تنبيه أولي العقول والأبصار إلى أنَّ تنزيل القرآن لأجل التدبر والاعتبار فلا يُقرأ هذّاً كهذِّ الأشعار
بسم الله الرحمن الرحيم
فإنه مما يؤسَفُ له ويُحزِن ما نراه في بعض المساجد والمجالس من تلاوة القرآن العظيم بما لا يليق به من التعجل فيه كيفما اتفق، دون تعظيم لهذا الكتاب العزيز -الذي هو كلام الله ربِّنا تبارك وتعالى- ولا تدبُّر لمعانيه، ولا تفهُّم لمراده، ولا تعقُّل في استيعاب أحكامه، ومعرفة أخباره، والوقوف عند وعده ورجاء ما أعده الله تعالى للمتقين، والوقوف عند وعيده والخوف مما أعده الله تعالى للظالمين؛ فلا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم.
ومن ذلك أيضاً ما نراه من بعض المستمعين لآيات القرآن العظيم خلف بعض الأئمة وعبر بعض الأجهزة الحديثة الذين لا يستمعون لها لأجل التدبر فيها، وإنما يستمعون لها طَرَباً في أصوات قارئيها، ويدل على ذلك ما نراه في المجتمع من تسابق الكثير إلى الاستماع لأصحاب الأصوات الرنانة في بعض المساجد وبعض الأجهزة الحديثة وإن كانوا بعيدين عن الذوق السليم في تجويد آيات الكتاب الحكيم.
ومن ذلك أيضاً ما يفعله بعض المسلمين في أجهزة الهاتف النقالة من جعل آيات القرآن العزيز نغمات تنبيه على وجود اتصال ما، وما شابه ذلك من الدلائل على حرمان كثير من الناس -نسأل الله تعالى ألا يجعلنا منهم- من تعظيم كتاب ربهم وتوقيره وإعلاء قدره؛ فإنا لله وإنا إليه راجعون.
وبعدُ فهذه بعض النقولات عن بعض أهل العلم في تفسير وشرح بعض آيات القرآن العظيم في هذا الشأن:
قال الله تعالى: ﴿كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِّيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُوْلُوا الأَلْبَابِ﴾.
قال العلامة المفسر محمد بن أحمد القرطبي في تفسيره (الجامع لأحكام القرآن)(15/192):
[قوله تعالى: {كِتابٌ} أي: (هذا كتاب) {أَنْزَلْناهُ إِلَيْكَ مُبارَكٌ} (يا محمد) {لِيَدَّبَّرُوا} أي: (ليتدبروا) فأدغمت التاء في الدال، وفي هذا دليلٌ على وجوب معرفة معاني القرآن، ودليلٌ على أن الترتيل أفضل من الهذِّ(1)؛ إذ لا يصح التدبر مع الهذِّ على ما بيَّناه في كتاب التذكار ..]. اهـ
قال العلامة المفسر محمد بن علي الشوكاني (رحمه الله تعالى) في تفسيره (فتح القدير الجامع بين فني الرواية والدراية من علم التفسير)(6/242):
[وقوله: {لّيَدَّبَّرُواْ} أصله: (ليتدبروا) فأدغمت التاء في الدال، وهو متعلق بِـ(أنزلناه).
وفي الآية دليلٌ على أن الله سبحانه إنما أنزل القرآن للتدبر والتفكر في معانيه لا لمجرد التلاوة بدون تدبر .. {وَلِيَتَذَكَّرَ أُوْلُواْ الأَلْبَابِ} أي: (ليتَّعظ أهل العقول)، والألباب جمع لب: وهو العقل]. اهـ
قال العلامة المفسر محمد الأمين الشنقيطي (رحمه الله تعالى) في تفسيره (أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن)(6/344-345):
[قوله تعالى: {كِتَابٌ} خبر مبتدأ محذوف، أي: (هذا كتاب) وقد ذكر جل وعلا، في هذه الآية الكريمة (أنه أنزل هذا الكتاب -مُعظِّماً نفسه جل وعلا بصيغة الجمع- وأنه كتاب مبارك، وأنَّ مِنْ حِكَمِ إنزاله أن يتدبر الناس آياته) أي: (يتفهَّموها ويتعقَّلوها ويُمعِنوا النظر فيها حتى يفهموا ما فيها من أنواع الهدى)، (وأن يتذكر أولوا الألباب) أي: (يتَّعِظ أصحاب العقول السليمة من شوائب الاختلال). وكل ما ذكره في هذه الآية الكريمة جاء واضحاً في آيات أخر]. ثم قال:
[.. وأما كون تدبر آياته من حِكَمِ إنزاله: فقد أشار إليه في بعض الآيات بالتحضيض على تدبره وتوبيخ من لم يتدبره، كقوله تعالى: {أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا}، وقوله تعالى: {أَفَلاَ يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِندِ غَيْرِ اللهِ لَوَجَدُواْ فِيهِ اخْتِلاَفاً كَثِيراً}، وقوله تعالى: {أَفَلَمْ يَدَّبَّرُوا الْقَوْلَ أَمْ جَاءَهُم مَّا لَمْ يَأْتِ آبَاءَهُمُ الأَوَّلِينَ}.
وأما كون تذكر أولي الألباب من حِكَمِ إنزاله فقد ذكره في غير هذا الموضع مقترناً ببعض الحِكَمِ الأخرى التي لم تذكر في آية (ص) هذه، كقوله تعالى في سورة إبراهيم: {هَذَا بَلاَغٌ لِّلنَّاسِ وَلِيُنذَرُواْ بِهِ وَلِيَعْلَمُواْ أَنَّمَا هُوَ إِلَهٌ وَاحِدٌ وَلِيَذَّكَّرَ أُوْلُواْ الأَلْبَابِ} فقد بين في هذه الآية الكريمة أن تذكر أولي الألباب من حِكَمِ إنزاله، مبيناً منها حكمتين أخريين من حِكَمِ إنزاله، وهما: (إنذار الناس به، وتحقيق معنى لا إله إلا الله)، وكون إنذار الناس وتذكر أولي الألباب من حِكَمِ إنزاله ذكره في قوله تعالى: {المص كِتَابٌ أُنزِلَ إِلَيْكَ فَلاَ يَكُن فِي صَدْرِكَ حَرَجٌ مِّنْهُ لِتُنذِرَ بِهِ وَذِكْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ}؛ لأن اللام في قوله {لِتُنذِرَ} متعلقة بقوله: {أُنزِلَ}، والذكرى اسم مصدر بمعنى التذكير، والمؤمنون في الآية لا يخفى أنهم هم أولو الألباب]. اهـ
قال العلامة المفسر عبد الرحمن بن ناصر السعدي (رحمه الله تعالى) في تفسيره (تيسير الكريم الرحمن في تفسير كلام المنان)(1/712):
[{كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ}: (فيه خير كثير وعلم غزير، فيه كل هدى من ضلالة وشفاء من داء ونور يستضاء به في الظلمات وكل حُكْمٍ يحتاج إليه المكلفون، وفيه من الأدلة القطعية على كل مطلوب ما كان به أجل كتاب طَرَقَ العالَمَ منذ أنشأه الله).
{لِيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ} أي: (هذه الحكمة من إنزاله: ليتدبر الناس آياته؛ فيستخرجوا علمها ويتأملوا أسرارها وحِكَمَها، فإنه بالتدبر فيه والتأمل لمعانيه وإعادة الفكر فيها مرة بعد مرة تُدرك بركته وخيره)، وهذا يدل على الحث على تدبر القرآن، وأنه من أفضل الأعمال، وأن القراءة المشتملة على التدبر أفضل من سرعة التلاوة التي لا يحصل بها هذا المقصود.
{وَلِيَتَذَكَّرَ أُوْلُوا الأَلْبَابِ} أي: (أولو العقول الصحيحة يتذكرون بتدبرهم لها كلَّ علم ومطلوب)، فدل هذا على أنه بحسب لب الإنسان وعقله يحصل له التذكر والانتفاع بهذا الكتاب]. اهـ
قال الله تعالى: ﴿وَقُرْآناً فَرَقْنَاهُ لِتَقْرَأَهُ عَلَى النَّاسِ عَلَى مُكْثٍ وَنَزَّلْنَاهُ تَنزِيلاً﴾.
وقال الله تعالى: ﴿وَرَتِّلِ الْقُرْآنَ تَرْتِيلاً﴾.
قال العلامة المفسر محمد بن أحمد القرطبي في تفسيره (الجامع لأحكام القرآن)(10/339-340):
[{عَلَى مُكْثٍ} أي: (تطاول في المدة شيئاً بعد شيءٍ)، ويتناسق هذا القرآن على قراءة ابن مسعود، أي: (أنزلناه آية آية وسورة سورة)، وأما على القول الأول فيكون {عَلى مُكْثٍ} أي: (على ترسل في التلاوة وترتيل) قاله مجاهد وابن عباس وابن جريج، فيعطي القارئ القراءة حقها ترتيلها وتحسينها وتطييبها بالصوت الحسن ما أمكن من غير تلحين ولا تطريب مُؤَدٍّ إلى تغيير لفظ القرآن بزيادة أو نقصان فإن ذلك حرام على ما تقدم أول الكتاب]. اهـ
قال العلامة المفسر محمد الأمين الشنقيطي (رحمه الله تعالى) في تفسيره (أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن)(3/188):
[وقد بيَّن جل وعلا أنه بيَّنَ هذا القرآن لنبيِّهِ ليقرأه على الناس (على مكث) أي: (مَهَلٍ وتُؤدة وتثبُّت)، وذلك يدل على أنَّ القرآن لا ينبغي أن يُقرأ إلا كذلك، وقد أمر تعالى بما يدل على ذلك في قوله: {وَرَتِّلِ الْقُرْآنَ تَرْتِيْلاً}، ويدل لذلك أيضاً قوله: {وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْلا نُزِّلَ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ جُمْلَةً وَاحِدَةً كَذَلِكَ لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤَادَكَ وَرَتَّلْنَاهُ تَرْتِيلاً}]. اهـ
قال العلامة المفسر عبد الرحمن بن ناصر السعدي (رحمه الله تعالى) في تفسيره (تيسير الكريم الرحمن في تفسير كلام المنان)(1/468):
[أي: (وأنزلنا هذا القرآن مفرقاً فارقاً بين الهدى والضلال والحق والباطل). {لِتَقْرَأَهُ عَلَى النَّاسِ عَلَى مُكْثٍ} أي: (على مَهَل؛ ليتدبروه ويتفكروا في معانيه ويستخرجوا علومه). {وَنَزَّلْنَاهُ تَنْزِيْلاً} أي: (شيئاً فشيئاً مفرقاً في ثلاث وعشرين سنة)]. اهـ
قال الحافظ يوسف بن عبد الله ابن عبد البر في كتابه (الاستذكار الجامع لمذاهب فقهاء الأمصار وعلماء الأقطار)(2/384):
[أخبرنا محمد بن عبد الملك قال: أخبرنا أحمد بن محمد بن زياد الأعرابي قال: حدثنا الحسن بن محمد الزعفراني قال: حدثنا بنعلية عن أيوب عن أبي حمزة قال: قلت لابن عباس: إني سريع القراءة؛ إني أقرأ القرآن في ثلاث. قال: لأن أقرأ سورة البقرة في ليلة أتدبرها وأرتلها أحب إليَّ من أن أقرأ القرآن كله أهذُّهُ كما تقول.
حدثنا عبد الوارث بن سفيان قال: حدثنا قاسم بن أصبغ قال: حدثنا جعفر بن محمد الصائغ قال: حدثنا عاصم بن علي قال: حدثنا شعبة عن أبي حمزة قال: قلت لابن عباس: أقرأ القرآن في كل ليلة وأكثر ظني أني قلت: مرتين. فقال: لأن أقرأ سورة واحدة أحب إليَّ، فإن كنت لابد فاعلاً فاقرأ ما تسمعه أذناك ويفقهه قلبك.
أخبرنا عبد الوارث بن سفيان وسعيد بن نصر وأحمد بن قاسم وأحمد بن محمد قالوا: حدثنا قاسم بن أصبغ قال: حدثنا محمد بن إسماعيل الترمذي قال: حدثنا أبو نعيم الفضل بن دكين قال: حدثنا سفيان بن عيينة عن عبيد المكتب قال: سئل مجاهد عن رجلين قرأ أحدهما البقرة وقرأ الآخر البقرة وآل عمران فكان ركوعهما وسجودهما واحداً وجلوسهما سواء، أيهما أفضل؟ فقال: الذي قرأ البقرة، ثم قرأ {وَقُرْآناً فَرَقْنَاهُ لِتَقْرَأَهُ عَلَى النَّاسِ عَلَى مُكْثٍ وَنَزَّلْنَاهُ تَنزِيلاً}.
وذكر سنيد عن وكيع عن ابن وهب قال: سمعت محمد بن كعب القرظي يقول: لأن أقرأ إذا زلزلت و القارعة -سورتي الزلزلة والقارعة- في ليلة أرددهما وأتفكر فيهما أحب إليَّ من أن أبيتَ أهذُّ القرآنَ.
وقال أبو معشر عن محمد بن كعب القرطبي: فإن قراءة عشر آيات تتفكر فيها خير من مائة تهذُّها]. اهـ
قال العلامة علي بن خلف ابن بطال (رحمه الله تعالى) في كتابه (شرح صحيح البخاري)(10/274):
[باب مَدِّ الْقِرَاءَةِ
فيه: أَنَس أنَّهُ سُئل عن قِرَاءَة النبي صلى الله عليه وسلم فَقَالَ: كَانَ يمد مَدًّا، ثُمَّ قَرَأَ: {بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} يَمُدُّ بِبِسْمِ اللَّهِ، وَيَمُدُّ بِالرَّحْمَنِ، وَيَمُدُّ بِالرَّحِيمِ.
وذكر أبو عبيد عن الليث عن ابن أبي مليكة عن يعلى بن مالك عن أم سلمة أنها نعتت قراءة رسول الله قراءة مفسرة حرفاً حرفاً، وقالت أم سلمة أيضًا: (كان النبي صلى الله عليه وسلم يقطع قراءته)، وإنما كان يفعل ذلك والله أعلم لأمر الله له بالترتيل وأن يقرأه على مكث وألا يحرك به لسانه ليعجل به؛ فامتثل أمر ربه تعالى فكان يقرؤه على مَهَل ليبيِّن لأمته كيف يقرؤون وكيف يمكنهم تدبر القرآن وفهمه. وذكر أبو عبيد عن إبراهيم قال: قرأ علقمة على عبد الله(2) فكأنه عجل؛ فقال عبد الله: (فداك أبي وأمي، رتل قراءتك، زيِّن القرآن) وكان علقمة حسن الصوت بالقرآن]. اهـ
قال العلامة بدر الدين العيني الحنفي (رحمه الله تعالى) في كتابه (عمدة القاري شرح صحيح البخاري)(29/147):
[(باب الترتيلِ في القراءة)
أي: (هذا باب في بيان الترتيل في قراءة القرآن)، وهو: تبيين حروفها والتأني في أدائها لتكون أدعى إلى فهم معانيها. وقيل: (الترتيل: تبيين الحروف وإشباع الحركات).
(وقولِه تعالى: {وَرَتِّلِ الْقُرْآنَ تَرْتِيلاً})
.. ومعنى رتل القرآن: (اقرأه قراءة بيِّنة) قاله الحسن، وعن مجاهد: (بعضه على إثر بعض على تؤدة بيِّنة بياناً)، وعن قتادة: (تثبَّتْ فيه تثبيتاً)، وقيل: (فصِّلْهُ تفصيلاً ولا تعجل في قراءته)، وهو من قول العرب: (ثَغْرٌ رَتَِلٌ) إذا كان مُفَلَّجاً.
(وقولِه: {وَقُرْآناً فَرَقْنَاهُ لِتَقْرَأَهُ عَلَى النَّاسِ عَلَى مُكْثٍ})
.. قوله: {وَقُرْآناً فَرَقْنَاهُ} يعني: (نزلناه نجوماً لا جملة واحدة) بخلاف الكتب المتقدمة، يدل عليه قوله: {لِتَقْرَأَهُ عَلَى النَّاسِ عَلَى مُكْثٍ}(3).
(وما يكره أن يهذَّ كهذِّ الشعر)
.. والهذُّ (بالذال المعجمة المشددة): سرعة القطع والمرور فيه من غير تأمل للمعنى، كما يُنشَد الشعرُ وتعدُّ أبياته وقوافيه. وقال النووي: هو الإفراط في العجلة في حفظه ورواياته لا في إنشاده وترنمه؛ لأنه يزيد في الإنشاد والترنم في العادة]. اهـ
والحمد لله رب العالمين.
(1) الهذُّ: سرعة القراءة.
(2) هو عبد الله بن مسعود رضي الله عنه، الصحابي الجليل وأحد قراء الصحابة رضي الله عنهم.
(3) هذا التفسير على أحد القولين عند المفسرين، كما يظهر من كلام القرطبي (رحمه الله تعالى).