إعـــــــلان

تقليص
لا يوجد إعلان حتى الآن.

مقدمة في فضل مسكنة القلب

تقليص
X
 
  • تصفية - فلترة
  • الوقت
  • عرض
إلغاء تحديد الكل
مشاركات جديدة

  • مقدمة في فضل مسكنة القلب

    الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه ومن والاه

    أما بعد :فهذه كلماتٌ في فضل المسكنة والمساكين ، قد مست إليها الحاجة في هذه الأيام ، وقد لا يرى القاريء للوهلة الأولى ، ما أزعمه من مسيس الحاجة إلى هذا الموضوع ، غير أنني أطلب منه أن يقرأ حتى نهاية المقال ، وسيتبين له صدق ما أقول .

    قال الترمذي في جامعه [ 3235 ] :
    حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ بَشَّارٍ قَالَ : حَدَّثَنَا مُعَاذُ بْنُ هَانِئٍ أَبُو هَانِئٍ اليَشْكُرِيُّ قَالَ : حَدَّثَنَا جَهْضَمُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ ، عَنْ يَحْيَى بْنِ أَبِي كَثِيرٍ ، عَنْ زَيْدِ بْنِ سَلَّامٍ ، عَنْ أَبِي سَلَّامٍ ، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَائِشٍ الحَضْرَمِيِّ ، أَنَّهُ حَدَّثَهُ عَنْ مَالِكِ بْنِ يَخَامِرَ السَّكْسَكِيِّ ، عَنْ مُعَاذِ بْنِ جَبَلٍ قَالَ :
    احْتُبِسَ عَنَّا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ذَاتَ غَدَاةٍ مِنْ صَلَاةِ الصُّبْحِ حَتَّى كِدْنَا نَتَرَاءَى عَيْنَ الشَّمْسِ ، فَخَرَجَ سَرِيعًا فَثُوِّبَ بِالصَّلَاةِ ، فَصَلَّى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَتَجَوَّزَ فِي صَلَاتِهِ ، فَلَمَّا سَلَّمَ دَعَا بِصَوْتِهِ فَقَالَ لَنَا :
    عَلَى مَصَافِّكُمْ كَمَا أَنْتُمْ , ثُمَّ انْفَتَلَ إِلَيْنَا فَقَالَ : أَمَا إِنِّي سَأُحَدِّثُكُمْ مَا حَبَسَنِي عَنْكُمُ الغَدَاةَ : أَنِّي قُمْتُ مِنَ اللَّيْلِ فَتَوَضَّأْتُ فَصَلَّيْتُ مَا قُدِّرَ لِي فَنَعَسْتُ فِي صَلَاتِي فَاسْتَثْقَلْتُ ، فَإِذَا أَنَا بِرَبِّي تَبَارَكَ وَتَعَالَى فِي أَحْسَنِ صُورَةٍ .
    فَقَالَ : يَا مُحَمَّدُ , قُلْتُ : لَبَّيْكَ رَبِّ ، قَال َ: فِيمَ يَخْتَصِمُ المَلَأُ الأَعْلَى ؟ قُلْتُ : لَا أَدْرِي رَبِّ ، قَالَهَا ثَلَاثًا .
    قَالَ : فَرَأَيْتُهُ وَضَعَ كَفَّهُ بَيْنَ كَتِفَيَّ حَتَّى وَجَدْتُ بَرْدَ أَنَامِلِهِ بَيْنَ ثَدْيَيَّ ، فَتَجَلَّى لِي كُلُّ شَيْءٍ وَعَرَفْتُ ، فَقَالَ :
    يَا مُحَمَّدُ ، قُلْتُ : لَبَّيْكَ رَبِّ ، قَالَ : فِيمَ يَخْتَصِمُ المَلَأُ الأَعْلَى ؟
    قُلْتُ : فِي الكَفَّارَاتِ ، قَالَ : مَا هُنَّ ؟ قُلْتُ : مَشْيُ الأَقْدَامِ إِلَى الجَمَاعَاتِ ، وَالجُلُوسُ فِي المَسَاجِدِ بَعْدَ الصَّلَوَاتِ ، وَإِسْبَاغُ الوُضُوءِ فِي المَكْرُوهَاتِ .
    قَالَ : ثُمَّ فِيمَ ؟ قُلْتُ : إِطْعَامُ الطَّعَامِ ، وَلِينُ الكَلَامِ ، وَالصَّلَاةُ بِاللَّيْلِ وَالنَّاسُ نِيَامٌ .
    قَالَ : سَلْ .
    قُلْتُ : اللَّهُمَّ إِنِّي أَسْأَلُكَ فِعْلَ الخَيْرَاتِ ، وَتَرْكَ المُنْكَرَاتِ ،وَحُبَّ المَسَاكِينِ، وَأَنْ تَغْفِرَ لِي وَتَرْحَمَنِي ، وَإِذَا أَرَدْتَ فِتْنَةً فِي قَوْمٍ فَتَوَفَّنِي غَيْرَ مَفْتُونٍ ، وَأَسْأَلُكَ حُبَّكَ وَحُبَّ مَنْ يُحِبُّكَ ، وَحُبَّ عَمَلٍ يُقَرِّبُ إِلَى حُبِّكَ .
    قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : إِنَّهَا حَقٌّ فَادْرُسُوهَا ثُمَّ تَعَلَّمُوهَا .
    « هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ » سَأَلْتُ مُحَمَّدَ بْنَ إِسْمَاعِيلَ ، عَنْ هَذَا الحَدِيثِ ، فَقَالَ : هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ

    أقول : موطن الشاهد من هذا قوله صلى الله عليه وسلم : [ اللهم إني أسألك فعل الخيرات وترك المنكرات وحب المساكين ]
    فسأل النبي صلى الله عليه وسلم ربَّه حب المساكين ، وعادة المحب أن يكون بينه وبين المحبوب نوع تجانس ، فهذا النص فيه دلالة على الحث على التخلق بأخلاق المساكين بدلالة الإشارة ، ويستبين لك أكثر إذا نظرت في النص التالي .
    قال الإمام أحمد [21415 ] :
    حَدَّثَنَا عَفَّانُ ، حَدَّثَنَا سَلَّامٌ أَبُو الْمُنْذِرِ ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ وَاسِعٍ ، عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ الصَّامِتِ ، عَنْ أَبِي ذَرٍّ ، قَالَ :
    أَمَرَنِي خَلِيلِي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِسَبْعٍ :أَمَرَنِي بِحُبِّ الْمَسَاكِينِ ، وَالدُّنُوِّ مِنْهُمْ ، وَأَمَرَنِي أَنْ أَنْظُرَ إِلَى مَنْ هُوَ دُونِي ، وَلَا أَنْظُرَ إِلَى مَنْ هُوَ فَوْقِي ، وَأَمَرَنِي أَنْ أَصِلَ الرَّحِمَ وَإِنْ أَدْبَرَتْ ، وَأَمَرَنِي أَنْ لَا أَسْأَلَ أَحَدًا شَيْئًا ، وَأَمَرَنِي أَنْ أَقُولَ بِالْحَقِّ وَإِنْ كَانَ مُرًّا ، وَأَمَرَنِي أَنْ لَا أَخَافَ فِي اللهِ لَوْمَةَ لَائِمٍ ، وَأَمَرَنِي أَنْ أُكْثِرَ مِنْ قَوْلِ : لَا حَوْلَ وَلَا قُوَّةَ إِلَّا بِاللهِ... الحديث

    أقول : في هذا الحديث وصية النبي صلى الله عليه وسلم ، لأبي ذر بمجالسة المساكين وحبهم ، ومعلومٌ أن المجالس مجانس والمرء على دين خليله كما ورد في الحديث

    فما السر في الحث على مجالسة المساكين ومحبتهم ؟

    الجواب : المساكين بعيدون كل البعد عن الكبر والبطر ، لما تقتضيه أحوالهم من ذلك فحث على مجالستهم لاكتساب خلق التواضع منهم

    قال ابن قتيبة [ في تأويل مختلف الحديث ص154 ] :
    ومعنى المسكنة في قوله ( احشرني مسكينا ) التواضع والإخبات كأنه سأل الله تعالى أن لا يجعله من الجبارين والمتكبرين ولا يحشره في زمرتهم
    والمسكنة حرف مأخوذ من السكون يقال تمسكن الرجل إذا لان وتواضع وخشع وخضع ومنه قول النبي صلى الله عليه وسلم للمصلي( تبأس وتمسكن وتقنع رأسك ) يريد تخشع وتواضع لله عز وجل والعرب تقول بي المسكين نزل لأمر لا يريدون معنى الفقر إنما يريدون معنى الذلة والضعف وكذلك قول النبي صلى الله عليه وسلم لقيلة يا مسكينة لم يرد يا فقيرة وإنما أراد معنى الضعف ومن الدليل على ما أقول أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لو كان سأل الله عز وجل المسكنة التي هي الفقر لكان الله تعالى قد منعه ما سأله لأنه قبضه غنيا موسرا بما أفاء الله عز وجل عليه . اهـ

    أقول : إذا علمت هذا ، فاعلم أن هذه النصوص تدل بمفهومها على مجانبة المتكبرين ، وكل نصٍ في ذم الكبر والحث على التواضع نصٌ في مجانبة المتكبرين ، فإن المتكبر جليس سوء .

    والكبر كثيرٌ في أدعياء العلم والمنتسبين إليه انتساباً ظاهرياً لا حقيقياً .

    قال ابن القيم في مدارج السالكين [ 9/70 ] :
    وأكثر الناس من المتنزهين عن الكبائر الحسية والقاذورات : (واقعون ) في الكبائر مثلها أو أعظم منها أو دونها ولا يخطر بقلوبهم أنها ذنوب ليتوبوا منها فعندهم من الإزراء على أهل الكبائر واحتقارهم وصولة طاعاتهم ومنتهم على الخلق بلسان الحال واقتضاء بواطنهم لتعظيم الخلق لهم على طاعاتهم اقتضاء لا يخفى على أحد غيرهم وتوابع ذلك ما هو أبغض إلى الله وأبعد لهم عن بابه من كبائر أولئك فإن تدارك الله أحدهم بقاذورة أو كبيرة يوقعه فيها ليكسر بها نفسه ويعرفه قدره ويذله بها ويخرج بها صولة الطاعة من قلبه فهي رحمة في حقه كما أنه إذا تدارك أصحاب الكبائر بتوبة نصوح وإقبال بقلوبهم إليه فهو رحمة في حقهم وإلا فكلاهما على خطر . اهـ

    أقول : فهذه الكبيرة القلبية التي تجعل كثيراً من المتنسكين ( ظاهرياً ) أخنع من عامة العوام المتلبسين بالكبائر الحسية التي هي دون الشرك والبدعة

    وقال ابن قدامة [ في مختصر منهاج القاصدين - وأصل الكلام لابن الجوزي - ص 18 ] في وصف هذا الصنف من الناس :
    وقد انتهى الأمر إلى قوم يسمون الرعونة نظافة ، فترى أكثر زمانهم يمضى في تزيين الظواهر ، وبواطنهم خراب محشوة بخبائث الكبر ، والعجب ، والجهل ، والرياء والنفاق .
    ولو رأوا مقتصرا في الاستجمار على الحجر ، أو حافياً يمشى على الأرض ، أو من يصلى عليها من غير حائل ، أو متوضأ من آنية عجوز ، لأنكروا عليه أشد الإنكار ، ولقبوه بالقذر، واستنكفوا من مؤاكلته .
    فانظر كيف جعلوا البذاذة التي هي من الإيمان قذارة ، والرعونة نظافة ، وصيروا المنكر معروفاً ، والمعروف منكراً .
    لكن من قصد بهذه الطهارة النظافة ولم يسرف في الماء ، ولم يعتقد أن استعمال الماء الكثير أصل الدين ، فليس ذلك بمنكر ، بل هو فعل حسن. اهـ

    وهنا يحسن تعريف الكبر وبيان عقوباته ووسائل علاجه .

    أما تعريفه فهو : بطر الحق وغمط الناس كما ورد في الحديث .

    قال ابن أبي الدنيا [ في التواضع 88 ] : حدثنا محمد بن علي حدثنا إبراهيم بن الأشعث قال : سألت الفضيل عن التواضع قال :
    التواضع أن تخضع للحق وتنقاد له ولو سمعته من صبي قبلته منه ولو سمعته من أجهل الناس قبلته منه .

    أقول : وقول الفضيل هذا ، مستفاد من مفهوم المخالفة في حديث ( الكبر بطر الحق وغمط الناس )

    وأما النصوص في بيان عقوبته فكثيرة أكتفي بثلاثة منها

    قال البخاري [ في الأدب المفرد 590 ] :
    حدثنا عثمان بن صالح قال أخبرنا عبد الله بن وهب قال حدثنا أبو هانئ الخولاني عن أبى على الجنبي عن فضالة بن عبيد عن النبي صلى الله عليه و سلم قال :
    ثلاثة لا تسأل عنهم رجل فارق الجماعة وعصى إمامه فمات عاصيا فلا تسأل عنه وأمة أو عبد أبق من سيده وامرأة غاب زوجها وكفاها مؤنة الدنيا فتبرجت وتمرجت بعده وثلاثة لا تسأل عنهم رجل نازع الله رداءه فإن رداءه الكبرياء وإزاره عزه ورجل شك في أمر الله والقنوط من رحمة الله .

    وقال البخاري [ في الأدب المفرد أيضاً 557 ]:
    حدثنا محمد بن سلام قال أخبرنا عبد الله بن المبارك عن محمد بن عجلان عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده عن النبي صلى الله عليه و سلم قال :
    يحشر المتكبرون يوم القيامة أمثال الذر في صورة الرجال يغشاهم الذل من كل مكان يساقون إلى سجن من جهنم يسمى بولس تعلوهم نار الأنيار ويسقون من عصارة أهل النار طينة الخبال .

    وقال [ الإمام مسلم 277 ] :
    وَحَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ بَشَّارٍ حَدَّثَنَا أَبُو دَاوُدَ حَدَّثَنَا شُعْبَةُ عَنْ أَبَانَ بْنِ تَغْلِبَ عَنْ فُضَيْلٍ عَنْ إِبْرَاهِيمَ عَنْ عَلْقَمَةَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ عَنِ النَّبِيِ -صلى الله عليه وسلم- قَالَ : لاَ يَدْخُلُ الْجَنَّةَ مَنْ كَانَ فِي قَلْبِهِ مِثْقَالُ ذَرَّةٍ مِنْ كِبْرٍ .

    واعلم أن الكبر من أسباب حرمان العلم

    قال شيخ الإسلام كما في [ مجموع الفتاوى 12/ 242 ] :
    وَكَذَلِكَ مَنْ قَالَ : لَا تَدْخُلُ الْمَلَائِكَةُ بَيْتًا فِيهِ كَلْبٌ وَلَا جُنُبٌ
    فَاعْتَبَرَ بِذَلِكَ أَنَّ الْقَلْبَ لَا يَدْخُلُهُ حَقَائِقُ الْإِيمَانِ إذَا كَانَ فِيهِ مَا يُنَجِّسُهُ مِنْ الْكِبْرِ وَالْحَسَدِ

    فَقَدْ أَصَابَ قَالَ تَعَالَى : [ أُولَئِكَ الَّذِينَ لَمْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يُطَهِّرَ قُلُوبَهُمْ ]
    وَقَالَ تَعَالَى :[ سَأَصْرِفُ عَنْ آيَاتِيَ الَّذِينَ يَتَكَبَّرُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَإِنْ يَرَوْا كُلَّ آيَةٍ لَا يُؤْمِنُوا بِهَا وَإِنْ يَرَوْا سَبِيلَ الرُّشْدِ لَا يَتَّخِذُوهُ سَبِيلًا وَإِنْ يَرَوْا سَبِيلَ الْغَيِّ يَتَّخِذُوهُ سَبِيلًا ] وَأَمْثَالَ ذَلِكَ .اهـ

    وقال أيضاً كما في مجموع الفتاوى [9/ 315] :
    وَبَلَغَنَا عَنْ بَعْضِ السَّلَفِ قَالَ : الْقُلُوبُ آنِيَةُ اللَّهِ فِي أَرْضِهِ فَأَحَبُّهَا إلَى اللَّهِ تَعَالَى أَرَقُّهَا وَأَصْفَاهَا.
    وَهَذَا مَثَلٌ حَسَنٌ فَإِنَّ الْقَلْبَ إذَا كَانَ رَقِيقًا لَيِّنًا كَانَ قَبُولُهُ لِلْعِلْمِ سَهْلًا يَسِيرًا وَرَسَخَ الْعِلْمُ فِيهِ وَثَبَتَ وَأَثَّرَ وَإِنْ كَانَ قَاسِيًا غَلِيظًا كَانَ قَبُولُهُ لِلْعِلْمِ صَعْبًا عَسِيرًا.

    وَلَا بُدَّ مَعَ ذَلِكَ أَنْ يَكُونَ زَكِيًّا صَافِيًا سَلِيمًا حَتَّى يَزْكُوَ فِيهِ الْعِلْمُ وَيُثْمِرَ ثَمَرًا طَيِّبًا وَإِلَّا فَلَوْ قَبِلَ الْعِلْمَ وَكَانَ فِيهِ كَدَرٌ وَخَبَثٌ أَفْسَدَ ذَلِكَ الْعِلْمَ وَكَانَ كَالدَّغَلِ فِي الزَّرْعِ إنْ لَمْ يَمْنَعْ الْحَبَّ مِنْ أَنْ يَنْبُتَ مَنَعَهُ مِنْ أَنْ يَزْكُوَ وَيَطِيبَ وَهَذَا بَيِّنٌ لِأُولِي الْأَبْصَارِ.اهـ


    فإن قلت : نرى بعض المتكبرين وقد أصابوا حظاً من العلم

    فأقول : إنما أصابوا علم اللسان ، وأما علم الجنان الظاهر على اللسان والجوارح فبينهم وبينه مفاوز وقد قال الله تعالى في المنافقين :[ وَإِنْ يَقُولُوا تَسْمَعْ لِقَوْلِهِمْ]

    ولو لم يكن في الوعيد من الكبر إلا قوله تعالى :[ إِنَّ الله لاَ يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ]
    ولو لم يكن في الكبر إلا حرمان فضل التواضع لكان حرياً أن يفر المرء منه فراره من الأسد
    قال أحمد [ 309 ] :
    ثنا يزيد أنبأنا عاصم بن محمد عن أبيه عن ابن عمر عن عمر رضي الله عنه قال لا أعلمه إلا رفعه قال : يقول الله تبارك وتعالى من تواضع لي هكذا رفعته هكذا وجعل يزيد باطن كفه إلى الأرض وأدناها إلى الأرض رفعته هكذا وجعل باطن كفه إلى السماء ورفعها نحو السماء .
    وقد عدت أم المؤمنين عائشة التواضع أفضل العبادة فيما صح عنها
    قال ابن أبي شيبة [ في المصنف 35884] :
    حَدَّثَنَا وَكِيعٌ ، عَنْ مِسْعَرٍ ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ أَبِي بُرْدَةَ ، عَنْ أَبِيهِ ، عَنِ الأَسْوَدِ ، عَنْ عَائِشَةَ ، قَالَتْ : إنَّكُمْ لَتَدَعُونَ أَفْضَلَ الْعِبَادَةِ التَّوَاضُعَ .

    وإبليس تكبر أولاً فقال :[أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ ۖ خَلَقْتَنِي مِنْ نَارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ]

    فاستدل على كبره بما لا يد له فيه ، وهو فَضْلُ أصل النشأة (في زعمه ) ، وغفل عن كون آدم علم ما لم يعلم ، وما زال المتكبرون يسلكون هذه الجادة ، ويحقرون من شأن العلم وأهله مستدلين بأمور لا تنهض حجةً على تركهم القيام بحق حملة العلم .

    ثم حسد ثانياً ، والكبر والحسد رفيقان لا يخفي أحدهما صاحبه حين يقابله

    قال الله تعالى :[وَقَاسَمَهُمَا إِنِّي لَكُمَا لَمِنَ النَّاصِحِينَ فَدَلَّاهُمَا بِغُرُورٍ]

    كذا يظهر حسده بصورة ( النصح ) و ( الإشفاق ) ، وهذه الحيلة الإبليسية ما زالت ناجعةً إلى يومنا هذا ، والله المستعان وما أقصد هنا التحقير من شأن النصيحة ، فإن الدين النصيحة ، ولكن لما كانت النصيحة من المعاني الشرعية ، كان لا بد أن يقترن بها الأدلة الشرعية والقواعد المرعية ، لا الذوقيات التي تختلف من شخصٍ لآخر وحسبنا الله ونعم الوكيل .
    وقال الله تعالى عن رأس المتكبرين من بني آدم فرعون :
    [قَالَ أَلَمْ نُرَبِّكَ فِينَا وَلِيدًا وَلَبِثْتَ فِينَا مِنْ عُمُرِكَ سِنِينَ وَفَعَلْتَ فَعْلَتَكَ الَّتِي فَعَلْتَ وَأَنتَ مِنَ الْكَافِرِينَ قَالَ فَعَلْتُهَا إِذًا وَأَنَا مِنَ الضَّالِّينَ]

    أقول : كذا يعير ( المتكبر ) فرعون نبي الله موسى بقتله لذاك الرجل ، وما أبصر الخبيث عيب نفسه إذ أنه قتل أبناء بني إسرائيل واستحيا نساءهم ، ويصحب هذا التعيير الذي يدل على سخافة عقله بالتمنن على نبي الله موسى صلى الله عليه وسلم، مما يدل على أن المنة من أخلاق المتكبرين ، وكذا المتكبرون في كل زمان يعظم أحدهم حسناته ويحقر من شأن أغلاطه وسيئاته ، ثم هو يعظم أغلاط غيره ، ولو أبصر في نفسه لرأى أنها أولى من نظر في عيوبها .
    ولا تظنن أني هنا أدعو إلى ترك النصيحة والرد على أهل البدع ، بل إن أهل الكبر هم من أعظم المخذلين فإنهم أولاً يتركون نصرة الحق لأن نفوسهم عندهم أعظم من أن تؤذى فيه .

    ثم إذا رأوا غيرهم نصر الحق خذلوه لكي لا يكون عند الناس خيراً منهم فقاتل الله الكبر وأهله ما أعظم جنايتهم على الدين .

    وقابله نبي الله موسى بنفسه السمحة المتأدبة بتأديب رب العالمين لها فقال :
    [فَعَلْتُهَا إِذًا وَأَنَا مِنَ الضَّالِّينَ]
    واعلم أن أهل النفاق قد أخذوا حظهم من الكبر واحتقار المؤمنين وتخذيلهم عن نصرة الحق
    أما بيان احتقارهم لأهل الإيمان ففي قولهم :[أَنُؤْمِنُ كَمَا آمَنَ السُّفَهَاءُ]

    وأما بيان تخذيلهم لأهل الإيمان , فقال البخاري [1415 ] :

    حَدَّثَنَا عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ سَعِيدٍ حَدَّثَنَا أَبُو النُّعْمَانِ الْحَكَمُ هُوَ ابْنُ عَبْدِ اللَّهِ الْبَصْرِيُّ حَدَّثَنَا شُعْبَةُ عَنْ سُلَيْمَانَ عَنْ أَبِي وَائِلٍ عَنْ أَبِي مَسْعُودٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ:

    لَمَّا نَزَلَتْ آيَةُ الصَّدَقَةِ كُنَّا نُحَامِلُ فَجَاءَ رَجُلٌ فَتَصَدَّقَ بِشَيْءٍ كَثِيرٍ فَقَالُوا مُرَائِي وَجَاءَ رَجُلٌ فَتَصَدَّقَ بِصَاعٍ فَقَالُوا إِنَّ اللَّهَ لَغَنِيٌّ عَنْ صَاعِ هَذَا
    فَنَزَلَتْ [ الَّذِينَ يَلْمِزُونَ الْمُطَّوِّعِينَ مِنْ الْمُؤْمِنِينَ فِي الصَّدَقَاتِ وَالَّذِينَ لَا يَجِدُونَ إِلَّا جُهْدَهُمْ ] الْآيَةَ .

    أقول : فانظر كيف أظهروا تحذيلهم لمن تصدق بصدقة عظيمة ، على أنه نصيحةٌ له بالبعد عن الرياء ، وأظهروا تخذيلهم لمن تصدق بالقليل بصورة تعظيم رب العالمين ، وأنه غني عن مثل هذا ، وبهذا أظهروا بخلهم على أنه إخلاصٌ وتعظيم لرب العالمين ، ولكل قومٍ وارث والله المستعان .
    واعلم أن الكبر يعالج بعدة أمور :

    الأول : مجالسة المساكين ومحبتهم كما أرشدت إليه السنة .

    الثاني : البعد عن أهل الكبر فإن المرء على دين خليله .

    الثالث : الإكثار من ذكر الموت .

    قال الإمام أحمد [ في الزهد 2345 ] : حدثني حجاج ، عن المسعودي ، عن ابن عتبة ، عن رجاء بن حيوة قال : ما أكثر رجل ذكر الموت إلا ترك الفرح والحسد .
    ( وفي سنده كلام , غير أن معناه سليم )

    الرابع : تعلم أسماء الله وصفاته ، فإن ذلك يزيد تعظيم الله عز وجل في قلبك ، والكبر ضعفٌ في الإيمان بالأسماء والصفات ، كما أن الحسد ضعفٌ في الإيمان بالقدر .
    قال الله تعالى :[ أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَتَ رَبِّكَ ۚ ] فالبعد عن العقيدة هو الذي يورث هذه المصائب الأخلاقية .

    وقد كنت أزمعت أن أتكلم عن أثر فقد مسكنة القلب على الإخوة الإيمانية ، غير أني بدا لي أن لو بدأت في الكلام عن هذا الأمر سيطول بي المقام في البكاء على أطلال الإخوة ، ولن أستطيع الالتزام بأبجديات الأناقة في الكتابة إذ أن النائحة الثكلى ليست كالنائحة المستأجرة ، فخيرٌ أن أقف عند هذا الحد .


    هذا وصل اللهم على محمد وعلى آله وصحبه وسلم



    منقول : المقالة لصاحبها عبد الله الخليفي وفقه الله .
يعمل...
X