التحذير من الفتن ومن الديمقراطية ومشتقاتها
بسم الله الرحمن الرحيم
إن الحمد لله نحمده ونستعينه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأن محمداً عبده ورسوله.(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ) [آل عمران: ١٠٢].
(يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا) [النساء: 1].
(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلا سَدِيدًا يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا) [الأحزاب: 70-71].
أما بعد:
فإن خير الكلام كلام الله، وخير الهدي هدي محمد -صلى الله عليه وسلم-، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار.
وإن من أخطر المحدثات الوافدة على ديار الإسلام الديمقراطية والمناداة بالحرية التي اخترعها ملاحدة الغرب وما يتبعها؛ لزحزحة الإسلام عن سيادته وقيادته للأمة إلى ما يسعدها في دنياها وأخراها ويرفعها إلى مكان العزة والقيادة والسيادة.
صدَّر الغرب هذه الديمقراطية والحرية والدولة المدنية والمظاهرات والانتخابات القائمة على الكذب والخيانات والرشاوى بالملايين، فركض إليها، ثم احتضنها غلاة أهل الضلال معتزين بها، متطاولين بها على المتمسكين بالإسلام العاضين عليه بالنواجذ، يسخرون منهم ومن منهجهم ومن أصولهم المنبثقة من كتاب الله ومن سنة رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، وسخريتهم هذه إنما هي سخرية بكتاب الله وسنة رسوله -صلى الله عليه وسلم-.
ومن جرأتهم أنهم ينشرونها في المواقع لينشئوا جيلاً منحرفاً عن الإسلام؛ يسخر من أصوله ومبادئه.
وهذا العمل منهم إنما هو خدمة منهم لسادتهم الماسون وملاحدة الغرب، شعروا بذلك أم لم يشعروا.
أين أنتم أيها الضلاّل من تحكيم شريعة الله القائل: ( ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون )، ( ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الظالمون )، (ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الفاسقون ).
أين أنتم أيها الضلاّل من الشروط الشرعية لاختيار الحاكم المسلم؟
أين أنتم من منـزلة الإمامة في الإسلام؟
فالإمامة موضوعة لخلافة النبوة في حراسة الدين وسياسة الدنيا، وعقدها لمن يقوم بها في الأمة واجب بالإجماع.
ولا يأتي هذا الإمام عن طريق الانتخابات الديمقراطية التي يمثلها الفساق والعلمانيون واليهود والنصارى والشيوعيون، ولا مانع عندهم من رئاسة واحد من هذه الأصناف.
ولا يصل الإمام في الإسلام إلى منصب الإمامة إلا عن طريق أفضل الناس علماً وأخلاقاً وعدلاً.
فمن شروط من يختار الإمام:
1- العدالة الجامعة لشروطها، ومنها الإسلام والبلوغ والعقل والسلامة من الفسق وخوارم المروءة.
2- والعلم الذي يتوصل به إلى معرفة من يستحق الإمامة.
3- والرأي والحكمة المؤديان إلى اختيار من هو للإمامة أصلح، وبتدبير المصالح أقوم وأعرف.
ومن شروط من يختار للإمامة:
1- العدالة على شروطها الجامعة كما سلف.
2- والعلم المؤدي إلى الاجتهاد في النوازل والأحكام.
3- سلامة الحواس من السمع والبصر ليصح معها مباشرة ما يدرك بها.
4- والرأي السديد المفضي إلى سياسة الرعية وتدبير المصالح.
5- الشجاعة والنجدة المؤدية إلى حماية البيضة وجهاد العدو.
انظر "الأحكام السلطانية" للماوردي (ص6).
ثم إن هذا الحاكم إن حكم بغير ما أنزل الله إن كان يؤمن بشريعة الله ويعتقد في قرارة نفسه أن الحكم بغير ما أنزل الله حرام وباطل وضلال، فهو كافر كفراً أصغر.
وإن كان مستحلاً للحكم بغير ما أنزل الله وأن الحكم للديمقراطية وبالديمقراطية فهو كافر كفراً أكبر مخرج من ملة الإسلام.
وإنني لأخشى على المتباهين بالديمقراطية والدولة المدنية وما تفرع عنهما من المساواة بين الأديان وأهل الأديان، أخشى عليهم من الوقوع في الكفر.
ويأبى الله ورسوله والمؤمنون المساواة بين المؤمنين بالله المتقين وبين الكفار الفجار.
قال تعالى: (أَمْ نَجْعَلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ كَالْمُفْسِدِينَ فِي الأرْضِ أَمْ نَجْعَلُ الْمُتَّقِينَ كَالْفُجَّارِ) [سورة ص: 28].
وقال تعالى: ( أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئَاتِ أَنْ نَجْعَلَهُمْ كَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَوَاءً مَحْيَاهُمْ وَمَمَاتُهُمْ سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ) [سورة الجاثية: 21].
وقال تعالى: (إِنَّ لِلْمُتَّقِينَ عِنْدَ رَبِّهِمْ جَنَّاتِ النَّعِيمِ أَفَنَجْعَلُ الْمُسْلِمِينَ كَالْمُجْرِمِينَ مَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ) [سورة النجم: (34-37)].
فالله ينفي المساواة بين المؤمنين وبين الكفار المجرمين في الدنيا والآخرة.
والديمقراطية تسوي بين الكفار على اختلاف أصنافهم وبين المسلمين، وتسوي بين الإسلام والديانات الباطلة، وعلى هذا المنهج يسير الديمقراطيون، وقد يقدمون الكفار على المسلمين.
ثم إن هذا الصنف من أذناب الغرب ينكر على السلفيين الصادقين التمسك بالكتاب والسنة ومنهج السلف الصالح في معاملة الحكام العادلين والظالمين الذين لم يخرجوا من دائرة الإسلام إلى الكفر البواح ويتساءلون كيف سيتعامل السلفيون مع الحكام الجدد؟، وجوابنا عليهم أننا ثابتون على منهجنا الإسلامي المنبثق من كتاب الله ومن سنة رسول الله -صلى الله عليه وسلم -، والذي سار عليه سلفنا الصالح في العقائد والعبادات والمعاملات والسياسة.
لن نزيد ولن ننقص من ذلك شيئاً.
ولسنا مثلكم كالحرباوات نتلون ونتشكل مسايرة للمتغيرات وتقلبات الأوضاع والحكومات.
ومن بوائق هذا الصنف أنهم يتهمون السلفيين بأنهم يؤيدون القذافي الليبي والأسد السوري ونظامه النصيري الباطني، وقد أسرفوا في ترداد هذا الإفك وينشرونه في المواقع.
وكذبوا وأفكوا، فعلماء المنهج السلفي يكفرون القذافي وهذا النصيري وطائفته النصيرية الباطنية، ولقد صرّحت بهذا في مجالسي ودروسي مراراً وتكراراً، وأعتقد أن هذا الصنف يعلم هذا جيدا، ولكنهم قوم بهاتون، ومناهجهم الفاسدة تبيح لهم هذا البهت .
أما موقفنا من المظاهرات وما ترتب عليها من فوضى ومذابح ومجازر ذهب ضحيتها ألوف مؤلفة من الأرواح في ليبيا وسوريا.
وكم انتهكت من الأعراض وكم شردت من الأسر وكم دمرت من الممتلكات في هذين البلدين .
اسألوا المساكين والشيوخ والعجائز واليتامى الذين قتل آباؤهم في هذه الحروب، والأرامل اللاتي هلك أزواجهن في هذه الفتن وخلفوا لهن أطفالاً يتامى، اسألوا هؤلاء جميعاً هل هم راضون عن هذه الفتن ونتائجها الخطيرة التي تأتي على الأخضر واليابس؟
موقفنا من هذه الأمور الاستنكار الشديد وتبرئة الإسلام من هذه الجاهليات التي يرتكبها نظام هذين البلدين وحكامها.
ويشاركهم في أوزار ذلك خصومهم دعاة الحرية والديمقراطية المتسببون في هذه الفتن.
ونحذر السلفيين وكل من يستجيب لصوت الإسلام من المشاركة في هذه المذابح وما رافقها من تدمير وهتك واسع للأعراض وتشريد لآلاف الأسر؛ لأن الإسلام يحرم هذه الأعمال المتناهية في الوحشية، ويدين أهلها، ولا ناقة له فيها ولا جمل .
فبداية هذه الجرائم الديمقراطية والدكتاتورية ونهايتها الديمقراطية التي قد تتحول إلى دكتاتورية .
نسأل الله أن يجعل لهذين الشعبين فرجاً ومخرجاً، وأن يوفقهما للتمسك بالإسلام والاعتزاز به، وأن يريحهما من هذه الفتن الهوجاء المدمرة، وأن يحمي بلاد الإسلام من هذه الفتن والشرور .
التحذير في الإسلام من الفتن
لقد حذر الله من الفتن وأسبابها.
قال تعالى: (وَاتَّقُوا فِتْنَةً لَا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ).
وقد تكلم اللغويون في بيان معناها، فقالوا:
الفتنة أصلها الامتحان، وكثر استعمالها في ذلك، ثم كثر حتى استعمل بمعنى الإثم والكفر والقتال والإحراق والصرف عن الشيء.
وحذّر منها رسول الله -صلى الله عليه وسلم- كرات ومرات.
1- عن حذيفة –رضي الله عنه- قال: سمعت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول: "تعرض الفتن على القلوب كالحصير عودا عودا فأي قلب أشربها نكت فيه نكتة سوداء وأي قلب أنكرها نكت فيه نكتة بيضاء حتى تصير على قلبين على أبيض مثل الصفا فلا تضره فتنة ما دامت السموات والأرض والآخر أسود مربادا كالكوز مجخيا لا يعرف معروفا ولا ينكر منكرا إلا ما أشرب من هواه"([1]).
فما أكثر من تتشرب قلوبهم الفتن حتى تسود هذه القلوب وتنتكس، ثم بعد ذلك لا تعرف معروفاً، ولا تنكر منكراً، جعلنا الله من المستنكرين لهذه الفتن صغيرها وكبيرها.
2- عن عبد الله بن عمرو بن العاص –رضي الله عنهما- قال: كنا مع رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في سفر، فنـزلنا منـزلا، فمنا من يصلح خباءه، ومنا من ينتضل، ومنا من هو في جشره إذ نادى منادي رسول الله -صلى الله عليه وسلم- الصلاة جامعة، فاجتمعنا إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فقال: "إنه لم يكن نبي قبلي إلا كان حقا عليه أن يدل أمته على خير ما يعلمه لهم وينذرهم شر ما يعلمه لهم، وإن أمتكم هذه جعل عافيتها في أولها، وسيصيب آخرها بلاء وأمور تنكرونها، وتجيء فتنة فيرقق بعضها بعضا، وتجيء الفتنة فيقول المؤمن: هذه مهلكتي، ثم تنكشف، وتجيء الفتنة فيقول المؤمن: هذه هذه، فمن أحب أن يزحزح عن النار ويدخل الجنة فلتأته منيته وهو يؤمن بالله واليوم الآخر، وليأت إلى الناس الذي يحب أن يؤتى إليه، ومن بايع إماما فأعطاه صفقة يده وثمرة قلبه فليطعه إن استطاع، فإن جاء آخر ينازعه فاضربوا عنق الآخر"([2]).
وهذا الحديث فيه الإنذار من فتن عظيمة مرعبة وشرور مهلكة.
ولقد أصاب آخر هذه الأمة بلاء وأمور منكرة وفتن مهلكة إلا من سلم الله من المؤمنين الصادقين، ولا سيما في هذا الزمن.
3- قال أبو داود: "باب فِى النَّهْىِ عَنِ السَّعْي فِى الْفِتْنَةِ".
عن أبي بكرة –رضي الله عنه- قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- «إِنَّهَا سَتَكُونُ فِتْنَةٌ يَكُونُ الْمُضْطَجِعُ فِيهَا خَيْرًا مِنَ الْجَالِسِ، وَالْجَالِسُ خَيْرًا مِنَ الْقَائِمِ، وَالْقَائِمُ خَيْرًا مِنَ الْمَاشِي، وَالْمَاشِي خَيْرًا مِنَ السَّاعِي ». قَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ مَا تَأْمُرُنِي؟ قَالَ: « مَنْ كَانَتْ لَهُ إِبِلٌ فَلْيَلْحَقْ بِإِبِلِهِ، وَمَنْ كَانَتْ لَهُ غَنَمٌ فَلْيَلْحَقْ بِغَنَمِهِ، وَمَنْ كَانَتْ لَهُ أَرْضٌ فَلْيَلْحَقْ بِأَرْضِهِ ». قَالَ: فَمَنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ قَالَ: « فَلْيَعْمِدْ إِلَى سَيْفِهِ فَلْيَضْرِبْ بِحَدِّهِ عَلَى حَرَّةٍ ثُمَّ لِيَنْجُ مَا اسْتَطَاعَ النَّجَاءَ »([3]).
هذا لفظ أبي داود.
وفي مسلم بعد هذا: "اللهم هل بلغت، اللهم هل بلغت، اللهم هل بلغت؟".
وفي هذا الحديث تعليم وتوجيه رسول الله –صلى الله عليه وسلم- للأمة كيف تتجنب الفتن والهروب من الخوض فيها.
ومن المؤسف جداً أنَّ بعض أهل الأهواء يسخرون ممن يحتج بهذا الحديث، ويسخرون من مضمون هذا الحديث وما في معناه، ولا سيما المفتونين بضلالات الغرب كالديمقراطية والاشتراكية، ويزعمون أن الثابتين على الإسلام رجعيون ومتخلفون، ويزعمون أنهم راقون وتقدميون مع الأسف الشديد.
4- قال الإمام البخاري –رحمه الله-: "بَاب مِنْ الدِّينِ الْفِرَارُ مِنْ الْفِتَنِ".
ثم روى بإسناده عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ أَنَّهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: "يُوشِكُ أَنْ يَكُونَ خَيْرَ مَالِ الْمُسْلِمِ غَنَمٌ يَتْبَعُ بِهَا شَعَفَ الْجِبَالِ وَمَوَاقِعَ الْقَطْرِ يَفِرُّ بِدِينِهِ مِنْ الْفِتَنِ"([4]).
وفي هذا الحديث إرشاد النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- إلى إيجاد التدابير والأسباب التي تجنب المسلم الصادق من الفتن.
وهذا الإرشاد والتوجيه النبوي لا يعجب المبهورين بمبادئ الغرب الضالة، بل يحبون الخوض في أعماق الفتن.
5- وعن حميد بن عبد الرحمن أن أبا هريرة قال: قال رسول الله –صلى الله عليه وسلم-: « يَتَقَارَبُ الزَّمَانُ وَيَنْقُصُ الْعِلْمُ وَتَظْهَرُ الْفِتَنُ وَيُلْقَى الشُّحُّ وَيَكْثُرُ الْهَرْجُ ». قِيلَ يَا رَسُولَ اللَّهِ أَيَّةُ هُوَ؟، قَالَ « الْقَتْلُ الْقَتْلُ »([5]).
وفي هذا الحديث بيان لكثرة الفتن، ومنها: الهرج وهو القتل.
ومن أسباب هذه الفتن وكثرة الهرج الانبهار بمبادئ الغرب، ومنها المظاهرات والتشبث بالديمقراطية والحرية الإفرنجية.
6- وعن أبي موسى –رضي الله عنه- عن النبي -صلى الله عليه و سلم- أنه قال في الفتنة: "كسِّروا فيها قسِيَّكم وقطِّعوا فيها أوتاركم، والزموا فيها أجواف بيوتكم وكونوا كابن آدم"([6]).
وفي هذا الحديث الحث على الجد في البعد عن الفتن ووسائلها.
وهذا الحديث الشريف من جملة الأحاديث التي يسخر أهل الأهواء ممن يواجه الفتن في ضوئها بالاستنكار وبالابتعاد عنها امتثالاً لتوجيهات رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وحفاظاً على دينه.
7- وعن أبي هريرة –رضي الله عنه- أن رسول الله –صلى الله عليه وسلم- قال: "بادروا بالأعمال فتنا كقطع الليل المظلم يصبح الرجل فيها مؤمنا ويمسي كافرا أو يصبح كافرا ويمسي مؤمنا يبيع دينه بعرض من الدنيا"([7]).
نعوذ بالله من هذه الفتن المظلمة التي تؤدي إلى الكفر وإلى بيع الدين بعرض حقير من الدنيا.
8- عن أبي موسى الأشعري –رضي الله عنه- قال: قال رسول الله –صلى الله عليه وسلم-: « إِنَّ بَيْنَ أَيْدِيكُمْ فِتَنًا كَقِطَعِ اللَّيْلِ الْمُظْلِمِ يُصْبِحُ الرَّجُلُ فِيهَا مُؤْمِنًا وَيُمْسِى كَافِرًا أو يُمْسِى مُؤْمِنًا وَيُصْبِحُ كَافِرًا، الْقَاعِدُ فِيهَا خَيْرٌ مِنَ الْقَائِمِ، وَالْقَائِمُ فِيهَا خَيْرٌ مِنَ الْمَاشِي وَالْمَاشِي فِيهَا خَيْرٌ مِنَ السَّاعِي ». قَالُوا فَمَا تَأْمُرُنَا قَالَ « كُونُوا أَحْلاَسَ بُيُوتِكُمْ»([8]).
أقول: وما أكثر المثيرين للفتن والماشين والساعين والراكضين إليها متباهين بذلك وما يشعرون بما وقعوا فيه من الجهل والضلال.
وفي الوقت نفسه يسخرون من المتمسكين بهدي محمد –صلى الله عليه وسلم- وتوجيهاته الرشيدة.
قال الخطابي: "يقال للرجل إذا كان يلزم بيته لا يبرح منه هو حلس بيته؛ لأن الحلس يفترش فيبقى على المكان ما دام لا يرفع".
9- وعن حذيفة –رضي الله عنه- قال: سُئِلَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ السَّاعَةِ فَقَالَ: ( عِلْمُهَا عِنْدَ رَبِّي لَا يُجَلِّيهَا لِوَقْتِهَا إِلَّا هُوَ )، وَلَكِنْ أُخْبِرُكُمْ بِمَشَارِيطِهَا وَمَا يَكُونُ بَيْنَ يَدَيْهَا إِنَّ بَيْنَ يَدَيْهَا فِتْنَةً وَهَرْجًا، قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ الْفِتْنَةُ قَدْ عَرَفْنَاهَا فَالْهَرْجُ مَا هُوَ؟ قَالَ: بِلِسَانِ الْحَبَشَةِ: الْقَتْلُ، وَيُلْقَى بَيْنَ النَّاسِ التَّنَاكُرُ، فَلَا يَكَادُ أَحَدٌ أَنْ يَعْرِفَ أَحَدًا"([9]).
لقد حذّرنا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في هذه الأحاديث وغيرها أشد التحذير من الخوض في الفتن، وحذّر منها علماء الإسلام، وعلى رأسهم الصحابة الكرام وأئمة الحديث، الذين حفظ الله بهم الإسلام وأحاديث رسولنا الكريم؛ فقد ألّفوا كتباً خاصة في التحذير من الفتن، فقلَّ إمام يؤلف ديواناً في سنن رسول الله إلا ويذكر فيه أحاديث الفتن ومنهم الأئمة الستة.
فعلى المؤمنين الصادقين أن يتمسكوا بهدي محمد رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ويعضوا عليه بالنواجذ، فإنه خير الهدي، وما خالفه ففيه العطب والهلاك والضلال.
بيان رسول الهدى –صلى الله عليه وسلم- وتوجيهاته الحكيمة لأمته كيف تتعامل
مع أمرائها.
1- عن أبي هريرة -رضي الله عنه- عن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: " من خرج من الطاعة وفارق الجماعة فمات مات ميتة جاهلية ومن قاتل تحت راية عمية يغضب لعصبة أو يدعو إلى عصبة أو ينصر عصبة فقُتل، فقتلة جاهلية، ومن خرج على أمتي يضرب برها وفاجرها ولا يتحاش من مؤمنها ولا يفي لذي عهد عهده فليس مني ولست منه"، أخرجه مسلم حديث (1848).
2- عن ابن عباس -رضي الله عنهما- قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "من رأى من أميره شيئا يكرهه فليصبر، فإنه من فارق الجماعة شبرا فمات فميتة جاهلية"، أخرجه مسلم حديث (1849).
3- عن أم سلمة -رضي الله عنها- أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: "ستكون أمراء فتعرفون وتنكرون، فمن عرف برئ، ومن أنكر سلم، ولكن من رضي وتابع، قالوا: أفلا نقاتلهم؟ قال: لا. ما صلوا"، أخرجه مسلم حديث (1854).
4- وعن عبادة بن الصامت –رضي الله عنه- قال: "دَعَانَا رسول اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- فَبَايَعْنَاهُ فَكَانَ فِيمَا أَخَذَ عَلَيْنَا أَنْ بَايَعَنَا على السَّمْعِ وَالطَّاعَةِ في مَنْشَطِنَا وَمَكْرَهِنَا وَعُسْرِنَا وَيُسْرِنَا وَأَثَرَةٍ عَلَيْنَا وَأَنْ لَا نُنَازِعَ الْأَمْرَ أَهْلَهُ، قال: إلا أَنْ تَرَوْا كُفْرًا بَوَاحًا عِنْدَكُمْ من اللَّهِ فيه بُرْهَانٌ"، متفق عليه، أخرجه البخاري حديث (7055)، ومسلم حديث (1709).
فهذه الأحاديث تدل على تحريم الخروج على ولاة أمور المسلمين وجماعة المسلمين، وأن هذا الخروج من أمر الجاهلية، وعلى براءة رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ممن يخرج؛ لأن ذلك من الإفساد في الأرض، ولأنه يؤدي إلى سفك الدماء وهتك الأعراض وتدمير الأموال والممتلكات، وإلى ضياع الأمن وانتشار الرعب.
فإذا كان الحاكم كافراً كفراً بواحاً عند المسلمين عليه برهان جاز الخروج عليه بشروط:
1- أن تكون لدى المسلمين قدرة مستيقنة أو شبه مستيقنة على إسقاط هذا الحاكم الكافر بأن تكون قائمة على إعداد العدة المادية إلى جانب العدة الإيمانية كما قال تعالى: (وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ)، فإن ذلك يسهل التخلص منه لا سيما إذا كان معظم الجيش وقياداته والشعب ضده عقدياً ومنهجياً وسلاحاً.
2- أن يكون القصد إعلاء كلمة الله، لا من أجل عصبية ولا من أجل مطامع دنيوية.
عن أبي موسى الأشعري -رضي الله عنه- قال: جاء رجل إلى النبي -صلى الله عليه وسلم- فقال: الرجل يُقَاتِلُ حَمِيَّةً وَيُقَاتِلُ شَجَاعَةً وَيُقَاتِلُ رِيَاءً فَأَيُّ ذَلِكَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ؟ فقَالَ -صلى الله عليه وسلم-: مَنْ قَاتَلَ لِتَكُونَ كَلِمَةُ اللَّهِ هِيَ الْعُلْيَا فَهُوَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ"، أخرجه البخاري في "صحيحه" حديث (7458).
وقال الصحابي الجليل أبو برزة الأسلمي -رضي الله عنه- مستنكراً ما يجري في عهده من قتال ودماء بين طلاب الدنيا:
""إِنِّي احْتَسَبْتُ عِنْدَ اللَّهِ أَنِّي أَصْبَحْتُ سَاخِطًا عَلَى أَحْيَاءِ قُرَيْشٍ إِنَّكُمْ يَا مَعْشَرَ الْعَرَبِ كُنْتُمْ عَلَى الْحَالِ الَّذِي عَلِمْتُمْ مِنْ الذِّلَّةِ وَالْقِلَّةِ وَالضَّلَالَةِ وَإِنَّ اللَّهَ أَنْقَذَكُمْ بِالْإِسْلَامِ وَبِمُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَتَّى بَلَغَ بِكُمْ مَا تَرَوْنَ وَهَذِهِ الدُّنْيَا الَّتِي أَفْسَدَتْ بَيْنَكُمْ إِنَّ ذَاكَ الَّذِي بِالشَّأْمِ وَاللَّهِ إِنْ يُقَاتِلُ إِلَّا عَلَى الدُّنْيَا وَإِنَّ هَؤُلَاءِ الَّذِينَ بَيْنَ أَظْهُرِكُمْ وَاللَّهِ إِنْ يُقَاتِلُونَ إِلَّا عَلَى الدُّنْيَا وَإِنْ ذَاكَ الَّذِي بِمَكَّةَ وَاللَّهِ إِنْ يُقَاتِلُ إِلَّا عَلَى الدُّنْيَا"([10]).
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية معلقاً على حديث أبي موسى الأشعري -رضي الله عنه-:
" فالمقصود أن يكون الدين كله لله، وأن تكون كلمة الله هي العليا، وكلمة الله اسم جامع لكلماته التي تضمها كتابه" ، "السياسة الشرعية" (ص75).
فإذا كان الخروج على الحاكم لدوافع غير إسلامية، ولا يقصد بهذا الخروج إعلاء كلمة الله كان هذا الخروج غير شرعي، ولا يحل لمسلم المشاركة فيه لما فيه من الظلم والفتن وسفك الدماء.
ومع الأسف الشديد أن ثورات ما يسمى بالربيع العربي على حكامهم كانت خالية من هذه المعاني والمقاصد الإسلامية النبيلة.
بل مع الأسف كانت شعاراتها ومبادئ ثورتها غريبة وغربية مضادة للإسلام، فذهب الكثير والكثير من الشباب والشيب الضعفاء والمساكين ضحايا من أجل هذه الشعارات والمبادئ الغربية.
ومن هنا نصحنا الشباب السلفي ومن يقبل النصح بالابتعاد عن المشاركة في هذه الفتن وفي سفك الدماء.
هذا النصح كان من منطلق إسلامي واضح قائم على الأدلة من الكتاب والسنة، وقد سبقنا إلى مثل هذا الموقف شيخ الإسلام ابن تيمية وعلماء عصره.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية –رحمه الله- وهو يتحدث عن أهل الضلال الذين يتعلقون بالأموات، يدعونهم ويستغيثون بهم في الشدائد، بعد أن بيّن أن هذا العمل من الشرك بالله .
قال -رحمه الله-:
" حتى إن العدو الخارج عن شريعة الإسلام لما قدم دمشق خرجوا يستغيثون بالموتى عند القبور التي يرجون عندها كشف ضرهم، وقال بعض الشعراء:
يا خائفين من التتر ... لوذوا بقبر أبي عمر
أو قال:
عوذوا بقبر أبي عمر ... ينجيكم من الضرر
فقلت لهم: هؤلاء الذين تستغيثون بهم لو كانوا معكم في القتال لانهزموا كما انهزم من انهزم من المسلمين يوم أحد؛ فإنه كان قد قضى أن العسكر ينكسر لأسباب اقتضت ذلك، ولحكمة لله عز وجل في ذلك، ولهذا كان أهل المعرفة بالدين والمكاشفة لم يقاتلوا في تلك المرة لعدم القتال الشرعي الذي أمر الله به ورسوله، ولما يحصل في ذلك من الشر والفساد وانتفاء النصرة المطلوبة من القتال؛ فلا يكون فيه ثواب الدنيا ولا ثواب الآخرة لمن عرف هذا وهذا، وإن كثيراً من القائلين الذين اعتقدوا هذا قتالا شرعيا أجروا على نياتهم، فلما كان بعد ذلك جعلنا نأمر الناس بإخلاص الدين لله عز و جل والاستغاثة به، وأنهم لا يستغيثون إلا إياه، لا يستغيثون بملك مقرب ولا نبي مرسل، كما قال تعالى يوم بدر: (إذ تستغيثون ربكم فاستجاب لكم).
وروي أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- كان يوم بدر يقول: "يا حي يا قيوم لا إله إلا أنت، برحمتك أستغيث".
وفي لفظ: "أصلح لي شأني كله، ولا تكلني إلى نفسي طرفة عين، ولا إلى أحد من خلقك".
فلما أصلح الناس أمورهم وصدقوا في الاستغاثة بربهم؛ نصرهم على عدوهم نصرا عزيزاً، ولم تهزم التتار مثل هذه الهزيمة قبل ذلك أصلاً لما صح من تحقيق توحيد الله تعالى وطاعة رسوله ما لم يكن قبل ذلك، فإن الله تعالى ينصر رسله والذين آمنوا في الحياة الدنيا ويوم يقوم الأشهاد"، "الاستغاثة" (2/732-738).
ماذا في هذا النص من العبر؟
1- قوم جاءهم عدو من أعداء الإسلام همجي ليستولي على بلادهم.
2- فخرج أهل دمشق ليقاتلوا هذا العدو باسم الإسلام، وليدافعوا عن عاصمة من عواصم الإسلام .
3- فسمع منهم شيخ الإسلام ما ينافي التوحيد، وذلك أنهم يستغيثون بالموتى لينصروهم على هذا العدو.
4- فصارحهم شيخ الإسلام بأنهم سوف ينهزمون، جازماً بذلك؛ لأنهم جاؤوا بما يخالف الإسلام من الاستغاثة بغير الله، وذلك مما يسبب الفشل والهزيمة.
5- ذكر أن أهل المعرفة بالدين والمكاشفة (أي الفراسة) لم يقاتلوا في تلك المرة لعدم القتال الشرعي الذي أمر الله به ورسوله؛ لأن القتال الشرعي لا بد أن يكون أهله أهل توحيد يقاتلون لغاية عظيمة أن تكون كلمة الله هي العليا، وهؤلاء المقاتلون قد أتوا بما يخل بكلمة التوحيد، فانهزم جيش هؤلاء المقاتلين لاختلال شروط الجهاد الذي شرعه الله .
6- شرع شيخ الإسلام بعد هذا يدعو الناس إلى توحيد الله وإخلاص الدين لله -عزَّ وجل-، والاستغاثة به، وأنهم لا يستغيثون إلا بالله، لا بملك مقرب ولا نبي مرسل، وساق الأدلة على ذلك .
7- قال: "فلما أصلح الناس أمورهم وصدقوا في الاستغاثة بربهم نصرهم على عدوهم نصرا عزيزا ولم تهزم التتار مثل هذه الهزيمة قبل ذلك أصلا لما صح من تحقيق توحيد الله تعالى وطاعة رسوله ما لم يكن قبل ذلك فإن الله تعالى ينصر رسله والذين آمنوا في الحياة الدنيا ويوم يقوم الأشهاد".
والشاهد من هذا الكلام أن شيخ الإسلام وأهل المعرفة بالدين لم يشاركوا في قتال الغزاة أعداء الله؛ لأن هذا قتال غير شرعي، ولو كان المقاتلون أهل توحيد يقاتلون لإعلاء كلمة الله لكان شيخ الإسلام وهؤلاء العلماء في طليعة المقاتلين .
ثم لما ربى شيخ الإسلام الناس على التوحيد وأصلحوا أمورهم شاركهم شيخ الإسلام في الجهاد، بل اعتقد أنه هو الذي قادهم إلى القتال الذي أحرزوا فيه النصر المظفر، وانهزم عدو الإسلام شر هزيمة .
والخلاصة أنه يجب على المسلمين أن يعرفوا المنهج الإسلامي عقيدة وعبادة ومعاملات وجهاداً وأخلاقاً، وأن يتمسكوا بهذا المنهج بكل تفاصيله، وأن يحذروا من الوقوع في الفتن واتباع أعداء الإسلام في عقائدهم أو سياستهم أو أخلاقهم، ومن وقع في شيء من هذه المخازي، فعليه أن يتوب إلى الله توبة نصوحا.
وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.
كتبه
ربيع بن هادي عمير المدخلي
4/10/1433هـ
كتبه
ربيع بن هادي عمير المدخلي
4/10/1433هـ
[1] - أخرجه مسلم حديث (144)، وأحمد (5/386).
[2] - أخرجه مسلم حديث (1844)، وأحمد (2/191).
[3] - أخرجه مسلم في "الفتن" حديث (2887) "باب نزول الفتن كمواقع القطر" ، وأبو داود في "الفتن والملاحم" حديث (4256).
[4] - "الإيمان" حديث (19).
[5] - متفق عليه، أخرجه البخاري في "الفتن" "باب ظهور الفتن" حديث (7061) ومسلم في "العلم"، "باب رفع العلم وقبضه" حديث (2672)، وأبو داود في "الفتن" حديث (4255).
[6] - أخرجه الترمذي حديث (2204)، وهو جزء من حديث رواه أحمد في "مسنده" (4/408)، وأبو داود في "سننه" برقم (4259).
[7] - أخرجه مسلم في "الإيمان" (118) وأحمد (2/303)، والترمذي في "الفتن" (2195) وابن حبان (6704).
[8] - أخرجه أحمد في "مسنده" (4/408) ، وأبو داود في "سننه" حديث (4262).
[9] - رواه أحمد (5/389) بإسناد حسن.
[10] - أخرجه البخاري في "صحيحه" حديث (7112). ملفات مرفقة
(منقول)