إعـــــــلان

تقليص
لا يوجد إعلان حتى الآن.

قول شيخ الإسلام عن قدر سورة " الكوثر" أجلها وأغزر فوائدها

تقليص
X
 
  • تصفية - فلترة
  • الوقت
  • عرض
إلغاء تحديد الكل
مشاركات جديدة

  • قول شيخ الإسلام عن قدر سورة " الكوثر" أجلها وأغزر فوائدها

    قول شيخ الإسلام عن قدر سورة الكوثر أجلها وأغزر فوائدها


    وقال شيخ الإسلام أبو العباس أحمد بن عبد الحليم بن عبد السلام بن تيمية - رحمه الله -:



    " سورة الكوثر " ما أجلها من سورة وأغزر فوائدها على اختصارها وحقيقة معناها تعلم من آخرها فإنه سبحانه وتعالى بتر شانئ رسوله من كل خير فيبتر ذكره وأهله وماله فيخسر ذلك في الآخرة ويبتر حياته فلا ينتفع بها ولا يتزود فيها صالحا لمعاده ويبتر قلبه فلا يعي الخير ولا يؤهله لمعرفته ومحبته والإيمان برسله ويبتر أعماله فلا يستعمله في طاعة ويبتره من الأنصار فلا يجد له ناصرا ولا عونا. ويبتره من جميع القرب والأعمال الصالحة فلا يذوق لها طعما ولا يجد لها حلاوة وإن باشرها بظاهره فقلبه شارد عنها. وهذا جزاء من شنأ بعض ما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم ورده لأجل هواه أو متبوعه أو شيخه أو أميره أو كبيره. كمن شنأ آيات الصفات وأحاديث الصفات وتأولها على غير مراد الله ورسوله منها أو حملها على ما يوافق مذهبه ومذهب طائفته أو تمنى أن لا تكون آيات الصفات أنزلت ولا أحاديث الصفات قالها رسول الله صلى الله عليه وسلم. ومن أقوى علامات شناءته لها وكراهته لها أنه إذا سمعها حين يستدل بها أهل السنة على ما دلت عليه من الحق اشمأز من ذلك وحاد ونفر عن ذلك لما في قلبه من البغض لها والنفرة عنها فأي شانئ للرسول أعظم من هذا وكذلك أهل السماع الذين يرقصون على سماع الغناء والقصائد والدفوف والشبابات إذا سمعوا القرآن يتلى ويقرأ في مجالسهم استطالوا ذلك واستثقلوه فأي شنآن أعظم من هذا وقس على هذا سائر الطوائف في هذا الباب. وكذا من آثر كلام الناس وعلومهم على القرآن والسنة فلولا أنه شانئ لما جاء به الرسول ما فعل ذلك حتى إن بعضهم لينسى القرآن بعد أن حفظه ويشتغل بقول فلان وفلان ولكن أعظم من شنأه ورده: من كفر به وجحده وجعله أساطير الأولين وسحرا يؤثر فهذا أعظم وأطم انبتارا وكل من شنأه له نصيب من الانبتار على قدر شناءته له فهؤلاء لما شنئوه وعادوه جازاهم الله بأن جعل الخير كله معاديا لهم فبترهم منه وخص نبيه صلى الله عليه وسلم بضد ذلك وهو أنه أعطاه الكوثر وهو من الخير الكثير الذي آتاه الله في الدنيا والآخرة فمما أعطاه في الدنيا الهدى والنصر والتأييد وقرة العين والنفس وشرح الصدر ونعم قلبه بذكره وحبه بحيث لا يشبه نعيمه نعيم في الدنيا ألبتة وأعطاه في الآخرة الوسيلة والمقام المحمود وجعله أول من يفتح له ولأمته باب الجنة وأعطاه في الآخرة لواء الحمد والحوض العظيم في موقف القيامة إلى غير ذلك وجعل المؤمنين كلهم أولاده وهو أب لهم وهذا ضد حال الأبتر الذي يشنؤه ويشنأ ما جاء به. وقوله: {إن شانئك} أي مبغضك والأبتر المقطوع النسل الذي لا يولد له خير ولا عمل صالح فلا يتولد عنه خير ولا عمل صالح.

    قيل لأبي بكر بن عياش: إن بالمسجد قوما يجلسون ويجلس إليهم فقال: من جلس للناس جلس الناس إليه. ولكن أهل السنة يموتون ويحيى ذكرهم وأهل البدعة يموتون ويموت ذكرهم؛ لأن أهل السنة أحيوا ما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم فكان لهم نصيب من قوله: {ورفعنا لك ذكرك} وأهل البدعة شنئوا ما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم فكان لهم نصيب من قوله: {إن شانئك هو الأبتر} فالحذر الحذر أيها الرجل من أن تكره شيئا مما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم أو ترده لأجل هواك أو انتصارا لمذهبك أو لشيخك أو لأجل اشتغالك بالشهوات أو بالدنيا فإن الله لم يوجب على أحد طاعة أحد إلا طاعة رسوله والأخذ بما جاء به بحيث لو خالف العبد جميع الخلق واتبع الرسول ما سأله الله عن مخالفة أحد فإن من يطيع أو يطاع إنما يطاع تبعا للرسول وإلا لو أمر بخلاف ما أمر به الرسول ما أطيع. فاعلم ذلك واسمع وأطع واتبع ولا تبتدع. تكن أبتر مردودا عليك عملك بل لا خير في عمل أبتر من الاتباع ولا خير في عامله والله أعلم.


    وقوله تعالى: {إنا أعطيناك الكوثر} تدل هذه الآية على عطية كثيرة صادرة عن معط كبير غني واسع. وأنه تعالى وملائكته وجنده معه: صدر الآية (بإن) الدالة على التأكيد وتحقيق الخبر وجاء الفعل بلفظ الماضي الدال على التحقيق وأنه أمر ثابت واقع ولا يدفعه ما فيه من الإيذان بأن إعطاء الكوثر سابق في القدر الأول حين قدرت مقادير الخلائق قبل أن يخلقهم بخمسين ألف سنة وحذف موصوف الكوثر ليكون أبلغ في العموم؛ لما فيه من عدم التعيين وأتى بالصفة أي أنه سبحانه وتعالى قال: {إنا أعطيناك الكوثر} فوصفه بالكوثر والكوثر المعروف إنما هو نهر في الجنة كما قد وردت به الأحاديث الصحيحة الصريحة وقال ابن عباس: الكوثر إنما هو من الخير الكثير الذي أعطاه الله إياه وإذا كان أقل أهل الجنة من له فيها مثل الدنيا عشر مرات فما الظن بما لرسول الله صلى الله عليه وسلم مما أعده الله له فيها فالكوثر علامة وأمارة على تعدد ما أعده الله له من الخيرات واتصالها وزيادتها وسمو المنزلة وارتفاعها وأن ذلك النهر وهو الكوثر أعظم أنهار الجنة وأطيبها ماء وأعذبها وأحلاها وأعلاها. وذلك أنه أتى فيه بلام التعريف الدالة على كمال المسمى وتمامه. كقوله: زيد العالم زيد الشجاع أي لا أعلم منه ولا أشجع منه وكذلك قوله: {إنا أعطيناك الكوثر} . دل على أنه أعطاه الخير كله كاملا موفرا وإن نال منه بعض أمته شيئا كان ذلك الذي ناله ببركة اتباعه. والاقتداء به مع أن له صلى الله عليه وسلم مثل أجره من غير أن ينقص من أجر المتبع له شيء ففيه الإشارة إلى أن الله تعالى يعطيه في الجنة بقدر أجور أمته كلهم من غير أن ينتقص من أجورهم فإنه هو السبب في هدايتهم ونجاتهم فينبغي بل يجب على العبد اتباعه والاقتداء به وأن يمتثل ما أمره به ويكثر من العمل الصالح صوما وصلاة وصدقة وطهارة ليكون له مثل أجره فإنه إذا فعل المحظورات فات الرسول مثل أجر ما فرط فيه من الخير فإن فعل المحظور مع ترك المأمور قوي وزره وصعبت نجاته لارتكابه المحظور وتركه المأمور وإن فعل المأمور وارتكب المحظور دخل فيمن يشفع فيه الرسول صلى الله عليه وسلم لكونه ناله مثل أجر ما فعله من المأمور وإلى الله إياب الخلق وعليه حسابهم وهو أعلم بحالهم: أي بأحوال عباده فإن شفاعته لأهل الكبائر من أمته والمحسن إنما أحسن بتوفيق الله له والمسيء لا حجة له ولا عذر. والمقصود أن الكوثر نهر في الجنة وهو من الخير الكثير الذي أعطاه الله رسوله صلى الله عليه وسلم في الدنيا والآخرة وهذا غير ما يعطيه الله من الأجر الذي هو مثل أجور أمته إلى يوم القيامة فكل من قرأ أو علم أو عمل صالحا أو علم غيره أو تصدق أو حج أو جاهد أو رابط أو تاب أو صبر أو توكل أو نال مقاما من المقامات القلبية من خشية وخوف ومعرفة وغير ذلك فله مثل أجره من غير أن ينقص من أجر ذلك العامل. والله أعلم. وقوله: {فصل لربك وانحر} أمره الله أن يجمع بين هاتين العبادتين العظيمتين وهما الصلاة والنسك الدالتان على القرب والتواضع والافتقار وحسن الظن وقوة اليقين وطمأنينة القلب إلى الله وإلى عدته وأمره وفضله وخلفه عكس حال أهل الكبر والنفرة وأهل الغنى عن الله الذين لا حاجة في صلاتهم إلى ربهم يسألونه إياها والذين لا ينحرون له خوفا من الفقر وتركا لإعانة الفقراء وإعطائهم وسوء الظن منهم بربهم ولهذا جمع الله بينهما. في قوله تعالى: {قل إن صلاتي ونسكي ومحياي ومماتي لله رب العالمين} والنسك هي الذبيحة ابتغاء وجهه. والمقصود: أن الصلاة والنسك هما أجل ما يتقرب به إلى الله فإنه أتى فيهما بالفاء الدالة على السبب؛ لأن فعل ذلك وهو الصلاة والنحر سبب للقيام بشكر ما أعطاه الله إياه من الكوثر والخير الكثير فشكر المنعم عليه وعبادته أعظمها هاتان العبادتان بل الصلاة نهاية العبادات وغاية الغايات. كأنه يقول: {إنا أعطيناك الكوثر} الخير الكثير وأنعمنا عليك بذلك لأجل قيامك لنا بهاتين العبادتين شكرا لإنعامنا عليك وهما السبب لإنعامنا عليك بذلك فقم لنا بهما فإن الصلاة والنحر محفوفان بإنعام قبلهما وإنعام بعدهما وأجل العبادات المالية النحر وأجل العبادات البدنية الصلاة وما يجتمع للعبد في الصلاة لا يجتمع له في غيرها من سائر العبادات كما عرفه أرباب القلوب الحية وأصحاب الهمم العالية وما يجتمع له في نحره من إيثار الله وحسن الظن به وقوة اليقين والوثوق بما في يد الله أمر عجيب إذا قارن ذلك الإيمان والإخلاص وقد امتثل النبي صلى الله عليه وسلم أمر ربه فكان كثير الصلاة لربه كثير النحر حتى نحر بيده في حجة الوداع ثلاثا وستين بدنة وكان ينحر في الأعياد وغيرها. وفي قوله: {إنا أعطيناك الكوثر} {فصل لربك وانحر} إشارة إلى أنك لا تتأسف على شيء من الدنيا كما ذكر ذلك في آخر " طه " " والحجر " وغيرهما وفيها الإشارة إلى ترك الالتفات إلى الناس وما ينالك منهم بل صل لربك وانحر. وفيها التعريض بحال الأبتر الشانئ الذي صلاته ونسكه لغير الله. وفي قوله: {إن شانئك هو الأبتر} أنواع من التأكيد: أحدها تصدير الجملة بإن. الثاني: الإتيان بضمير الفصل الدال على قوة الإسناد والاختصاص. الثالث: مجيء الخبر على أفعل التفضيل. دون اسم المفعول. الرابع: تعريفه باللام الدالة على حصول هذا الموصوف له بتمامه. وأنه أحق به من غيره ونظير هذا في التأكيد قوله: {لا تخف إنك أنت الأعلى} . ومن فوائدها اللطيفة الالتفات في قوله: {فصل لربك وانحر} الدالة على أن ربك مستحق لذلك وأنت جدير بأن تعبده وتنحر له. والله أعلم.


    مجموعة الفتاوى لشيخ الاسلام ابن تيمية مجلد٨ صفحة ٢٩١

يعمل...
X