إعـــــــلان

تقليص
لا يوجد إعلان حتى الآن.

[ كِتَابُ اللهِ وَمَكَانَتُهُ العَظِيمَة ]لِسَمَاحَة المُفْتِيّ العَلاَّمَةِ عَبْدِ العَزِيزِ آل الش

تقليص
X
 
  • تصفية - فلترة
  • الوقت
  • عرض
إلغاء تحديد الكل
مشاركات جديدة

  • [ كِتَابُ اللهِ وَمَكَانَتُهُ العَظِيمَة ]لِسَمَاحَة المُفْتِيّ العَلاَّمَةِ عَبْدِ العَزِيزِ آل الش

    [ كِتَابُ اللهِ وَمَكَانَتُهُ العَظِيمَة ]

    لِسَمَاحَة المُفْتِيّ العَلاَّمَةِ عَبْدِ العَزِيزِ آل الشَّيْخ
    مفتي عام المملكة العربية السعودية
    ورئيس هيئة كبار العلماء وإدارة البحوث العلمية والإفتاء
    - حفظه الله ورعاه -

    بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ


    الحمد لله الذي أنزل على عبده الكتاب ولم يجعل له عوجا ، قيما لينذر بأسا شديدا من لدنه ويبشر المؤمنين الذين يعملون الصالحات أن لهم أجرا حسنا ، ماكثين فيه أبدا ، وينذر الذين قالوا اتخذ الله ولدا ، والحمد لله الذي أنزل الفرقان على عبده ليكون للعالمين نذيرا ، والصلاة والسلام على نبينا محمد المبعوث بالهدى والرحمة بشيرا ونذيرا وداعيا إلى الله بإذنه وسراجا منيرا ، صلى الله عليه وآله وصحبه ومن سار على دربه واقتفى أثره إلى يوم الدين . أما بعد :

    فإن الله سبحانه قد من على خلقه وخاصة المؤمن منهم بأن بعث فيهم رسوله الكريم -صلى الله عليه وسلم- وأنزل معه أفضل كتبه وخاتمها والمهيمن عليها يقول الله -عز وجل-: ﴿ لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْ أَنْفُسِهِمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ﴾ [سورة آل عمران الآية 164 ] .

    وفي صحيح مسلم من حديث عياض بن حمار المجاشعي -رضي الله عنه- ، أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال ذات يوم في خطبته : (( ألا إن ربي أمرني أن أعلمكم ما جهلتم مما علمني يومي هذا ، كل مال نحلته عبدا حلال ، وإني خلقت عبادي حنفاء كلهم ، وإنهم أتتهم الشياطين فاجتالتهم عن دينهم وحرمت عليهم ما أحللت لهم ، وأمرتهم أن يشركوا بي ما لم أنزل به سلطانا ، إن الله نظر إلى أهل الأرض فمقتهم عربهم وعجمهم إلا بقايا من أهل الكتاب وقال: إنما بعثتك لأبتليك وأبتلي بك وأنزلت عليك كتابا لا يغسله الماء تقرؤه نائما ويقظان . . . )) الحديث . هذا الكتاب هو المهيمن على الكتب السابقة كلها ، يقول الله : ﴿ وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتَابِ وَمُهَيْمِنًا عَلَيْهِ ﴾ [سورة المائدة الآية 48 ] ، والمعنى أنه عال ومرتفع على ما تقدمه من الكتب ، هو أمين عليها وحاكم وشاهد وقيم عليها ، يقول ابن جرير رحمه الله : ( القرآن أمين على الكتب المتقدمة قبله فما وافقه منها فهو حق وما خالفه منها فهو باطل ). ا هـ .

    وكتاب الله له المكانة العظيمة في قلب كل مسلم ، وهو أيضا عظيم في نفسه كريم مجيد عزيز ، ونحن في فاتحة هذا العدد المبارك من مجلة البحوث الإسلامية ، نحب أن نعرض لهذا الموضوع بإشارات وتنبيهات لعل الله أن ينفعنا بها وينفع بها إخواننا من قراء المجلة أو من بلغه هذا الكلام إنه سميع مجيب .

    فأقول مستعينا بالله :

    القرآن مصدر قرأ قرآنا ومنه قوله تعالى : ﴿ إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ * فَإِذَا قَرَأْنَاهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ * ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا بَيَانَهُ ﴾ [سورة القيامة : 17-19 ] ، والكلام المقروء نفسه يسمى قرآنا كـما في قوله تعالى: ﴿ فَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ ﴾ [سورة النحل الآية 98 ] ، والقرآن كلام الله حقيقة ، لفظه ومعناه من الله ، أنزله على عبده محمد بن عبد الله -صلى الله عليه وسلم- وحيا ، فهو منزل غير مخلوق ، يقول الله : ﴿ تَنْزِيلُ الْكِتَابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ ﴾ [سورة الزمر الآية 1] ، ويقول سبحانه : ﴿ قُلْ نَزَّلَهُ رُوحُ الْقُدُسِ مِنْ رَبِّكَ ﴾[سورة النحل الآية 102] ، ويقول: ﴿ حم *تَنْزِيلُ الْكِتَابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ ﴾ [سورة غافر : 1 -2] ، ويقول : ﴿ تَنْزِيلٌ مِنَ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ ﴾[سورة فصلت الآية 2 ] ، ويقول : ﴿ وَقُرْآنًا فَرَقْنَاهُ لِتَقْرَأَهُ عَلَى النَّاسِ عَلَى مُكْثٍ وَنَزَّلْنَاهُ تَنْزِيلًا ﴾ [سورة الإسراء الآية 106 ] ، والآيات في هذا المعنى كثيرة وعلى هذا أجمع سلف الأمة رحمهم الله جميعا .

    وقد سمى الله هذا الكتاب بأسماء كثيرة في كتابه ، ووصفه كذلك بصفات كثيرة ، وإنما يدل هذا على شرف هذا الكتاب وعظمته ، فهو القرآن والفرقان والكتاب والهدى والنور والشفاء والبيان والموعظة والرحمة والبصائر والبلاغ وهو العربي والمبين والكريم والعظيم والمجيد والمبارك والتنزيل والصراط المستقيم والذكر الحكيم وهو حبل الله وهو الذكرى والتذكرة والبشرى وهو المصدق لما بين يديه من الكتاب وهو المهيمن عليها وهو المثاني وفيه تفصيل كل شيء وتبيان كل شيء وهو الذي لا ريب فيه ولا عوج فيه ،
    يقول الله : ﴿ قُرْءَانًا عَرَبِيًّا غَيْرَ ذِي عِوَجٍ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ ﴾ [ سورة الزمر الآية 28] ، ويقول سبحانه : ﴿ تَبَارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقَانَ عَلَى عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيرًا ﴾ [سورة الفرقان الآية 1 ] ، ويقول سبحانه : ﴿ الم *ذَلِكَ الْكِتَابُ لَا رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِلْمُتَّقِينَ ﴾ [سورة البقرة : 1-2 ] ، ويقول سبحانه : ﴿ قُلْ مَنْ كَانَ عَدُوًّا لِجِبْرِيلَ فَإِنَّهُ نَزَّلَهُ عَلَى قَلْبِكَ بِإِذْنِ اللَّهِ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ وَهُدًى وَبُشْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ ﴾ [ سورة البقرة الآية 97 ] ، ويقول سبحانه : ﴿ ذَلِكَ نَتْلُوهُ عَليْكَ مِنَ الْآيَاتِ وَالذِّكْرِ الْحَكِيمِ ﴾ [ سورة آل عمران الآية 58 ] ، ويقول -عز وجل- : ﴿ يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَكُمْ بُرْهَانٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكُمْ نُورًا مُبِينًا ﴾ [ سورة النساء الآية 174 ] ، ويقول سبحانه : ﴿ يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَتْكُمْ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَشِفَاءٌ لِمَا فِي الصُّدُورِ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ ﴾ [ سورة يونس الآية 57 ] ، ويقول سبحانه : ﴿ إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ وَيُبَشِّرُ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْرًا كَبِيرًا ﴾ [سورة الإسراء الآية 9 ] ، ويقول جل وعلا : ﴿ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَى عَبْدِهِ الْكِتَابَ وَلَمْ يَجْعَلْ لَهُ عِوَجَا * قَيِّمًا لِيُنْذِرَ بَأْسًا شَدِيدًا مِنْ لَدُنْهُ وَيُبَشِّرَ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْرًا حَسَنًا ﴾ [سورة الكهف الآية 1 -2 ] ، ويقول عز من قائل سبحانه : ﴿ بَلْ هُوَ قُرْآنٌ مَجِيدٌ * فِي لَوْحٍ مَحْفُوظٍ ﴾ [سورة البروج : 21 -22] ، ويقول وجل : ﴿ إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ * فِي كِتَابٍ مَكْنُونٍ * لَا يَمَسُّهُ إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ * تَنْزِيلٌ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ ﴾ [سورة الواقعة : 77-80 ] ، وغير ذلك من ، الآيات كثير ، فيها أسماء هذا الكتاب العظيم وصفاته ، مما ينبيك على عظيم قدره ، وجليل شرفه ، كيف والمتكلم به هو رب الأرباب - سبحانه- عالم الغيب والشهادة القائل : ﴿ وَلَوْ أَنَّمَا فِي الْأَرْضِ مِنْ شَجَرَةٍ أَقْلَامٌ وَالْبَحْرُ يَمُدُّهُ مِنْ بَعْدِهِ سَبْعَةُ أَبْحُرٍ مَا نَفِدَتْ كَلِمَاتُ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ ﴾ [ سورة لقمان الآية 27 ] .

    ومما ينبغي أن يعلم أن كل اسم أو صفة لهذا الكتاب العزيز فهو دال على معنى اختص به ، ولولا خشية الإطالة لنبهنا على جملة تكون معينة على فهم ما بقي .

    هذا وإن مما اختص به هذا الكتاب الكريم أن الله سبحانه تكفل بحفظه ولم يكل حفظه إلى أحد من خلقه ، يقول سبحانه : ﴿ إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ ﴾ [ سورة الحجر الآية 9 ] ، ويقول سبحانه :﴿ بَلْ هُوَ قُرْآنٌ مَجِيدٌ * فِي لَوْحٍ مَحْفُوظٍ ﴾ [سورة البروج : 21 -22 ] .
    يقول ابن القيم رحمه الله : " فوصفه سبحانه بأنه محفوظ في قوله : ﴿ إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ ﴾ [سورة الحجر الآية 9 ] ووصف محله بالحفظ في هذه السورة - أي البروج- فالله سبحانه حفظ محله ، وحفظه من الزيادة والنقصان والتبديل ، وحفظ معانيه من التحريف كما حفظ ألفاظه من التبديل وأقام له من يحفظ حروفه من الزيادة والنقصان ومعانيه من التحريف والتغيير " ا هـ [ التبيان 1/ 62] .

    كتاب الله الكريم هو المنجي من الفتن وهو أنيس المؤمن ونور قلبه وربيع صدره وجلاء همه وغمه ، كتاب الله فيه نبأ ما قبلنا وخبر ما بعدنا وحكم ما بيننا ، هو الفصل ليس بالهزل ، من تركه من جبار قصمه الله ومن ابتغى الهدى في غيره أضله الله ، فهو حبل الله المتين والذكر الحكيم وهو الصراط المستقيم ، هو الذي لا تزيغ به الأهواء ، ولا تلتبس به الألسن ، ولا يشبع منه العلماء ، ولا يخلق عن كثرة الرد ، لا تنقضي عجائبه ولا تفنى عبره ، هو الذي لم تنته الجن إذ سمعته أن قالوا : ﴿ إِنَّا سَمِعْنَا قُرْآنًا عَجَبًا ﴾ [ سورة الجن الآية 1 ] .

    من قال به صدق ومن حكم به عدل ومن عمل به أجر ومن دعا إليه هدي إلى صراط مستقيم ، هو الآية الكبرى والمعجزة العظمى التي أوتيها نبينا صلى الله عليه وسلم ، حيث يقول : (( ما من نبي من الأنبياء إلا وقد أوتي من الآيات ما على مثله آمن البشر ، وإنما كان الذي أوتيته وحيا أوحاه الله إلي ، فأرجو أن أكون أكثرهم تابعا يوم القيامة )) أخرجاه في الصحيحين .

    معجز في لفظه وبيانه : ﴿ وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ وَادْعُوا شُهَدَاءَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ ﴾ [ سورة البقرة الآية 23 ]
    معجز في تيسير تلاوته وقرآنه : ﴿ وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ ﴾ [ سورة القمر الآية 17 ] ، معجز فيما حواه من قصص الماضين لنعتبر : ﴿ نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ بِمَا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ هَذَا الْقُرْآنَ وَإِنْ كُنْتَ مِنْ قَبْلِهِ لَمِنَ الْغَافِلِينَ ﴾ [ سورة يوسف الآية 3 ] ، ويقول سبحانه : ﴿ لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِأُولِي الْأَلْبَابِ مَا كَانَ حَدِيثًا يُفْتَرَى وَلَكِنْ تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ كُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ ﴾ [ سورة يوسف الآية 111 ] ،
    معجز فيما حواه من عقائد وشرائع الدين ، لنمتثل : ﴿ الر كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ لِتُخْرِجَ النَّاسَ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِ رَبِّهِمْ إِلَى صِرَاطِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ ﴾ [ سورة إبراهيم الآية 1 ] ، ﴿ وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ ﴾ [ سورة النحل الآية 89 ] ، ﴿ إِنَّا أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ فَاعْبُدِ اللَّهَ مُخْلِصًا لَهُ الدِّينَ ﴾ [ سورة الزمر الآية 2 ] ، ﴿ وَهَذَا كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ مُبَارَكٌ فَاتَّبِعُوهُ وَاتَّقُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ ﴾ [ سورة الأنعام الآية 155 ] .

    معجز بما حواه من أخبار الغيب؛ لنؤمن ونسلم : ﴿ الم * ذَلِكَ الْكِتَابُ لَا رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِلْمُتَّقِينَ * الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ ﴾ [ سورة البقرة : 1 -3 ].

    آية ظاهرة وحجة باهرة من بعثة النبي -صلى الله عليه وسلم- إلى أن يأذن الله برفعه ، تحدى الله به أفصح الناس فلم يستطيعوا ، بل تحدى به الجن والإنس مجتمعين فأعياهم : ﴿ قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ لَا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيرًا ﴾ [ سورة الإسراء الآية 88 ] ، امتن الله به على نبيه صلى الله عليه وسلم : ﴿ وَلَقَدْ آتَيْنَاكَ سَبْعًا مِنَ الْمَثَانِي وَالْقُرْآنَ الْعَظِيمَ ﴾ [ سورة الحجر الآية 87 ] ، يهدي إلى الطريق القويم والمنهج المستقيم : ﴿ إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ ﴾ [ سورة الإسراء الآية 9 ] .
    هذا وإن لتلاوة هذا الكتاب أجرا عظيما وفضلا كبيرا ، يقول الله : ﴿ إِنَّ الَّذِينَ يَتْلُونَ كِتَابَ اللَّهِ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَأَنْفَقُوا مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ سِرًّا وَعَلَانِيَةً يَرْجُونَ تِجَارَةً لَنْ تَبُورَ * لِيُوَفِّيَهُمْ أُجُورَهُمْ وَيَزِيدَهُمْ مِنْ فَضْلِهِ إِنَّهُ غَفُورٌ شَكُورٌ ﴾ [ سورة فاطر : 29 -30 ] . وعن ابن عمر -رضي الله عنهما- عن النبي صلى الله عليه وسلم ، قال : (( لا حسد إلا في اثنتين رجل آتاه الله القرآن فهو يقوم به آناء الليل وآناء النهار ، ورجل آتاه الله مالا فهو ينفقه آناء الليل وآناء النهار )) رواه البخاري ومسلم ، وعن ابن مسعود -رضي الله عنه- ، قال : (( من قرأ حرفا من كتاب الله تعالى فله به حسنة والحسنة بعشر أمثالها ، لا أقول (الم) حرف ولكن ألف حرف ولام حرف وميم حرف )) .

    وصاحب القرآن هو المقدم في الدنيا والآخرة ، وهم أهل الإكرام والإجلال ، فعن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال : (( إن الله تعالى يرفع بهذا الكتاب أقواما ويضع به آخرين )) أخرجه مسلم .

    وعن أبي مسعود الأنصاري البدري رضي الله عنه أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال : (( يؤم القوم أقرؤهم لكتاب الله . . .)) الحديث . أخرجه مسلم .

    وقال ابن عباس رضي الله عنهما : (( كان القراء أصحاب مجلس عمر رضي الله عنه ومشاورته كهولا كانوا أو شبانا )) .

    وعن أبي موسى الأشعري رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : (( إن من إجلال الله تعالى إكرام ذي الشيبة المسلم ، وحامل القرآن غير الغالي فيه والجافي عنه ، وإكرام ذي السلطان المقسط )) أخرجه أبو داود ، وحسنه النووي .
    وعن أبي موسى الأشعري رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : (( مثل المؤمن الذي يقرأ القرآن مثل الأترجة ريحها طيب وطعمها طيب ، ومثل المؤمن الذي لا يقرأ القرآن مثل التمرة لا ريح لها وطعمها حلو ، ومثل المنافق الذي يقرأ القرآن مثل الريحانة ريحها طيب وطعمها مر ، ومثل المنافق الذي لا يقرأ القرآن كمثل الحنظلة ليس لها ريح وطعمها مر )) متفق عليه .

    هذا في الدنيا أما في الآخرة فثوابه أعظم إن عمل به ، وأجره أكبر ، عن عائشة رضي الله عنها قالت : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : (( الذي يقرأ القرآن وهو ماهر به مع السفرة الكرام البررة ، والذي يقرأ القرآن وهو يتتعتع فيه وهو عليه شاق له أجران )) متفق عليه .

    وعن أبي أمامة الباهلي رضي الله عنه قال : سمعت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول : (( اقرءوا القرآن فإنه يأتي يوم القيامة شفيعا لأصحابه )) أخرجه مسلم .

    وصاحب القرآن هو المقدم في أول منازل الآخرة ، فعن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما : (( أن النبي -صلى الله عليه وسلم- كان يجمع بين الرجلين من قتلى أحد ثم يقول: "أيهما أكثر أخذا للقرآن؟ فإن أشير إلى أحدهما ، قدمه في اللحد )) أخرجه البخاري .

    ولا يزال صاحب القرآن يترقى في منازل الجنة على قدر ما معه من القرآن ، فعن أبي أمامة الباهلي رضي الله عنه أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال : (( يقال لصاحب القرآن اقرأ وارتق ورتل كما كنت ترتل في الدنيا فإن منزلتك عند آخر آية تقرؤها )) أخرجه أبو داود والترمذي وقال: حديث حسن صحيح .

    ولا شك أن العناية بحفظ القرآن من أجل ما تنصرف إليه الهمم؛ لما في ذلك من الأجر العظيم ، وقد كان وصف هذه الأمة في الكتب السابقة بأن أناجيلهم في صدورهم . وهكذا فإن الله سبحانه قد أخبر في كتابه أن هذا الكتاب محفوظ في صدور الرجال ، يقول الله سبحانه : ﴿ وَمَا كُنْتَ تَتْلُو مِنْ قَبْلِهِ مِنْ كِتَابٍ وَلَا تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ إِذًا لَارْتَابَ الْمُبْطِلُونَ * بَلْ هُوَ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ فِي صُدُورِ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَمَا يَجْحَدُ بِآيَاتِنَا إِلَّا الظَّالِمُونَ ﴾ [ سورة العنكبوت الآية 48-49 ] ، فأخبر سبحانه أنه في صدور العلماء محفوظ ، وهذا يصدق الحديث القدسي الذي فيه : (( إنما بعثتك لأبتليك وأبتلي بك وأنزلت معك كتابا لا يغسله الماء . . . )) أخرجه مسلم والمعنى أن الماء لا يمحوه إذ هو محفوظ في الصدور .

    وقد شبه النبي -صلى الله عليه وسلم- من لم يحفظ شيئا من القرآن بالبيت الخرب ، فعن ابن عباس رضي الله عنهما قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : (( إن الذي ليس في جوفه شيء من القرآن كالبيت الخرب )) أخرجه الترمذي وقال: حسن صحيح . وقد تقدمت معنا الأحاديث الدالة على إكرام حامل القرآن وعظيم منزلته .

    وحفظ القرآن مشروع للمسلم ، والقدر الواجب عليه منه هو ما يحتاج إليه في تصحيح عبادته ، يقول شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله . " وأما حفظ جميع القرآن وفهم جميع معانيه ومعرفة جميع السنة فلا يجب على كل أحد ، لكن يجب على العبد أن يحفظ من القرآن ويعلم معانيه ويعرف من السنة ما يحتاج إليه " الفتاوى ( 15 \ 391) ا هـ .

    وإن مما ينبغي العناية به لمن أراد تلاوة القرآن وحفظه أمور:


    أولها : وجوب الإخلاص لله في العمل الذي يقدم عليه وألا يكون مراده به حظا من الدنيا قريب حقير فإن الله تعالى يقول : ﴿ مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمَالَهُمْ فِيهَا وَهُمْ فِيهَا لَا يُبْخَسُونَ *أُولَئِكَ الَّذِينَ لَيْسَ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ إِلَّا النَّارُ وَحَبِطَ مَا صَنَعُوا فِيهَا وَبَاطِلٌ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ ﴾ [ سورة هود الآية 15-16 ] ، ويقول سبحانه : ﴿ مَنْ كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الْآخِرَةِ نَزِدْ لَهُ فِي حَرْثِهِ وَمَنْ كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الدُّنْيَا نُؤْتِهِ مِنْهَا وَمَا لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ نَصِيبٍ ﴾ [سورة الشورى الآية 20 ] ، ويقول جل وعلا : ﴿ مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْعَاجِلَةَ عَجَّلْنَا لَهُ فِيهَا مَا نَشَاءُ لِمَنْ نُرِيدُ ثُمَّ جَعَلْنَا لَهُ جَهَنَّمَ يَصْلَاهَا مَذْمُومًا مَدْحُورًا ﴾ [ سورة الإسراء الآية 18 ] .
    وفي صحيح مسلم من حديث أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال : (( إن أول الناس يقضى يوم القيامة عليه رجل استشهد فأتي به فعرفه نعمه فعرفها قال : فما عملت فيها ؟ قال: قاتلت فيك حتى استشهدت . قال: كذبت ، ولكنك قاتلت لأن يقال جريء فقد قيل ، ثم أمر به فسحب على وجهه حتى ألقي في النار . ورجل تعلم العلم وعلمه وقرأ القرآن فأتي به فعرفه نعمه فعرفها . قال : فما عملت فيها؟ قال تعلمت العلم وعلمته وقرأت فيك القرآن . قال: كذبت ، ولكنك تعلمت العلم ليقال عالم ، وقرأت القرآن ليقال هو قارئ فقد قيل ثم أمر به فسحب على وجهه حتى ألقي في النار . . . )) الحديث . عياذا بالله من حالة السوء .

    ثانيا : ينبغي لمن أراد حفظ القرآن أن يكرره ويتعاهده حتى يتمكن من حفظه ، والله تعالى إن علم من عبده الصدق يسر له طريق الحفظ ﴿ وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ ﴾ [ سورة القمر الآية 40 ] .

    ثالثا : من كان معه شيء من القرآن قد حفظه فليتعاهده بالتكرار والمراجعة حتى لا يضيع منه وليستعن على ذلك بالصلاة فإن من قام بحزبه من القرآن لم ينسه ، فعن ابن عمر رضي الله عنهما قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : (( إنما مثل صاحب القرآن كمثل الإبل المعقلة إن عاهد عليها أمسكها وإن أطلقها ذهبت )) متفق عليه . وزاد مسلم في رواية : (( وإذا قام صاحب القرآن فقرأه بالليل والنهار ذكره وإذا لم يقم به نسيه )) .

    رابعا : مما يعين على حفظ القرآن مدارسته ، وقد كان جبريل عليه السلام يدارس رسول الله -صلى الله عليه وسلم- القرآن في كل سنة مرة ، إلا عام قبض فقد عارضه القرآن مرتين ، ويقول الـرسـول -صلى الله عليه وسلم- فـي فضـل مـدارسـة القرآن : (( وما اجتمع قوم في بيت من بيوت الله يتلون كتاب الله ويتدارسونه بينهم إلا نزلت عليهم السكينة وغشيتهم الرحمة وحفتهم الملائكة وذكرهم الله فيمن عنده )) .

    خامسا : ينبغي للمسلم ألا يغفل عن كتاب الله وليجعل له فيه ختمة ، وقد كان السلف لهم عادات في ختم كتاب الله فمنهم من كان يختمه كل شهرين مرة ، ومنهم من كان يختم كل شهر مرة ، ومنهم من كان يختم كل عشر ليال ، ومنهم من كان يختم في كل ثمان ليال ، وعن الأكثرين في كل سبع ليال ، ومنهم من يختم في أقل من ذلك .

    والأفضل أن يختم المسلم كل سبع؛ لفعل جمع من الصحابة حيث كانوا يحزبون القرآن إلى سبعة أحزاب ، فعن أوس بن حذيفة قال : سألت أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم : "كيف تحزبون القرآن ؟ قالوا : ثلاث وخمس وسبع وتسع وإحدى عشرة وثلاث عشرة وحزب المفصل وحده" رواه أبو داود . وحزب المفصل من سورة " ق " إلى آخر القرآن العظيم .

    ولأن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال لعبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما : (( اقرأ القرآن في شهر . قلت: إني أجد قوة . . .)) حتى قال : (( فاقرأه في سبع ولا تزد على ذلك )) أخرجه البخاري .

    وأما من قرأه في أقل من ذلك فالغالب أنه يهذه هذا ولا يفهم معاني ما يقرأ وهذا لا ينبغي من المسلم والنبي -صلى الله عليه وسلم- قال كما في حديث عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما : (( لا يفقه من قرأ القرآن في أقل من ثلاث )) أخرجه أصحاب السنن الأربعة وقال الترمذي : حسن صحيح .

    فالسنة ألا يختم في أقل من ثلاث .

    والناس يختلفون في هذا فمنهم من هو كثير العلم دقيق الفهم سريع القراءة قليل الشغل فهذا يقرأ من القرآن أكثر ممن هو دونه في ذلك وهكذا قس .

    وقد استحب جمع من السلف أن تكون الختمة إما أول الليل أو أول النهار؛ لأجل أن الملائكة تصلي على من ختم بالليل حتى يصبح ومن ختم بالنهار حتى يمسي روي ذلك موقوفا على سعد بن أبي وقاص -رضي الله عنه- ، وحسنه الدارمي عنه .

    سادسها : يجب على المسلم أن يسعى في تعلم ما يقرأ حتى يكون على بينة وفهم لما يتلوه ، فيحصل له التدبر والخشوع إذ ليس المقصود من القرآن مجرد التلاوة ، كلا ، فإن من هذه حاله كان شبيها بحال أهل الكتاب الذين قال الله عنهم : ﴿ وَمِنْهُمْ أُمِّيُّونَ لَا يَعْلَمُونَ الْكِتَابَ إِلَّا أَمَانِيَّ وَإِنْ هُمْ إِلَّا يَظُنُّونَ ﴾ [ سورة البقرة الآية 78 ] يعني يقرءون الكتاب ولا يعلمون ما فيه .

    وقد أمر الله بتدبر كتابه وفهمه في غير موضع من كتابه ، يقول الله تعالى : ﴿ إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ ﴾ [ سورة يوسف الآية 2 ] ، ويقول سبحانه : ﴿ كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُو الْأَلْبَابِ ﴾ [ سورة ص الآية 29 ] .
    وقد أنكر الله على من لم يتدبر كتابه فقال سبحانه : ﴿ أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا ﴾ [ سورة محمد الآية 24 ] ، وقال أيضا : ﴿ أَفَلَمْ يَدَّبَّرُوا الْقَوْلَ أَمْ جَاءَهُمْ مَا لَمْ يَأْتِ آبَاءَهُمُ الْأَوَّلِينَ ﴾ [ سورة المؤمنون الآية 68 ] .
    والنبي صلى الله غليه وسلم قد بين لأصحابه معاني القرآن كما بين لهم ألفاظه ، يقول الله -عز وجل- : ﴿ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ ﴾ [ سورة النحل الآية 44 ] وهكذا التابعون أخذوا عن الصحابة فهذا مجاهد رحمه الله يقول : ( عرضت المصحف على ابن عباس أوقفه عند كل آية منه وأسأله عنها ) ، ولهذا قال الثوري رحمه الله : ( إذا جاءك التفسير عن مجاهد فحسبك به ) . والمقصود أن معاني كلام الله موجودة معلومة ، وكثير منها مدون متداول ولله الحمد ، وأعظم ما فسر به القرآن هو أن يفسر بالقرآن ، فإنه من المعلوم أن هذا القرآن مثاني ومتشابه ، يقول الله : ﴿ اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَابًا مُتَشَابِهًا مَثَانِيَ ﴾ [ سورة الزمر الآية 23 ] ، والمعنى أن بعضه يشبه بعضا ويفسر بعضه بعضا ، وأن القصص تثنى فيه فيكون في هذا الموضع ما يفسر الموضع الآخر وهكذا . وهذا ولله الحمد واضح فإنه ما فسر كلام الله بأوضح وأدل على المراد من كلام الله؛ إذ هو سبحانه المتكلم به وهو الأعلم بمراده . وهذا النوع من التفسير اعتنى به السلف كثيرا وهناك أمثلة كثيرة لذلك يطول عدها .

    ثم بعد كلام الله يأتي تفسير القرآن بالسنة؛ إذ لا أعلم بمراد الله بعد الله من رسول الله -صلى الله عليه وسلم- الذي نزل عليه القرآن وأمر ببيانه للناس .

    ثم يأتي أقوال الصحابة؛ إذ هم من عاصر التنزيل وأخذ عن الرسول -صلى الله عليه وسلم- ثم أئمة التابعين .

    ومن ثم يؤخذ من أقوال المفسرين أقربها إلى ما في الكتاب والسنة أو أقوال الصحابة ، فإن كان وإلا فأقربها إلى مقتضى اللغة العربية؛ إذ هي لغة القرآن .

    ومن المفسرين من يسلك مسلك الاجتهاد والاستنباط فإن أصاب فله أجران وإن أخطأ فله أجر اجتهاده إذا كان عن علم .

    وينبغي التنبيه هنا أن المسلم يحذر من أن يقول في كلام الله بغير علم ، فلا يقل هذه ، الآية تفسيرها كذا ، وهو لا يعلم تفسيرها ، فإن هذا إثم عظيم وقول على الله بلا علم ، وقد حرمه الله في كتابه : ﴿ قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالْإِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَأَنْ تُشْرِكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ ﴾ [ سورة الأعراف الآية 33 ] . ثم إن تعلم هذا القرآن وتعليمه فرض كفاية على الأمة؛ إبقاء لعلم الكتاب فيها ، ومن انتصب لهذا الأمر فهو خير هذه الأمة يقول النبي صلى الله عليه وسلم : (( خيركم من تعلم القرآن وعلمه )) أخرجه البخاري عن عثمان -رضي الله عنه- ، وفي رواية : (( خيركم أو أفضلكم . . . )) الحديث .

    سابعها : يجب على من علم القرآن أن يعمل به؛ إذ هذا هو ثمرة العلم وهو المقصود من إنزال الكتب وإرسال الرسل وإلا فعلم بلا عمل لا ينفع صاحبه بل يضره . وقد روي عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه : ( هتف العلم بالعمل فإن أجابه وإلا ارتحل ) .

    وقد قص الله علينا خبر الذي علم شيئا من آيات الله ولم يعمل بها ، ومثل له بأقبح مثال وأشنعه؛ تنفيرا من فعله وبيانا لقبحه ، يقول سبحانه : ﴿ وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ الَّذِي آتَيْنَاهُ آيَاتِنَا فَانْسَلَخَ مِنْهَا فَأَتْبَعَهُ الشَّيْطَانُ فَكَانَ مِنَ الْغَاوِينَ *وَلَوْ شِئْنَا لَرَفَعْنَاهُ بِهَا وَلَكِنَّهُ أَخْلَدَ إِلَى الْأَرْضِ وَاتَّبَعَ هَوَاهُ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ الْكَلْبِ إِنْ تَحْمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَثْ أَوْ تَتْرُكْهُ يَلْهَثْ ذَلِكَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا فَاقْصُصِ الْقَصَصَ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ ﴾ [ سورة الأعراف : 175 -176 ] . وقال سبحانه عن اليهود : ﴿ مَثَلُ الَّذِينَ حُمِّلُوا التَّوْرَاةَ ثُمَّ لَمْ يَحْمِلُوهَا كَمَثَلِ الْحِمَارِ يَحْمِلُ أَسْفَارًا بِئْسَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِ اللَّهِ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ ﴾ [ سورة الجمعة الآية 5 ] . وأثنى على طائفة من أهل الكتاب؛ لأنها عملت بكتابها ، يقول الله : ﴿ الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَتْلُونَهُ حَقَّ تِلَاوَتِهِ أُولَئِكَ يُؤْمِنُونَ بِهِ ﴾ [ سورة البقرة الآية 121 ] ، أي يحلون حلاله ويحرمون حرامه ولا يحرفونه عن مواضعه كما قال ابن عباس رضي الله عنهما : "ومن لم يعمل بالقرآن من هذه الأمة فإن القرآن قد يكون حجة عليه" . وقد أخبرنا نبينا محمد -صلى الله عليه وسلم- عن عبادة أقوام وكثرة صلاتهم وصيامهم وتلاوتهم ومع ذلك آلوا إلى أسوأ حال ، عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال : سمعت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول : (( يخرج فيكـم قوم تحقرون صلاتكم مع صلاتهم ، وصيامكـم مع صيامهم ، وعملكـم مع عملهم ، ويقرءون القرآن لا يجاوز حناجرهم ، يمرقون من الدين كما يمرق السهم من الرميـة ، ينظر في النصل فلا يرى شيئا ، وينظر في القدح فلا يرى شيئا ، وينظر في الريش فلا يرى شيئا ويتمارى في الفوق )) أخرجه البخاري .

    وكان دأب السلف الصالح من الصحابة رضي الله عنهم فمن بعدهم الحرص على العمل بما علموا من القرآن أكثر من الحرص على حفظه بغير عمل به ، يقول أبو عبد الرحمن السلمي رحمه الله : حدثنا الذين كانوا يقرئوننا القرآن- كعثمان بن عفان وعبد الله بن مسعود رضي الله عنهما وغيرهما- أنهم كانوا إذا تعلموا من النبي -صلى الله عليه وسلم- عشر آيات لم يتجاوزوها حتى يتعلموا ما فيها من العلم والعمل ، قالوا: فتعلمنا القرآن والعلم والعمل جميعا .

    ولهذا كانوا يبقون مدة في حفظ السورة الواحدة ، يقول أنس رضي الله عنه : ( كان الرجل إذا قرأ البقرة وآل عمران جل في أعيننا ) ، وجاء عند مالك في الموطأ أنه بلغه أن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما مكث على سورة البقرة ثماني سنين يتعلمها .

    وهكذا فإنا نرى أولئك القوم الأفاضل همتهم منصرفة لتدبرمعاني الكتاب والعمل به دون مجرد حفظ ألفاظه .

    ثامنها : أن يحذر المسلم من هجران القرآن ، يقول الله تعالى : ﴿ وَقَالَ الرَّسُولُ يَا رَبِّ إِنَّ قَوْمِي اتَّخَذُوا هَذَا الْقُرْآنَ مَهْجُورًا ﴾ [ سورة الفرقان الآية 30 ] .

    وقد ذكر ابن القيم رحمه الله أنواعا لهجر القرآن منها :

    ( هجر سماعه والإيمان به والإصغاء إليه .

    والثاني : هجر العمل به والوقوف عند حلاله وحرامه وإن قرأه وآمن به .


    والثالث : هجر تحكيمه والتحاكم إليه في أصول الدين وفروعه واعتقاد أنه لا يفيد اليقين وأن أدلته لفظية لا تحصل العلم .

    والرابع : هجر تدبره وتفهمه ومعرفة ما أراد المتكلم به منه .


    والخامس : هجر الاستشفاء والتداوي به في جميع أمراض القلوب وأدوائها فيطلب شفاء دائه من غيره ويهجر التداوي به ، وكل هذا داخل في قوله : ﴿ وَقَالَ الرَّسُولُ يَا رَبِّ إِنَّ قَوْمِي اتَّخَذُوا هَذَا الْقُرْآنَ مَهْجُورًا ﴾ [ سورة الفرقان الآية 30 ] وإن كان بعض الهجر أهون من بعض ).
    انتهى المقصود من كلامه رحمه الله [ الفوائد ص82] .

    هذا ويشرع لقارئ القرآن آداب وأمور يمتثلها وهي:

    أولا : أن يكون حال قراءته كتاب الله على أكمل حال ، متطهرا متنظفا احتراما لهذا الكتاب العزيز ، والتطهر حال القراءة مستحب ، ولا بأس بقراءة القرآن للمحدث؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قام مرة من نومه فغسل وجهه وتلا عشر آيات من آخر آل عمران ولم يتوضأ ، وعمر بن الخطاب رضي الله عنه كان في قوم وهم يقرءون القرآن فذهب لحاجته ، ثم رجع وهو يقرأ القرآن ، فقال له رجل : ( يا أمير المؤمنين أتقرأ القرآن ولست على وضوء ؟ فقال له عمر : من أفتاك بهذا ؟ أمسيلمة ؟! ) أخرجه مالك في موطئه ،
    قال ابن عبد البر : ( وفي هذا الحديث جواز قراءة القرآن طاهرا في غير المصحف لمن ليس على وضوء إن لم يكن جنبا ، وعلى هذا جماعة أهل العلم لا يختلفون فيه إلا من شذ عن جماعتهم ممن هو محجوج بهم ، وحسبك بعمر في جماعة الصحابة وهم السلف الصالح ) . ا هـ [ الاستذكار 8 / 14 ].

    وقد نقل الإجماع على جواز قراءة المحدث للقرآن النووي وابن تيمية رحمهما الله .

    أما الجنب فإنه لا يقرأ القرآن حتى يغتسل؛ لحديث علي رضي الله عنه قال : (( كان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- لا يحجبه عن القرآن شيء إلا الجنابة )) . وأحاديث هذا الباب يشد بعضها بعضا ، وبهذا قال أكثر الفقهاء حتى إن ابن عبد البر رحمه الله قال : " وقد شذ داود عن الجماعة بإجازة قراءة القرآن للجنب " ا هـ .

    أما الحائض فالصحيح أنه يجوز لها قراءة القرآن حال حيضها؛ لأنه لم يثبت في منعها من قراءته حال حيضها حديث ،
    وأما قياسها على الجنب فلا يصح؛ لأن حدث الحائض يطول في الغالب ويخشى من نسيانها القرآن ، أما حدث الجنب فلا يطول ومتى شاء رفعه بالاغتسال .

    أما مس المصحف فالصحيح أنه لا يمسه إلا طاهر من الحدثين الأكبر والأصغر؛ لقوله تعالى : ﴿ لَا يَمَسُّهُ إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ ﴾ [ سورة الواقعة الآية 79 ] ، ولأن في كتاب عمرو بن حزم : "وأن لا يمس القرآن إلا طاهر" قال ابن عبد البر رحمه الله : "وكتاب عمرو بن حزم هذا قد تلقاه العلماء بالقبول والعمل وهو عندهم أشهر وأظهر من الإسناد الواحد المتصل" ثم قال: "وأجمع فقهاء الأمصار الذين تدور عليهـم الفتـوى وعلى أصحـابهـم بـأن المصحـف لا يمسـه إلا طائر" ا هـ[ الاستذكار 8 /10 ] .

    الثاني : إذا أراد الشروع في القراءة استحب له أن يستعيذ؛ لقوله تعالى : ﴿ فَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ ﴾ [ سورة النحل الآية 98 ] ، وصفتها أن يقول : أعوذ بالله من الشيطان الرجيم ، وكان بعض السلف يقول : ( أعوذ بالله السميع العليم من الشيطان الرجيم ) . وكلاهما صحيح .

    الثالث : ينبغي للقارئ أن يبسمل في بداية كل سورة ما عدا براءة؛ لأن الصحيح أن البسملة آية من القرآن جيء بها

    للفصل بين السور ، وقد أثبتها الصحابة رضي الله عنهم في المصاحف في أوائل السور ما عدا براءة .

    الرابع : ينبغي لقارئ القرآن أن يترسل في قراءته ويرتلها ويتدبره وألا يهذها هذا ، يقول الله سبحانه وتعالى : ﴿ وَقُرْآنًا فَرَقْنَاهُ لِتَقْرَأَهُ عَلَى النَّاسِ عَلَى مُكْثٍ وَنَزَّلْنَاهُ تَنْزِيلًا ﴾ [ سورة الإسراء الآية 106 ] .

    وفي البخاري عن ابن عباس رضي الله عنهما في قوله تعالى : ﴿ لَا تُحَرِّكْ بِهِ لِسَانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ ﴾ [ سورة القيامة الآية 16 ] ، قال : (( كان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- إذا نزل جبريل بالوحي وكان مما يحرك به لسانه وشفتيه فيشتد عليه وكان يعرق منه فأنزل الله ، الآية التي في لا أقسم بيوم القيامة : ﴿ لَا تُحَرِّكْ بِهِ لِسَانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ *إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ * فَإِذَا قَرَأْنَاهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ * ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا بَيَانَهُ ﴾ [ سورة القيامة الآية 16-19 ] ، قال: إن علينا أن نبينه بلسانك ، قال: وكان إذا أتاه جبريل أطرق فإذا ذهب قرأه كما وعده الله .

    وفي البخاري أيضا : (( أن رجلا قال لابن مسعود : قرأت المفصل البارحة ، فقال : هذا كهذ الشعر ، إنا قد سمعنا القراءة وإني لأحفظ القرناء التي كان يقرأ بهن النبي -صلى الله عليه وسلم- ثماني عشرة سورة من المفصل وسورتين من آل حم )) .
    وجاء في بعض الروايات أن الرجل قرأ المفصل في ركعة . وفي رواية لأبي داود سرد فيها السور النظائر فقال : (( كان يقرأ النظائر السورتين في ركعة ، الرحمـن والنجم في ركعة ، واقتربت والحاقة في ركعة ، والذاريات والطور في ركعة ، والواقعة ونون في ركعة ، وسأل والنازعات في ركعة ، وويل للمطففين وعبس في ركعة ، والمدثر والمزمل في ركعة ، وهل أتى ولا أقسم في ركعة ، وعم يتساءلون والمرسلات في ركعة ، وإذا الشمس كورت والدخان في ركعة )) .
    والسنة في قراءة القرآن أن يمدها مدا ، ففي الصحيح أن أنسا رضي الله عنه سئل عن قراءة النبي -صلى الله عليه وسلم- فقال : ( كان يمد مدا ) . وفي لفظ : ( ثم قرأ : بسم الله الرحمن الرحيم يمد بسم الله ، ويمد بالرحمن ، ويمد بالرحيم ) .

    الخامس : يستحب لقارئ القرآن أن يحسن صوته بكتاب الله ، فعن أبي هريرة رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : (( ما أذن الله لشيء ما أذن للنبي أن يتغنى بالقرآن )) . أخرجه البخاري . وفي حديث أبي هريرة في الصحيح أيضا أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال : (( ليس منا من لم يتغن بالقرآن )) . وفي الصحيحين من حديث أبي موسى الأشعري رضي الله عنه أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال له : (( يا أبا موسى لقد أوتيت مزمارا من مزامير آل داود )) وذلك لما سمع حسن صوته بالقراءة .

    السادس : يستحب البكاء عند قراءة القرآن ، يقول الله مثنيا على من هذه صفته : ﴿ وَيَخِرُّونَ لِلْأَذْقَانِ يَبْكُونَ وَيَزِيدُهُمْ خُشُوعًا ﴾ [ سورة الإسراء الآية 109 ] ،
    وقال في صفة أنبيائه عليهم السلام : ﴿ إِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُ الرَّحْمَنِ خَرُّوا سُجَّدًا وَبُكِيًّا ﴾ [ سورة مريم الآية 58 ] .

    وفي الصحيح أن الرسول -صلى الله عليه وسلم- قال لابن مسعود رضي الله عنه : (( اقرأ علي . قال: قلت: أقرأ عليك وعليك أنزل ؟! قال : إني أشتهي أن أسمعه من غيري . قال : فقرأت النساء حتى بلغت ﴿ فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنَا بِكَ عَلَى هَؤُلَاءِ شَهِيدًا ﴾ [ سورة النساء الآية 41 ] . قال لي . كف ، أو أمسك . فرأيت عينيه تذرفان )).
    وأخرج الإمام أحمد وغيره عن مطرف بن عبد الله عن أبيه قال : (( رأيت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يصلي وفي صدره أزيز كأزيز المرجل من البكاء )) .

    وفي البخاري أن عائشة قالت للنبي -صلى الله عليه وسلم- حين كان في مرضه وأمر أن يخلفه أبو بكر في الصلاة بالناس : (( إنه رجل رقيق إذا قام مقامك لم يستطع أن يصلي بالناس )) وفي لفظ : (( لم يسمع الناس من البكاء )) . وكان عمر رضي الله عنه إذا صلى بكى حتى سمعوا بكاءه من وراء الصفوف . وعن أبي رجاء قال : ( رأيت ابن عباس وتحت عينيه مثل الشراك البالي من الدموع ) .

    ولهذا قال النووي رحمه الله في البكاء حال القراءة : " وهو صفة العارفين وشعار عباد الله الصالحين" ا هـ .

    وينبغي أن يعلم أن البكاء والتباكي المحمود ما كـان ناشئا عن تدبر لكتاب الله أورث في القلب الخشية والحزن وهذا يدل على كـمال في إيمان العبد ، يقول الله : ﴿ اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَابًا مُتَشَابِهًا مَثَانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ ﴾ [ سورة الزمر الآية 23 ] .

    وليحذر المسلم أن يتصنع البكاء رياء وسمعة أو لحاجة في نفسه فإن هذا من أعظم الخطر ومداخل الشيطان على العبد .

    السابع : يستحب لقارئ القرآن في غير الفريضة إذا مر بآية رحمة أن يسأل الله من فضله وإن مر بآية عذاب استعاذ بالله من عذابه ، فعن حذيفة رضي الله عنه قال : (( صليت مع النبي -صلى الله عليه وسلم- ذات ليلة فافتتح البقرة ، فقلت يركـع عند المائة ، ثم مضى ، فقلت: يصلي بها في ركعة ، فمضى ، ثم افتتح النساء فقرأها ، فقلت: يركع بهما ، ثم افتتح آل عمران فقرأ ، يقرأ مترسلا؛ إذا مر بآية فيها تسبيح سبح ، وإذا مر بسؤال سأل ، وإذا مر بتعوذ تعوذ )) أخرجه مسلم .

    الثامن : ينبغي للمسلم أن يتعاهد حفظه ، فإن نسي شيئا منه فلا يقل : إني نسيت ، ولكن ليقل : إني أنسيت أو نسيت ، يقول النبي صلى الله عليه وسلم : (( بئس ما لأحدهم أن يقول : نسيت آية كيت وكيت بل نسي )) أخرجه البخاري .

    وإنما نهي عن قوله: "نسيت" لأنه مشعر بالتساهل والتهاون في أمر القرآن ، والأصل أن المسلم حريص كل الحرص على كتاب ربه .

    التاسع : لا بأس بقراءة القرآن في أحوال الإنسان ماشيا أو راكبا أو مضطجعا ، فعن عبد الله بن مغفل -رضي الله عنه- قال : (( رأيت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقرأ وهو على ناقته أو جمله وهي تسير به وهو يقرأ سورة الفتح أو من سورة الفتح قراءة لينة ، يقرأ وهو يرجع )) أخرجه البخاري .

    وفي الصحيحين عن عائشة رضي الله عنها قالت : (( كان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يتكئ في حجري وأنا حائض ويقرأ القرآن )) .

    وجاء عن عائشة رضي الله عنها أنها تقرأ حزبها وهي مضطجعة على السرير .

    وعن أبي موسى الأشعري -رضي الله عنه- قال : "إني أقرأ القرآن في صلاتي وأقرأ على فراشي" .

    العاشر : الواجب على المسلمين الائتلاف على القرآن حال قراءته والحذر من المنازعة والافتراق ، ففي البخاري أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال : (( اقرءوا القرآن ما ائتلفت عليه قلوبكم فإذا اختلفتم فقوموا عنه )) وهذا لئلا يقع النزاع والخلاف ومن ثم الافتراق .

    الحادي عشر: مما يتأكد العناية به سجود التلاوة ، والجمهور على استحبابه؛ لورود الأمر به ، وقالوا: مستحب؛
    لأن عمر بن الخطاب قرأ على المنبر يوم الجمعة سورة النحل ، حتى إذا جاء السجدة نزل فسجد وسجد الناس ، حتى إذا كانت الجمعة القابلة قرأ بها حتى إذا جاء السجدة قال: يا أيها الناس إنما نمر بالسجود ، فمن سجد فقد أصاب ومن لم يسجد فلا إثم عليه . ولم يسجد عمر . أخرجه البخاري . ويشرع هذا السجود للقارئ والمستمع .

    ثم إن المشروع أن يكون حامل القرآن على أكمل الأحوال وأكرم الشمائل ، وأن يرفع نفسه عن كل ما نهى القرآن عنه؛ إجلالا لكتاب الله ، وأن يكون مصونا عن دنيء المكاسب مترفعا عن سفاسف الأمور ، متواضعا لعباد الله ، وبالجملة يكون خلقه القرآن كما كان هذا هدي النبي -صلى الله عليه وسلم- فيما أخبرت عنه عائشة رضي الله عنها .

    ومن الكلام الجامع الذي ينبغي أن يمتثله حامل كتاب الله ما قاله عبد الله بن مسعود رضي الله عنه : ينبغي لحامل القرآن أن يعرف بليله إذا الناس نائمون ، وبنهاره إذا الناس مفطرون ، وبحزنه إذا الناس يفرحون ، وببكائه إذا الناس يضحكون ، وبصمته إذا الناس يخوضون ، وبخشوعه إذا الناس يختالون .

    ينبغي لحامل القرآن أن يتعاهد قلبه ولسانه وجوارحه؛ فلا يعتقد إلا الحق بدليله ولا ينطق إلا بصدق وخير ولا يعمل إلا خيرا ، وليحرص كل الحرص على دفع الباطل عن نفسه من اعتقاد أو قول أو عمل ، وأن يكف شره وأذاه عن الناس .

    ثم ليعلم كل مسلم أن قراءة القرآن تارة تكون واجبة ، كالقراءة في الصلاة فإنها واجبة بالإجماع ، وإنما اختلف العلماء في هل الواجب الفاتحة بعينها أو يكفي غيرها من القرآن ويجزئ؟ والصحيح الأول . وتارة تكون مستحبة وهي ما زاد على القدر الواجب في الصلاة ، وكذلك تلاوة القرآن في سائر الأوقات . وتارة تكون مكروهة كإذا كانت جهرية تشوش على التالين أو المصلين أو تزعج النائمين .

    وتارة تكون محرمة كمن يقصد بها الرياء والسمعة ، أو يفعلها في مواطن البدع؛ لأن في ذلك إعانة على الباطل ، ومن العلماء من حرم تمطيط القراءة بحيث يخل باللفظ ، وكذلك الألحان المطربة كألحان الغناء؛ صيانة لكتاب الله وتنزيها له .

    هذا وإن من البدع ما يحصل في المآتم التي يقرأ فيها القرآن عند العزاء واجتماع الناس ، وكذلك الاستئجار على قراءة القرآن وإهدائه للأموات ونحو ذلك مما فشى في الناس؛ لقلة العلم وغلبة الجهل ، وقلة من ينكر ويبين للناس دينهم . فإنا لله وإنا إليه راجعون .

    ومما يجب التنبيه عليه أن يعلم جميع المسلمين أفرادا وحكاما أن كتاب الله إنما أنزل ليعمل به ويحكم ويتحاكـم إليه ، فهو مصدرنا في التشريع وإليه مرجعنا في الحكم والعمل .

    هذا ما يسر الله رقمه في هذه المقدمة ، وما هذه إلا كلمات يسيرة ، وإلا فحق كتاب الله أعظم ، وقدره أجل من أن تحيط به الكلمات ، أو تؤدي حقه العبارات ، وإنما هي تنبيهات أردت بها النفع لي ولإخواني المسلمين ،

    وأسأل الله العلي القدير بمنه وكرمه أن يفقهنا في دينه ، وأن يعلمنا التأويل ، وأن يجعل القرآن العظيم ربيع قلوبنا ونور صدورنا وجلاء همومنا وغمومنا ، اللهم ذكرنا منه ما نسينا وعلمنا منه ما جهلنا ، وارزقنا تلاوته آناء الليل وأطراف النهار على الوجه الذي يرضيك عنا ، اللهم اجعلنا ممن عمل بمحكمه وآمن بمتشابهه ، اللهم اجعله حجة لنا لا علينا واجعله شاهدا لنا ودليلنا وسائقنا إلى جناتك جنات النعيم ، اللهم ارفع لنا به الدرجات وحط عنا به الخطايا والسيئات وشفعه فينا يا رب العالمين .

    وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه ومن سار على دربه إلى يوم الدين .

    المصدر : (( مجلة البحوث الإسلامية )) ع : 63 ص 7

    جزى الله سماحة الشيخ عبد العزيز بن عبد الله آل الشيخ خير الجزاء بارك في جهوده.



يعمل...
X