سبع وستمائة من الهجرة
وفيها توفي من الأعيان :
الشيخ أبو عمر
باني المدرسة بسفح قاسيون
للفقراء المشتغلين في القرآن رحمه الله ، محمد بن أحمد بن محمد بن قدامة الشيخ الصالح أبو عمر المقدسي ، باني المدرسة التي بالسفح يقرأبها القرآن العزيز ، وهو أخو الشيخ موفق الدين عبد الله بن أحمد بن محمد بن قدامة ، وكان أبو عمر أسن منه ، لأنه ولد سنة ثمان وعشرين وخمسمائة بقرية الساويا ، وقيل بجماعيل ، والشيخ أبو عمر ربى الشيخ موفق الدين وأحسن إليه وزوجه ، وكان يقوم بمصالحه ، فلما قدموا من الأرض المقدسة نزلوا بمسجد أبي صالح خارج باب شرقي ثم انتقلوا منه إلى السفح ، ليس به من العمارة شيء سوى دير الحوراني ،
قال فقيل لنا الصالحيين نسبة إلى مسجد أبي صالح لا أنا صالحون ، وسميت هذه البقعة من ذلك الحين بالصالحية نسبة إلينا ، فقرأ الشيخ أبو عمر القرآن على رواية أبي عمرو ، وحفظمختصر الخرقي في الفقه ، ثم إن أخاه الموفق شرحه فيما بعد فكتب شرحه بيده ، وكتب تفسير البغوي والحلية لأبي نعيم والإبانة لابن بطة ، وكتب مصاحف كثيرة بيده للناس ولأهله بلا أجرة ، وكان كثير العبادة والزهادة والتهجد ، ويصوم الدهر وكان لا يزال متبسما ، وكان يقرأ كل يوم سبعا بين الظهر والعصر ويصلي الضحى ثماني ركعات يقرأ فيهن ألف مرة قل هو الله أحد ، وكان يزور مغارة الدم في كل يوم اثنين وخميس ، ويجمع في طريقه الشيح فيعطيه الأرامل والمساكين ، ومهما تهيأ له من فتوح وغيره يؤثر به أهله والمساكين ، وكان متقللا في الملبس وربما مضت عليه مدة لا يلبس فيها سراويل ولا قميصا ، وكان يقطع من عمامتهقطعا يتصدق بها أو في تكميل كفن ميت ، وكان هو وأخوه وابن خالهم الحافظ عبد الغني وأخوه الشيخ العماد لا ينقطعون عن غزاة يخرج فيها الملك صلاح الدين إلى بلاد الفرنج ، وقد حضروا معه فتح القدس والسواحل وغيرها ، وجاء الملك العادل يوما إلى ختمهم أي خصهم لزيارة أبي عمر وهو قائم يصلي ، فما قطع صلاته ولا أوجز فيها ، فجلس السلطان واستمر أبو عمر في صلاته ولم يلتفت إليه حتى قضى صلاته رحمه الله .
والشيخ أبو عمر هو الذي شرع في بناء المسجد الجامع أولا بمال رجل فامي ، فنفد ما عنده وقد ارتفع البناء قامة فبعث صاحب إربل الملك المظفر كوكرى مالا فكمل به ، وولى خطابته الشيخ أبو عمر ، فكان يخطب به وعليه لباسهالضعيف وعليه أنوار الخشية والتقوى والخوف من الله عز وجل ، والمسك كيف خبأته ظهر عليك وبان ، وكان المنبر الذي فيه يومئذ ثلاث مراقي والرابعة للجلوس ، كما كان المنبر النبوي .
وقد حكى أبو المظفر : أنه حضر يوما عنده الجمعة وكان الشيخ عبد الله البوتاني حاضرا الجمعة أيضا عنده ، فلما انتهى في خطبته إلى الدعاء للسلطان قال :
اللهم اصلح عبدك الملك العادل سيف الدين أبا بكر بن أيوب ، فلما قال ذلك نهض الشيخ عبد الله البوتاني وأخذ نعليه وخرج من الجامع وترك صلاة الجمعة ، فلما فرغنا ذهبت إلى البوتاني فقلت له : ماذا نقمت عليه في قوله ؟ فقال يقول لهذا الظالم العادل ؟ لا صليت معه ، قال فبينمانحن في الحديث إذ أقبل الشيخ أبو عمر ومعه رغيف وخيارتان فكسر ذلك الرغيف وقال الصلاة ، ثم قال :
قال النبي : « بعثت في زمن الملك العادل كسرى » فتبسم الشيخ عبد الله البوتاني ومد يده فأكل ، فلما فرغوا قام الشيخ أبو عمر فذهب ، فلما ذهب قال لي البوتاني : يا سيدنا ماذا إلا رجل صالح .
قال أبو شامة : كان البوتاني من الصالحين الكبار ، وقد رأيته وكانت وفاته بعد أبي عمر بعشر سنين فلم يسامح الشيخ أبا عمر في تساهله مع ورعه ، ولعله كان مسافرا والمسافر لا جمعة عليه ، وعذر الشيخ أبي عمر أن هذا قد جرى مجرى الأعلام العادل الكامل الأشرفونحوه ،
كما يقال سالم وغانم ومسعود ومحمود ، وقد يكون ذلك على الضد والعكس في هذه الأسماء ، فلا يكون سالما ولا غانما ولا مسعودا ولا محمودا ، وكذلك اسم العادل ونحوه من أسماء الملوك وألقابهم ، والتجار وغيرهم ، كما يقال شمس الدين وبدر الدين وعز الدين وتاج الدين ونحو ذلك قد يكون معكوسا على الضد والانقلاب ومثله الشافعي والحنبلي وغيرهم .
وقد تكون أعماله ضد ما كان عليه إمامه الأول من الزهد والعبادة ونحو ذلك ، وكذلك العادل يدخل إطلاقه على المشترك والله اعلم .
قلت : هذا الحديث الذي احتج به الشيخ أبو عمر لا أصل له ، وليس هو في شيء من الكتب المشهورة ، وعجبا له ولأبي المظفر ثم لأبي شامة في قبول مثل هذا وأخذه منه مسلما إليه في والله أعلم .
ثم شرع أبو المظفر في ذكر فضائل أبي عمر ومناقبه وكراماته وما رآه هو وغيره من أحواله الصالحة .
قال وكان على مذهب السلف الصالح سمتا وهديا ، وكان حسن العقيدة متمسكا بالكتاب والسنة والآثار المروية يمرها كما جاءت من غير طعن على أئمة الدين وعلماء المسلمين ، وكان ينهى عن صحبة المتبدعين ويأمر بصحبة الصالحين الذين هم على سنة سيد المرسلين وخاتم النبيين ، وربما أنشدني لنفسه في ذلك :
أوصيكم بالقول في القرآن * * بقول أهل الحقوالإتقان
ليس بمخلوق ولا بفان * * لكن كلام الملك الديان
آياته مشرقة المعاني * * متلوة للـه باللسـان
محفوظةً في الصدر والجنان * * مكتوبةٌ في الصحف بالبنان
والقول في الصفات يا إخواني * * كالذات والعلم مع البيان
إمرارها من غير ما كفران * * من غير تشبيهٍ ولا عطلان
قال وأنشدني لنفسه :
ألم يك ملهاة عن اللهو أنني * * بدا لي شيب الرأس والضعف والألم
ألم بي الخطب الذي لو بكيته * * حياتي حتى يذهب الدمع لم ألم
قال ومرض أياما فلم يترك شيئا مما كان يعمله من الأوراد ، حتى كانت وفاته وقت السحر في ليلة الثلاثاء التاسع والعشرين من ربيع الأول فغسل في الدير وحمل إلى مقبرته في خلق كثير لا يعلمهم إلا الله عز وجل ، ولم يبق أحد من الدولة والأمراء والعلماء والقضاة وغيرهم إلا حضر جنازته .
وكان يوما مشهودا وكان الحر شديدا فأظلت الناس سحابة من الحر ، كان يسمع منها كدوي النحل ، وكان الناس ينتهبون أكفانه وبيعت ثيابه بالغالي الغالي ، ورثاه الشعراء بمراثي حسنة ، ورؤيت له منامات صالحة رحمه الله .
وفيها توفي من الأعيان :
الشيخ أبو عمر
باني المدرسة بسفح قاسيون
للفقراء المشتغلين في القرآن رحمه الله ، محمد بن أحمد بن محمد بن قدامة الشيخ الصالح أبو عمر المقدسي ، باني المدرسة التي بالسفح يقرأبها القرآن العزيز ، وهو أخو الشيخ موفق الدين عبد الله بن أحمد بن محمد بن قدامة ، وكان أبو عمر أسن منه ، لأنه ولد سنة ثمان وعشرين وخمسمائة بقرية الساويا ، وقيل بجماعيل ، والشيخ أبو عمر ربى الشيخ موفق الدين وأحسن إليه وزوجه ، وكان يقوم بمصالحه ، فلما قدموا من الأرض المقدسة نزلوا بمسجد أبي صالح خارج باب شرقي ثم انتقلوا منه إلى السفح ، ليس به من العمارة شيء سوى دير الحوراني ،
قال فقيل لنا الصالحيين نسبة إلى مسجد أبي صالح لا أنا صالحون ، وسميت هذه البقعة من ذلك الحين بالصالحية نسبة إلينا ، فقرأ الشيخ أبو عمر القرآن على رواية أبي عمرو ، وحفظمختصر الخرقي في الفقه ، ثم إن أخاه الموفق شرحه فيما بعد فكتب شرحه بيده ، وكتب تفسير البغوي والحلية لأبي نعيم والإبانة لابن بطة ، وكتب مصاحف كثيرة بيده للناس ولأهله بلا أجرة ، وكان كثير العبادة والزهادة والتهجد ، ويصوم الدهر وكان لا يزال متبسما ، وكان يقرأ كل يوم سبعا بين الظهر والعصر ويصلي الضحى ثماني ركعات يقرأ فيهن ألف مرة قل هو الله أحد ، وكان يزور مغارة الدم في كل يوم اثنين وخميس ، ويجمع في طريقه الشيح فيعطيه الأرامل والمساكين ، ومهما تهيأ له من فتوح وغيره يؤثر به أهله والمساكين ، وكان متقللا في الملبس وربما مضت عليه مدة لا يلبس فيها سراويل ولا قميصا ، وكان يقطع من عمامتهقطعا يتصدق بها أو في تكميل كفن ميت ، وكان هو وأخوه وابن خالهم الحافظ عبد الغني وأخوه الشيخ العماد لا ينقطعون عن غزاة يخرج فيها الملك صلاح الدين إلى بلاد الفرنج ، وقد حضروا معه فتح القدس والسواحل وغيرها ، وجاء الملك العادل يوما إلى ختمهم أي خصهم لزيارة أبي عمر وهو قائم يصلي ، فما قطع صلاته ولا أوجز فيها ، فجلس السلطان واستمر أبو عمر في صلاته ولم يلتفت إليه حتى قضى صلاته رحمه الله .
والشيخ أبو عمر هو الذي شرع في بناء المسجد الجامع أولا بمال رجل فامي ، فنفد ما عنده وقد ارتفع البناء قامة فبعث صاحب إربل الملك المظفر كوكرى مالا فكمل به ، وولى خطابته الشيخ أبو عمر ، فكان يخطب به وعليه لباسهالضعيف وعليه أنوار الخشية والتقوى والخوف من الله عز وجل ، والمسك كيف خبأته ظهر عليك وبان ، وكان المنبر الذي فيه يومئذ ثلاث مراقي والرابعة للجلوس ، كما كان المنبر النبوي .
وقد حكى أبو المظفر : أنه حضر يوما عنده الجمعة وكان الشيخ عبد الله البوتاني حاضرا الجمعة أيضا عنده ، فلما انتهى في خطبته إلى الدعاء للسلطان قال :
اللهم اصلح عبدك الملك العادل سيف الدين أبا بكر بن أيوب ، فلما قال ذلك نهض الشيخ عبد الله البوتاني وأخذ نعليه وخرج من الجامع وترك صلاة الجمعة ، فلما فرغنا ذهبت إلى البوتاني فقلت له : ماذا نقمت عليه في قوله ؟ فقال يقول لهذا الظالم العادل ؟ لا صليت معه ، قال فبينمانحن في الحديث إذ أقبل الشيخ أبو عمر ومعه رغيف وخيارتان فكسر ذلك الرغيف وقال الصلاة ، ثم قال :
قال النبي : « بعثت في زمن الملك العادل كسرى » فتبسم الشيخ عبد الله البوتاني ومد يده فأكل ، فلما فرغوا قام الشيخ أبو عمر فذهب ، فلما ذهب قال لي البوتاني : يا سيدنا ماذا إلا رجل صالح .
قال أبو شامة : كان البوتاني من الصالحين الكبار ، وقد رأيته وكانت وفاته بعد أبي عمر بعشر سنين فلم يسامح الشيخ أبا عمر في تساهله مع ورعه ، ولعله كان مسافرا والمسافر لا جمعة عليه ، وعذر الشيخ أبي عمر أن هذا قد جرى مجرى الأعلام العادل الكامل الأشرفونحوه ،
كما يقال سالم وغانم ومسعود ومحمود ، وقد يكون ذلك على الضد والعكس في هذه الأسماء ، فلا يكون سالما ولا غانما ولا مسعودا ولا محمودا ، وكذلك اسم العادل ونحوه من أسماء الملوك وألقابهم ، والتجار وغيرهم ، كما يقال شمس الدين وبدر الدين وعز الدين وتاج الدين ونحو ذلك قد يكون معكوسا على الضد والانقلاب ومثله الشافعي والحنبلي وغيرهم .
وقد تكون أعماله ضد ما كان عليه إمامه الأول من الزهد والعبادة ونحو ذلك ، وكذلك العادل يدخل إطلاقه على المشترك والله اعلم .
قلت : هذا الحديث الذي احتج به الشيخ أبو عمر لا أصل له ، وليس هو في شيء من الكتب المشهورة ، وعجبا له ولأبي المظفر ثم لأبي شامة في قبول مثل هذا وأخذه منه مسلما إليه في والله أعلم .
ثم شرع أبو المظفر في ذكر فضائل أبي عمر ومناقبه وكراماته وما رآه هو وغيره من أحواله الصالحة .
قال وكان على مذهب السلف الصالح سمتا وهديا ، وكان حسن العقيدة متمسكا بالكتاب والسنة والآثار المروية يمرها كما جاءت من غير طعن على أئمة الدين وعلماء المسلمين ، وكان ينهى عن صحبة المتبدعين ويأمر بصحبة الصالحين الذين هم على سنة سيد المرسلين وخاتم النبيين ، وربما أنشدني لنفسه في ذلك :
أوصيكم بالقول في القرآن * * بقول أهل الحقوالإتقان
ليس بمخلوق ولا بفان * * لكن كلام الملك الديان
آياته مشرقة المعاني * * متلوة للـه باللسـان
محفوظةً في الصدر والجنان * * مكتوبةٌ في الصحف بالبنان
والقول في الصفات يا إخواني * * كالذات والعلم مع البيان
إمرارها من غير ما كفران * * من غير تشبيهٍ ولا عطلان
قال وأنشدني لنفسه :
ألم يك ملهاة عن اللهو أنني * * بدا لي شيب الرأس والضعف والألم
ألم بي الخطب الذي لو بكيته * * حياتي حتى يذهب الدمع لم ألم
قال ومرض أياما فلم يترك شيئا مما كان يعمله من الأوراد ، حتى كانت وفاته وقت السحر في ليلة الثلاثاء التاسع والعشرين من ربيع الأول فغسل في الدير وحمل إلى مقبرته في خلق كثير لا يعلمهم إلا الله عز وجل ، ولم يبق أحد من الدولة والأمراء والعلماء والقضاة وغيرهم إلا حضر جنازته .
وكان يوما مشهودا وكان الحر شديدا فأظلت الناس سحابة من الحر ، كان يسمع منها كدوي النحل ، وكان الناس ينتهبون أكفانه وبيعت ثيابه بالغالي الغالي ، ورثاه الشعراء بمراثي حسنة ، ورؤيت له منامات صالحة رحمه الله .
وترك من الأولاد ثلاثة ذكور : عمر ، وبه كان يكنى ، والشرف عبد الله وهو الذي ولي الخطابة بعد أبيه ، وهو والد العز أحمد . وعبد الرحمن .ولما توفي الشرف عبد الله صارت الخطابة لأخيه شمس الدين عبد الرحمن بن أبي عمر ، وكان من أولاد أبيه الذكور ، فهؤلاء أولاده الذكور ، وترك من الإناث بنات كما قال الله تعالى : { مُسْلِمَاتٍ مُؤْمِنَاتٍ قَانِتَاتٍ تَائِبَاتٍ عَابِدَاتٍ سَائِحَاتٍ ثَيِّبَاتٍ وَأَبْكَارا } [11] قال وقبره في طريق مغارة الجوع في الزقاق المقابل لدير الحوراني رحمه الله وإيانا .