الجهاد الذي لا يصح الدين إلا به
شيخ الإسلام مُحَمَّد بن عبد الوهاب
مِمَّا قال الشيخ الإمام وعلم الْهُدَاة الأعلام ومجدد سنة سيد الأنام e
( شيخ الإسلام مُحَمَّد بن عبد الوهاب التميمي - رحمه الله - ) :
( لنذكر من كلام الله تعالى، وكلام رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكلام أئمة العلم جُمَلا في جهاد القلب واللسان، ومعاداة أعداء الله، ومولاة أوليائه، وأنَّ الدَّينَ لا يصح، ولا يدخل الإنسان فيه إلا بذلك فنقول :
باب في وجوب عداوة أعداء الله من الكفار والمرتدين والمنافقين
وقوله الله تعالى: (وَقَدْ نَزَّلَ عَلَيْكُمْ فيِ الْكِتَابِ أَنْ إِذَا سَمِعْتُمْ آياتِ اللَّهِ يُكْفَرُ بِهَا وَيُسْتَهْزَأُ بِهَا فَلا تَقْعُدُوا مَعَهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فيِ حَدِيثٍ غَيْرِهِ إِنَّكُمْ إِذًا مِثْلُهُمْ) [النساء:240].
وقوله تعالى: (وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فإِنَّهُ مِنْهُمْ ) [المائدة:51].
وقوله تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاءَ) [الممتحنة:1].
إلى قوله تعالى : (كَفَرْنَا بِكُمْ وَبَدَا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ الْعَدَاوَةُ وَالْبَغْضَاءُ أَبَدًا حَتَّى تُؤْمِنُوا بِالله وَحْدَهُ) [الممتحنة :4].
وقوله تعالى: (لا تَجِدُ قَوْماً يُؤْمِنُونَ بِالله وَالْيَوْمِ الآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ الله وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُوا آباءهُمْ أَوْ أَبْنَاءَهُمْ أَوْ إِخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ) [المجادلة:22].
وقال الإمام الحافظ محمد بن وضاح: أخبرني غير واحد أنَّ أسد بن موسى [الملقب بأسد السنة] كتب إلى أسد بن الفرات:
"اعلم يا أخي أنَّ ما حملني على الكتاب إليك ما ذكر أهل بلادك من صالح ما أعطاك الله من إنصافك الناس*، وحسن حالك مما أظهرت من السُّنَّة، وعيبك لأهل البدع، وكثرة ذكرك لهم، وَطَعْنك عليهم، فَقَمَعَهُم الله بِكَ، وشَدَّ بك ظهر أهل السُّنَّة، وَقَوَّاك عليهم بإظهار عَيْبِهِم والطعن عليهم، فَأذَلَّهُم الله بيدك، وصاروا ببدعتهم مُسْتَتِرين، فأبشر يا أخي بثواب ذلك، واعْتَد به من أفضل حسناتك من الصلاة والصيام والحج والجهاد، وأين تقع هذه الأعمال من إقامة كتاب الله تعالى ، وإحياء سُنَّة رسُول الله صلى الله عليه وسلم، وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ((مَنْ أَحَيا شَيْئًا مِنْ سُنَّتِي كُنْت أنَا وَهُو فيِ الْجَنَّة كَهَاتَيْن - وضم بين أصبعيه - وقال :أَيُّمَا دَاع دَعَا إِلَى هُدَى فَاتُّبِعَ عَلَيه،كَانَ لَهُ مِثْلَ أَجْرِ مَنْ اتَّبَعَهُ إِلَى يَوم الْقِيَامَة)).
فمتى يدرك أجر هذا بشيء من عمله؟ وذكر أيضاً أنَّ لله عند كُلِّ بدعة كِيدَ بِهَا الإسلام وليًّا لله يَذُبُّ عنها، وينطق بِعَلامَاتِهَا، فَاغْتَنِمْ يا أخي هذا الفضل، وكُنْ من أهله، فإنَّ النَّبِي صلى الله عليه وسلم قال لمعاذ حين بعثه إلى اليمن وأوصاه : ((لأَنْ يَهْدِيَ اللَّهُ بِكَ رَجُلاً وَاحِدًا خَيْرٌ لَكَ مِنْ كَذَا وكَذاَ)) وأعظم القول فيه، فاغتنم ذلك وادْعُ إلى السُّنَّة حتَّى يكون لك في ذلك ألفة وجماعة يقومون مقامك إن حدث بك حدث، فيكونون أئمة بعدك، فيكون لك ثواب ذلك إلى يوم القيامة كما جاء في الأثر.
فاعمل على بصيرة ونية وحسبة، فَيَرُدّ الله بك المبتدع المفتون الزائغ الحائر، فتكون خلفًا من نبيك صلى الله عليه وسلم، فإنَّك لنْ تلقى الله بعمل يشبهه، وإيَّاكَ أنْ يكون لك من أهل البدع أخ أو جليس أو صاحب، فإنه جاء في الأثر :"مَنْ مشى إلى إلى صاحب بدعة، مشى في هدم الإسلام، وجاء: ما مِنْ إله يُعْبَدُ من دون الله أبغض إلى الله من صاحب هوى .
وقد وقعت اللعنة من رسول الله صلى الله عليه وسلم على أهل البدع، الله لا يقبل منهم صرفاً ولاعدلاً ولا فريضة ولاتطوعاً ، وَكُلما ازدادوا اجتهاداً وصوماً وصلاة ، ازدادوا من الله بُعْداً، فارفض مجالسهم وأذلهم وأبعدهم، كما أبعدهم الله، وأذلهم رسول الله صلى الله عليه وسلم وأئمة الهدى بعده". انتهى كلام أسد _رحمه الله تعالى _.
واعلم _ رحمك الله _ أنَّ كلامه وما يأتي من كلام أمثاله من السلف في مُعَاَدَاة أهل البدع والضلالة في ضلالة لا تُخْرِج عن الملة، لكنهم شَدَّدُوا في ذلك، وَحَذَّرُوا منه لأمرين:
الأول: غلظة البدعة في الدِّينِ في نفسها، فهي عندهم أَجَلُّ من الكبائر، ويعاملون أهلها أغلظ ممَّا يُعَامِلُون به أهل الكبائر، كما تجد في قلوب الناس أنَّ الرَّافِضي عندهم _ ولو كان عالماَ عابداَ_ أبغض وأَشَدُّ ذنباً من السُّنِّي المجاهر بالكبائر .
الثاني :أنَّ البدع تَجُرُ إلى الرِّدَّة الصريحة كما وُجِدَ من كثير من أهل البدع، فمثال البدعة التي شَدَّدُوا فيها مثل تَشْدِيد النبي صلى الله عليه وسلم فِيمَنْ عَبَدَ الله عند قبر رَجُل صالح خوفاً مما وقع من الشرك الصريح الذي يصبر به المسلم مرتدَّا، فَمَنْ فهم هذا، فهم الفَرْقَ بين البدع وبين ما نحن فيه من الكلام في الرِّدَّة ومُجَاهَدَة أهلها،أو النَّفَاق الأكبر ومُجَاهَدَة أهله، وهذا هو الذي نَزَلَتْ فيه الآيات المحكمات مثل قوله تعالى: (( يَاأَيُّهَا الَّذينَ آمَنُوا مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِيِنهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحُّبِهُمْ وَيحِبُّونَهُ) الآية [المائدة:54].
وقوله تعالى: ( يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ جَاهِدْ الْكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ وَمَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ )الآية[التوبة:73].
وقال ابن وضاح"في كتاب البدع والحوادث"بعد حديث ذكره:"أنه سَيَقعُ في هذه الأمَّةِ فِتْنَة الكُفْرِ وفتنة الضلالة.
قال - رحمه الله -: إنَّ فتنة الكُفْرِ هي الرِّدَّة يحلُّ فيها السَّبْي والأموال، وفتنة الضلالة لا يحل فيها السَّبْي والأموال".
وقال - رحمه الله - أيضاً: أخبرنا أسد: أخبرنا رجل عن ابن المبارك قال: قال ابن مسعود:"إنَّ لله عند كل بدعة كِيدَ بِهَا الإسلام وليًّا من أوليائه، يَذبُّ عنه، ويَنْطِقُ بعَلامَتِهَا، فاغتنموا حضور تلك المواطن، وَتَوَكَّلُوا على الله".
قال ابن المبارك: "وكفى بالله وكيلاً".
ثم ذَكَرَ بإسناده عن بعض السلف قال: "لأنْ أَرُدَّ رجلاً عن رأي سيئ أَحَبُّ إليَّ من اعتكاف شهر".
أخبرنا أسد، عن أبي إسحاق الحذاء، عن الأوزاعي قال:كان بعض أهل العلم يقولون: لا يَقْبَل الله من ذي بدعة صلاة، ولا صدقة، ولا صياماً، ولا جهاداً، ولا حجاً، ولا صرفاً، ولا عدلاً، وكانت أَسْلافكُمْ تَشْتَدُّ عليهم ألسنتهم، وَتَشْمَئزُّ منه قُلُوبُهُم، ويُحَذِّرُون الناس بدعتهم.
قال: ولو كانوا مُسْتَتِرِين ببدعتهم دون الناس ما كان لأحد أنْ يَهْتِكَ عنهم سِتْراً، ولا يظهر منهم عَوْرَةً، الله أَوْلَى بالأخذ بِهَا، أو بالتوبة عليها، فأمَّا إذا جاهروا به، فَنَشْرُ العلم حياة، والبلاغ عن رسول الله صلى الله عليه وسلم رحمة يعتصم بِهَا على مصر مُلْحِد.
ثم روى بإسناده قال: "جاء رَجُلٌ إلى حذيفة - وأبو موسى الأشعري قاعد -، فقال: أرأيت رجلاً ضرب بسيفه غضباً لله حتَّى قُتِلَ، أفي الجنَّةِ أم في النار؟ فقال أبو موسى: في الجنَّة. فقال حذيفة: استفهم الرجل وأفهمه ما تقول حتى فعل ذلك ثلاث مرات، فَلَمَّا كان في الثالثة قال: والله لا أستفهمه. فدعا به حذيفة فقال: رُوَيْدَك، وما يُدْرِيك أنَّ صاحبك لو ضرب بسيفه حتَّى ينقطع، فأصاب الحقَّ حتَّى يُقْتَل عليه فهو في الجنة، وإنْ لَمْ يصب الحقَّ، ولَمْ يوفقه الله للحَقِّ، فهو في النار؟ ثم قال: والذي نفسي بيده ليدخلنَّ النار في مثل الذي سَأَلْتَ عنه أكثر من كَذَا وكَذَا".
ثم ذكر بإسناده عن الحسن قال: "لا تُجَالِس صاحب بدعة، فإنه يُمْرِضُ قلبك".
ثم ذكر بإسناده عن سفيان الثوري قال:"مَنْ جالس صاحب بدعة لَمْ يسلم من إحدى ثلاث: إمَّا أنْ يكون فتنة لغيره، وإمَّا أنْ يقع في قلبه شيء فَيَزِل به فيدخله الله النار، وإمَّا أنْ يقول: والله مَا أُبَالِي ما تكلموه، وإني واثق بنفسي، فَمَنْ أمن الله على دينه طَرْفَة عَيْنٍ، سَلَبَه إيَّاه".
ثم ذكر بإسناده عن بعض السلف قال: "مَنْ أتى صاحب بدعة لِيوَقِّرَهُ، فقد أَعَان على هَدْمِ الإسلام".
أخبرنا أسد بن موسى قال: أخبرنا حماد بن زيد، عن أيوب قال: قال أبو قلابة: "لا تُجَالِسُوا أهل الأهواء، ولا تُجَادِلُوهُم، فإني لا آمن أنْ يَغْمِسُوكُم في ضلالتهم، أو يُلبسُوا عليكم ما كنتم تَعْرِفُون. قال أيوب: وكان والله من الفقهاء ذوي الألباب".
أخبرنا أسد بن موسى قال: أخبرنا زيد: عن محمد بن طلحة قال: قال إبراهيم: "لا تُجَالِسُوا أصحاب البدع، ولا تُكَلِّمُوهُم، فإنِّي أخاف أنْ تَرْتَدَّ قُلُوبُكُم".
أخبرنا أسد بالإسناد: عن أبي هريرة رضى الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ((الرَّجُلُ عَلَى دِيْنِ خَلِيْلِهِ،فَلْيَنْظُرْ أَحَدُكُمْ مَنْ يُخَالِل)).
أخبرنا أسد: أخبرنا مؤمل بن إسماعيل: عن حماد بن زيد، عن أيوب قال: "دخل على محمد بن سيرين يومًا رَجُلٌ فقال: يا أبا بكر أقرأ عليك آية من كتاب الله، لا أَزيدُ على أنْ أقرأها، ثم أخرج، فوضع أصبعيه في أذنيه، ثم قال: أحرّج عليك إن كنت مسلمًا لما خرجت من بيتي. قال: فقال: يا أبا بكر إني لا أزيد على أنْ أقرأ، قال: فقام بإزَارِهِ يَشدُّه عليه، وَتَهَيَّأ للقيام، فأقبلنا على الرَّجُل ، فقلنا: قد حرج عليك ألا خرجت، أفيحل لك أنْ تُخْرِجَ رجلاً من بيته؟ قال: فخرج، فقلنا: يا أبا بكر ما عليك لو قرأ آية، ثم خرج؟ قال: إني و الله لو ظننت أنَّ قلبي يثبت على ما هو عليه ما بَاليْتُ أنْ يقرأ،ولكني خفت أنْ يُلْقِيَ في قلبي شيئاً أجهد أنْ أُخْرِجَه مِن قلبي فلا أستطيع".
أخبرنا أسد قال :أخبرنا ضمر ة:عن سود ة قال:سمعت عبد الله بن القاسم وهو يقول :"ما كان عَبْدٌ على هَوَى فَتَركَهُ إلا آل إلى ما هو شَرٌّ منه. قال :فذكرت هذا الحديث لبعض أصحابنا فقال :تَصْدِيقُهُ في حديث عن النبي صلى الله عليه وسلم: (يَمْرُقُونَ مِنْ الإسْلامِ مُرُوقَ السَّهْمِ مِنْ الرَّميَّةِ، ثُمَّ لا يَرْجِعُونَ حَتَّى يَرْجِعَ السَّهْمُ إِلَى فَوْقِهُ)".
أخبرنا أسد قال: أخبرنا موسى بن إسماعيل: عن حماد بن زيد، عن أيوب قال: "كان رَجُلٌ يرى رأيًا، فرجع عنه، فأتيت مُحَمَّدًا فرحًا بذلك أُخْبِره، فقلت: أشعرت أنْ فلانًا رأيه الذى كان يرى.
فقال: انظروا إلى مَا يَتَحَوَّل، إنَّ آخر الحديث أَشَدَّ عليهم من أَوَّلِهِ يَمْرُقُونَ مِنْ الإسْلاَمِ لاَ يَعُودُونَ إِليه".
ثم روى بإسناده عن حذيفة: أنه أخذ حصاة بيضاء، فوضعها في كَفَّه ، ثُمَّ: إنَّ هدا الدَّينَ قد اسْتَضَاءَ استضاءة هذه الحصاة، ثم أخذ كفَّا من تراب، فجعل يذره على الحصاة حتى وَارَاهَا، ثم قال: والذي نفسي بيده لَيجيِئنَّ أقوام يَدْفِنُون الدِّينَ، كَمَا دُفِنَتْ هذه الحصاة".
أخبرنا محمد بن سعيد بإسناده: عن أبي الدرداء قال:"لو خَرَجَ رسول الله صلى الله عليه وسلم اليوم إليكم ما عَرَفَ شيئاً مما كان عليه هو وأصحابه إلا الصلاة.
قال الأوزاعي: فكيف لَوْ كَانَ اليوم.
قال عيسى - يعني: الروي - عن الأوزاعي: فكيف لو أدرك الأوزاعي هذا الزمان؟".
أخبرنا محمد بن سليمان بإسناده: عن علي رضي الله عنه أنه قال: "تَعَلَّمُوا العِلْمَ تُعْرَفُوا به، واعْمَلُوا به تكونوا من أهْلِهِ، فإنه سيأتي بعدكم زمان ينكر الحَقَّ فيه تسعة أعشارهم".
أجبرنا يحيى بن يحيى بإسناده: عن أبي سهل بن مالك، عن أبيه أبه قال:"ما أعرف منكم شيئاً مِمَّا أدْرَكْتُ عليه الناس إلا النِّدَاء بالصلاة".
حدثني إبراهيم بن محمد بإسناده: عن أنس رضي الله عنه قال:"ما أعرف منكم شيئاً كنت أعهده على عَهْدِ رَسُولِ الله صلى الله عليه وسلم، ليس قولكم: لا إله إلا الله".
أخبرنا محمد بن سعيد قال: حدثنا أسد بإسناده عن الحسن قال: لو أنْ رجلاً أدرك السلف الأول ثم بُعِثَ اليوم ما عَرَفَ من الإسلام شيئا.ً قال: ووضع يَدَه على خَدِّه، ثم قال: إلا هذه الصلاة، ثم قال: أَمَا والله لمن عاش في هذه النكرا، ولَمْ يُدْرِك هذا السلف الصالح، فرأى مُبْتَدِعاً يدعو إلى بدعته، ورأى صاحب دُنْيَا يدعو إلى دنياه، فَعَصَمَه الله عن ذلك، وجعل قلبه يحن إلى ذكر هذا السلف الصالح، يسأل عن سَبِيِلهِم، ويتقص آثارهم، وَيَتَّبِعُ سبيلهم؛ ليعوض أجراً عظيماً، فكذلك فكونوا إن شاء الله تعالى".
حدثني عبد الله بن محمد بإسناده: عن ميمون بن مهران قال: "لو أنَّ رجلاً نشر فيكم من السَّلَفِ ما عَرَفَ فيكم غير هذه القِبْلَة".
أخبرنا محمد بن قدامة الهاشمي بإسناده: عن أُمِّ الدرداء قالت: "دَخَلَ عَلَيَّ أبو الدرداء مغضبًا، فقلتُ له:ما أغضبك؟ فقال: والله ما أعرف فيهم من أَمْرِ مُحَمَّد صلى الله عليه وسلم شيئاً، إلا أنَّهُم يُصَلُّون جميعاً.
وفي لفظ: لو أنَّ رجلاً تَعَلَّمَ الإسلام وَأَهَمَّه، ثم تَفَقَّدَه ما عَرَفَ منه شيئاً".
حدثني إبراهيم بإسناده:عن عبد الله بن عمرو قال:"لو أنَّ رجلين من أوائل هذه الأمَّةِ خَليَا بِمُصْحَفيهمَا في بعض هذه الأودية، لأَتَيَا الناس اليوم ولا يَعْرِفَان شيئاً مِمَّا كانا عليه".
قال مالك:"وبلغني أنا هريرة رضى الله عنه تلا : (إذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ وَرَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فيِ دِينِ اللَّهِ أَفْوَاجاً) فقال: والذي نفسي بيده إنَّ الناس لَيَخْرُجُونَ اليوم من دِيِنهِم أفواجاً،كَمَا دخلوا فيه أفْوَاجاً".
قِفْ تَأمَّل - رحمك الله - إذا كان هذا في زمن التابعين بِحَضْرَةِ أواخر الصحابة، فكيف يَغْتَرُّ المسلم بالكثرة، أو تُشْكلُ عليه، أو يَسْتَدِلُّ بِهَا على الباطل.
ثم روى ابن وضاح بإسناده: عن أبي أمية قال: أَتَيْتُ أَبَا ثَغْلَبَةَ الْخُشنِي فَقُلْتُ: يا أبا ثعلبة كيف تصنع في هذه الآية؟ قال: أَيَّة آية؟ قلت: قول الله تعال: (لاَ يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ)
قال: أَمَا وَالله لَقَدْ سَأَلْتَ عَنْهَا خَبِيراً، سَأَلْتُ عَنْهَا رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَقَال: ((بَلْ ائْتَمِرُوا بِالْمَعْرُوفِ، وَتَنَاهَوْا عَنْ الْمُنْكَرِ، حَتَّى إِذَا رَأَيْتَ شُحًّا مُطَاعًا، وَهَوًى مُتَّبَعاً، وَدُنْيَا مُؤثَرَةً، وَإِعْجَابَ كُلِّ ذِي رَأْيٍ بِرَأْيِهِ، فَعَلَيْكَ نَفْسِكَ، وَدَعْ الْعَوامَّ، فَإِنَّ مِنْ وَرَائِكُمْ أَيَّامًا الصَّبْرُ فِيهِنَّ مِثْلُ الْقَبْضِ عَلَى الْجَمْرِ، لِلْعَامِلِ فِيهِنَّ مِثْلُ أَجْرِ خَمْسِينَ رَجُلاً يَعْمَلُونَ مِثْلَ عَمَلِه. قِيلَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ أَجْرُ خَمْسِينَ مِنْهُمْ. قَالَ:أَجْرُ خَمْسِينَ مِنْكُمْ )).
ثم روى بإسناده عن عبد الله بن عمرو - رضي الله عنهما -: أنَّ النَّبِي صلى الله عليه وسلم قال : ((طُوبَى لِلْغُرَبَاءِ - ثلاثاً -، قالوا: يا رسول الله ومن الغرباء؟ قال: (( نَاسٌ صَالِحُونَ قَلِيل فيِ أُنَاسِ سَوْءٍ كَثِيرٍ، مَنْ يُبْغضهمْ أَكْثَرُ مِمَّنْ يُحبهم )).
أخبرنا محمد بن سعيد بإسناده: عن المعافري قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((طُوبَى لِلْغُرَبَاء الذِّين يَتَمَسكُون بِكِتَاب الله حِيْن يُنْكَر، وَيَعَمَلُون بالسُّنَّة حِين تُطْفَى)).
أخبرنا محمد بن يحيى : أخبرنا أسد بإسناده: عن سالم بن عبد الله، عن أبيه: أنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((بَدَأَ الإِسْلاَم غَرِيباً ولاَ تَقُوم السَّاعة حَتَّى يَكُونَ غَرِيباً كَمَا بَدَأَ،فَطُوبَى لِلْغُرَبَاءِ حِيْن يفْسد النَّاس،ثُمَّ طُوبَى لِلْغُرَبَاءِ حين يفْسد النَّاس )).
أخبرنا محمد بن يحيى : أخبرنا أسد بإسناده : عن عبدا لرحمن أنه سمع رسول الله صَلى الله عليه وسلم يقول (( إِنَّ الإِ سْلاَمَ بَدَأَغَرِيباً، وَسَيَعُود غَرِيباً كَمَا بَدَأَ، فَطُوبَى لِلْغُرَبَاء . قيل : وَمَنْ الغُرَبَاء يَا رَسُول الله؟ قال : الْذَّينَ يُصْلحُونَ إِذَا فَسَدَ النَّاس )).
هذا آخر ما نَقَلْتُهُ من كتاب "البدع والحوادث" للإمام الحافظ محمد بن وضاح _ رحمه الله _.
فتأمَّل _ رحمك الله _ أحاديث الغُرْبَة وبعضها في الصحيح مع كَثْرَتِهَا وشُهْرَتِهَا، وتأمَّل إجماع العلماء كلهم أنَّ هذا قد وَقَعَ من زَمَنٍ طويل، حتى قال ابن القيم _ رحمه الله _ : الإسلام في زَمَانِنَا أغرب منه في أول ظهوره.
فَتَأمَّل هذا تأمُّلاً جيداً لعلك أنْ تسلم من هذه الهوة الكبيرة التي هَلَكَ فيها أكثر الناس، وهي الاقتداء بالكثرة والسَّوَاد الأكبر، والأَقَلَّ، فما أقل من سلم منها ما أَقَلَّه !.
ولنختم بالحديث الصحيح الذي أخرجه مسلم في صحيحه، عن عبد الله بن مسعود رضى الله عنه: أنَّ رسول الله صَلى الله عليه وسلم قال : ((مَا مِنْ نَبَيًّ بَعَثَهُ اللهُ فيِ أُمَّةٍ قَبْلِي إِلاَّ كَانَ لَهُ مِنْ أُمَّتِهِ حَوَارِيُّونَ وَأَصْحَابٌ يَأْخُذُونَ بِسُنَّتِهِ،وَيَقْتَدُونَ بِأَمْرِهِ)).
وفي رواية : ((يَهْتَدُونَ بِهَدْيِهِ، وَيَسْتَنُّونَ بِسُنَّتِهِ، ثُمَّ إِنَّهَا تَخْلُفُ مِنْ بَعْدِهِمْ خُلُوفٌ يَقُولُونَ مَا لا يَفْعَلُونَ،وَيَفْعَلُونَ مَا لاَ يُؤْمَرُونَ فَمَنْ جَاهَدَهُم بِيَدِه فَهُو مُؤْمِن، وَمَنْ جَاهَدَهُم بِلِسَانِه فَهُو مُؤْمِن، وَلَسَ وَرَاء ذَلِكَ مِنْ الإِيْمَانِ حَبَّة خَرْدَل)) انتهى ما نقلته، والحمد لله رب العالمين.
وقد رأيت للشيخ تقي الدين رسالة كتبها وهو في السجن إلى بعض إخوانه لَمَّا أرسلوا إليه يشيرون عليه بالرِّفْقِ بخصومه؛ لِيَتَخَلَّصَ من السجن، أحببتُ أنْ أنقل أَوَّلَهَا لعظم منفعته قال - رحمه الله تعالى -: "الحمد لله، نحمده، ونستعينه، ونستغفره، ونتوب إليه، ونعوذ بالله من شُرُورِ أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مُضِلَّ له، ومن يُضْلِل فلا هادي له، وَنَشْهَد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وَنَشْهَد أنَّ محمداً عبده ورسوله، أرسله بالُهدَى ودين الحقِّ؛ليظهره على الدِّينِ كُلِّهِ وكفى بالله شهيداً، صلى الله عليه وعلى آله وَصَحْبِه وسلم تسليماً كثيراً.
أما بعد: فقد وصلت الورقة التي فيها رسالة الشيخين الناسكين القدوتين أيدهُمَا الله وسائر الإخوان بروح منه، وكتب في قُلُوبِهِم الإيمان، وأدخلهم مدخل صدق، وأخرجهم مخرج صدق، وجعل لهم من لدنه ما يَنْصُر به من السلطان سلطان العلم والحجة بالبيان والبرهان، وسلطان القدرة والنصرة بالسنان والأعوان، وجعلهم من أوليائه المتقين، وحزبه الغالبين لمن ناوأهم من الأقران، ومن الأئمة المتقين الذين جمعوا بين الصبر والإيقان، والله محقق ذلك، ومنجز وعده في السَّرَّ والإعلان، ومُنْتَقِم من حزب الشيطان لعباد الرحمن، لكن بِمَا اقتضته حكمته، ومضت به سُنَّتُهُ من الابتلاء والامتحان الذي يميز الله به أهل الصدق والإيمان من أهل النفاق والبهتان؛ إذ قد دَلَّ كتابه على أنه لا بد من الفتنة لِكُلِّ من ادعى الإيمان، والعقوبة لذوي السيئات والطغيان، فقال تعالى : (الم أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لا يُفْتَنُونَ وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ الله الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ أَنْ يَسْبِقُونَا سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ)[العنكبوت:1_4].
فَأَنْكَرَ سبحانه على ظَنَّ أنَّ أهل السيئات يفوتون الطالب الغالب، وأنَّ مُدَّعِي الإيمان يُتْرَكُون بلا فتنة تُمَيِّزُ بين الصادق والكاذب، وأخبر في كتابه أنَّ الصِّدْقَ في الإيمان لا يكون إلا بالجهاد في سبيله، فقال تعالى: (قَالَتْ الأَعْرَابُ آمَنَّا قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنَا وَلَمَّا يَدْخُلْ الإْيَمانُ فيِ قُلُوبِكُمْ وَإِنْ تُطِيعُوا الله وَرَسُولَهُ لا يَلتْكُمْ مِنْ أَعْمَالِكُمْ شَيْئاً إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُوِلِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتَابُوا وَجَاهَدُوا بِأَمْوالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ فيِ سَبِيلِ اللَّهِ أُوْلَئِكَ هُمْ الصَّادِقُونَ)[الحجرات:14_15].
وأخبرنا سبحانه وتعالى بِخُسْرَان الْمُنْقَلب على وجهه عند الفتنة الذي يَعْبُدُ الله فيها على حرف، وهو الجانب والطرف الذي لا يَسْتَقِر مَنْ هو عليه، بل لا يثبت على الإيمان إلا عند وجود ما يَهْوَاهُ من خير الدنيا، فقال تعالى: (وَمِنْ النَّاسِ مَنْ يَعْبُدُ اللهَ عَلَى حَرْف فَإِنْ أَصَابَهُ خَيْرٌ اطْمَأَنَّ بِهِ وَإِنْ أَصَابَتْهُ فتْنَةٌ انقَلَبَ عَلَى وَجْهِهِ خَسِرَ الدُّنْيَا وَالآخِرَةَ ذَلِكَ هُوَ الْخُسْرَانُ الْمُبِينُ ) [الحج 11 ].
وقال تعالى: (أَمْ حَسبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَعْلَمْ اللهُ الَّذِينَ جَاهَدُوا منْكُمْ وَيَعْلَمَ الصَّابِرِينَ )[آل عمران: 142 ].
وقال تعالى: (وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ حَتَّى نَعْلَمَ الْمُجَاهِدِينَ مِنْكُمْ وَالصَّابِرِينَ وَنَبْلُوَ أَخْبَارَكُمْ )[محمد: 31].
وأخبر سبحانه أنه عند وجود الْمُرْتَدَّين فلا بد من وجود المحبين المحبوبين المجاهدين، وقال تعالى: (يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِيِنهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللهُ بِقَوْمٍ يُحبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ ) [المائدة:54].
وهؤلاء هُمْ الشَّاكِرُون لنعمة الإيمان، الصابرون على الامتحان، كما قال تعالى: (وَمَا مُحَمَّدٌ إلاَّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإيْن مَاتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ )[آل عمران:144 ].
(وَاللهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ)[آل عمران:148].
فإذا أنعم الله على الإنسان بالصبر والشكر كان جميع ما يُقْضَى له من القضاء خيراً له، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم : ((لاَ يَقَضِي الله لِلْمُؤْمِنِ مِنْ قَضَاء إلاَّ كَانَ خَيْراً لَه، إِنْ أَصَابَتْهُ سَرَّاءُ فَشَكَرَ كَانَ خَيْراً لَهُ، وَإِنْ أَصَابَتْهُ ضَرَّاءُ فَصَبَر كَانَ خَيْراً لَهُ)). والصَّبَّار الشَّكُور هو المؤمن الذي ذكر الله في غير موضع من كتابه.
وَمَنْ لَمْ يُنْعم الله عليه بالصبر والشكر فهو بِشَرِّ حال، وكل واحد من السَّرَّاءِ والضَّرَّاءِ في حَقِّه يفضي به على قبيح المآل، فكيف إذا كان ذلك في الأمور العظيمة التي هي من محن الأنبياء والصِّدِّيقِين؟ وفيها تثبيت أصول الدِّينِ، وحفظ الإيمان والقرآن من كَيْد أهل النفاق والإلحاد والبهتان، فالحمد لله حمداً كثيراً طيباً مباركاً كَمَا يُحبُّ ربنا وَيَرْضَى، وكما ينبغى لكَرَمِ وجهه وَعِزِّ جلالة، والله المسئول أنْ يُثَبتكم وسائر المؤمنين بالقول الثابت فى الحياة الدنيا وفى الآخرة، ويتم نعمه عليكم الظاهرة والباطنة،وينصر دينه وكتابه ورسوله وعباده المؤمنين على الكافرين والمنافقين الذين أَمَرَنَا بجهادهم ولإغلاظ عليهم فى كتابه المبين".
انتهى ما نقلته من كلام أبى العباس رحمه الله فى الرسالة المذكورة وهى طويلة.
والحمد لله رب العالمين، وَصَلَّى الله عَلَى مُحَمّدٍ وآله وَصَحْبِه، وَسَلِّم تسليماً كثيراً.
انتهى كلام شيخ الإسلام محمد بن عبد الوهاب
من: ( مجموع فتوى ورسائل
شيخ الإسلام الإمام المجدد محمد بن عبد الوهاب رحمه الله رحمة واسعة )
( المجلد السادس ، صفحة 217 )
______________________________
* تنبه - أخي في الله - إلى أنه جعل ذكر معائب أهل البدع والطعن عليهم وكثرة ذكر ذلك من الإنصاف للناس، ولم يجعل الإنصاف ذكر الحسنات إلى جانب السيئات كما يقوله أهل منهج الموازنات، ألا ساء ما يحكمون. منقول
شيخ الإسلام مُحَمَّد بن عبد الوهاب
مِمَّا قال الشيخ الإمام وعلم الْهُدَاة الأعلام ومجدد سنة سيد الأنام e
( شيخ الإسلام مُحَمَّد بن عبد الوهاب التميمي - رحمه الله - ) :
( لنذكر من كلام الله تعالى، وكلام رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكلام أئمة العلم جُمَلا في جهاد القلب واللسان، ومعاداة أعداء الله، ومولاة أوليائه، وأنَّ الدَّينَ لا يصح، ولا يدخل الإنسان فيه إلا بذلك فنقول :
باب في وجوب عداوة أعداء الله من الكفار والمرتدين والمنافقين
وقوله الله تعالى: (وَقَدْ نَزَّلَ عَلَيْكُمْ فيِ الْكِتَابِ أَنْ إِذَا سَمِعْتُمْ آياتِ اللَّهِ يُكْفَرُ بِهَا وَيُسْتَهْزَأُ بِهَا فَلا تَقْعُدُوا مَعَهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فيِ حَدِيثٍ غَيْرِهِ إِنَّكُمْ إِذًا مِثْلُهُمْ) [النساء:240].
وقوله تعالى: (وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فإِنَّهُ مِنْهُمْ ) [المائدة:51].
وقوله تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاءَ) [الممتحنة:1].
إلى قوله تعالى : (كَفَرْنَا بِكُمْ وَبَدَا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ الْعَدَاوَةُ وَالْبَغْضَاءُ أَبَدًا حَتَّى تُؤْمِنُوا بِالله وَحْدَهُ) [الممتحنة :4].
وقوله تعالى: (لا تَجِدُ قَوْماً يُؤْمِنُونَ بِالله وَالْيَوْمِ الآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ الله وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُوا آباءهُمْ أَوْ أَبْنَاءَهُمْ أَوْ إِخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ) [المجادلة:22].
وقال الإمام الحافظ محمد بن وضاح: أخبرني غير واحد أنَّ أسد بن موسى [الملقب بأسد السنة] كتب إلى أسد بن الفرات:
"اعلم يا أخي أنَّ ما حملني على الكتاب إليك ما ذكر أهل بلادك من صالح ما أعطاك الله من إنصافك الناس*، وحسن حالك مما أظهرت من السُّنَّة، وعيبك لأهل البدع، وكثرة ذكرك لهم، وَطَعْنك عليهم، فَقَمَعَهُم الله بِكَ، وشَدَّ بك ظهر أهل السُّنَّة، وَقَوَّاك عليهم بإظهار عَيْبِهِم والطعن عليهم، فَأذَلَّهُم الله بيدك، وصاروا ببدعتهم مُسْتَتِرين، فأبشر يا أخي بثواب ذلك، واعْتَد به من أفضل حسناتك من الصلاة والصيام والحج والجهاد، وأين تقع هذه الأعمال من إقامة كتاب الله تعالى ، وإحياء سُنَّة رسُول الله صلى الله عليه وسلم، وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ((مَنْ أَحَيا شَيْئًا مِنْ سُنَّتِي كُنْت أنَا وَهُو فيِ الْجَنَّة كَهَاتَيْن - وضم بين أصبعيه - وقال :أَيُّمَا دَاع دَعَا إِلَى هُدَى فَاتُّبِعَ عَلَيه،كَانَ لَهُ مِثْلَ أَجْرِ مَنْ اتَّبَعَهُ إِلَى يَوم الْقِيَامَة)).
فمتى يدرك أجر هذا بشيء من عمله؟ وذكر أيضاً أنَّ لله عند كُلِّ بدعة كِيدَ بِهَا الإسلام وليًّا لله يَذُبُّ عنها، وينطق بِعَلامَاتِهَا، فَاغْتَنِمْ يا أخي هذا الفضل، وكُنْ من أهله، فإنَّ النَّبِي صلى الله عليه وسلم قال لمعاذ حين بعثه إلى اليمن وأوصاه : ((لأَنْ يَهْدِيَ اللَّهُ بِكَ رَجُلاً وَاحِدًا خَيْرٌ لَكَ مِنْ كَذَا وكَذاَ)) وأعظم القول فيه، فاغتنم ذلك وادْعُ إلى السُّنَّة حتَّى يكون لك في ذلك ألفة وجماعة يقومون مقامك إن حدث بك حدث، فيكونون أئمة بعدك، فيكون لك ثواب ذلك إلى يوم القيامة كما جاء في الأثر.
فاعمل على بصيرة ونية وحسبة، فَيَرُدّ الله بك المبتدع المفتون الزائغ الحائر، فتكون خلفًا من نبيك صلى الله عليه وسلم، فإنَّك لنْ تلقى الله بعمل يشبهه، وإيَّاكَ أنْ يكون لك من أهل البدع أخ أو جليس أو صاحب، فإنه جاء في الأثر :"مَنْ مشى إلى إلى صاحب بدعة، مشى في هدم الإسلام، وجاء: ما مِنْ إله يُعْبَدُ من دون الله أبغض إلى الله من صاحب هوى .
وقد وقعت اللعنة من رسول الله صلى الله عليه وسلم على أهل البدع، الله لا يقبل منهم صرفاً ولاعدلاً ولا فريضة ولاتطوعاً ، وَكُلما ازدادوا اجتهاداً وصوماً وصلاة ، ازدادوا من الله بُعْداً، فارفض مجالسهم وأذلهم وأبعدهم، كما أبعدهم الله، وأذلهم رسول الله صلى الله عليه وسلم وأئمة الهدى بعده". انتهى كلام أسد _رحمه الله تعالى _.
واعلم _ رحمك الله _ أنَّ كلامه وما يأتي من كلام أمثاله من السلف في مُعَاَدَاة أهل البدع والضلالة في ضلالة لا تُخْرِج عن الملة، لكنهم شَدَّدُوا في ذلك، وَحَذَّرُوا منه لأمرين:
الأول: غلظة البدعة في الدِّينِ في نفسها، فهي عندهم أَجَلُّ من الكبائر، ويعاملون أهلها أغلظ ممَّا يُعَامِلُون به أهل الكبائر، كما تجد في قلوب الناس أنَّ الرَّافِضي عندهم _ ولو كان عالماَ عابداَ_ أبغض وأَشَدُّ ذنباً من السُّنِّي المجاهر بالكبائر .
الثاني :أنَّ البدع تَجُرُ إلى الرِّدَّة الصريحة كما وُجِدَ من كثير من أهل البدع، فمثال البدعة التي شَدَّدُوا فيها مثل تَشْدِيد النبي صلى الله عليه وسلم فِيمَنْ عَبَدَ الله عند قبر رَجُل صالح خوفاً مما وقع من الشرك الصريح الذي يصبر به المسلم مرتدَّا، فَمَنْ فهم هذا، فهم الفَرْقَ بين البدع وبين ما نحن فيه من الكلام في الرِّدَّة ومُجَاهَدَة أهلها،أو النَّفَاق الأكبر ومُجَاهَدَة أهله، وهذا هو الذي نَزَلَتْ فيه الآيات المحكمات مثل قوله تعالى: (( يَاأَيُّهَا الَّذينَ آمَنُوا مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِيِنهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحُّبِهُمْ وَيحِبُّونَهُ) الآية [المائدة:54].
وقوله تعالى: ( يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ جَاهِدْ الْكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ وَمَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ )الآية[التوبة:73].
وقال ابن وضاح"في كتاب البدع والحوادث"بعد حديث ذكره:"أنه سَيَقعُ في هذه الأمَّةِ فِتْنَة الكُفْرِ وفتنة الضلالة.
قال - رحمه الله -: إنَّ فتنة الكُفْرِ هي الرِّدَّة يحلُّ فيها السَّبْي والأموال، وفتنة الضلالة لا يحل فيها السَّبْي والأموال".
وقال - رحمه الله - أيضاً: أخبرنا أسد: أخبرنا رجل عن ابن المبارك قال: قال ابن مسعود:"إنَّ لله عند كل بدعة كِيدَ بِهَا الإسلام وليًّا من أوليائه، يَذبُّ عنه، ويَنْطِقُ بعَلامَتِهَا، فاغتنموا حضور تلك المواطن، وَتَوَكَّلُوا على الله".
قال ابن المبارك: "وكفى بالله وكيلاً".
ثم ذَكَرَ بإسناده عن بعض السلف قال: "لأنْ أَرُدَّ رجلاً عن رأي سيئ أَحَبُّ إليَّ من اعتكاف شهر".
أخبرنا أسد، عن أبي إسحاق الحذاء، عن الأوزاعي قال:كان بعض أهل العلم يقولون: لا يَقْبَل الله من ذي بدعة صلاة، ولا صدقة، ولا صياماً، ولا جهاداً، ولا حجاً، ولا صرفاً، ولا عدلاً، وكانت أَسْلافكُمْ تَشْتَدُّ عليهم ألسنتهم، وَتَشْمَئزُّ منه قُلُوبُهُم، ويُحَذِّرُون الناس بدعتهم.
قال: ولو كانوا مُسْتَتِرِين ببدعتهم دون الناس ما كان لأحد أنْ يَهْتِكَ عنهم سِتْراً، ولا يظهر منهم عَوْرَةً، الله أَوْلَى بالأخذ بِهَا، أو بالتوبة عليها، فأمَّا إذا جاهروا به، فَنَشْرُ العلم حياة، والبلاغ عن رسول الله صلى الله عليه وسلم رحمة يعتصم بِهَا على مصر مُلْحِد.
ثم روى بإسناده قال: "جاء رَجُلٌ إلى حذيفة - وأبو موسى الأشعري قاعد -، فقال: أرأيت رجلاً ضرب بسيفه غضباً لله حتَّى قُتِلَ، أفي الجنَّةِ أم في النار؟ فقال أبو موسى: في الجنَّة. فقال حذيفة: استفهم الرجل وأفهمه ما تقول حتى فعل ذلك ثلاث مرات، فَلَمَّا كان في الثالثة قال: والله لا أستفهمه. فدعا به حذيفة فقال: رُوَيْدَك، وما يُدْرِيك أنَّ صاحبك لو ضرب بسيفه حتَّى ينقطع، فأصاب الحقَّ حتَّى يُقْتَل عليه فهو في الجنة، وإنْ لَمْ يصب الحقَّ، ولَمْ يوفقه الله للحَقِّ، فهو في النار؟ ثم قال: والذي نفسي بيده ليدخلنَّ النار في مثل الذي سَأَلْتَ عنه أكثر من كَذَا وكَذَا".
ثم ذكر بإسناده عن الحسن قال: "لا تُجَالِس صاحب بدعة، فإنه يُمْرِضُ قلبك".
ثم ذكر بإسناده عن سفيان الثوري قال:"مَنْ جالس صاحب بدعة لَمْ يسلم من إحدى ثلاث: إمَّا أنْ يكون فتنة لغيره، وإمَّا أنْ يقع في قلبه شيء فَيَزِل به فيدخله الله النار، وإمَّا أنْ يقول: والله مَا أُبَالِي ما تكلموه، وإني واثق بنفسي، فَمَنْ أمن الله على دينه طَرْفَة عَيْنٍ، سَلَبَه إيَّاه".
ثم ذكر بإسناده عن بعض السلف قال: "مَنْ أتى صاحب بدعة لِيوَقِّرَهُ، فقد أَعَان على هَدْمِ الإسلام".
أخبرنا أسد بن موسى قال: أخبرنا حماد بن زيد، عن أيوب قال: قال أبو قلابة: "لا تُجَالِسُوا أهل الأهواء، ولا تُجَادِلُوهُم، فإني لا آمن أنْ يَغْمِسُوكُم في ضلالتهم، أو يُلبسُوا عليكم ما كنتم تَعْرِفُون. قال أيوب: وكان والله من الفقهاء ذوي الألباب".
أخبرنا أسد بن موسى قال: أخبرنا زيد: عن محمد بن طلحة قال: قال إبراهيم: "لا تُجَالِسُوا أصحاب البدع، ولا تُكَلِّمُوهُم، فإنِّي أخاف أنْ تَرْتَدَّ قُلُوبُكُم".
أخبرنا أسد بالإسناد: عن أبي هريرة رضى الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ((الرَّجُلُ عَلَى دِيْنِ خَلِيْلِهِ،فَلْيَنْظُرْ أَحَدُكُمْ مَنْ يُخَالِل)).
أخبرنا أسد: أخبرنا مؤمل بن إسماعيل: عن حماد بن زيد، عن أيوب قال: "دخل على محمد بن سيرين يومًا رَجُلٌ فقال: يا أبا بكر أقرأ عليك آية من كتاب الله، لا أَزيدُ على أنْ أقرأها، ثم أخرج، فوضع أصبعيه في أذنيه، ثم قال: أحرّج عليك إن كنت مسلمًا لما خرجت من بيتي. قال: فقال: يا أبا بكر إني لا أزيد على أنْ أقرأ، قال: فقام بإزَارِهِ يَشدُّه عليه، وَتَهَيَّأ للقيام، فأقبلنا على الرَّجُل ، فقلنا: قد حرج عليك ألا خرجت، أفيحل لك أنْ تُخْرِجَ رجلاً من بيته؟ قال: فخرج، فقلنا: يا أبا بكر ما عليك لو قرأ آية، ثم خرج؟ قال: إني و الله لو ظننت أنَّ قلبي يثبت على ما هو عليه ما بَاليْتُ أنْ يقرأ،ولكني خفت أنْ يُلْقِيَ في قلبي شيئاً أجهد أنْ أُخْرِجَه مِن قلبي فلا أستطيع".
أخبرنا أسد قال :أخبرنا ضمر ة:عن سود ة قال:سمعت عبد الله بن القاسم وهو يقول :"ما كان عَبْدٌ على هَوَى فَتَركَهُ إلا آل إلى ما هو شَرٌّ منه. قال :فذكرت هذا الحديث لبعض أصحابنا فقال :تَصْدِيقُهُ في حديث عن النبي صلى الله عليه وسلم: (يَمْرُقُونَ مِنْ الإسْلامِ مُرُوقَ السَّهْمِ مِنْ الرَّميَّةِ، ثُمَّ لا يَرْجِعُونَ حَتَّى يَرْجِعَ السَّهْمُ إِلَى فَوْقِهُ)".
أخبرنا أسد قال: أخبرنا موسى بن إسماعيل: عن حماد بن زيد، عن أيوب قال: "كان رَجُلٌ يرى رأيًا، فرجع عنه، فأتيت مُحَمَّدًا فرحًا بذلك أُخْبِره، فقلت: أشعرت أنْ فلانًا رأيه الذى كان يرى.
فقال: انظروا إلى مَا يَتَحَوَّل، إنَّ آخر الحديث أَشَدَّ عليهم من أَوَّلِهِ يَمْرُقُونَ مِنْ الإسْلاَمِ لاَ يَعُودُونَ إِليه".
ثم روى بإسناده عن حذيفة: أنه أخذ حصاة بيضاء، فوضعها في كَفَّه ، ثُمَّ: إنَّ هدا الدَّينَ قد اسْتَضَاءَ استضاءة هذه الحصاة، ثم أخذ كفَّا من تراب، فجعل يذره على الحصاة حتى وَارَاهَا، ثم قال: والذي نفسي بيده لَيجيِئنَّ أقوام يَدْفِنُون الدِّينَ، كَمَا دُفِنَتْ هذه الحصاة".
أخبرنا محمد بن سعيد بإسناده: عن أبي الدرداء قال:"لو خَرَجَ رسول الله صلى الله عليه وسلم اليوم إليكم ما عَرَفَ شيئاً مما كان عليه هو وأصحابه إلا الصلاة.
قال الأوزاعي: فكيف لَوْ كَانَ اليوم.
قال عيسى - يعني: الروي - عن الأوزاعي: فكيف لو أدرك الأوزاعي هذا الزمان؟".
أخبرنا محمد بن سليمان بإسناده: عن علي رضي الله عنه أنه قال: "تَعَلَّمُوا العِلْمَ تُعْرَفُوا به، واعْمَلُوا به تكونوا من أهْلِهِ، فإنه سيأتي بعدكم زمان ينكر الحَقَّ فيه تسعة أعشارهم".
أجبرنا يحيى بن يحيى بإسناده: عن أبي سهل بن مالك، عن أبيه أبه قال:"ما أعرف منكم شيئاً مِمَّا أدْرَكْتُ عليه الناس إلا النِّدَاء بالصلاة".
حدثني إبراهيم بن محمد بإسناده: عن أنس رضي الله عنه قال:"ما أعرف منكم شيئاً كنت أعهده على عَهْدِ رَسُولِ الله صلى الله عليه وسلم، ليس قولكم: لا إله إلا الله".
أخبرنا محمد بن سعيد قال: حدثنا أسد بإسناده عن الحسن قال: لو أنْ رجلاً أدرك السلف الأول ثم بُعِثَ اليوم ما عَرَفَ من الإسلام شيئا.ً قال: ووضع يَدَه على خَدِّه، ثم قال: إلا هذه الصلاة، ثم قال: أَمَا والله لمن عاش في هذه النكرا، ولَمْ يُدْرِك هذا السلف الصالح، فرأى مُبْتَدِعاً يدعو إلى بدعته، ورأى صاحب دُنْيَا يدعو إلى دنياه، فَعَصَمَه الله عن ذلك، وجعل قلبه يحن إلى ذكر هذا السلف الصالح، يسأل عن سَبِيِلهِم، ويتقص آثارهم، وَيَتَّبِعُ سبيلهم؛ ليعوض أجراً عظيماً، فكذلك فكونوا إن شاء الله تعالى".
حدثني عبد الله بن محمد بإسناده: عن ميمون بن مهران قال: "لو أنَّ رجلاً نشر فيكم من السَّلَفِ ما عَرَفَ فيكم غير هذه القِبْلَة".
أخبرنا محمد بن قدامة الهاشمي بإسناده: عن أُمِّ الدرداء قالت: "دَخَلَ عَلَيَّ أبو الدرداء مغضبًا، فقلتُ له:ما أغضبك؟ فقال: والله ما أعرف فيهم من أَمْرِ مُحَمَّد صلى الله عليه وسلم شيئاً، إلا أنَّهُم يُصَلُّون جميعاً.
وفي لفظ: لو أنَّ رجلاً تَعَلَّمَ الإسلام وَأَهَمَّه، ثم تَفَقَّدَه ما عَرَفَ منه شيئاً".
حدثني إبراهيم بإسناده:عن عبد الله بن عمرو قال:"لو أنَّ رجلين من أوائل هذه الأمَّةِ خَليَا بِمُصْحَفيهمَا في بعض هذه الأودية، لأَتَيَا الناس اليوم ولا يَعْرِفَان شيئاً مِمَّا كانا عليه".
قال مالك:"وبلغني أنا هريرة رضى الله عنه تلا : (إذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ وَرَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فيِ دِينِ اللَّهِ أَفْوَاجاً) فقال: والذي نفسي بيده إنَّ الناس لَيَخْرُجُونَ اليوم من دِيِنهِم أفواجاً،كَمَا دخلوا فيه أفْوَاجاً".
قِفْ تَأمَّل - رحمك الله - إذا كان هذا في زمن التابعين بِحَضْرَةِ أواخر الصحابة، فكيف يَغْتَرُّ المسلم بالكثرة، أو تُشْكلُ عليه، أو يَسْتَدِلُّ بِهَا على الباطل.
ثم روى ابن وضاح بإسناده: عن أبي أمية قال: أَتَيْتُ أَبَا ثَغْلَبَةَ الْخُشنِي فَقُلْتُ: يا أبا ثعلبة كيف تصنع في هذه الآية؟ قال: أَيَّة آية؟ قلت: قول الله تعال: (لاَ يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ)
قال: أَمَا وَالله لَقَدْ سَأَلْتَ عَنْهَا خَبِيراً، سَأَلْتُ عَنْهَا رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَقَال: ((بَلْ ائْتَمِرُوا بِالْمَعْرُوفِ، وَتَنَاهَوْا عَنْ الْمُنْكَرِ، حَتَّى إِذَا رَأَيْتَ شُحًّا مُطَاعًا، وَهَوًى مُتَّبَعاً، وَدُنْيَا مُؤثَرَةً، وَإِعْجَابَ كُلِّ ذِي رَأْيٍ بِرَأْيِهِ، فَعَلَيْكَ نَفْسِكَ، وَدَعْ الْعَوامَّ، فَإِنَّ مِنْ وَرَائِكُمْ أَيَّامًا الصَّبْرُ فِيهِنَّ مِثْلُ الْقَبْضِ عَلَى الْجَمْرِ، لِلْعَامِلِ فِيهِنَّ مِثْلُ أَجْرِ خَمْسِينَ رَجُلاً يَعْمَلُونَ مِثْلَ عَمَلِه. قِيلَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ أَجْرُ خَمْسِينَ مِنْهُمْ. قَالَ:أَجْرُ خَمْسِينَ مِنْكُمْ )).
ثم روى بإسناده عن عبد الله بن عمرو - رضي الله عنهما -: أنَّ النَّبِي صلى الله عليه وسلم قال : ((طُوبَى لِلْغُرَبَاءِ - ثلاثاً -، قالوا: يا رسول الله ومن الغرباء؟ قال: (( نَاسٌ صَالِحُونَ قَلِيل فيِ أُنَاسِ سَوْءٍ كَثِيرٍ، مَنْ يُبْغضهمْ أَكْثَرُ مِمَّنْ يُحبهم )).
أخبرنا محمد بن سعيد بإسناده: عن المعافري قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((طُوبَى لِلْغُرَبَاء الذِّين يَتَمَسكُون بِكِتَاب الله حِيْن يُنْكَر، وَيَعَمَلُون بالسُّنَّة حِين تُطْفَى)).
أخبرنا محمد بن يحيى : أخبرنا أسد بإسناده: عن سالم بن عبد الله، عن أبيه: أنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((بَدَأَ الإِسْلاَم غَرِيباً ولاَ تَقُوم السَّاعة حَتَّى يَكُونَ غَرِيباً كَمَا بَدَأَ،فَطُوبَى لِلْغُرَبَاءِ حِيْن يفْسد النَّاس،ثُمَّ طُوبَى لِلْغُرَبَاءِ حين يفْسد النَّاس )).
أخبرنا محمد بن يحيى : أخبرنا أسد بإسناده : عن عبدا لرحمن أنه سمع رسول الله صَلى الله عليه وسلم يقول (( إِنَّ الإِ سْلاَمَ بَدَأَغَرِيباً، وَسَيَعُود غَرِيباً كَمَا بَدَأَ، فَطُوبَى لِلْغُرَبَاء . قيل : وَمَنْ الغُرَبَاء يَا رَسُول الله؟ قال : الْذَّينَ يُصْلحُونَ إِذَا فَسَدَ النَّاس )).
هذا آخر ما نَقَلْتُهُ من كتاب "البدع والحوادث" للإمام الحافظ محمد بن وضاح _ رحمه الله _.
فتأمَّل _ رحمك الله _ أحاديث الغُرْبَة وبعضها في الصحيح مع كَثْرَتِهَا وشُهْرَتِهَا، وتأمَّل إجماع العلماء كلهم أنَّ هذا قد وَقَعَ من زَمَنٍ طويل، حتى قال ابن القيم _ رحمه الله _ : الإسلام في زَمَانِنَا أغرب منه في أول ظهوره.
فَتَأمَّل هذا تأمُّلاً جيداً لعلك أنْ تسلم من هذه الهوة الكبيرة التي هَلَكَ فيها أكثر الناس، وهي الاقتداء بالكثرة والسَّوَاد الأكبر، والأَقَلَّ، فما أقل من سلم منها ما أَقَلَّه !.
ولنختم بالحديث الصحيح الذي أخرجه مسلم في صحيحه، عن عبد الله بن مسعود رضى الله عنه: أنَّ رسول الله صَلى الله عليه وسلم قال : ((مَا مِنْ نَبَيًّ بَعَثَهُ اللهُ فيِ أُمَّةٍ قَبْلِي إِلاَّ كَانَ لَهُ مِنْ أُمَّتِهِ حَوَارِيُّونَ وَأَصْحَابٌ يَأْخُذُونَ بِسُنَّتِهِ،وَيَقْتَدُونَ بِأَمْرِهِ)).
وفي رواية : ((يَهْتَدُونَ بِهَدْيِهِ، وَيَسْتَنُّونَ بِسُنَّتِهِ، ثُمَّ إِنَّهَا تَخْلُفُ مِنْ بَعْدِهِمْ خُلُوفٌ يَقُولُونَ مَا لا يَفْعَلُونَ،وَيَفْعَلُونَ مَا لاَ يُؤْمَرُونَ فَمَنْ جَاهَدَهُم بِيَدِه فَهُو مُؤْمِن، وَمَنْ جَاهَدَهُم بِلِسَانِه فَهُو مُؤْمِن، وَلَسَ وَرَاء ذَلِكَ مِنْ الإِيْمَانِ حَبَّة خَرْدَل)) انتهى ما نقلته، والحمد لله رب العالمين.
وقد رأيت للشيخ تقي الدين رسالة كتبها وهو في السجن إلى بعض إخوانه لَمَّا أرسلوا إليه يشيرون عليه بالرِّفْقِ بخصومه؛ لِيَتَخَلَّصَ من السجن، أحببتُ أنْ أنقل أَوَّلَهَا لعظم منفعته قال - رحمه الله تعالى -: "الحمد لله، نحمده، ونستعينه، ونستغفره، ونتوب إليه، ونعوذ بالله من شُرُورِ أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مُضِلَّ له، ومن يُضْلِل فلا هادي له، وَنَشْهَد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وَنَشْهَد أنَّ محمداً عبده ورسوله، أرسله بالُهدَى ودين الحقِّ؛ليظهره على الدِّينِ كُلِّهِ وكفى بالله شهيداً، صلى الله عليه وعلى آله وَصَحْبِه وسلم تسليماً كثيراً.
أما بعد: فقد وصلت الورقة التي فيها رسالة الشيخين الناسكين القدوتين أيدهُمَا الله وسائر الإخوان بروح منه، وكتب في قُلُوبِهِم الإيمان، وأدخلهم مدخل صدق، وأخرجهم مخرج صدق، وجعل لهم من لدنه ما يَنْصُر به من السلطان سلطان العلم والحجة بالبيان والبرهان، وسلطان القدرة والنصرة بالسنان والأعوان، وجعلهم من أوليائه المتقين، وحزبه الغالبين لمن ناوأهم من الأقران، ومن الأئمة المتقين الذين جمعوا بين الصبر والإيقان، والله محقق ذلك، ومنجز وعده في السَّرَّ والإعلان، ومُنْتَقِم من حزب الشيطان لعباد الرحمن، لكن بِمَا اقتضته حكمته، ومضت به سُنَّتُهُ من الابتلاء والامتحان الذي يميز الله به أهل الصدق والإيمان من أهل النفاق والبهتان؛ إذ قد دَلَّ كتابه على أنه لا بد من الفتنة لِكُلِّ من ادعى الإيمان، والعقوبة لذوي السيئات والطغيان، فقال تعالى : (الم أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لا يُفْتَنُونَ وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ الله الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ أَنْ يَسْبِقُونَا سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ)[العنكبوت:1_4].
فَأَنْكَرَ سبحانه على ظَنَّ أنَّ أهل السيئات يفوتون الطالب الغالب، وأنَّ مُدَّعِي الإيمان يُتْرَكُون بلا فتنة تُمَيِّزُ بين الصادق والكاذب، وأخبر في كتابه أنَّ الصِّدْقَ في الإيمان لا يكون إلا بالجهاد في سبيله، فقال تعالى: (قَالَتْ الأَعْرَابُ آمَنَّا قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنَا وَلَمَّا يَدْخُلْ الإْيَمانُ فيِ قُلُوبِكُمْ وَإِنْ تُطِيعُوا الله وَرَسُولَهُ لا يَلتْكُمْ مِنْ أَعْمَالِكُمْ شَيْئاً إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُوِلِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتَابُوا وَجَاهَدُوا بِأَمْوالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ فيِ سَبِيلِ اللَّهِ أُوْلَئِكَ هُمْ الصَّادِقُونَ)[الحجرات:14_15].
وأخبرنا سبحانه وتعالى بِخُسْرَان الْمُنْقَلب على وجهه عند الفتنة الذي يَعْبُدُ الله فيها على حرف، وهو الجانب والطرف الذي لا يَسْتَقِر مَنْ هو عليه، بل لا يثبت على الإيمان إلا عند وجود ما يَهْوَاهُ من خير الدنيا، فقال تعالى: (وَمِنْ النَّاسِ مَنْ يَعْبُدُ اللهَ عَلَى حَرْف فَإِنْ أَصَابَهُ خَيْرٌ اطْمَأَنَّ بِهِ وَإِنْ أَصَابَتْهُ فتْنَةٌ انقَلَبَ عَلَى وَجْهِهِ خَسِرَ الدُّنْيَا وَالآخِرَةَ ذَلِكَ هُوَ الْخُسْرَانُ الْمُبِينُ ) [الحج 11 ].
وقال تعالى: (أَمْ حَسبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَعْلَمْ اللهُ الَّذِينَ جَاهَدُوا منْكُمْ وَيَعْلَمَ الصَّابِرِينَ )[آل عمران: 142 ].
وقال تعالى: (وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ حَتَّى نَعْلَمَ الْمُجَاهِدِينَ مِنْكُمْ وَالصَّابِرِينَ وَنَبْلُوَ أَخْبَارَكُمْ )[محمد: 31].
وأخبر سبحانه أنه عند وجود الْمُرْتَدَّين فلا بد من وجود المحبين المحبوبين المجاهدين، وقال تعالى: (يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِيِنهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللهُ بِقَوْمٍ يُحبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ ) [المائدة:54].
وهؤلاء هُمْ الشَّاكِرُون لنعمة الإيمان، الصابرون على الامتحان، كما قال تعالى: (وَمَا مُحَمَّدٌ إلاَّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإيْن مَاتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ )[آل عمران:144 ].
(وَاللهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ)[آل عمران:148].
فإذا أنعم الله على الإنسان بالصبر والشكر كان جميع ما يُقْضَى له من القضاء خيراً له، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم : ((لاَ يَقَضِي الله لِلْمُؤْمِنِ مِنْ قَضَاء إلاَّ كَانَ خَيْراً لَه، إِنْ أَصَابَتْهُ سَرَّاءُ فَشَكَرَ كَانَ خَيْراً لَهُ، وَإِنْ أَصَابَتْهُ ضَرَّاءُ فَصَبَر كَانَ خَيْراً لَهُ)). والصَّبَّار الشَّكُور هو المؤمن الذي ذكر الله في غير موضع من كتابه.
وَمَنْ لَمْ يُنْعم الله عليه بالصبر والشكر فهو بِشَرِّ حال، وكل واحد من السَّرَّاءِ والضَّرَّاءِ في حَقِّه يفضي به على قبيح المآل، فكيف إذا كان ذلك في الأمور العظيمة التي هي من محن الأنبياء والصِّدِّيقِين؟ وفيها تثبيت أصول الدِّينِ، وحفظ الإيمان والقرآن من كَيْد أهل النفاق والإلحاد والبهتان، فالحمد لله حمداً كثيراً طيباً مباركاً كَمَا يُحبُّ ربنا وَيَرْضَى، وكما ينبغى لكَرَمِ وجهه وَعِزِّ جلالة، والله المسئول أنْ يُثَبتكم وسائر المؤمنين بالقول الثابت فى الحياة الدنيا وفى الآخرة، ويتم نعمه عليكم الظاهرة والباطنة،وينصر دينه وكتابه ورسوله وعباده المؤمنين على الكافرين والمنافقين الذين أَمَرَنَا بجهادهم ولإغلاظ عليهم فى كتابه المبين".
انتهى ما نقلته من كلام أبى العباس رحمه الله فى الرسالة المذكورة وهى طويلة.
والحمد لله رب العالمين، وَصَلَّى الله عَلَى مُحَمّدٍ وآله وَصَحْبِه، وَسَلِّم تسليماً كثيراً.
انتهى كلام شيخ الإسلام محمد بن عبد الوهاب
من: ( مجموع فتوى ورسائل
شيخ الإسلام الإمام المجدد محمد بن عبد الوهاب رحمه الله رحمة واسعة )
( المجلد السادس ، صفحة 217 )
______________________________
* تنبه - أخي في الله - إلى أنه جعل ذكر معائب أهل البدع والطعن عليهم وكثرة ذكر ذلك من الإنصاف للناس، ولم يجعل الإنصاف ذكر الحسنات إلى جانب السيئات كما يقوله أهل منهج الموازنات، ألا ساء ما يحكمون. منقول