُسِكُمْ أَنَّكُمْ لم تُؤْتَوْهُ وَذَلِكَ ثَوْبُ زُورٍ لَبِسْتُمُوهُ وَمَنْصِبٌ لَسْتُمْ من أَهْلِهِ غَصَبْتُمُوهُ فاخبرونا هل صِرْتُمْ إلَى التَّقْلِيدِ لِدَلِيلٍ قَادَكُمْ إلَيْهِ وَبُرْهَانٍ دَلَّكُمْ عليه فَنَزَلْتُمْ بِهِ من الِاسْتِدْلَالِ أَقْرَبَ مَنْزِلٍ وَكُنْتُمْ بِهِ عن التَّقْلِيدِ بِمَعْزِلٍ أَمْ سَلَكْتُمْ سَبِيلَهُ اتِّفَاقًا وَتَخْمِينًا من غَيْرِ دَلِيلٍ وَلَيْسَ إلَى خُرُوجِكُمْ عن أَحَدِ هَذَيْنِ الْقِسْمَيْنِ سَبِيلٌ وَأَيُّهُمَا كان فَهُوَ بِفَسَادِ مَذْهَبِ التَّقْلِيدِ حَاكِمٌ وَالرُّجُوعُ إلَى مَذْهَبِ الْحُجَّةِ منه لَازِمٌ وَنَحْنُ إنْ خَاطَبْنَاكُمْ بِلِسَانِ الْحُجَّةِ قلتم لَسْنَا من أَهْلِ هذه السَّبِيلِ وَإِنْ خَاطَبْنَاكُمْ بِحُكْمِ التَّقْلِيدِ فَلَا مَعْنَى لِمَا أَقَمْتُمُوهُ من الدَّلِيلِ " اهـ.
ثم واصل رده عليهم حتى بلغ الوجوه التي أسلفنا ذكرها . بدأت هذه الوجوه من (ص186) وانتهت بصحيفة (260).
فماذا صنع فالح بهذه الأجوبة السديدة والذخيرة العظيمة لأهل السنة والاتباع ؟
1- لم يشر إلى هذا الجهد العظيم ([8]) -ولم ينقل منه إلا القليل نقلاً مُشوَهاً يتخلله الخيانات والتلبيس (!)- لأن هذا الجهد العظيم يهدم دعوة فالح الباطلة إلى التقليد المذموم وينصر الحق وأهله ومنهم ربيع الذي يحاربه فالح ظلماً وبغياً وبالأكاذيب والخيانات .
2- لم ينقل كل شبه المقلدين التي ذكرها ابن القيم لا اختصاراً منه، ولكن لأن شبه المقلدين أقواها قائم على الآية الكريمة : ( فاسألوا أهل الذكر إن كنتم لا تعلمون ).
وقد جعلها ابن القيم في طليعة أدلتهم، فهرب منها فالح لئلا يقال : إنَّ حجة فالح إنما هي حجة المقلدين المبطلين !
3- فرَّ فالح عن أجوبة ابن القيم التي افتتح بها الرد على المقلدين إلى الوجه التاسع والخمسين من أجوبة ابن القيم، ولم يشر إلى أنه الوجه التاسع والخمسون؛ لأن ذلك يكشف حاله وسوء تصرفه !
4- لقد ردَّ ابن القيم على هذه الشبه في الوجه الخامس والستين فما بعده من الوجوه ردّاً قوياًّ ،وذلك ممَّا يؤكد أن فالحاً قد مكر مكراً كباراً في نسبته هذه الشبه للإمام ابن القيم الذي يحارب التقليد الباطل أشدَّ الحرب ويردُّ على أهله بأقوى الردود في كتابه هذا وغيره فكيف يقول : " وقد صرَّح الأئمة بجواز التقليد ... " ؟! ويسوق ابن القيم شبه المقلدين كأنَّه من كبارهم ؟! حاشاه ثم حاشاه من ذلك .
- قال -رحمه الله- في ردُّه على هذه الشبه (2/239-241) من "الإعلام" :
" الْوَجْهُ الْخَامِسُ وَالسِّتُّونَ : قَوْلُكُمْ : "قد صَرَّحَ الْأَئِمَّةُ بِجَوَازِ التَّقْلِيدِ كما قال سُفْيَانُ إذَا رَأَيْت الرَّجُلَ يَعْمَلُ الْعَمَلَ وَأَنْتَ تَرَى غَيْرَهُ فَلَا تَنْهَهُ وقال محمد بن الْحَسَنِ يَجُوزُ لِلْعَالِمِ تَقْلِيدُ من هو أَعْلَمُ منه وَلَا يَجُوزُ له تَقْلِيدُ مِثْلِهِ وقال الشَّافِعِيُّ في غَيْرِ مَوْضِعٍ قُلْته تَقْلِيدًا لِعُمَرَ وَقُلْته تَقْلِيدًا لِعُثْمَانَ وَقُلْته تَقْلِيدًا لِعَطَاءٍ.
جَوَابُهُ من وُجُوهٍ :
أَحَدُهَا : أَنَّكُمْ إنْ ادَّعَيْتُمْ أَنَّ جَمِيعَ الْعُلَمَاءِ صَرَّحُوا بِجَوَازِ التَّقْلِيدِ فَدَعْوَى بَاطِلَةٌ فَقَدْ ذَكَرْنَا من كَلَامِ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ وَأَئِمَّةِ الْإِسْلَامِ في ذَمِّ التَّقْلِيدِ وَأَهْلِهِ وَالنَّهْيِ عنه ما فيه كِفَايَةٌ وَكَانُوا يُسَمُّونَ الْمُقَلِّدَ الْإِمَّعَةَ وَمُحْقِبُُ دِينَهُ كما قال ابن مَسْعُودٍ الْإِمَّعَةُ الذي يُحْقِبُ دِينَهُ الرِّجَالَ وَكَانُوا يُسَمُّونَهُ الْأَعْمَى الذي لَا بَصِيرَةَ له وَيُسَمُّونَ الْمُقَلِّدِينَ أَتْبَاعَ كل نَاعِقٍ يَمِيلُونَ مع كل صَائِحٍ لم يَسْتَضِيئُوا بِنُورِ الْعِلْمِ ولم يَرْكَنُوا إلَى رُكْنٍ وَثِيقٍ كما قال فِيهِمْ أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ عَلِيُّ بن أبي طَالِبٍ رضي الله عنه ([9]) وَكَمَا سَمَّاهُ الشَّافِعِيُّ حَاطِبُ لَيْلٍ وَنَهَى عن تَقْلِيدِهِ وَتَقْلِيدِ غَيْرِهِ فَجَزَاهُ اللَّهُ عن الْإِسْلَامِ خَيْرًا لقد نَصَحَ لِلَّهِ ولرسوله وَالْمُسْلِمِينَ وَدَعَا إلَى كِتَابِ اللَّهِ وَسُنَّةِ رَسُولِهِ وَأَمَرَ بِاتِّبَاعِهِمَا دُونَ قَوْلِهِ وَأَمَرَنَا بِأَنْ نَعْرِضَ أَقْوَالَهُ عَلَيْهِمَا فَنَقْبَلُ منها ما وَافَقَهُمَا وَنَرُدُّ ما خَالَفَهُمَا فَنَحْنُ نُنَاشِدُ الْمُقَلِّدِينَ هل حَفِظُوا في ذلك وَصِيَّتَهُ وَأَطَاعُوهُ أَمْ عَصَوْهُ وَخَالَفُوهُ وَإِنْ ادَّعَيْتُمْ أَنَّ من الْعُلَمَاءِ من جَوَّزَ التَّقْلِيدَ فَكَانَ ما رَأَى ([10]).
الثَّانِي : أَنَّ هَؤُلَاءِ الَّذِينَ حَكَيْتُمْ عَنْهُمْ أَنَّهُمْ جَوَّزُوا التَّقْلِيدَ لِمَنْ هو أَعْلَمُ منهم هُمْ من أَعْظَمِ الناس رَغْبَةً عن التَّقْلِيدِ وَاتِّبَاعًا لِلْحُجَّةِ وَمُخَالَفَةً لِمَنْ هو أَعْلَمُ منهم فَأَنْتُمْ مُقِرُّونَ أَنَّ أَبَا حَنِيفَةَ أَعْلَمُ من مُحَمَّدِ بن الْحَسَنِ وَمِنْ أبي يُوسُفَ وَخِلَافُهُمَا له مَعْرُوفٌ وقد صَحَّ عن أبي يُوسُفَ أَنَّهُ قال لَا يَحِلُّ لِأَحَدٍ أَنْ يَقُولَ مَقَالَتَنَا حتى يَعْلَمَ من أَيْنَ قُلْنَا.
الثَّالِثُ : أَنَّكُمْ مُنْكِرُونَ أَنْ يَكُونَ من قَلَّدْتُمُوهُ من الْأَئِمَّةِ مُقَلِّدًا لِغَيْرِهِ أَشَدَّ الْإِنْكَارِ وَقُمْتُمْ وَقَعَدْتُمْ في قَوْلِ الشَّافِعِيِّ : " قلته تَقْلِيدًا لِعُمَرَ " وَقُلْته " تَقْلِيدًا لِعُثْمَانَ " وَقُلْته تَقْلِيدًا لِعَطَاءٍ " وَاضْطَرَبْتُمْ في حَمْلِ كَلَامِهِ على مُوَافَقَةِ الِاجْتِهَادِ أَشَدَّ الِاضْطِرَابِ وَادَّعَيْتُمْ أَنَّهُ لم يُقَلِّدْ زَيْدًا في الْفَرَائِضِ وَإِنَّمَا اجتهد فَوَافَقَ اجْتِهَادُهُ اجْتِهَادَهُ وَوَقَعَ الْخَاطِرُ على الْخَاطِرِ حتى وَافَقَ اجْتِهَادُهُ في مَسَائِلِ الْمُعَادَّةِ حتى في الْأَكْدَرِيَّةِ وَجَاءَ الِاجْتِهَادُ حَذْوَ الْقُذَّةِ بِالْقُذَّةِ فَكَيْفَ نَصَبْتُمُوهُ مُقَلَّدًا ها هنا وَلَكِنَّ هذا التَّنَاقُضَ جاء من بَرَكَةِ التَّقْلِيدِ وَلَوْ اتبعتم الْعِلْمِ من حَيْثُ هو وَاقْتَدَيْتُمْ بِالدَّلِيلِ وَجَعَلْتُمْ الْحُجَّةَ إمَامًا لَمَا تَنَاقَضْتُمْ هذا التَّنَاقُضَ وَأَعْطَيْتُمْ كُلَّ ذِي حَقٍّ حَقَّهُ.
الرَّابِعُ : أَنَّ هذا من أَكْبَرِ الْحُجَجِ عَلَيْكُمْ فإن الشَّافِعِيَّ قد صَرَّحَ بِتَقْلِيدِ عُمَرَ وَعُثْمَانَ وَعَطَاءٍ مع كَوْنِهِ من أَئِمَّةِ الْمُجْتَهِدِينَ وَأَنْتُمْ مع إقْرَارِكُمْ بأنكم من الْمُقَلَّدِينَ لَا تَرَوْنَ تَقْلِيدَ وَاحِدٍ من هَؤُلَاءِ بَلْ إذَا قال الشَّافِعِيُّ وقال عُمَرُ وَعُثْمَانُ وابن مَسْعُودٍ فَضْلًا عن سَعِيدِ بن الْمُسَيِّبِ وَعَطَاءٍ وَالْحَسَنِ تَرَكْتُمْ تَقْلِيدَ هَؤُلَاءِ وَقَلَّدْتُمْ الشَّافِعِيَّ وَهَذَا عَيْنُ التَّنَاقُضِ فَخَالَفْتُمُوهُ من حَيْثُ زَعَمْتُمْ أَنَّكُمْ قَلَّدْتُمُوهُ فَإِنْ قَلَّدْتُمْ الشَّافِعِيَّ فَقَلِّدُوا من قَلَّدَهُ الشَّافِعِيُّ فَإِنْ قُلْتُمْ بَلْ قَلَّدْنَاهُمْ فِيمَا قَلَّدَهُمْ فيه الشَّافِعِيُّ قِيلَ لم يَكُنْ ذلك تَقْلِيدًا مِنْكُمْ لهم بَلْ تَقْلِيدًا له وَإِلَّا فَلَوْ جاء عَنْهُمْ خِلَافُ قَوْلِهِ لم تَلْتَفِتُوا إلَى أَحَدٍ منهم.
الْخَامِسُ : أَنَّ من ذَكَرْتُمْ من الْأَئِمَّةِ لم يُقَلِّدُوا تَقْلِيدَكُمْ وَلَا سَوَّغُوهُ بَتَّةً بَلْ غَايَةُ ما نُقِلَ عَنْهُمْ من التَّقْلِيدِ في مَسَائِلَ يَسِيرَةٍ لم يَظْفَرُوا فيها بِنَصٍّ عن اللَّهِ وَرَسُولِهِ ولم يَجِدُوا فيها سِوَى قَوْلِ من هو أَعْلَمُ منهم فَقَلَّدُوهُ وَهَذَا فِعْلُ أَهْلِ الْعِلْمِ وهو الْوَاجِبُ فإن التَّقْلِيدَ إنَّمَا يُبَاحُ لِلْمُضْطَرِّ وَأَمَّا من عَدَلَ عن الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَأَقْوَالِ الصَّحَابَةِ، وَعَنْ مَعْرِفَةِ الْحَقِّ بِالدَّلِيلِ مع تَمَكُّنِهِ منه إلَى التَّقْلِيدِ، فَهُوَ كَمَنْ عَدَلَ إلَى الْمَيْتَةِ مع قُدْرَتِهِ على الْمُذَكَّى فإن الْأَصْلَ أَنْ لَا يُقْبَلَ قَوْلُ الْغَيْرِ إلَّا بِدَلِيلٍ إلاَّ عِنْدَ الضَّرُورَةِ فَجَعَلْتُمْ أَنْتُمْ حَالَ الضَّرُورَةِ رَأْسَ أَمْوَالِكُمْ " اهـ.
· الثالث والعشرون : خيانتان ارتكبهما فالح مرَّة أخرى في نقله عن ابن القيم رحمه الله :
قال فالح في ص(20-21) من كتابه الذي نناقشه (التحقيق) :
" وقال - أيضاً - (في الإعلام 2/221) عن التقليد الذي لا يستغـنى عنـه : " ... فإن الله –سبحانه- أمر بسؤال أهل الذكر، والذكر هو القرآن والحديث الذي أمر الله نساء نبيه أن يذْكرنه بقوله: ]وَاذْكُرْنَ مَا يُتْلَى فِي بُيُوتِكُنَّ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ وَالْحِكْمَةِ[، فهذا هو الذكر الذي أمرنا الله باتباعه، وأمر من لا علم عنده أن يسأل أهله، وهذا هو الواجب على كل أحد أن يسأل أهل العلم بالذكر الذي أنـزله على رسوله ليخبروه به، فإذا أخبروه به لم يسعه غير اتباعه، وهذا كان شأن أئمة أهل العلم، لم يكن لهم مقلَّدٌ معين يتبعونه في كل ما قال ..." اهـ نقل فالح !
أقول : ماذا فعل فالح بهذا النَّص ؟!
- أولاً : حذف قول ابن القيم رحمه الله في صدر هذا النَّص الذي يوضِّح مقصده وهو الرد على المقلدين .
والمحذوف هو قوله : " يُوَضِّحُهُ الْوَجْهُ الرَّابِعُ وَالثَّلَاثُونَ أَنَّ ما ذَكَرْتُمْ بِعَيْنِهِ حُجَّةٌ عَلَيْكُمْ "
يشير رحمه الله إلى احتجاجهم بقوله تعالى : ( فاسألوا أهل الذكر إن كنتم لا تعلمون )
فهذا الوجه إنَّما ساقه الإمام ابن القيم لإبطال احتجاج المقلدين التقليد المحرم بهذه الآية . فحرَّف فالح مقصود ابن القيِّم إلى " التقليد الذي لا يستغـنى عنـه " !
فابن القيم في وادٍ وما نسبه إليه فالح في وادٍ آخر !
ارتكب ذلك فالح عمداً للانتصار لنفسه بالباطل وللانتصار للمقلدين بالهوى . وسياق كلام ابن القيم يدين فالحاً الذي حاول أن يلبِّس على الناس ويقلب لهم الحقائق .
1- فانظر إلى قول هذا الإمام : " أَنَّ ما ذَكَرْتُمْ بِعَيْنِهِ حُجَّةٌ عَلَيْكُمْ "، يريد أن يبطل بذلك استدلالهم بالآية المذكورة التي يشغب بها فالح بناءً على هواه وفهمه الباطل لها على طريقة غلاة التقليد .
2- تفسير هذا الإمام الذِّكر الذي أمر الله بالسؤال عنه بأنَّه الكتاب والسنَّة .
3- قوله : " فَهَذَا هو الذِّكْرُ الذي أَمَرَنَا اللَّهُ بِاتِّبَاعِهِ وَأَمَرَ من لَا عِلْمَ عِنْدَهُ أَنْ يَسْأَلَ أَهْلَهُ وَهَذَا هو الْوَاجِبُ على كل أَحَدٍ أَنْ يَسْأَلَ أَهْلَ الْعِلْمِ بِالذِّكْرِ الذي أَنْزَلَهُ على رَسُولِهِ لِيُخْبِرُوهُ بِهِ فإذا أَخْبَرُوهُ بِهِ لم يَسَعْهُ غَيْرُ اتِّبَاعِهِ(1) " .
4- قوله : " وَهَذَا كان شَأْنُ أَئِمَّةِ أَهْلِ الْعِلْمِ لم يَكُنْ لهم مُقَلَّدٌ مُعَيَّنٌ يَتْبَعُونَهُ في كل ما قال ".
أقول: وهذا ردٌّ على مقلدي المذاهب حيث تجد كل فرقة تتعصَّب لواحدٍ معيَّن .
-ثانياً : حذف من آخر هذا الكلام أمراً مهماً جداً يوضِّح مقصود ابن القيم الذي حرَّفه فالح أَلاَ وهو قوله : " فَكَانَ عبد اللَّهِ بن عَبَّاسٍ يَسْأَلُ الصَّحَابَةَ عَمَّا قَالَهُ رسول اللَّهِ صلى اللَّهُ عليه وسلم أو فَعَلَهُ أو سَنَّهُ لَا يَسْأَلُهُمْ عن غَيْرِ ذلك وَكَذَلِكَ الصَّحَابَةُ كَانُوا يَسْأَلُونَ أُمَّهَاتِ الْمُؤْمِنِينَ خُصُوصًا عَائِشَةَ عن فِعْلِ رسول اللَّهِ صلى اللَّهُ عليه وسلم في بَيْتِهِ وَكَذَلِكَ التَّابِعُونَ كَانُوا يَسْأَلُونَ الصَّحَابَةَ عن شَأْنِ نَبِيِّهِمْ فَقَطْ وَكَذَلِكَ أَئِمَّةُ الْفِقْهِ كما قال الشَّافِعِيُّ لِأَحْمَدَ يا أَبَا عبد اللَّهِ أنت أَعْلَمُ بِالْحَدِيثِ مِنِّي فإذا صَحَّ الْحَدِيثُ فَأَعْلِمْنِي حتى أَذْهَبَ إلَيْهِ شَامِيًّا كان أو كُوفِيًّا أو بَصْرِيًّا ولم يَكُنْ أَحَدٌ من أَهْلِ الْعِلْمِ قَطُّ يَسْأَلُ عن رَأْيِ رَجُلٍ بِعَيْنِهِ وَمَذْهَبِهِ فَيَأْخُذُ بِهِ وَحْدَهُ وَيُخَالِفُ له ما سِوَاهُ " اهـ.
قصد الإمام ابن القيم رحمه الله من الكلام في هذا المقطع تنزيه الصحابة رضوان الله عليهم والائمة رحمهم الله من التقليد ,ولا أستبعد أنَّ فالحاً أدرك هذا فتخلَّص منه بحذفه !.
فما قول العلماء والعقلاء والشرفاء في تصرفات هذا الرَّجل القائمة على التحريف والكتمان والخيانات ؟!
ثم ألا تدلُّ هذه الخيانات وهذا التصرف المزري بأهله على أن فالحاً لا يزال متشبثاً بالتقليد المحرم الذي عبّر عنه فالح بالتقليد الذي لا يستغنى عنه.
ومهما تكن عند امرىء من خليقة وإن خالها تخفى على الناس تعلم
إن من منهج فالح أنه لا يعترف بأخطائه الجسيمة، ويستحيل عنده الاعتراف بأخطائه وإعلان توبته ورجوعه عنها؛ لأن ذلك من أشد العيوب في المنهج الحدادي.
فماذا يفعل لإقناع الناس بأنه لم يخطىء وأنه في الثبات على منهج السلف كالجبل الأشم؛ بل هو فوق هذه المنـزلة، وأن من خطّأه ظالم وكاذب (!) ؛ بل هادم للدين في شخص فالح (!!) ، وأنه لا بد أن يبين ضلال هذا الذي تطاول على هذا الجبل (!) ولو بالخيانات والمخازي (!!) ،وإن لم يفعل فإنه قد خان الأمة وخان الإسلام، كل هذا حتم عليه أن يؤلف هذا الكتاب العظيم "التحقيق السديد".
لقد ملأ هذا الكتاب بالعجائب والغرائب ! ومنها الخيانات والكذب والبتر . ومع هذا فقد سمَّاه بالتحقيق السَّديد (!).
وليسمح القرّاء أن أسميه بـ" التلفيق البليد الذي هو عن أدنى أدنى أدنى درجات التحقيق بِمُنتأى بعيد ".
· بعض نصوص الإمام ابن القيم والشيخ سليمان بن عبد الله رحمهما الله تعالى في ذم التقليد المحرَّم :
1- قال الإمام ابن القيم رحمه الله في "إعلام الموقعين" (2/200) :
فَصْلٌ نهى الْأَئِمَّةُ عن تَقْلِيدِهِمْ(1)
وقد نهى الْأَئِمَّةُ الْأَرْبَعَةُ عن تَقْلِيدِهِمْ وَذَمُّوا من أَخَذَ أَقْوَالَهُمْ بِغَيْرِ حُجَّةٍ فقال الشَّافِعِيُّ مَثَلُ الذي يَطْلُبُ الْعِلْمَ بِلَا حُجَّةٍ كَمَثَلِ حَاطِبِ لَيْلٍ يَحْمِلُ حُزْمَةَ حَطَبٍ وَفِيهِ أَفْعَى تَلْدَغُهُ وهو لَا يَدْرِي ذَكَرَهُ الْبَيْهَقِيُّ.
وقال إسْمَاعِيلُ بن يحيى الْمُزَنِيّ في أَوَّلِ مُخْتَصَرِهِ اخْتَصَرَتْ هذا من عِلْمِ الشَّافِعِيِّ وَمِنْ مَعْنَى قَوْلِهِ لِأُقَرِّبَهُ على من أَرَادَهُ مع إعلاميه نَهْيه عن تَقْلِيدِهِ وَتَقْلِيدِ غَيْرِهِ لِيَنْظُرَ فيه لِدِينِهِ وَيَحْتَاطُ فيه لِنَفْسِهِ.
وقال أبو دَاوُد قُلْت لِأَحْمَدَ الْأَوْزَاعِيُّ هو أَتْبَعُ من مَالِكٍ قال لَا تُقَلِّدْ دِينَك أَحَدًا من هَؤُلَاءِ ما جاء عن النبي صلى اللَّهُ عليه وسلم وَأَصْحَابِهِ فَخُذْ بِهِ ثُمَّ التَّابِعِيُّ بَعْدُ الرَّجُلِ فيه مُخَيَّرٌ.
وقد فَرَّقَ أَحْمَدُ بين التَّقْلِيدِ وَالِاتِّبَاعِ فقال أبو دَاوُد سَمِعَتْهُ يقول الِاتِّبَاعُ أَنْ يَتْبَعَ الرَّجُلُ ما جاء عن النبي صلى اللَّهُ عليه وسلم وَعَنْ أَصْحَابِهِ ثُمَّ هو من بَعْدُ في التَّابِعِينَ مُخَيَّرٌ وقال أَيْضًا لَا تُقَلِّدْنِي وَلَا تُقَلِّدْ مَالِكًا وَلَا الثَّوْرِيَّ وَلَا الْأَوْزَاعِيَّ وَخُذْ من حَيْثُ أَخَذُوا وقال من قِلَّةِ فِقْهِ الرَّجُلِ أَنْ يُقَلِّدَ دِينَهُ الرِّجَالَ(2).
وقال بِشْرُ بن الْوَلِيدِ قال أبو يُوسُفَ لَا يَحِلُّ لِأَحَدٍ ان يَقُولَ مَقَالَتَنَا حتى يَعْلَمَ من أَيْنَ قُلْنَا
وقد صَرَّحَ مَالِكٌ بِأَنَّ من تَرَكَ قَوْلَ عُمَرَ بن الْخَطَّابِ لِقَوْلِ إبْرَاهِيمَ النَّخَعِيِّ أَنَّهُ يُسْتَتَابُ فَكَيْفَ بِمَنْ تَرَكَ قَوْلَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِقَوْلِ من هو دُونَ إبْرَاهِيمَ أو مِثْلِهِ.
وقال جَعْفَرٌ الْفِرْيَابِيُّ حدثني أَحْمَدُ بن إبْرَاهِيمَ الدَّوْرَقِيُّ حدثني الْهَيْثَمُ بن جَمِيلٍ قال قُلْت لِمَالِكِ بن أَنَسٍ يا أَبَا عبد اللَّهِ إنَّ عِنْدَنَا قَوْمًا وَضَعُوا كُتُبًا يقول أَحَدُهُمْ ثنا فُلَانٌ عن فُلَانٍ عن عُمَرَ بن الْخَطَّابِ بِكَذَا وَكَذَا وَفُلَانٌ عن إبْرَاهِيمَ بِكَذَا وَيَأْخُذُ بِقَوْلِ إبْرَاهِيمَ قال مَالِكٌ وَصَحَّ عِنْدَهُمْ قَوْلُ عُمَرَ قُلْت إنَّمَا هِيَ رِوَايَةٌ كما صَحَّ عِنْدَهُمْ قَوْلُ إبْرَاهِيمَ فقال مَالِكٌ هَؤُلَاءِ يُسْتَتَابُونَ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ " اهـ.
2- وقال رحمه الله في "إعلام الموقعين" (4/207) : "
دَلَالَةُ الْعَالِمِ لِلْمُسْتَفْتِي على غَيْرِهِ
الْفَائِدَةُ الْخَامِسَةُ وَالْعِشْرُونَ : في دَلَالَةِ الْعَالِمِ للمستفتى على غَيْرِهِ وهو مَوْضِعُ خَطَرٍ جِدًّا فَلْيَنْظُرْ الرَّجُلُ ما يَحْدُثُ من ذلك فإنه مُتَسَبِّبٌ بِدَلَالَتِهِ إمَّا إلَى الْكَذِبِ على اللَّهِ وَرَسُولِهِ في أَحْكَامِهِ أو القول عليه بِلَا عِلْمٍ فَهُوَ مُعِينٌ على الإثم وَالْعُدْوَانِ وَإِمَّا مُعِينٌ على الْبِرِّ وَالتَّقْوَى فَلْيَنْظُرْ الإنسان إلَى من يَدُلُّ عليه وَلْيَتَّقِ اللَّهَ رَبَّهُ فَكَانَ شَيْخُنَا قَدَّسَ اللَّهُ رُوحَهُ شَدِيدَ التَّجَنُّبِ لِذَلِكَ وَدَلَّلْتُ مَرَّةً بِحَضْرَتِهِ على مُفْتٍ أو مذهب فَانْتَهَرَنِي وقال مالك وَلَهُ دَعْهُ فَفَهِمْتُ من كَلَامِهِ إنك لَتَبُوءُ بِمَا عَسَاهُ يَحْصُلُ له من الْإِثْمِ وَلِمَنْ أَفْتَاهُ ثُمَّ رأيت هذه الْمَسْأَلَةَ بِعَيْنِهَا مَنْصُوصَةً عن الْإِمَامِ أَحْمَدَ قال أبو دَاوُد في مسائلة قلت لِأَحْمَدَ الرَّجُلُ يَسْأَلُ عن الْمَسْأَلَةِ فَأَدُلُّهُ على إنْسَانٍ يَسْأَلُهُ، فقال إذَا كان يَعْنِي الذي أَرْشَدْتَهُ إلَيْهِ مُتَّبِعًا وَيُفْتِي بِالسُّنَّةِ فَقِيلَ لِأَحْمَدَ إنَّهُ يُرِيدُ الإتباع وَلَيْسَ كُلُّ قَوْلِهِ يُصِيبُ فقال أَحْمَدُ وَمَنْ يُصِيبُ في كل شَيْءٍ قلت له فَرَأْيُ مَالِكٍ فقال لَا تَتَقَلَّدْ في مِثْلِ هذا بِشَيْءٍ.
قلت : وَأَحْمَدُ كان يَدُلُّ على أَهْلِ الْمَدِينَةِ وَيَدُلُّ على الشَّافِعِيِّ وَيَدُلُّ على إِسْحَاقَ وَلَا خِلَافَ عنه في اسْتِفْتَاءِ هَؤُلَاءِ وَلَا خِلَافَ عنه في أَنَّهُ لَا يَسْتَفْتِي أَهْلَ الرَّأْيِ الْمُخَالِفُونَ لِسُنَّةِ رسول اللَّهِ صلى اللَّهُ عليه وسلم وَبِاَللَّهِ التَّوْفِيقُ وَلَا سِيَّمَا كَثِيرٌ من الْمُنْتَسِبِينَ إلَى الْفَتْوَى في هذا الزَّمَانِ وَغَيْرِهِ.
وقد رَأَى رَجُلٌ رَبِيعَةَ بن أبي عبد الرحمن يَبْكِي فقال ما يُبْكِيكَ فقال استفتي من لَا عِلْمَ له وَظَهَرَ في الْإِسْلَامِ أَمْرٌ عَظِيمٌ قال وَلِبَعْضِ من يُفْتِي ها هنا أَحَقُّ بِالسِّجْنِ من السُّرَّاقِ.
قال بَعْضُ الْعُلَمَاءِ : فَكَيْفَ لو رَأَى رَبِيعَةُ زَمَانَنَا وَإِقْدَامُ من لَا عِلْمَ عِنْدَهُ على الْفُتْيَا وَتَوَثُّبَهُ عليها وَمَدَّ بَاعِ التَّكَلُّفِ إلَيْهَا وَتَسَلُّقَهُ بِالْجَهْلِ وَالْجُرْأَةَ عليها مع قِلَّةِ الْخِبْرَةِ وَسُوءِ السِّيرَةِ وَشُؤْمِ السَّرِيرَةِ وهو من بَيْنِ أَهْلِ الْعِلْمِ مُنْكَرٌ أو غريب فَلَيْسَ له في مَعْرِفَةِ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَآثَارِ السَّلَفِ نَصِيبٌ وَلَا يُبْدِي جَوَابًا بِإِحْسَانٍ وَإِنْ سَاعَدَ الْقَدْرُ فَتْوَاهُ كَذَلِكَ يقول فُلَانُ ابن فُلَانٍ .
يَمُدُّونَ لِلْإِفْتَاءِ بَاعًا قَصِيرَةً *** وَأَكْثَرُهُمْ عِنْدَ الفتاوى يُكَذْلِكُ (1)
وَكَثِيرٌ منهم نَصِيبُهُمْ مِثْلُ ما حَكَاهُ أبو مُحَمَّدِ بن حَزْمٍ قال كان عِنْدَنَا مُفْتٍ قَلِيلُ الْبِضَاعَةِ فَكَانَ لَا يُفْتِي حتى يَتَقَدَّمَهُ من يَكْتُبُ الْجَوَابَ فَيَكْتُبُ تَحْتَهُ جَوَابِي مِثْلُ جَوَابِ الشَّيْخِ فَقُدِّرَ أَنْ اخْتَلَفَ مُفْتِيَانِ في جَوَابٍ فَكَتَبَ تَحْتَهُمَا جَوَابِي مِثْلُ جَوَابِ الشَّيْخَيْنِ فَقِيلَ له إنَّهُمَا قد تَنَاقَضَا فقال وأنا أَيْضًا تَنَاقَضْتُ كما تَنَاقَضَا وقد أَقَامَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ لِكُلِّ عَالِمٍ وَرَئِيسٍ وَفَاضِلٍ من يُظْهِرُ مُمَاثَلَتَهُ وَيَرَى الْجُهَّالُ وَهُمْ الْأَكْثَرُونَ مُسَاجَلَتَهُ وَمُشَاكَلَتَهُ وانه يَجْرِي معه في الْمَيْدَانِ وَأَنَّهُمَا عِنْدَ الْمُسَابَقَةِ كَفَرَسَيْ رِهَانٍ وَلَا سِيَّمَا إذَا طَوَّلَ الْأَرْدَانَ وأرخي الذَّوَائِبَ الطَّوِيلَةَ وَرَاءَهُ كَذَنَبِ الْأَتَانِ وَهَدَرَ بِاللِّسَانِ وَخَلَا له الْمَيْدَانُ الطَّوِيلُ من الْفُرْسَانِ .
فَلَوْ لَبِسَ الْحِمَارُ ثِيَابَ خَزٍّ *** لَقَالَ الناس يا لك من حِمَارِ
وَهَذَا الضَّرْبُ إنَّمَا يَسْتَفْتُونَ بِالشَّكْلِ لَا بِالْفَضْلِ وَبِالْمَنَاصِبِ لَا بِالْأَهْلِيَّةِ قد غَرَّهُمْ عُكُوفُ من لَا عِلْمَ عِنْدَهُ عليهم وَمُسَارَعَةُ أَجْهَلُ منهم إلَيْهِمْ تَعِجُّ منهم الْحُقُوقُ إلَى اللَّهِ تَعَالَى عَجِيجًا وتضج منهم الْأَحْكَامُ إلَى من أَنْزَلَهَا ضَجِيجًا فَمَنْ أَقْدَمَ بِالْجُرْأَةِ على ما ليس له من فُتْيَا أو قضاء أو تدريس اسْتَحَقَّ اسْمَ الذَّمِّ ولم يَحِلَّ قَبُولَ فُتْيَاهُ وَلَا قَضَائِهِ هذا حُكْمُ دِينِ الْإِسْلَامِ (1).
وَإِنْ رَغِمَتْ أُنُوفٌ من أناس *** فَقُلْ يارب لَا تُرْغِمْ سِوَاهَا " اهـ.
3- قال العلامة سليمان بن عبد الله في تيسير العزيز الحميد (2/1085-1086): " وقال أبو طالب عن أحمد وقيل له إن قوماً يدعون الحديث ويذهبون إلى رأي سفيان فقال أعجب لقوم سمعوا الحديث وعرفوا الإسناد وصحته يدعونه ويذهبون إلى رأي سفيان وغيره قال الله ( فليحذر الذين يخالفون عن أمره أن تصيبهم فتنة أو يصيبهم عذاب أليم ) وتدري ما الفتنة الكفر قال الله تعالى : ( والفتنة أكبر من القتل ) فيدعون الحديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وتغلبهم أهواؤهم إلى الرأي " ذكر ذلك شيخ الإسلام . قلت : وكلام أحمد في ذمه التقليد وإنكار تأليف كتب الرأي كثير مشهور .
قوله : " عرفوا الإسناد " أي إسناد الحديث وصحته أي صحة الإسناد وصحته دليل على صحة الحديث . قوله : " يذهبون إلى رأي سفيان " أي الثوري الإمام الزاهد العابد الثقة الفقيه وكان له أصحاب ومذهب مشهور فانقطع .
ومراد أحمد الإنكار على من يعرف إسناد الحديث وصحته ثم بعد ذلك يقلد سفيان أو غيره ويعتذر بالأعذار الباطلة إما بأن الأخذ بالحديث اجتهاد والاجتهاد انقطع منذ زمان وإما بأن هذا الإمام الذي قلدته أعلم مني فهو لا يقول إلا بعلم ولا يترك هذا الحديث مثلاً إلا عن علم وإما بأن ذلك اجتهاد ويشترط في المجتهد أن يكون عالماً بكتاب الله عالماً بسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم وناسخ ذلك ومنسوخه وصحيح السنة وسقيمها عالماً بوجوه الدلالات عالماً بالعربية والنحو والأصول ونحو ذلك من الشروط التي لعلها لا توجد تامة في أبي بكر وعمر رضي الله عنهما كما قاله المصنف ... " اهـ.
ثم واصل الكلام إلى أن قال : (2/1087-1088) : " وقد وقع في هذا التقليد المحرم خلق كثير ممن يدعي العلم والمعرفة بالعلوم ويصنف التصانيف في الحديث والسنن ثم بعد ذلك تجده جامداً على أحد هذه المذاهب ويرى الخروج عنها من العظائم .
وفي كلام أحمد إشارة إلى أن التقليد قبل بلوغ الحجة لا يذم إنما المذموم المنكر الحرام الإقامة على ذلك بعد بلوغ الحجة نعم وينكر الإعراض عن كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم والإقبال على تعلم الكتب المصنفة في الفقه استغناء بها عن الكتاب والسنة .." اهـ.
أقول : وقد أسهب الشيخ سليمان بن عبد الله بن محمد بن عبد الوهاب -رحمهم الله- في أمر التقليد انظر "تيسير العزيز الحميد" (2/1081-1098- طبعة أسامة العتيبي ) .
تمت بحمد الله الحلقة الثانية
... ويتبع إن شاء الله تعالى
وكتب : ربيع بن هادي بن عمير المدخلي
24 ذو القعدة 1429
من هجرة المصطفى صلَّى الله عليه وسلَّم
--------------------------------------------------------------------------------
(1) كيف لا يكون تقليداً باطلاً قبول قول المفتي إذا كذب أو أخطأ وأي حجة في الكذب والخطأ وأي حجة في قول المفتي إذا كذب أو أخطأ؟، والعجب من فرح فالح بهذا الكلام.
(2) كلام الغزالي هذا فيه تهويل وكان ينبغي أن يحث الناس على طلب العلم والحق فيدرك كل أحدٍ من دينه ما يستطيعه فإنَّ الاجتهاد يتجزأ . ثمَّ إنَّ هناك مرتبة بين الاجتهاد والتقليد ألا وهي مرتبة المتبع الذي يلزمه نبذ التقليد واتباع الدليل .
([1]) كلام القرطبي هنا جيّد في أنّ على العامي أن يقصد أعلم من في زمانه فيسأله عن نازلته .. وأن على العالم أن يقلد عالماً آخر في نازلة خفي عليه فيها وجه الدليل .. إلخ .
(1) وفالح يراه أصلاً من أصول الدين، والذي حصل من القرطبي نعتقد أنه من فلتات اللسان، أما فالح فالتقليد من أهم أصوله.
([2]) وفالح يحارب من ينكره أشد الحرب.
([3]) رواه مسلم في الأقضية حديث (1715)، ورواه أبو عوانة في مستخرجه (4/165)، كلاهما من حديث أبي هريرة -رضي الله عنه- وزاد أبو عوانة : " وأن تنصحوا لمن ولاه الله أمركم ".
([4]) أخرجه مالك في الموطأ (2/899)، بلاغاً، والحاكم في المستدرك (1/93) متصلاً مرفوعاً، وصححه الألباني في صحيح الجامع (2937)، وقال ابن عبدالبر في التمهيد (24/331) : (( وهذا أيضاً محفوظ معروف مشهور عن النبي r عند أهل العلم شهرة يكاد يستغنى بها عن الإسناد )).
([5]) أي دعاة التقليد .
([6]) كيف لو رأى الشوكاني فالحاً وهو يُلزم حملة العلم من المدرسين وغيرهم بالتقليد ويحكم على من يخالفه بأنَّه قد نسف رسالات الرسل والكتب التي نزلت عليهم ؟! وأحكام أخرى من هذا الباب.
([7]) كذا . ولعله : قول من سواه .
(2) كذا، ولعله " في ".
(1) لعله " لأن ".
(2) كذا . ولعله : لجميع الأمة .
(1) وقد عقد الإمام ابن القيم فصلاً في نهي الأئمة الأربعة عن التقليد وذمهم لمن يأخذ أقوالهم بغير حجة، انظر "إعلام الموقعين" (2/181-182).
(1) هذا الحديث ضعيف.
(1) من هنا بدأ فالح نقله لهذه الشبه موهماً للناس أنها من كلام ابن القيم، وإنما هي من شبه المقلدين.
([8]) لا ننتظر منه أن ينقل هذه الوجوه كلَّها ولكن كان عليه أن يذكرها في الجملة حتى يعلم الناس نصح ابن القيم لله ولدينه ولرسوله ولأمته ويعلموا بجهوده ولو في الجملة . وسوف ننشرها إن شاء الله تعالى.
([9]) كان في الأصل (كَرَّمَ اللَّهُ وَجْهَهُ في الْجَنَّةِ ) وأبدلنا ذلك بـ ( رضي الله عنه ) أسوة بالصحابة الكرام وبناءً على إشارة مشهور حسن في النسخة التي حققها من الإعلام أنه وجد في إحدى نسخ الكتاب : ( رضي الله عنه ) . انظر إعلام الموقعين بتحقيقه (3/573) .
([10]) هكذا والظاهر أن أصل هذه الكلمة : فكان ماذا .
(1) هذا الكلام من ابن القيم يريد أن يبين فيه الشروط التي تلزم المقلد عندما يسأل أهل الذكر، وهذا يخالف مذهب فالح والغلاة في التقليد.
(1)، (2) هذا هو الثابت عن الأئمة، والثابت عن الإمام أحمد الذي يجب اعتماده عنه، وما خالفه فلا يثبت، ومن نسبه إليه فلا يقبل منه؛ لأنه لم يأتِ بإسناد ثابت عنه.
(1) ذاك زمان ربيعة وهذا زمان ابن القيم، فكيف لو رأيا مثل فالح في هذا الزمان، وهو يصول ويجول في الفتاوى، ويفرض التقليد الأعمى على من لا يجب عليه و لا يجوز له أن يأخذ بفتاوى هذا الصنف.
(1) أقول: كيف لو سمع ابن القيم فتاوى فالح الذي يوجب قبول فتاوى أمثاله، ويحكم على من لا يلتزمها بأنه قد كذّب الكتاب والسنة والإسلام أو نسف رسالات الرسل والكتب السماوية.
منقول من موقع الشيخ العلامة ربيع بن هادي المدخلي حفظه الله