إعـــــــلان

تقليص
لا يوجد إعلان حتى الآن.

العلماء السوء لفضيلة شيخنا الوالد هشام بن فهمي العارف- حفظه الله-

تقليص
X
 
  • تصفية - فلترة
  • الوقت
  • عرض
إلغاء تحديد الكل
مشاركات جديدة

  • العلماء السوء لفضيلة شيخنا الوالد هشام بن فهمي العارف- حفظه الله-

    العلماء السوء
    إعداد: هشام بن فهمي العارف
    23/6/1429 الموافق 27/6/2008
    الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله محمد بن عبد الله وعلى آله وصحبه ومن تبعه ووالاه:
    أما بعد؛
    كنت كتبت هذه المقالة في العدد (13) من مجلة الدعوة السلفية التي صدرت في شهر محرم/1429، أي قبل نحو ستة أشهر، واليوم أعود لأجدد فيها شيئاً فأقول:
    قال ـ تعالى ـ في سورة الأعراف:
    (1) (وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ الَّذِي آَتَيْنَاهُ آَيَاتِنَا فَانْسَلَخَ مِنْهَا فَأَتْبَعَهُ الشَّيْطَانُ فَكَانَ مِنَ الْغَاوِينَ (175) (وَلَوْ شِئْنَا لَرَفَعْنَاهُ بِهَا وَلَكِنَّهُ أَخْلَدَ إِلَى الأرْضِ وَاتَّبَعَ هَوَاهُ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ الْكَلْبِ إِنْ تَحْمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَثْ أَوْ تَتْرُكْهُ يَلْهَثْ ذَلِكَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآَيَاتِنَا فَاقْصُصِ الْقَصَصَ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ (176).
    قوله ـ عز وجل ـ (وَاتْلُ) معناه: اقرأ، إشارة إلى أهمية تتبع هذا الخبر الهام، واستعمل فعل "تلا يتلو تلاوة" في تلاوة القرآن، بمعنى النطق به، مع تتبع حروفه وكلماته كما أنزله الله، فإذا كانت التلاوة تتبعاً للمكتوب منه فهي قراءة.
    فاقرأ وتتبع معي ما نزل على النبي محمد ـ صلى الله عليه وآله وسلم ـ وأمر بتلاوته علينا، فقوله (عَلَيْهِمْ) لأننا الأولى من غيرنا بتتبع الـ (نَبَأَ)، الذي قصه علينا ربنا ـ عز وجل ـ لنحذر جميعاً الوقوع فيما وقع فيه علماء أهل الكتاب، وأشباههم من العلماء السوء.
    فالآية تتحدث عن موعظة تاريخية في حياة البشرية منذ آدم ـ عليه السلام ـ إلى يومنا هذا، إلى قيام الساعة.
    وجاء هذا الخبر بعد قوله ـ تعالى ـ:
    (2) (أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى شَهِدْنَا..(172).
    فكانت ذرية آدم بمنزلة من سئل عن الحق فأقر به، والميثاق الذي أخذه الله من ظهر آدم بِنَعْمان لا يجوز لأي مخلوق نقضه، أو الانسلاخ منه بأي حال من الأحوال، فتناسب ذكر هذا مع من لم يصن الحق. فكما أن الإنسان انحرفت فطرته بالوساوس الشيطانية التي حسَّنت له الشرك، فانساق وراء هذه التحسينات طواعية، انحرفت هنا أعمال هذا العالم بالوساوس الشيطانية أيضاً فحُسِّنت له الدنيا فانساق لزخرفتها وزينتها.
    والموعظة في الآية تتحدث عن كل من التصق بآيات الله ـ تعالى ـ حتى صار التصاقه بآيات الله البيَّنات كالجلد للحم بدنه، أحاط به إحاطة تامة بلغت حداً أنه أدرك به غاية ما أنعم الله عليه من الأمن والأمان، والسلامة والإسلام.
    فقوله ـ تعالى ـ:
    (الَّذِي آَتَيْنَاهُ آَيَاتِنَا) بمعنى أعطي من كتاب الله ـ تعالى ـ فهماً واضحاً سليماً خالٍ من التأويلات المنحرفة، فعمل عملاً صالحاً، وفهم مراد الله ـ تعالى ـ في الواقع من غير واسطة رسول، فكان كالذي يـُ (نبَّأ)، لعظم ما فيه من الفضيلة.
    لكن لم يطل العهد به حتى آثر الانسلاخ من النعمة العظمى.
    (فَانْسَلَخَ مِنْهَا) استعارة بديعة، فظن أنه لا يشقى، فتجرأ على عظمة الله، فخرج باختياره وإرادته من نعمة الاستقامة على طاعة الله منسلخاً كما تنسلخ الأفعى من قشرها، فاستحق ـ لخساسته ـ أن يسلخه الله ـ عز وجل ـ سلخ الشاة بعد ذبحها، ففارق آيات ربه متبرأً منها فهماً وعملاً.
    قال القرطبي:
    (3) "وكان بعض العلماء يقول: هذه الآية الكريمة تدل على أنه لا ينبغي للإنسان أن يقلِّد غير معصوم ويثق به كل الثقة؛ لأن هذا الإنسان ذكر الله أنه آتاه آياته، وبعد ذلك صار مآله إلى أخس مآل وأقبحه ـ والعياذ بالله ـ حيث قال: (فَانْسَلَخَ مِنْهَا)".
    وبالتالي تحوَّل بعد السلخ إلى إنسان يخشى منه لافتضاحه، ويخشى من تصرفاته، أن يصل الحال به إلى حمل السيف على جاره، ورميه بالشرك والكفر.
    فعن حذيفة بن اليمان ـ رضي الله عنه ـ قال: قال رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ: (4) "إن أخوف ما أخاف عليكم رجل قرأ القرآن، حتى إذا رئيت بهجته عليه وكان ردءاً للإسلام، انسلخ منه، ونبذه وراء ظهره، وسعى على جاره بالسيف، ورماه بالشرك. قلت يا نبي الله أيهما أولى بالشرك الرامي أو المرمي قال بل الرامي".[أخرجه البخاري في "التاريخ" وغيره، وهو في "الصحيحة" (3201)]
    والتعبير عنه بالانسلاخ فيه إشارة أيضاً إلى أن الإيمان كان طِلاءً، ولم يتمكن من قلبه، فيخشى إذن من تلاعبه ونفاقه، وهذا الذي دفع ببعض المفسرين إلى القول بأن صاحب هذا الخبر كل منافق، وحديث حذيفة ـ المتقدم ـ حسَّنه شيخنا الألباني ـ رحمه الله ـ بشواهد منها:
    (5) "إن أخوف ما أخاف على أمتي كل منافق عليم اللسان".
    رواه أحمد وغيره بسند صحيح عن عمر مرفوعاً، ورواه البيهقي في "شعب الإيمان" بلفظ:
    (6) "إن أخوف ما أخاف على أمتي كل منافق يتكلم بالحكمة، ويعمل بالجور".
    وعن أبي عثمان النهدي قال:
    (7) "خطبنا عمر بن الخطاب ـ رضي الله عنه ـ فقال: "حذرنا رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ كل منافق عليم اللسان". ["مختصر الحجة على تارك المحجة" (2/570) ـ نصر بن إبراهيم المقدسي]
    قال المناوي:
    (8) (كل منافق عليم اللسان): "أي عالم للعلم، منطلق اللسان به، لكنه جاهل القلب والعمل، فاسد العقيدة، يغر الناس بشقشقة لسانه، فيقع بسبب اتباعه خلق كثير في الزلل، وقد كان بعض العارفين لا يظهر لتلميذه إلا على أشرف أحواله، خوفاً أن يقتدى به فيها، أو يسوء ظنه به فيها فلا ينتفع به".
    قال الحراني:
    (9) "والخوف حذر النفس من أمور ظاهرة تضرها".["فيض القدير" (1/221)]
    ومن المفسرين من قال بأن صاحب هذا الخبر ممن للعرب إلمام بمجمل خبره، ففي التعريف بشخصه أقوال موقوفة: أصحها ما قاله ابن مسعود:
    (10) "أنه بلعم بن أبر من أهل اليمن".
    وفي رواية عن عبد الله بن عمرو بن العاص:
    (11) "أنه أمية بن أبي الصلت الثقفي، وأنه كان قد قرأ الكتب، وعلم أن الله مرسِل رسولاً، ورجا أن يكون هو، فلما بعث النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ حسده وكفر".
    وعلى العموم فالخبر أصاب العلماء الذين أرادوا زهرة الدنيا بما يخالف شرع الله.
    قال العلامة محمد بن صالح العثيمين ـ رحمه الله ـ:
    (12) "وإذا نظرت إلى واقع المسلمين اليوم وجدت أنهم متفرقون، فكل عالم لا يأوي إلى عالم ولا يشاوره ولا يأخذ برأيه، بل إنه مع الأسف ربما يضاده في رأيه مع علمه بأنه على حق، لكن يكون فيه شبه من اليهود الذين حسدوا العرب على ما أعطاهم الله ـ عز وجل ـ من النبوة العظيمة التي جعلها فيهم، فإن اليهود كانوا يستفتحون على الذين كفروا بمحمد؛ لأنهم يظنون أنه يأتي من بني إسرائيل وأتى من العرب، وهم يظنون هذا تمنياً، وإلا فهم يعرفون النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ كما يعرفون أبناءهم".["تفسير سورة الصافات"]
    هذا العالم أبى صحبة الهدى (فَأَتْبَعَهُ الشَّيْطَانُ) خفيفة ليست مشددة بمعنى قفاه، أي: لحق به وأدركه، ومن ثم استحوذ عليه وتسلَّط، فاستجاب لوساوسه، وتزييناته، وإغراءاته، طواعية بعد علم (فَكَانَ مِنَ الْغَاوِينَ) أي: صار من الضالين الهالكين يعني: صار من "العلماء السوء" الذين ركبوا هوى أنفسهم، بعد أن كان من العلماء المهتدين.
    وفي العبارة تلويح أنه صار أشد من الشيطان غواية، فهو عالم بالحق عامل بخلافه.
    وقد سبق أن حذَّر الله ـ تعالى ـ من طريقة النصارى في التأويل فقال:
    (13) (فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ وَرِثُوا الْكِتَابَ يَأْخُذُونَ عَرَضَ هَذَا الأدْنَى وَيَقُولُونَ سَيُغْفَرُ لَنَا وَإِنْ يَأْتِهِمْ عَرَضٌ مِثْلُهُ يَأْخُذُوهُ أَلَمْ يُؤْخَذْ عَلَيْهِمْ مِيثَاقُ الْكِتَابِ أَنْ لا يَقُولُوا عَلَى اللَّهِ إِلاَّ الْحَقَّ وَدَرَسُوا مَا فِيهِ..(169) [الأعراف]
    قال العلامة محمد بشير الإبراهيمي ـ رحمه الله ـ:
    (14) "أما علماء الخلف فهم أقل من أن تسميهم علماء دين، وأقل من أن تسميهم علماء دنيا".
    إلى أن قال:
    (15) "وأما الدنيا فليسوا علماء دنيا بالمعنى الأعلى لهذه الكلمة، وهو أن يعالجوا الكسب بطرق علمية، ويدرسوا وسائل الثراء بعزائم صادقة، ويضربوا في الأرض لجمع المال بكد اليمين، وعرق الجبين. أما المعنى السخيف لهذه الكلمة فهم أوفر الناس حظاً منه؛ فهم يطلبون المعيشة بأخس وسائلها، فيحصلون منها على فتات الموائد يشترونه بدينهم وماء وجوههم، هانوا على أنفسهم فهانوا على الله وعلى الناس، فرضوا بالدّون والهون".["وظيفة علماء الدين" (ص:26-28)]
    ولمّا لم يكن للشيطان سلطان في الإغواء قال ـ تعالى ـ:
    (وَلَوْ شِئْنَا) حتى لا يتوهم سامع أن للشيطان قدرة مستقلة في الإغواء، لكنها مشيئة الله ـ تعالى ـ الحكيم، فالآية أشد الآيات على العلماء الذين يريدون بعلمهم الدنيا وشهوات النفس واتباع الهوى.
    ولو أراد الآخرة وعمل لها (لَرَفَعْنَاهُ بِهَا) من التدنس عن قاذورات الدنيا وفتافيتها البائرة.
    قال ابن جرير ـ رحمه الله ـ:
    (16) "والرفع يعم معاني كثيرة منها: الرفع في المنزلة عنده، ومنها الرفع في شرف الدنيا ومكارمها، ومنها الرفع في الذكر الجميل، والثناء الرفيع. وجائز أن يكون الله عنى كل ذلك أنه لو شاء لرفعه، فأعطاه كل ذلك بتوفيقه للعمل بآياته التي كان آتاها إياه".
    (وَلَكِنَّهُ أَخْلَدَ) هذا سبب الانسلاخ. فهو كغيره ممن سفلت همتهم؛ فـ "قعد وتقاعس" [صحيح البخاري" تفسير سورة الأعراف]
    لقد اختار بمحض إرادته الحرّة أن يخلد على الداوم، وأصل الإخلاد: هو ملازمة الشيء والدوام فيه، فرمى بنفسه (إِلَى الأرْضِ) تهالكاً على ما فيها من الدنيء، مفتوناً بزينتها وزهرتها ونعيمها، فحطَّ نفسه حطّاً عظيماً لأن الله ـ تعالى ـ لم يشأ أن يرفعه بما أعطاه من الآيات، وإنما جعله وبالاً عليه. قال ابن القيم:
    (17) "قال أبو روق: اختار الدنيا على الآخرة".
    (18) "وقال عطاء: أراد الدنيا وأطاع شيطانه".
    قال البقاعي:
    (19) "فلا يغتر أحد بما أوتي من المعارف، وما حاز من المفاخر واللطائف، فإن العبرة بالخواتيم".
    وقال صاحب "التحرير والتنوير": "أفاد أن تلك الآيات شأنها أن تكون سبباً للهداية والتزكية، لو شاء الله له التوفيق وعصمه من كيد الشيطان وفتنته فلم ينسلخ عنها، وهذه عبرة للموفقين ليعلموا فضل الله عليهم في توفيقهم، فالمعنى: ولو شئنا لزاد في العمل بما آتيناه من الآيات فلرفعه الله بعمله".
    والآيات تفيد تحذيره ـ تعالى ـ لعباده من الاغترار بالدنيا وزهرتها بمن أعطاه الله العلم الشرعي النافع ثم أعرض عنه، من أجل رغبته وحرصه على الدنيا، وهذا بعينه الذي حذر منه ـ صلى الله عليه وسلم ـ حين قال:
    (20) "ما ذئبان جائعان أرسلا في غنم، بأفسد لها من حرص المرء على المال والشرف لدينه".[من حديث كعب بن مالك الأنصاري ، رواه أحمد، والدارمي، وابن حبان، والترمذي، وقال: حسن صحيح، وهو في "صحيح الجامع"(5620)]
    وفي رواية:
    (21) "ما ذئبان ضاريان في حظيرة يأكلان ويفسدان بأضر فيها من حب الشرف، وحب المال في دين المرء المسلم". [من حديث ابن عمر ـ رضي الله عنهما ـ رواه البزار بإسناد حسن، وهو في "صحيح الترغيب والترهيب" (3252)]
    وفي رواية:
    (22) "ما ذئبان ضاريان جائعان باتا في زريبة غنم أغفلها أهلها، يفترسان ويأكلان بأسرع فيها فسادا من حب المال والشرف في دين المرء المسلم". [من حديث أبي هريرة ـ رضي الله عنه ـ رواه الطبراني، وهو في "صحيح الترغيب والترهيب"(3251)]
    قال ابن رجب:
    (23) "فهذا مثل عظيم جداً، ضربه النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ لفساد دين المسلم، بالحرص على المال، والشرف في الدنيا، وأن فساد الدين بذلك ليس بدون فساد الغنم بذئبين ضاريين يأتيان على الغنم، وقد غاب عنها رعاؤها ليلاً، فهما يأكلان في الغنم ويفترسان فيها".["رسالة" لابن رجب الحنبلي، بعنوان: ما ذئبان جائعان]
    ولم تقف مشيئة الله ـ عز وجل ـ فيه عند اغتراره بالدنيا، بل (وَاتَّبَعَ) أي: اتباعاً شديداً (هَوَاهُ)، فقدم داعي نفسه على داعي الحق، نسأل الله ـ تعالى ـ الثبات.
    واتباع الأهواء في الديانات أعظم وأخطر من اتباع الأهواء في الشهوات، قال ابن رجب ـ رحمه الله ـ:
    (24) "وكذلك البدع إنما تنشأ من تقديم الهوى على الشرع، ولهذا يسمى أهلها أهل الأهواء، وكذلك المعاصي إنما تقع من تقديم الهوى على محبة الله ورسوله ومحبة ما يحبه".["جامع العلوم والحكم" (3/226)]
    فتأديب النفس ومجاهدتها على اتباع الحق أمر ليس بالسهل كما يتخيله كثير من الناس، وقد صح ذلك عن نبينا محمد ـ صلى الله عليه وسلم ـ إذ جعل مجاهدة الرجل لنفسه وهواه من أفضل الجهاد، فعن أبي ذر قال: سألت رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ أي الجهاد أفضل؟ قال:
    (25) "أن تجاهد نفسك وهواك في ذات الله ـ عز وجل ـ".["أخرجه الديلمي، وأبو نعيم في "الحلية" وهو في "الصحيحة" (1496)]
    ضرب الله ـ تعالى ـ المثل لهذا الخسيس الذي آتاه آياته فانسلخ منها بالكلب، فقال: (فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ الْكَلْبِ)، ولم تكن حقارة الكلب مانعة من ضربه ـ تعالى ـ المثل به، وكذلك ضرب المثل بالذباب، وببيت العنكبوت، وبالحمار. قال الشنقيطي ـ رحمه الله ـ:
    (26) "وهذه الآيات تدل على أنه ـ تعالى ـ لا يستحي من بيان العلوم النفيسة عن طريق ضرب الأمثال بالأشياء الحقيرة، وقد صرح بهذا المدلول في قوله:
    (27) (إِنَّ اللَّهَ لا يَسْتَحْيِي أَنْ يَضْرِبَ مَثَلاً مَا بَعُوضَةً فَمَا فَوْقَهَا) [البقرة/26]
    وقال ـ رحمه الله ـ:
    (28) "ولا ينبغي لنا معشر المؤمنين أن نتصف بصفة خسيسة، يشابهنا فيها أخس الحيوانات في أخس أحوالهم. ليس لنا مثل السوء ففي الصحيح:
    (29) "ليس لنا مثل السوء العائد في هبته كالكلب يرجع في قيئه". ["وأخرجه الإمام البخاري في "الأدب المفرد" (417) ـ واللفظ له ـ]
    قال شيخ الإسلام ابن تيمية ـ رحمه الله ـ:
    (30) "فإن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ لم يذكر هذا المثل إلا ليبين أن الإنسان إذا شابه الكلب كان مذموماً، وإن لم يكن الكلب مذموماً في ذلك من جهة التكليف؛ ولهذا ليس لنا مثل السوء".
    إلى أن قال ـ رحمه الله ـ:
    (31) "فإذا كان له مثل سوء من الكلب، كان مذموماً بقدر ذلك المثل السوء".["مجموع الفتاوى" (32/228)]
    قال ابن القيم ـ رحمه الله ـ:
    (32) "ومن حرصه ـ يعني الكلب ـ: أنه لا يمشي إلا وخطمه في الأرض يتشمم، ويستروح حرصاً وشرهاً. ولا يزال يشم دبره دون سائر أجزاء جسمه، وإذا رميت له بحجر رجع إليه ليعضه من فرط نهمته، وهو من أمهن الحيوانات وأحملها للهوان، وأرضاها بالدنايا".
    وقال:
    (33) "ومن عجيب أمره وحرصه: أنه إذا رأى هيئة رثة وثياب دنية، وحال رزية نبحه، وحمل عليه، كأنه يتصور مشاركته له، ومنازعته في قوته. وإذا رأى ذا هيئة حسنة وثياب جميلة ورياسة: وضع له خطمه بالأرض، وخضع له، ولم يرفع رأسه".["بدائع التفسير" (2/307)]
    وهكذا المتبع لهواه، الحريص على دنياه، "كلباً عاوياً" (إِنْ تَحْمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَثْ أَوْ تَتْرُكْهُ يَلْهَثْ) قال ابن القيم:
    (34) "وفي تشبيه من آثر الدنيا وعاجلها على الله والدار الآخرة ـ مع وفور علمه ـ في حال لهثه: سر بديع، وهو: أن هذا الذي حاله ما ذكره الله من انسلاخه من آياته واتباعه هواه: إنما كان لشدة لهفه على الدنيا. لانقطاع قلبه عن الله والدار الآخرة. فهو شديد اللهف عليها، ولهفه نظير لهف الكلب الدائم في حال إزعاجه وتركه. واللهف واللهث شقيقان وأخوان في اللفظ والمعنى".
    قال ابن قتيبة:
    (35) "كل شيء يلهث فإنما يلهث من إعياء أو عطش إلا الكلب؛ فإنه يلهث في حال الكلال وحال الراحة، وحال الري وحال العطش، فضربه الله مثلاً لمن كذَّب بآياته، فقال: إن وعظته فهو ضال، وإن لم توعظه فهو ضال، كالكلب إن طردته وزجرته فسعى لهث، أو تركته على حاله أيضاً لهث".["تأويل مشكل القرآن" (ص:369)]
    وعن ابن عباس فيما أخرجه الطبري:
    (36) "إن تحمل عليه الحكمة لم يحملها، وإن ترك لم يهتد لخير، كالكلب إن كان رابضاً لهث، وإن طرد لهث".
    واللهث: ادّلاع اللسان بالنفس الشديد، وهو في الكلاب طبع، لضعف قلبها، بخلاف سائر الحيوانات، فإنها لا تحتاج إلى التنفس الشديد، إلا عند التعب والإعياء.
    (ذَلِكَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآَيَاتِنَا فَاقْصُصِ الْقَصَصَ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ (176). فهؤلاء المكذبين لآيات الله،
    (37) "شبهوا بالكلاب التي لا همة لها إلا في تحصيل أكلة أو شهوة، فمن خرج عن حيز العلم والهدى، وأقبل على شهوة نفسه واتبع هواه صار شبيهاً بالكلب وبئس المثل مثله".["تفسير ابن كثير"]
    قال القرطبي:
    (38) "وهذا المثل في قول كثير من أهل العلم بالتأويل عام في كل من أوتي القرآن فلم يعمل به".
    فاحرص على طاعة الله، واعمل في سبيل الله، وانصر دعوة الحق، الدعوة السلفية، ولا تحرص على الدنيا، فتحشر مع الكذبة ومنهم "العلماء السوء".
    قال الإمام الأوزاعي ـ رحمه الله ـ:
    (39) "اتقوا الله معشر المسلمين، واقبلوا نصح الناصحين، وعظة الواعظين، واعلموا أن هذا العلم دين فانظروا ما تصنعون، وعمَّن تأخذون، وبمن تقتدون، ومن على دينكم تأمنون، فإن أهل البدع كلهم مبطلون، أفَّاكون، آثمون، لا يرعوون، ولا ينظرون، ولا يتقون، ولا مع ذلك يؤمنون على تحريف ما تسمعون، ويقولون ما لا يعلمون في سرد ما ينكرون، وتسديد ما يفترون، والله محيط بما يعملون، فكونوا لهم حذرين، متهمين، رافضين، مجانبين، فإن علماؤكم الأولين، ومن صلح من الآخرين، كذلك كانوا يفعلون ويأمرون، واحذروا أن تكونوا على الله مظاهرين، ولدينه هادمين، ولعراه ناقضين موهنين، بتوقير المبتدعين والمحدثين؛ فإنه قد جاء في توقيرهم ما تعلمون، وأي توقير لهم أوتعظيم أشد من أن تأخذوا عنهم الدين، وتكونوا بهم مقتدين، ولهم مصدقين، موادعين مؤالفين، معينين لهم بما يصنعون على استهواء من يستهوون، وتأليف من يتألفون من ضعفاء المسلمين لرأيهم الذي يرون، ودينهم الذي يدينون، وكفى بذلك مشاركة لهم فيما يعملون". ["تاريخ دمشق" (6/361-362)]
يعمل...
X