الحمد لله وحده
والصلاة والسلام على من لا نبي بعده
أما بعد
والصلاة والسلام على من لا نبي بعده
أما بعد
يقول الله تعالى {
وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لآدَمَ فَسَجَدُوا إِلا إِبْلِيسَ أَبَى }
قال الطبري في تفسيره (688) : حدثني موسى بن هارون، قال: حدثنا عمرو بن حماد، قال: حدثنا أسباط، عن السُّدّيّ في خبر ذكره، عن أبي مالك، وعن أبي صالح، عن ابن عباس - وعن مُرَّة، عن ابن مسعود ، وعن ناس من أصحاب النبي صلى الله عليه قالوا : [ جعل إبليس على مُلك سماء الدنيا وكان من قبيلة من الملائكة يقال لهم"الجنّ" وإنما سُمُّوا الجن لأنهم خُزَّان الجنة وكان إبليس مع مُلكه خازنًا ] .
هذا الإسناد قد ضعفه الإمام الوادعي وذهب الى تصحيح هذا الإسناد -سند السدي إلى الصحابة-جمع من أهل العلم وهو الصواب : منهم ابن منده فقد قال عنه في كتاب التوحيد : إسناد ثابت .
والحاكم والذهبي في إسناده الى ابن مسعود خاصة .
وقال الشيخ الألباني عنه في مختصر العلو : إسناده جيد .
و أسباط بن نصر قد أخرج له مسلم في صحيحه وقال عنه البخاري : صدوق .
ووثقه موسى بن هارون وابن حبان وابن معين في رواية عنه وتكلم في ضبطه آخرون وعلى كل لا يضر ذلك لأن روايته هنا إنما هي صحيفة منقولة فأمنا من سوء ضبطه ويراجح ما كتبه الشيخ أحمد شاكر في تفسير الطبري
و قال ابن أبي حاتم في تفسيره (362) : حدثنا أبي، حدثنا سعيد بن سليمان، حدثنا عباد عن سفيان بن حسين، عن يعلى بن مسلم، عن سعيد بن جُبَير، عن ابن عباس قال : [ كان إبليس اسمه عزازيل وكان من أشراف الملائكة من ذوي الأجنحة الأربعة، ثم أبلس بعد ] .
وهذا إسناد قوي
وقال الطبري أيضاً (693) : حدثنا بشر بن معاذ، قال: حدثنا يزيد، قال: حدثنا سعيد، عن قتادة قال:{ إِلا إِبْلِيسَ كَانَ مِنَ الْجِنِّ } [ كان من قبيل من الملائكة يقال لهم"الجن": وكان قتادة يقول: جَنَّ عن طاعة ربه ] .
وقال أيضاً : حدثنا محمد بن المثنى، قال: حدثني شيبان، قال حدثنا سلام بن مسكين، عن قتادة عن سعيد بن المسيب قال : [ كان إبليس رئيسَ ملائكة سماء الدنيا]
رواية قتادة عن سعيد –المعنعنة- قد تمشى في المقطوع
فإن قال قائل : القول بأن ابليس من الملائكة مخالف لما جاء في الحديث أن " الملائكة خلقت من نور والجن من نار " ؟!
و لما عُلم من أن الجن يتوالدون ويتناسلون بخلاف الملائكة ؟!
وأين هذا من قوله تعالى عن إبليس { كَانَ مِنَ الْجِنِّ فَفَسَقَ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِ} ؟!
والجواب :
قال شيخ المفسرين الإمام ابن جرير الطبري في تفسيره (1-508) : غيرُ مستنكر أن يكون الله جل ثناؤه خَلق أصنافَ ملائكته من أصنافٍ من خلقه شَتَّى.
فخلق بعضًا من نُور، وبعضًا من نار، وبعضًا مما شاء من غير ذلك. وليس في ترك الله جل ثناؤه الخبر عَما خَلق منه ملائكته ، وإخبارِه عما خلق منه إبليس - ما يوجب أن يكون إبليس خارجًا عن معناهم.
إذْ كان جائزًا أن يكون خلق صِنفًا من ملائكته من نار كان منهم إبليس، وأن يكون أفرد إبليس بأنْ خَلقه من نار السموم دون سائر ملائكته.
وكذلك غيرُ مخرجه أن يكون كان من الملائكة بأنْ كان له نسل وذرية، لِمَا ركَّب فيه من الشهوة واللذة التي نُزعت من سائر الملائكة، لِمَا أراد الله به من المعصية .
وأما خبرُ الله عن أنه"من الجن" فغير مدفوع أن يسمى ما اجتنّ من الأشياء عن الأبصار كلها جنًّا - كما قد ذكرنا قبل في شعر الأعشى - فيكون إبليسُ والملائكةُ منهم، لاجتنانهم عن أبصار بني آدم. ا.هــ
وقال محيي السنة البغوي في تفسيره (1-81) : { إِلا إِبْلِيسَ } كان اسمه عزازيل بالسريانية، وبالعربية: الحارث، فلما عصى غير اسمه وصورته فقيل: إبليس، لأنه أبلس من رحمة الله تعالى أي يئس.
واختلفوا فيه فقال ابن عباس رضي الله عنهما وأكثر المفسرين: كان إبليس من الملائكة، وقال الحسن: كان من الجن ولم يكن من الملائكة لقوله تعالى "إلا إبليس كان من الجن ففسق عن أمر ربه"
فهو أصل الجن كما أن آدم أصل الإنس، ولأنه خلق من النار والملائكة خلقوا من النور، ولأن له ذرية ولا ذرية للملائكة، والأول أصح لأن خطاب السجود كان مع الملائكة، وقوله " كان من الجن " أي من الملائكة الذين هم خزنة الجنة.
وقال سعيد بن جبير: من الذين يعملون في الجنة .
وقال: قوم من الملائكة الذين يصوغون حلي أهل الجنة .
وقيل: إن فرقة من الملائكة خلقوا من النار سموا جنا لاستتارهم عن الأعين، وإبليس كان منهم. والدليل عليه قوله تعالى "وجعلوا بينه وبين الجنة نسبا"وهو قولهم: الملائكة بنات الله، ولما أخرجه الله من الملائكة جعل له ذرية. ا.هـ
ولا أعلم مخالفاً -لما قاله ابن مسعود وابن عباس رضي الله عنهم- من الصحابة
وأما وجود الخلاف بين التابعين فهذا معلوم .
كما أنه من المعلوم أن قول الصحابي –بشروطه- حجة وبلا مرية .
فإن قال قائل لعل ابن عباس قد أخذ هذا عن أهل الكتاب فهو من الإسرائليات ؟
والجواب :
قال الشيخ ابن عثيمين في مجموعه (10-676) : قولنا : "وابن عباس ممن يروي عن بني إسرائيل" قول مشهور عند علماء المصطلح، لكن فيه نظر فإن ابن عباس رضي الله عنهما ممن ينكر الأخذ عن بني إسرائيل; ففي "صحيح البخاري" أنه قال: "يا معشر المسلمين! كيف تسألون أهل الكتاب وكتابكم الذي أنزل على نبيه ( أحدث الأخبار بالله تقرؤونه لم يشب، وقد حدثكم الله أن أهل الكتاب بدلوا ما كتب الله وغيروا بأيديهم الكتاب؟! فقالوا: هذا من عند الله ليشتروا به ثمنا قليلا، أفلا ينهاكم ما جاءكم من العلم عن مساءلتهم؟! ولا والله ما رأينا منهم رجلا يسألكم عن الذي أنزل عليكم". ا.هـ
ثم يقال ان قيل بأن ابن عباس قد أخذ هذا عن أهل الكتاب (!) لأنه قد ورد عنه سؤال كعب الأحبار عن بعض الآيات -ولهذا الزعم بحث ليس هذا موضعه- فمن أين لكم أن تقولوا ذلك في ابن مسعود أيضاً ؟
ثم هل يجوز بنا أن نظن في أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم أنهم كانوا ينقلون عن أهل الكتاب ما فيه مخالفة لكتاب ربهم ولسنة نبيهم صلى الله عليه وسلم ؟ (!!)
وفي الوقت نفسه لا يحفظ عن أحد منهم انكار على من قال ذلك ؟!
حاشاهم رضي الله عنهم من ذلك ونعوذ بالله من ظن السوء بهم
قال شيخ الإسلام الثاني العلامة ابن القيم في الإعلام (4-142) : .. لا يخلو عصرهم من الحق إما على لسان عمر وإما على لسان غيره منهم وإنما المحال أن يفتى أمير المؤمنين المحدث بفتوى أويحكم بحكم ولا يقول أحد من الصحابة غيره ويكون خطأ ثم يوفق له من بعدهم فيصيب الحق ويخطئه الصحابة .
وقال في (4-155) : من المتنع أن يقولوا في كتاب الله الخطأ المحض ويمسك الباقون عن الصواب فلا يتكلمون به
وهذه الصورة المذكورة وامثالها قد تكلم فيها غيرهم بالصواب والمحظور إنما هو خلو عصرهم عن ناطق بالصواب واشتماله على ناطق بغيره فقط فهذا هو المحال . ا.هـ
هذا وصل اللهم على نبينا محمد وصحبه