الفتن والواقع
أما بعد؛
كنت كتبت هذه المقالة تاريخ 18/6/1428 الموافق 4/7/2007، أي قريباً من نحو عام واليوم أعود لأجدد فيها شيئاً فأقول:
(1) الواقع الذي تعيشه فلسطين اليوم هو قريباً من الواقع الذي تعيشه كثير من البلدان الإسلامية، واقع مرير، واقع ممتليء بالفتن، والبلابل، والقتل.
(2) والواقع اليوم من أعلام نبوته ـ صلى الله عليه وسلم ـ فما حذّر منه ـ عليه الصلاة والسلام ـ وقع ويقع وصار مشاهداً ومحسوساً على أرض الواقع، يلمسه كلُّ عاقل.
(3) ومن قرأ وطالع في كتب الفتن وأشراط الساعة، ومن تتبَّع مؤمناً معتقداً بما ثبت في هذا الباب من آيات في كتاب الله العزيز، وأحاديث وآثار صحيحة في الكتب المسندة، يعلم علماً يقيناً أننا نعيش واقعها، فمن أدرك فهمها فعليه أن يستدرك ما فات من تقصير.
ولعل أهم ما يجب أن يستدركه المرء هو الاستجابة لله وللرسول، والمسارعة في تطبيق ما جاء في كتاب الله وسنة نبيه ـ صلى الله عليه وسلم ـ من غير تسويف ولا تأخير، قال ـ تعالى ـ في سورة الأنفال:
(4) (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ وَأَنَّهُ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ (24) وَاتَّقُوا فِتْنَةً لاَ تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ (25).
وقال النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ أنه:
(5) "لم يبق من الدنيا إلا بلاء وفتنة". ["صحيح سنن ابن ماجه" (4035)]
وكشف النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ عن حال أكثر الناس في الفتن، فقال:
(6) "اقتربت الساعة، ولا يزداد الناس على الدنيا إلا حرصاً، ولا يزدادون من الله إلاَّ بعداً". [أخرجه الحاكم عن عبد الله بن مسعود، وهو في "الصحيحة" (1510)].
فأين استجابة الناس وعملهم بقوله ـ صلى الله عليه وسلم ـ:
(7) "بادروا بالأعمال فتناً؛ كقطع الليل المظلم، يصبح الرجل مؤمناً ويمسي كافراً، ويمسي مؤمناً ويصبح كافراً، يبيع أحدهم دينه بعرض من الدنيا قليل". [أخرجه مسلم].
وأين استجابة الناس وعملهم بقوله ـ صلى الله عليه وسلم ـ:
(8) "بادروا بالأعمال ستاً: إمارة السفهاء، وكثرة الشرط، وبيع الحكم، واستخفافاً بالدم، وقطيعة الرحم، ونشواً يتخذون القرآن مزامير، يقدمون أحدهم ليغنيهم، وإن كان أقلهم فقها".["الصحيحة" (2812)]
والواقع المشاهد الملموس أن الناس كلما ازدادت الفتن حدةً ازدادوا من الله بعداً. فهم عاملون بخلاف ما أمرهم الله من المبادرة للاستجابة له وللرسول. ورأينا تردد الرجل في مواقفه المعلنة، وقريبا سنرى أيضاً المزيد من التناقضات في المواقف لتفاهة الرجل !!! فهو لنفاقه في الصبيحة مؤيداً لموقف ما !! وفي المساء خلاف موقفه في الصبيحة، فهو كالشاة العائرة عند الذي يغريه أكثر!! لأنه على استعداد لبيع موقفه، والمواقف إذا كانت ديانة فهو مأجور عليها إن كانت خالصة لله.
ويظهر هذا في زمن إمارة السفهاء، وكثرة الشرط، ..الخ، وتظهر هذه الآيات للبصير بدين الله، الذي لا يزداد مع زيادة شوكة الفتن إلا بصيرة.
كونوا أحلاس بيوتكم
(الحِلس): هو الكساء الذي يلي ظهر البعير تحت القِتب. يعني الزموا بيوتكم في الفتن، كلزوم الحلس لظهر الدابة.
تحت باب فضل القعود في الفتنة عن الخوض فيها، وتخوف العقلاء على قلوبهم أن تهوى حالاً يكرهه الله ـ تعالى ـ، ولزوم البيوت، والعبادة لله ـ تعالى ـ، أخرج الآجري (360هـ) في كتابه "الشريعة" حديثين:
الأول: عن أبي هريرة ـ رضي الله عنه ـ قال: قال رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ:
(9) "تكون فتنة القاعد فيها خير من الماشي، والماشي فيها خير من الساعي، ومن يستشرف لها تستشرف له، ومن وجد منها ملجأ أو معاذاً فليعذ به". [والحديث متفق عليه]
الثاني: عن أبي موسى ـ رضي الله عنه ـ قال: قال رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ:
(10) "إن بين أيديكم فتناً كقطع الليل المظلم، يصبح الرجل فيها مؤمناً ويمسي كافراً، ويمسي مؤمناً ويصبح كافراً، القاعد فيها خير من القائم، والقائم فيها خير من الماشي، والماشي فيها خير من الساعي".
قالوا: فما تأمرنا؟ قال:
(11) "كونوا أحلاس بيوتكم". [ والحديث أخرجه أبو داود، وهو في "صحيح الترغيب والترهيب" (2742)]
قال الآجري ـ رحمه الله ـ: ليكون المؤمن العاقل يحتاط لدينه؛ فإن الفتن على وجوه كثيرة، قد مضى منها فتن عظيمة نجا منها أقوام، وهلك فيها أقوام، باتباعهم الهوى، وإيثارهم الدنيا، فمن أراد الله به خيراً فتح له باب الدعاء، والتجأ إلى مولاه الكريم، وخاف على دينه، وحفظ لسانه، وعرف زمانه، ولزم المحجة الواضحة، ولم يتلون في دينه، وعبد ربه ـ تعالى ـ فترك الخوض في الفتنة؛ فإن الفتنة يفتضح عندها خلق كثير".
ثم الآجري أخرج عن سعيد بن جبير عن راهب قال له:
(12) "يا سعيد، في الفتنة يتبيَّن لك من يعبد الله، ومن يعبد الطاغوت".[ ورواه ابن بطة في الإبانة الكبرى (755) وسنده صحيح]
وروى الإمام البخاري عن سعيد بن جبير؛ قال: خرج علينا عبد الله بن عمر، فرجونا أن يحدثنا حديثاً حسناً. قال فبادرنا إليه رجل، فقال:
(13) "يا أبا عبد الرحمن! حدِّثنا عن القتال في الفتنة، والله يقول: (وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ) قال:
(14) "هل تدري ما الفتنة ثكلتك أمك؟ إنما كان محمد ـ صلى الله عليه وسلم ـ يقاتل المشركين، وكان الدخول في دينهم فتنة، وليس كقتالهم على الملك".
وفي رواية:
(15) "أن رجلاً جاءه، فقال: يا أبا عبد الرحمن! ألا تسمع ما ذكر الله في كتابه: (وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا ..) [الحجرات/9] إلى آخر الآية، فما يمنعك ألا تقاتل كما ذكر الله في كتابه؟ فقال: يا ابن أخي! أعيَّر بهذه الآية ولا أقاتل، أحب إليَّ من أن أعيَّر بهذه الآية التي يقول الله ـ تعالى ـ: (وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا..) [النساء/93] إلى آخرها".
فتبين مما تقدم أن ابن عمر ترك القتال في الفتنة، ولو ظهر أن إحدى الطائفتين محقة والأخرى مبطلة.
قال ابن حجر في "الفتح" (13/47):
(16) "وقيل الفتنة مختصة بما إذا وقع القتال بسبب التغالب في طلب الملك، وأما إذا علمت الباغية فلا تسمى فتنة وتجب مقاتلتها حتى ترجع إلى الطاعة؛ وهذا قول الجمهور".
إعداد: هشام بن فهمي العارف
17/6/1429 الموافق 21/6/2008
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله محمد بن عبد الله وعلى آله وصحبه ومن تبعه ووالاه:17/6/1429 الموافق 21/6/2008
أما بعد؛
كنت كتبت هذه المقالة تاريخ 18/6/1428 الموافق 4/7/2007، أي قريباً من نحو عام واليوم أعود لأجدد فيها شيئاً فأقول:
(1) الواقع الذي تعيشه فلسطين اليوم هو قريباً من الواقع الذي تعيشه كثير من البلدان الإسلامية، واقع مرير، واقع ممتليء بالفتن، والبلابل، والقتل.
(2) والواقع اليوم من أعلام نبوته ـ صلى الله عليه وسلم ـ فما حذّر منه ـ عليه الصلاة والسلام ـ وقع ويقع وصار مشاهداً ومحسوساً على أرض الواقع، يلمسه كلُّ عاقل.
(3) ومن قرأ وطالع في كتب الفتن وأشراط الساعة، ومن تتبَّع مؤمناً معتقداً بما ثبت في هذا الباب من آيات في كتاب الله العزيز، وأحاديث وآثار صحيحة في الكتب المسندة، يعلم علماً يقيناً أننا نعيش واقعها، فمن أدرك فهمها فعليه أن يستدرك ما فات من تقصير.
ولعل أهم ما يجب أن يستدركه المرء هو الاستجابة لله وللرسول، والمسارعة في تطبيق ما جاء في كتاب الله وسنة نبيه ـ صلى الله عليه وسلم ـ من غير تسويف ولا تأخير، قال ـ تعالى ـ في سورة الأنفال:
(4) (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ وَأَنَّهُ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ (24) وَاتَّقُوا فِتْنَةً لاَ تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ (25).
وقال النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ أنه:
(5) "لم يبق من الدنيا إلا بلاء وفتنة". ["صحيح سنن ابن ماجه" (4035)]
وكشف النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ عن حال أكثر الناس في الفتن، فقال:
(6) "اقتربت الساعة، ولا يزداد الناس على الدنيا إلا حرصاً، ولا يزدادون من الله إلاَّ بعداً". [أخرجه الحاكم عن عبد الله بن مسعود، وهو في "الصحيحة" (1510)].
فأين استجابة الناس وعملهم بقوله ـ صلى الله عليه وسلم ـ:
(7) "بادروا بالأعمال فتناً؛ كقطع الليل المظلم، يصبح الرجل مؤمناً ويمسي كافراً، ويمسي مؤمناً ويصبح كافراً، يبيع أحدهم دينه بعرض من الدنيا قليل". [أخرجه مسلم].
وأين استجابة الناس وعملهم بقوله ـ صلى الله عليه وسلم ـ:
(8) "بادروا بالأعمال ستاً: إمارة السفهاء، وكثرة الشرط، وبيع الحكم، واستخفافاً بالدم، وقطيعة الرحم، ونشواً يتخذون القرآن مزامير، يقدمون أحدهم ليغنيهم، وإن كان أقلهم فقها".["الصحيحة" (2812)]
والواقع المشاهد الملموس أن الناس كلما ازدادت الفتن حدةً ازدادوا من الله بعداً. فهم عاملون بخلاف ما أمرهم الله من المبادرة للاستجابة له وللرسول. ورأينا تردد الرجل في مواقفه المعلنة، وقريبا سنرى أيضاً المزيد من التناقضات في المواقف لتفاهة الرجل !!! فهو لنفاقه في الصبيحة مؤيداً لموقف ما !! وفي المساء خلاف موقفه في الصبيحة، فهو كالشاة العائرة عند الذي يغريه أكثر!! لأنه على استعداد لبيع موقفه، والمواقف إذا كانت ديانة فهو مأجور عليها إن كانت خالصة لله.
ويظهر هذا في زمن إمارة السفهاء، وكثرة الشرط، ..الخ، وتظهر هذه الآيات للبصير بدين الله، الذي لا يزداد مع زيادة شوكة الفتن إلا بصيرة.
كونوا أحلاس بيوتكم
(الحِلس): هو الكساء الذي يلي ظهر البعير تحت القِتب. يعني الزموا بيوتكم في الفتن، كلزوم الحلس لظهر الدابة.
تحت باب فضل القعود في الفتنة عن الخوض فيها، وتخوف العقلاء على قلوبهم أن تهوى حالاً يكرهه الله ـ تعالى ـ، ولزوم البيوت، والعبادة لله ـ تعالى ـ، أخرج الآجري (360هـ) في كتابه "الشريعة" حديثين:
الأول: عن أبي هريرة ـ رضي الله عنه ـ قال: قال رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ:
(9) "تكون فتنة القاعد فيها خير من الماشي، والماشي فيها خير من الساعي، ومن يستشرف لها تستشرف له، ومن وجد منها ملجأ أو معاذاً فليعذ به". [والحديث متفق عليه]
الثاني: عن أبي موسى ـ رضي الله عنه ـ قال: قال رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ:
(10) "إن بين أيديكم فتناً كقطع الليل المظلم، يصبح الرجل فيها مؤمناً ويمسي كافراً، ويمسي مؤمناً ويصبح كافراً، القاعد فيها خير من القائم، والقائم فيها خير من الماشي، والماشي فيها خير من الساعي".
قالوا: فما تأمرنا؟ قال:
(11) "كونوا أحلاس بيوتكم". [ والحديث أخرجه أبو داود، وهو في "صحيح الترغيب والترهيب" (2742)]
قال الآجري ـ رحمه الله ـ: ليكون المؤمن العاقل يحتاط لدينه؛ فإن الفتن على وجوه كثيرة، قد مضى منها فتن عظيمة نجا منها أقوام، وهلك فيها أقوام، باتباعهم الهوى، وإيثارهم الدنيا، فمن أراد الله به خيراً فتح له باب الدعاء، والتجأ إلى مولاه الكريم، وخاف على دينه، وحفظ لسانه، وعرف زمانه، ولزم المحجة الواضحة، ولم يتلون في دينه، وعبد ربه ـ تعالى ـ فترك الخوض في الفتنة؛ فإن الفتنة يفتضح عندها خلق كثير".
ثم الآجري أخرج عن سعيد بن جبير عن راهب قال له:
(12) "يا سعيد، في الفتنة يتبيَّن لك من يعبد الله، ومن يعبد الطاغوت".[ ورواه ابن بطة في الإبانة الكبرى (755) وسنده صحيح]
وروى الإمام البخاري عن سعيد بن جبير؛ قال: خرج علينا عبد الله بن عمر، فرجونا أن يحدثنا حديثاً حسناً. قال فبادرنا إليه رجل، فقال:
(13) "يا أبا عبد الرحمن! حدِّثنا عن القتال في الفتنة، والله يقول: (وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ) قال:
(14) "هل تدري ما الفتنة ثكلتك أمك؟ إنما كان محمد ـ صلى الله عليه وسلم ـ يقاتل المشركين، وكان الدخول في دينهم فتنة، وليس كقتالهم على الملك".
وفي رواية:
(15) "أن رجلاً جاءه، فقال: يا أبا عبد الرحمن! ألا تسمع ما ذكر الله في كتابه: (وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا ..) [الحجرات/9] إلى آخر الآية، فما يمنعك ألا تقاتل كما ذكر الله في كتابه؟ فقال: يا ابن أخي! أعيَّر بهذه الآية ولا أقاتل، أحب إليَّ من أن أعيَّر بهذه الآية التي يقول الله ـ تعالى ـ: (وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا..) [النساء/93] إلى آخرها".
فتبين مما تقدم أن ابن عمر ترك القتال في الفتنة، ولو ظهر أن إحدى الطائفتين محقة والأخرى مبطلة.
قال ابن حجر في "الفتح" (13/47):
(16) "وقيل الفتنة مختصة بما إذا وقع القتال بسبب التغالب في طلب الملك، وأما إذا علمت الباغية فلا تسمى فتنة وتجب مقاتلتها حتى ترجع إلى الطاعة؛ وهذا قول الجمهور".