إعـــــــلان

تقليص
لا يوجد إعلان حتى الآن.

مفيد المستفيد في كفر تارك التوحيد (للشيخ محمد بن عبدالوهاب رحمه الله)

تقليص
X
 
  • تصفية - فلترة
  • الوقت
  • عرض
إلغاء تحديد الكل
مشاركات جديدة

  • مفيد المستفيد في كفر تارك التوحيد (للشيخ محمد بن عبدالوهاب رحمه الله)

    بسم الله الرحمن الرحيم

    مما قال الشيخ الإمام وعلم الهداة الأعلام محمد بن عبدالوهاب رحمه الله تعالى : لما ارتاب بعض من يدعي العلم من أهل العيينة . لما ارتد أهل حريملاء ، فسئل الشيخ أن يكتب كلاماً ينفعه الله به :
    فقال رحمه الله تعالى : روى مسلم في صحيحه عن عمرو بن عبسة السلمي رضي الله عنه قال : كنت وأنا في الجاهلية أظن أن الناس على ضلالة , وأنهم ليسوا على شيء , وهم يعبدون الأوثان , قال : فسمعت برجل بمكة يخبر أخبارا فقعدت على راحلتي فقدمت عليه فإذا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- مستخفياً جرأ عليه قومه فتلطفت حتى دخلت عليه بمكة فقلت له , ومـا أنت ؟ . قال : ( أنا نبي ) ! . قلت : ومـا نبي ؟ قال : ( أرسلني الله ) ! . فقلت : بأي شيء أرسلك ؟ قال : ( أرسلني بصلة الأرحام , وكسر الأوثان وأن يوحد الله لا يشرك به شيء ) ! . فقلت له : ومن معك على هذا ؟ . قال : ( حر وعبد ) ! . قال : ومعه يومئذ أبو بكر وبلال ممن آمن معه ، فقلت : إني متبعك . قال : ( إنك لا تستطيع ذلك يومك هذا , ألا ترى حالي وحـال الناس , ولكن ارجع إلى أهلك , فإذا سمعت بي قد ظهرت فأتني ) . قال : فذهبت إلى أهلي وقدم رسول الله -صلى الله عليه وسلم- المدينة وكنت في أهلي ، فجعلت أتخبر الأخبار وأسأل الناس حين قدم المدينة , حتى قدم نفر من أهل يثرب من أهل المدينة , فقلت : ما فعل هذا الرجل الذي قدم المدينة ؟ فقالوا الناس إليه سراع ! وقد أراد قومه قتله فلم يستطيعوا ذلك , فقدمت المدينة فدخلت عليه فقلت : يا رسول الله أتعرفني ؟ قال : ( نعم ! أنت الذي لقيتني بمكة ) . قال : قلت بلى ، فقلت : يا نبي الله علمني مما علمك الله وأجهله , أخبرني عن الصلاة . قال : ( صلِ صلاة الصبح ثم أقصر عن الصلاة حتى تطلع الشمس , وحتى ترتفع , فإنها تطلع حين تطلع بين قرني شيطان , وحينئذ يسجد لهـا الكفار , ثم صلِ فان الصلاة مشهودة محضورة حتى يستقل الظل بالرمح , ثم أقصر عن الصلاة فإنها حينئذ تسجر جهنم , فإذا أقبل الفيء فصل فإن الصلاة مشهودة محضورة حتى تصلي العصر , ثم أقصر عن الصلاة حتى تغرب الشمس فإنها تغرب بين قرني شيطان وحينئذ يسجد لها الكفار ) وذكر الحديث .
    قال أبو العباس رحمه الله تعالى : فقد نهى النبي -صلى الله عليه وسلم- عن الصلاة وقت طلوع الشمس ووقت غروبها معللاً ذلك النهي بأنها تطلع وتغرب بين قرني شيطان , وأنه حينئذ يسجد لها الكفار ، ومعلوم أن المؤمن لا يقصد السجود إلا لله ، وأكثر الناس قد لا يعلمون أن طلوعها وغروبها بين قرني شيطان , ولا أن الكفار يسجدون لها ، ثم أنه -صلى الله عليه وسلم- نهى عن الصلاة في هذا الوقت حسماً لمادة المشابهة . ومن هذا الباب أنه كان إذا صلى إلى عود أو عمود جعله على حاجبه الأيمن ولم يصمد له صمداً ، ولهذا نهى عن الصلاة إلى ما عبد من دون الله في الجملة ، ولهذا ينهى عن السجود لله بين يدي الرجل لما فيه من مشابهة السجود لغير الله . انتهى كلامه .
    فليتأمل المؤمن الناصح لنفسه ما في هذا الحديث من العبر فإن الله سبحانه وتعالى يقص علينا أخبار الأنبياء وأتباعهم ليكون للمؤمن من المستأخرين عبرة فيقيس حاله بحالهم ، وقص قصص الكفار والمنافقين لتجتنب من تلبس بها أيضا .
    فمما فيه من الاعتبار أن هذا الأعرابي الجاهلي لما ذكر له أن رجلاً بمكة يتكلم في الدين بما يخالف الناس لم يصبر حتى ركب راحلته فقدم عليه وعلم ما عنده لما في قلبه من محبة الدين والخير , وهذا فسر به قوله تعالى : ( ولو علم الله فيهم خيرا لأسمعهم ) أي حرصاً على تعلم الدين : ( لأسمعهم ) أي لأفهمهم , فهذا يدل على أن عدم الفهم في أكثر الناس اليوم عدلا منه سبحانه لما يعلم في قلوبهم من عدم الحرص على تعلم الدين .
    فتبين أن من أعظم الأسباب الموجبة لكون الإنسان من شر الدواب هو عدم الحرص على تعلم الدين , فإذا كان هذا الجاهلي يطلب هذا المطلب , فما عذر من ادعى اتباع الأنبياء وبلغه عنهم ما بلغه وعنده من يعرض عليه التعليم ولا يرفع بذلك رأساً ، فان حضر أو استمع فكما قال تعالى : ( ما يأتيهم من ذكر من ربهم محدث إلا استمعوه وهم يلعبون . لاهية قلوبهم ) .
    وفيه من العبر أيضا أنه لما قال : ( أرسلني الله ) . قال : بأي شيء أرسلك ؟ قال : بكذا وكذا . فتبين أن زبدة الرسالة الإلهية ، والدعوة النبوية ، هو توحيد الله بعبادته وحده لا شريك له وكسر الأوثان ,
    ومعلوم أن كسرها لا يستقيم إلا بشدة العداوة وتجريد السيف ، فتأمل زبدة الرسالة .
    وفيه أيضاً أنه فهم المراد من التوحيد ، وفهم أنه أمر كبير غريب ، ولأجل هذا قال : من معك على هذا ؟ قال : ( حر وعبد ) فأجابه أن جميع العلماء والعباد والملوك والعامة مخالفون له ولم يتبعه على ذلك إلا من ذكر ، فهذا أوضح دليل على أن الحق قد يكون مع أقل القليل وأن الباطل قد يملأ الأرض . ولله در الفضيل بن عياض حيث يقول : لا تستوحش من الحق لقلة السالكين ، ولا تغتر بالباطل لكثرة الهالكين . وأحسن منه قوله تعالى : ( ولقد صــدق عليهم إبليس ظنه فاتبعوه إلا فريقاً مـن المؤمنين ) .
    وفي الصحيحين أن بعث النار من كل ألف تسعة وتسعون وتسعمائة وفي الجنة واحد من كل ألف ، ولما بكوا من هذا لما سمعوه قال -صلى الله عليه وسلم- : ( إنها لم تكن نبوة قط إلا كان بين يديها جاهلية فيؤخذ العدد من الجاهلية فإن تمت وإلا أكملت من المنافقين ) قال الترمذي حسن صحيح . فإذا تأمل الإنسان ما في هذا الحديث من صفة بدء الإسلام ، ومن اتبع الرسول -صلى الله عليه وسلم- إذ ذاك ، ثم ضم إليه الحديث الآخر الذي في صحيح مسلم أنه -صلى الله عليه وسلم- قال : ( بدأ الإسلام غريبا وسيعود غريبا كما بدأ ) تبين له الأمر إن هداه الله وانزاحت عنه الحجة الفرعونية : ( فما بال القرون الأولى ) والحجـة القرشية : ( ما سمعنا بهذا في الملة الآخرة ) .
    وقال أبو العباس رحمه الله تعالى في كتاب ( إقتضاء الصـراط المستقيم ) في الكلام على قوله تعالى : ( وما أهل به لغير الله ) ظاهره أن ما ذبح لغير الله سواء لفظ به أو لم يلفظ ، وتحريم هذا أظهر من تحريم ما ذبحه النصراني للحم وقال فيه باسم المسيح ونحوه ، كما أن ما ذبحناه نحن متقربين به إلى الله سبحانه كان أزكى مما ذبحناه للحم وقلنا عليه باسم الله ، فإن عبادة الله سبحانه بالصلاة والنسك له أعظم من الاستعانة باسمه في فواتح الأمور ، والعبادة لغير الله أعظم كفراً من الاستعانة بغير الله فلو ذبح لغير الله متقربا به إليه لحرم وإن قال فيه باسم الله ، كما قد يفعله طائفة من منافقي هذه الأمة ، وإن كان هؤلاء مرتدين لا تباح ذبائحهم بحال ، لكن يجتمع في الذبيحة مانعان ، وهذا ما يفعل بمكة وغيرها من الذبح للجن . انتهى كلام الشيخ وهو الذي ينسب إليه بعض أعداء الدين أنه لا يكفر المعين ، فانظر أرشدك الله إلى تكفيره من ذبح لغير الله من هذه الأمة ، وتصريحه أن المنافق يصير مرتداً بذلك ، وهذا في المعين إذ لا يتصور أن تحرم إلا ذبيحة معين .
    وقال أيضا في الكتاب المذكور : وكانت الطواغيت الكبار التي تشد أليها الرحال ثلاثة اللات ، والعزى ، ومناة ، وكل واحد منها لمصر من أمصار العرب ، فكانت اللات لأهل الطائف ، ذكروا أنه كان في الأصل رجلاً صالحاً يلت السويق للحجاج فلما مات عكفوا على قبره . وأما العزى : فكانت لأهل مكة قريبا من عرفات ، وكانت هناك شجرة يذبحون عندها ويدعون . وأما مناة : فكانت لأهل المدينة وكانت حذو قديد من ناحية الساحل .
    ومن أراد أن يعلم كيف كانت أحـوال المشركين في عبادتهم الأوثان ، ويعرف حقيقة الشرك الذي ذمه الله وأنواعه ، حتى يتبين له تأويل القرآن فلينظر إلى سيرة النبي -صلى الله عليه وسلم- وأحوال العرب في زمانه ، وما ذكره الأزرقي وغيره في أخبار مكة من العلماء .
    ولما كان للمشركين شجرة يعلقون عليها أسلحتهم ويسمونها ذات أنواط فقال بعض الناس : يا رسول الله أجعل لنا ذات أنواط كما لهـم ذات أنواط . فقال : ( الله أكبر ، إنها السنن لتركبن سنن من كان قبلكم ) فأنكر -صلى الله عليه وسلم- مجرد مشابهتهم للكفار في اتخاذ شجرة يعكفون عليها معلقين عليها أسلحتهم . فكيف بما هو أطم من ذلك من الشرك بعينه . إلى أن قال : ( فمن ذلك عدة أمكنة بدمشق ) مثل مسجد يقال له مسجد الكف فيه تمثال كف يقال إنه كف علي بن أبى طالب حتى هدم الله ذلك الوثن ، وهذه الأمكنة كثيرة موجـودة في البلاد ، وفي الحجاز منها مواضع . ثم ذكر كلاماً طويلاً في نهيه -صلى الله عليه وسلم- عن الصلاة عند القبور فقال : العلة لما يفضي إليه ذلك من الشرك . ذكر ذلك الشافعي وغيره ، وكذلك الأئمة من أصحاب مالك وأحمد ، كأبي بكر الأثرم عللوا بهذه العلة ، وقد قال تعالى : ( وقالوا لا تذرن آلهتكم ولا تذرن وداً ولا سواعاً ولا يغوث ويعوق ونسرا ..) الآية ، ذكر ابن عباس وغيره من السلف أن هذه أسماء رجال صالحين من قوم نوح فلما ماتوا عكفوا على قبورهم ثم صوروا تماثيلهم ، ثم طال عليهم الأمد فعبدوهم ، ذكر هذا البخاري في صحيحه وأهل التفسير كابن جرير وغيره .
    ومما يبين صحة هذه العلة أنه لعن من يتخذ قبور الأنبياء مساجد ، ومعلوم أن قبور الأنبياء لا يكون ترابها نجساً ، وقال عن نفسه : ( اللهم لا تجعل قبري وثناً يعبد ) فعلم أن نهيه عن ذلك كنهيه عن الصلاة عند طلوع الشمس وعند غروبها سداً للذريعة لئلا يصلى في هذه الساعة وإن كان المصلي لا يصلي إلا لله ، ولا يدعو إلا لله ، لئلا يفضي ذلك إلى دعائها والصلاة لها ، وكلا الأمرين قد وقع ، فإن من الناس من يسجد للشمس وغيرها من الكواكب ويدعوها بأنواع الأدعية ، وهذا من أعظم أسباب الشرك الذي ضل به كثيرا من الأولين والآخرين حتى شاع ذلك في كثير ممن ينتسب إلى الإسلام , وصنف بعض المشهورين فيه كتاباً على مذهب المشركين مثل أبي معشر البلخي , وثابت بن قرة وأمثالهما ممن دخل في الشرك وآمـن بالطاغوت والجبت وهم ينتسبون إلى الكتاب كما قال تعالى : ( ألم تر إلى الذين أوتوا نصيباً من الكتاب يؤمنون بالجبت والطاغوت ). انتهى كلام الشيخ رحمه الله .
    فانظر رحمك الله إلى هذا الإمام الذي ينسب عنه من أزاغ الله قلبه عدم تكفير المعين كيف ذكر عن مثل الفخر الرازي وهو من أكابر أئمة الشافعية ، ومثل أبى معشر وهو من أكابر المشهورين من المصنفين وغيرهما أنهم كفروا وارتدوا عن الإسلام ، والفخر هو الذي ذكره الشيخ في الرد على المتكلمين ، لما ذكر تصنيفه الذي ذكر هنا قال : وهذه ردة صريحة باتفاق المسلمين . وسيأتي كلامه إن شاء الله تعالى .
    وتأمل أيضاً ما ذكره في اللات والعزى ومناة وجعله فعل المشركين معها هو بعينه الذي يفعله بدمشق وغيرها وتأمل قوله على حديث ذات أنواط .
    هذا قوله في مجرد مشابهتهم في اتخاذ شجرة فكيف بما هو أطم من ذلك من الشرك بعينه ، فهل للزائغ بعد هذا متعلق بشيء من كلام هذا الإمام .
    وأنا أذكر لفظه الذي احتجوا به على زيغهم قال رحمه الله تعالى : أنا من أعظم الناس نهيـاً عن أن ينسب معين إلى تكفير ، أو تبديع ، أو تفسيق ، أو معصية ، إلا إذا علم أنه قد قامت عليه الحجة الرسالية التي من خالفها كان كافراً تارة ، وفاسقاً أخرى ، وعاصياً أخرى . انتهى كلامه .
    وهذا صفة كلامه في المسألة في كل موضع وقفنا عليه من كلامه لا يذكر عدم تكفير المعين إلا ويصله بما يزيل الإشكال أن المراد بالتوقف عن تكفيره قبل أن تبلغه الحجة ، وأما إذا بلغته حكم عليه بما تقتضيه تلك المسألة من تكفير ، أو تفسيق ، أو معصية .
    وصرح رضي الله عنه أن كلامه في غير المسائل الظاهرة ، فقال في الرد على المتكلمين لما ذكر أن بعض أئمتهم توجد منه الردة عن الإسلام كثيرا قال : وهذا إن كان في المقالات الخفية فقد يقال أنه فيها مخطئ ضال تقم عليه الحجة التي يكفر تاركها ، لكن هذا يصدر عنهم في أمور يعلم الخاصة والعامة من المسلمين أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بعث بهـا ، وكفر من خالفها ، مثل أمره بعبادة الله وحده لا شريك له ، ونهيه عن عبادة أحد سواه من الملائكة والنبيين وغيرهم ، فإن هذا أظهر شعائر الإسلام ، ومثل إيجاب الصلوات الخمس وتعظيم شأنها ، ومثل تحريم الفواحش والربا والخمر والميسر ، ثم تجد كثيراً من رؤوسهم وقعوا فيها فكانوا مرتدين .
    وأبلغ من ذلك أن منهم من صنف في دين المشركين كما فعل أبو عبدالله الرازي ( يعني الفخر الرازي ) قال وهذه ردة صريحة باتفاق المسلمين . انتهى كلامه .فتأمل هذا وتأمل ما فيه من تفصيل الشبهة التي يذكر أعداء الله ، لكن من يرد الله فتنته فلن تملك له من الله شيئاً .
    على أن الذي نعتقده وندين لله به ونرجو أن يثبتناً عليه أنه لو غلط هو أو أجلَّ منه في هذه المسألة وهي مسألة المسلم إذا أشرك بالله بعد بلوغ الحجة ، أو المسلم الذي يفضل هذا على الموحدين ، أو يزعم أنه على حـق ، أو غير ذلك من الكفر الصريح الظاهر الذي بينه الله ورسوله وبينه علماء الأمة ، أنا نؤمن بما جاءنا عن الله وعن رسوله من تكفيره ولو غلط من غلط .
    فكيف والحمد لله ونحن لا نعلم عن واحد من العلماء خلافا في هذه المسألة ، وإنما يلجأ من شاق فيها إلى حجة فرعون : ( فما بال القرون الأولى ) أو حجة قريش : ( ما سمعنا بهذا في الملة الآخرة ) .
    وقال الشيخ رحمه الله في الرسالة السنية لما ذكر حديث الخوارج ومروقهم من الدين وأمره -صلى الله عليه وسلم- بقتالهم ، قال : فإذا كان على عهد رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وخلفائه ممن انتسب إلى الإسلام من مرق منه مع عبادته العظيمة حتى أمر -صلى الله عليه وسلم- بقتالهم ، فيعلم أن المنتسب إلى الإسلام أو السنة قد يمرق أيضا من الإسلام في هذه الأزمان وذلك بأسباب ، منها الغلو الذي ذمه الله في كتابه حيث يقول : ( يا أهل الكتاب لا تغلوا في دينكم غير الحق ) وعلي ابن أبى طالب حرق الغالية من الرافضة فأمر بأخاديد خدت لهم عند باب كنده فقذفهم فيها ، واتفق الصحابة على قتلهم ، ولكن ابن عباس كان مذهبه أن يقتلوا بالسيف بلا تحريق وهو قول أكثر العلماء وقصتهم معروفة عند العلماء .
    وكذلك الغلو في بعض المشائخ ، بل الغلو في علي ابن أبى طالب ، بل الغلو في المسيح ونحوه ، فكل من غلا في نبي ، أو رجل صالح ، وجعل فيه نوعاً من الإلهية ، مثل أن يقول يا سيدي فلان انصرني ، أو أغثني ، أو ارزقني ، أو أجبرني ، أو أنا في حسبك ، ونحو هذه الأقوال فكل هذه شرك وضلال يستتاب صاحبها فإن تاب وإلا قتل .
    فإن الله سبحانه إنما أرسل الرسل وأنزل الكتب ليعبد وحده لا شريك له لا يجعل معه إلهاً آخر ، والذين يجعلون مع الله آلهة أخرى مثل المسيح والملائكة والأصنام لم يكونوا معتقدين أنها تخلق الخلائق أو تنزل المطر أو تنبت النباتات ، وإنما كانوا يعبدونهم أو يعبدون قبورهم أو صورهم ويقولون : ( إنما نعبدهم ليقربونا إلى الله زلفى ) ( ويقولون هؤلاء هم شفعاؤنا عند الله ) .
    فبعث الله رسله تنهى أن يدعى أحد من دونه لا دعاء عبادة ولا دعاء استغاثة ، قال تعالى : ( قل ادعوا الذين زعمتم من دونه فلا يملكون كشف الضر عنكم ولا تحويلا ) الآية ، قال : طائفة من السلف كان أقوام يدعون المسيح وعزيراَ والملائكة . ثم ذكر رحمة الله تعالى آيات .
    ثم قال وعبادة الله وحده لا شريك له هي أصل الدين وهو التوحيد الذي بعث الله به الرسل وأنزل به الكتب ، قال تعالى : ( ولقد بعثنا في كل أمة رسولاً أن اعبدوا الله واجتنبوا الطاغوت ) وقال تعالى : ( وما أرسلنا من قبلك من رسول إلا نوحي إليه أنه لا إله إلا أنا فاعبدون ) وكان -صلى الله عليه وسلم- يحقق التوحيد ويعلمه أمته حتى قال له رجل : ما شاء الله وشئت . قال : ( أجعلتني لله نداً ، بل ما شاء الله وحده ) ونهى عن الحلف بغير الله وقال : ( من حلف بغير الله فقد كفر أو أشرك ) . وقال في مرض موته : ( لعن الله اليهود والنصارى اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد ) يحذر ما صنعوا . وقال : ( اللهم لا تجعل قبري وثناًَ يعبد ) . وقال : ( لا تتخذوا قبري عيداً ولا بيوتكم قبوراًَ وصلوا علي حيثما كنتم فإن صلاتكم تبلغني ) ولهذا اتفق أئمة الإسلام على أنه لا يشرع بناء المساجد على القبور ولا الصلاة عندها ، وذلك لأن من أكبر أسباب عبادة الأوثان كان تعظيم القبور .
    ولهذا اتفق العلماء على أنه من سلم على النبي -صلى الله عليه وسلم- عند قبره أنه لا يتمسح بحجرته ولا يقبلها لأنه إنما يكون ذلك لأركان بيت الله فلا يشبه بيت المخلوق ببيت الخالق ، كل هذا لتحقيق التوحيد الذي هو أصل الدين ورأسه الذي لا يقبل الله عملاًَ إلا به ويغفر لصاحبه ولا يغفر لمن تركه كما قال تعالى : ( إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء ) الآية ، ولهذا كانت كلمة التوحيد أفضل الكلام وأعظمه . وأعظم آية في القرآن آية الكرسي : ( الله لا إله إلا هو الحي القيوم ) وقال -صلى الله عليه وسلم- : ( من كان آخر كلامه من الدنيا لا إله إلا الله دخل الجنة ) والإله هو الذي تألهه القلوب عبادة له واستعانة به ورجاء وخشية وإجلالاً . انتهى كلامه رحمه الله .
    فتأمل أول الكلام وآخره ، وتأمل كلامه فيمن دعا نبياً أو ولياً ، مثل أن يقول يا سيدي فلان أغثني ونحوه ، أنه يستتاب فإن تاب وإلا قتل هل يكون هذا إلا في المعين والله المستعان . وتأمل كلامه في اللات والعزى ومناة وما ذكر بعده يتبين لك الأمر إن شاء الله تعالى .
    قال ابن القيم رحمه الله تعالى في شرح المنازل في باب التوبة : وأما الشرك فهو نوعان أكبر ، وأصغر . فالأكبر لا يغفره الله إلا بالتوبة منه ، وهو أن يتخذ من دون الله نداً يحبه كما يحب الله ، بل أكثرهم يحبون آلهتهم أعظم من محبة الله ويبغضون لمنتقص معبودهم من المشائخ أعظم مما يغضبون إذا انتقص أحد رب العالمين ، وقد شاهدنا هذا نحن وغيرنا منهم جهرة ، وترى أحدهم قد اتخذ ذكر معبوده على لسانه ديدنا له إن قام وإن قعد وإن عثر وإن استوحش وهو لا ينكر ذلك ، ويزعم أنه باب حاجته إلى الله وشفيعه عنده ، وهكذا كان عباد الأصنام سواء .
    وهذا القدر هو الذي قام بقلوبهم وتوارثه المشركون بحسب اختلاف آلهتهم ، فأولئك كانت آلهتهم من الحجر ، وغيرهم اتخذوها من البشر ، قال تعالى حاكياًَ عن أسلاف هؤلاء : ( والذين اتخذوا من دونه أولياء ما نعبدهم إلا ليقربونا إلى الله زلفى ) الآية .
    فهذه حال من اتخذ من دون الله ولياً يزعم أنه يقربه إلى الله تعالى ، وما أعز من يتخلص من هذا ، بل ما أعز من لا يعادي من أنكره ، والذي قام بقلوب هؤلاء المشركين وسلفهم أن آلهتهم تشفع لهم عند الله وهذا عين الشرك ، وقد أنكر الله عليهم ذلك في كتابه وأبطله ، وأخبر أن الشفاعة كلها له . ثم ذكر الشيخ ( يعني ابن القيم ) رحمه الله فصلاً طويلاً في تقرير هذا الشرك الأكبر .
    ولكن تأمل قوله : وما أعز من يتخلص من هذا ، بل ما أعز من لا يعادي من أنكره . يتبين لك بطلان الشبهة التي أدلى بها الملحد ، وزعم أن كلام الشيخ في الفصل الثاني يدل عليها وسيأتي تقريره إن شاء الله تعالى .
    وذكر في آخر هذا الفصل أعني الفصل الأول في الشرك الأكبر الآية التي في سورة سبأ : ( قل ادعوا الذين زعمتم من دون الله ) إلى قوله : ( إلا لمن أذن له ) وتكلم عليها ، ثم قال : والقرآن مملوء من أمثالها ، ولكن أكثر الناس لا يشعر بدخول الواقع تحته ويظنه في قوم قد خلوا ولم يعقبوا وأرثا ، وهذا هو الذي يحول بين القلب وبين فهم القرآن ، كما قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه : إنما تنقض عرى الإسلام عروة إذا نشأ في الإسلام من لا يعرف الجاهلية .
    وهذا لأنه إذا لم يعرف الشرك وما عابه القرآن وذمه وقع فيه وأقره وهو لا يعرف أنه الذي كان عليه أهل الجاهلية فتنتقض بذلك عرى الإسلام ويعود المعروف منكراً ، والمنكر معروفاً ، والبدعة سنة ، والسنة بدعة ، ويكفر الرجل بمحض الإيمان ، وتجريد التوحيد ، ويبدأ بتجريد متابعة الرسول -صلى الله عليه وسلم- ومفارقة الأهواء والبدع ، ومن له بصيرة وقلب حي يرى ذلك عياناً فالله المستعان .

    الفصل

    وأما الشرك الأصغر فكيسير الرياء والحلف بغير الله ، وقول هذا من الله ومنك ، وأنا بالله وبك ، وما لي إلا الله وأنت ، وأنا متوكل على الله وعليك ولولا أنت لم يكن كذا وكذا . وقد يكون هذا شركاً أكبر بحسب حال قائله ومقصده .
    ثم قال الشيخ رحمه الله تعالى ( يعني ابن القيم ) بعد ذكر الشرك الأكبر والأصغر : ومن أنواع هذا الشرك سجود المريد للشيخ ، ومن أنواعه التوبة للشيخ فإنها شرك عظيم ، ومن أنواعه النذر لغير الله ، والتوكل على غير الله ، والعمل لغير الله ، والإنابة والخضوع والذل لغير الله ، وابتغاء الرزق من عند غيره ، وإضافة نعمه إلى غيره ، ومن أنواعه طلب الحوائج من الموتى ، والاستغاثة بهم والتوجه إليهم ، وهذا أصل شرك العالم ، فإن الميت قد انقطع عمله وهو لا يملك لنفسه نفعاً ولا ضراً فضلاً لمن استغاث به ، أو سأله أن يشفع له إلى الله ، وهذا من جهله بالشافع والمشفوع عنده ، فإن الله تعالى لا يشفع عنده أحد إلا بإذنه والله لم يجعل سؤال غيره سبباً لإذنه ، وإنما السبب لإذنه كمال التوحيد ، فجاء هذا المشرك بسبب يمنع الإذن ، والميت محتاج إلى من يدعو له كما أوصانا النبي -صلى الله عليه وسلم- إذا زرنا قبور المسلمين أن نترحم عليهم ونسأل الله لهم العافية والمغفرة ، فعكس المشركون هذا وزاروهم زيارة العبادة وجعلوا قبورهم أوثاناً تعبد ، فجمعوا بين الشرك بالمعبود ، وتغيير دينه ، ومعادات أهل التوحيد ونسبتهم إلى تنقص الأموات ، وهم قد تنقصوا الخالق بالشرك ، وأوليائه المؤمنين بذمهم ومعاداتهم ، وتنقصوا من أشركوا به غاية التنقص ، إذ ظنوا أنهم راضون منهم بهذا ، أو أنهم أمروهم به ، وهؤلاء أعداء الرسل في كل زمان ومكان وما أكثر المستجيبين لهم .
    ولله در خليله إبراهيم حيث يقول : ( واجنبني وبني أن نعبد الأصنام . رب إنهن اضللن كثيراً من الناس ) وما نجى من شرك هذا الشرك الأكبر إلا من جرد التوحيد لله ، وعادى المشركين في الله وتقرب بمقتهم إلى الله . انتهى كلامه .
    والمراد بهذا أن بعض الملحدين نسب إلى الشيخ أن هذا شـرك أصغر ، وشبهته أنه ذكره في الفصل الثاني الذي ذكر في أوله الأصغر . وأنت رحمك الله تجد الكلام من أوله إلى آخره في الفصل الأول والثاني صريحاً لا يحتمل التأويل من وجوه كثيرة منها أن دعاء الموتى والنذر لهم ليشفعوا له عند الله هو الشرك الأكبر الذي بعث الله النبي -صلى الله عليه وسلم- بالنهي عنه فكفر من لم يتب منه وقاتله وعاداه ، وآخر ما صرح به قوله آنفاً : وما نجا من شرك هذا الشرك الأكبر إلى آخره اهـ . فهل بعد هذا البيان بيان إلا العناد بل الإلحاد .
    ولكن تأمل قوله أرشدك الله : وما نجا من شرك هذا الشرك الأكبر إلا من عادى المشركين إلى آخره اهـ . وتأمل أن الإسلام لا يصح إلا بمعادات أهل الشرك الأكبر وإن لم يعاديهم فهو منهم وإن لم يفعله .
    وقد ذكر في الإقناع عن الشيخ تقي الدين ، أن من دعا علي ابن أبي طالب فهو كافر ، وإن من شك في كفره فهو كافر ، فإذا كان هذا حال من شك في كفره مع عداوته له ومقته له ، فكيف بمن يعتقد أنه مسلم ولم يعاده ، فكيف بمن أحبه ، فكيف بمن جادل عنه وعن طريقته ، وتعذر أنا لا نقدر على التجارة وطلب الرزق إلا بذلك ، وقد قال تعالى : ( وقالوا إن نتبع الهدى معك نتخطف من أرضنا ) فإذا كان هذا قول الله تعالى فيمن تعذر عن التبيين بالعمل بالتوحيد ومعادات المشركين بالخوف على أهله وعياله فكيف بمن اعتذر في ذلك بتحصيل التجارة ، ولكن الأمر كما تقدم عن عمر إذا نشأ في الإسلام من لا يعرف الجاهلية لهذا لم يعرف معنى القرآن ، وأنه أشر وأفسد من الذين قالوا : ( إن نتبع الهدى معك ) الآية .
    ومع هذا فالكلام الذي يظهرونه نفاقاً وإلا فهم يعتقدون أن أهل التوحيد ضالون مضلون ، وأن عبدة الأوثان أهل الحق والصواب ، كما صرح به إمامهم في الرسالة التي أتتكم قبل هذه خطه بيده يقول : بيني وبينكم أهل هذه الأقطار وهم خير أمة أخرجت للناس وهم كذا وكذا ، فإذا كان يريد التحاكم إليهم ويصفهم بأنهم خير أمة أخرجت للناس ، فكيف أيضاً يصفهم بشرك ومخالطتهم للحاجة . وما أحسن قول أصدق القائلين : ( والسماء ذات الحبك . إنكم لفي قول مختلف . يؤفك عنه من أفك ) ( بل كذبوا بالحق لما جاءهم فهم في أمر مريج ) .
    فرحم الله أمرءً نظر لنفسه وتفكر فيما جاء به محمد -صلى الله عليه وسلم- من عند الله من معادات من أشرك بالله من قريب أو بعيد وتكفيرهم وقتالهم حتى يكون الدين كله لله ، وعلم ما حكم به محمد -صلى الله عليه وسلم- فيمن أشرك بالله مع ادعائه الإسلام ، وما حكم في ذلك الخلفاء الراشدون كعلي ابن أبي طالب رضي الله عنه وغيره لما حرقهم بالنار مع أن غيرهم من أهل الأوثان الذين لم يدخلوا في الإسلام لا يقتلون بالتحريق والله الموفق .
    وقال أبو العباس أحمد بن تيمية في الرد على المتكلمين لما ذكر بعض أحوال أئمتهم قال : وكل شرك في العالم إنما حدث برأي جنسهم فهم الآمرون بالشرك والفاعلون له ، ومن لم يأمر منهم بالشرك فلم ينه عنه ، بل يقر هؤلاء وهؤلاء وإن رجح الموحدين ترجيحاً ما فقد يرجح غيره المشركين ، وقد يعرض عن الأمرين جميعاً ، فتدبر هذا فإنه نافع جداً .
    ولهذا كان رؤوسهم المتقدمون والمتأخرون يأمرون بالشرك ، وكذلك الذين كانوا في ملة الإسلام لا ينهون عن الشرك ويوجبون التوحيد بل يسوغون الشرك ، أو يأمرون به أولا يوجبون التوحيد ، وقد رأيت من مصنفاتهم في عبادة الملائكة وعبادة الأنفس المفارقة أنفس الأنبياء وغيرهم ما هو أصل الشرك . وهم إذا ادعوا التوحيد إنما توحيدهم بالقول لا بالعبادة والعمل ، والتوحيد الذي جاءت به الرسل لابد فيه من التوحيد بإخلاص الدين لله وعبادته وحده لا شريك له ، وهذا شيء لا يعرفونه فلو كانوا موحدين بالقول والكلام لكان معهم التوحيد دون العمل ، وذلك لا يكفي في السعادة والنجاة بل لابد أن يعبد الله وحده ويتخذ إلهاً دون ما سواه ، وهذا هو معنى قول ( لا إله إلا الله ) . انتهى كلام الشيخ .
    فتأمل رحمك الله هذا الكلام فإنه مثل ما قال الشيخ فيه نافع جداً ، ومن أكبر ما فيه من الفوائد أنه يبين لك حال من أقر بهذا الدين ، وشهد أنه الحق ، وأن الشرك هو الباطل ، وقال بلسانه ما أريد منه ، ولكن لا يدين بذلك إما بغضاً له ، أو عدم محبته كما هي حال المنافقين الذين بين أظهرنا ، وإما يثار الدنيا مثل تجارة أو غيرها فيدخلون في الإسلام ثم يخرجون منه ، كما قال تعالى : ( ذلك بأنهم آمنوا ثم كفروا ) الآيـة ، وقال تعالى : ( من كفر بالله من بعد إيمانه إلا من أكره ) إلى قوله : ( ذلك بأنهم استحبوا الحياة الدنيا على الآخرة ) فإذا قال هؤلاء بألسنتهم نشهد أن هذا دين الله ورسوله ، ونشهد أن المخالف له باطل ، وأنه الشرك بالله غر هذا الكلام ضعيف البصيرة .
    وأعظم من هذا وأطم أن أهل حريملاء ومن وراءهم يصرحون بمسبة الدين ، وأن الحق ما عليه أكثر الناس يستدلون بالكثرة على حسن ما هم عليه من الدين ، ويفعلون ويقولون ما هو من أكبر الردة وأفحشها ، فإذا قالوا التوحيد حق والشرك باطل وأيضاً لم يحدثوا في بلدهم أوثاناً جادل الملحد عنهم وقال : أنهم يقرون أن هذا شرك ، وأن التوحيد هو الحق ، ولا يضرهم عندهم ما هم عليه من السب لدين الله ، وبغي العوج له ، ومدح الشرك وذبهم دونه بالمال واليد واللسان فالله المستعان .
    وقال أبو العباس أيضاً : في الكلام على كفر مانعي الزكاة والصحابة لم يقولوا هل أنت مقر بوجوبها أو جاحد لها ، وهذا لم يعهد عنه الخلفاء والصحابة ، بل قال الصديق لعمر رضي الله عنهما : ( والله لو منعوني عقالاً ـ أو عناقاً ـ كانوا يؤودنها إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- لقاتلتهم على منعه ) فجعل المبيح للقتال مجرد المنع لا جحد الوجوب . وقد روي أن طوائف منهم كانوا يقرون بالوجوب لكن بخلوا بها ، ومع هذا فسيرة الخلفاء فيهم جميعهم سيرة واحدة وهي مقاتلتهم وسبي ذراريهم وغنيمة أموالهم ، والشاهدة على قتلاهم بالنار وسموهم جميعهم أهل الردة . وكان من أعظم فضائل الصديق رضي الله عنه عندهم أن ثبته الله على قتالهم ولم يتوقف كما يتوقف غيره فناظرهم حتى رجعوا إلى قوله . وأما قتال المقرين بنبوة مسيلمة ، فهؤلاء لم يقع بينهم نزاع في قتالهم . انتهى .
    فتأمل كلامه رحمه الله في تكفير المعين والشهادة عليه إذا قتل بالنار وسبي حريمه وأولاده عند منع الزكاة ، فهذا الذي ينسب عنه أعداء الدين عدم تكفير المعين .
    قال رحمه الله : بعد ذلك وكفر هؤلاء وإدخالهم في أهل الردة قد ثبت باتفاق الصحابة المستند إلى نصوص الكتاب والسنة . انتهى كلامه .
    ومن أعظم ما يحل الإشكال في مسألة التكفير والقتال عمن قصد اتباع الحق ، إجماع الصحابة على قتال مانعي الزكاة وإدخالهم في أهل الردة وسبي ذراريهم ، وفعلهم فيهم ما صح عنهم وهو أول قتال وقع في الإسلام على من ادعى أنه من المسلمين . فهذه أول وقعة وقعت في الإسلام على هذا النوع أعني المدعين للإسلام وهي أوضح الوقعات التي وقعت من العلماء عليهم من عصـر الصحابة رضي الله عنهم إلى وقتنا هذا .
    وقال الإمام أبو الوفاء ابن عقيل : لما صعبت التكاليف على الجهال والطغام ، عدلوا عن أوضاع الشرع إلى تعظيم أوضاع وضعوها لأنفسهم فسهلت عليهم إذ لم يدخلوا بها تحت أمر غيرهم وهم عندي كفار بهذه الأوضاع ، مثل تعظيم القبور وخطاب الموتى بالحوائج وكتب الرقاع فيها يا مولاي افعل بي كذا وكذا وإلقاء الخرق على الشجر إقتداء لمن عبد اللات والعزى . انتهى كلامه . والمراد منه قوله : وهم عندي كفار بهذه الأوضاع .
    وقال أيضـاً في كتاب الفنون : لقد عظم الله الحيوان لا سيما ابن آدم ، حيث أباحه الشرك عند الإكراه ، فمن قدم حرمة نفسك على حرمته حتى أباحك أن تتوقى عن نفسك بذكره بما لا ينبغي له سبحانه لحقيق أن تعظم شعائره وتوقر أوامره وزواجره ، وعصم عرضك بإيجاب الحد بقذفك وعصم مالك بقطع يد مسلم في سرقته ، وأسقط شطر الصلاة في السفر لأجل مشقتك , وأقام مسح الخف مقام غسل الرجل إشفاقاً عليك من مشقة الخلع واللبس ، وأباحك الميتة سد لرمقك وحفظاً لصحتك , وزجرك عن مضارك بحد عاجل ووعيد آجل , وخرق العوائد لأجلك , وأنزل الكتب إليك , أيحسن لك مع هذا الإكرام أن يراك على ما نهاك منهمكاً , ولما أمرك تاركاً ، وعلى ما زجرك مرتكباً ، وعن داعيه معرضاً ، ولداعي عدوه فيك مطيعاً ، يعظمك وهو هو ، وتهمل أمره وأنت أنت ، هو حط رتبة عباده لأجلك ، وأهبط إلى الأرض من امتنع من سجدة يسجدها لأبيك ، هل عاديت خادمـاً طالت خدمته لك لترك صلاة ، هل نفيته من دارك للإخلال بفرض أو لارتكاب نهي فإن لم تعترف اعتراف العبد للموالى ، فلا أقل أن تقتضي نفسك إلى الحق سبحانه اقتضاء المساوي المكافي ، ما أفحش ما تلاعب الشيطان بالإنسان ، بيناً هو بحضرة الحق سبحانه وملائكة السماء سجود له ، ترامى به الأحوال والجهات إلى أن يوجد ساجداً لصورة في حجر ، أو لشجرة من الشجر ، أو لشمس أو لقمر ، أو لصورة ثور خار ، أو لطائر صفر .
    ما أوحش زوال النعم ، وتغير الأحوال ، والحور بعد الكور ، لا يليق بهذا الحي الكريم الفاضل على جميع الحيوانات أن يرى إلا عابداً الله في دار التكليف ، أو مجاورا لله في دار الجزاء والتشريف ، وما بين ذلك فهو واضع نفسه في غير موضعها . انتهى كلامه .
    والمراد منه أنه جعل أقبح حال وأفحشها من أحوال الإنسان أن يشرك بالله ، ومثله بأنواع : منها السجود للشمس أو للقمر ، ومنها السجود للصورة كما في الصور التي في القباب على القبور .
    والسجود قد يكون بالجبهة على الأرض ، وقد يكون بالانحناء من غير وصول إلى الأرض ، كما فسر به قوله تعالى : ( أدخلوا الباب سجداً ) قال ابن عباس : أي ركعاً .
    وقال ابن القيم في ( إغاثة اللهفان ) في إنكار تعظيم القبور : وقد آل الأمـر بهـؤلاء المشركين أن صنف بعض غلاتهـم في ذلك كتاباً سماه ( مناسك المشاهد ) ولا يخفى أن هذا مفارقة لدين الإسلام ودخول في دين عباد الأصنام . انتهى . وهذا الذي ذكره ابن القيم ، رجل من المصنفين يقال له ابن المفيد ، فقد رأيت مـا قال فيه بعينه ، فكيف ينكر تكفير المعين ؟ . وأما كلام سائر أتباع الأئمة في التكفير ، فنذكر منه قليلاً من كثير .
    أما كلام الحنفية فكلامهم في هذا من أغلظ الكلام ، حتى إنهم يكفرون المعين إذا قال مصيحف أو مسيجد وصلى صلاة بلا وضوء ونحو ذلك . وقال في النهر الفائق ، وعلم أن الشيخ قاسماً ، قال في شرح درر البحار : إن النذر الذي يقع من أكثر العوام بأن يأتي إلى قبر بعض الصلحاء قائلاً يا سيدي فلان إن رد غائبي أو عوفي مريضي فلك من الذهب أو الفضة أو الشمع أو الزيت كذا باطل إجماعاً لوجوه . إلى أن قال : ومنها ظن أن الميت يتصرف في الأمـر واعتقاد هذا كفر . إلى أن قال : وقد ابتلى الناس بذلك ، لاسيما في مولد الشيخ أحمد البدوي . انتهى كلامه .
    فانظر إلى تصريحه إن هذا كفر ، مع قوله أنه يقع من أكثر العوام ، وأن أهل العلم قد ابتلوا بما لا قدرة لهم على إزالته .
    وقال القرطبي رحمه الله لما ذكر سماع الفقر أو صورته قال : هذا حرام بالإجماع .
    وقد رأيت فتوى شيخ الإسلام ، جمال الملة أن مستحل هذا كافر ، ولما علم أن حرمته بالإجماع لزم أن يكفر مستحله ، فقد رأيت كلام القرطبي وكلام الشيخ الذي نقل عنه في كفر من استحل السماع والرقص مع كونه دون ما نحن فيه بالإجماع بكثير .
    وقال أبو العباس رحمه الله حدثني ابن الخضيري عن والده الشيخ الخضيري إمام الحنفية في زمانه قال : كان فقهاء بخارى يقولون في ابن سينا كان كافرا ذكياً ، فهذا إمام الحنفية في زمنه حكى عن فقهاء بخاري جملة كفر ابن سينا وهو رجل معين منصف يتظاهر بالإسلام .
    وأما كلام المالكية في هذا أكثر من أن يحصر وقد أشتهر عن فقهائهم سرعة الفتوى والقضاء بقتل الرجل عند الكلمة التي لا يفطن لها أكثر الناس ، وقد ذكر القاضي عياض في آخر كتاب الشفاء من ذلك طرفاً ، ومما ذكر أن من حلف بغير الله على وجه التعظيم كفر ، وكل هذا دون ما نحن فيه بما لا نسبة بينه وبينه .
    وأما كلام الشافعية ، فقال صاحب الروضة رحمه الله أن المسلم في الكلام إذا ذبح للنبي -صلى الله عليه وسلم- كفر . وقال أيضاً : من شك في كفر طائفة ابن عربي فهو كافر . وكل هذا دون ما نحن فيه .
    وقال ابن حجر في شرح الأربعين على حديث ابن عباس : ( إذا سألت فاسأل الله ) وما معناه إن من دعا غير الله فهو كافر . وصنف في هذا النوع كتابا مستقلا سماه ( الإعلام بقواطع الإسلام ) ذكر فيه أنواعا كثيرة من الأقوال والأفعال كل واحد منها ذكر أنه يخرج من الإسلام ويكفر به المعين وغالبه لا يساوي عشير معشار ما نحن فيه ، وتمام الكلام في هذا أن يقال الكلام هنا في مسألتين :
    الأولى : أن يقال هذا الذي يفعله كثير من العوام عند قبور الصالحين ومع كثير من الأحياء والأموات والجن من التوجه إليهم ودعائهم لكشف الضر والنذر لهم لأجل ذلك هل هو الشرك الأكبر الذي فعله قوم نوح ومن بعدهم إلى أن انتهى الأمر إلى قوم خاتم الرسل قريش وغيرهم .
    فبعث الله الرسل وأنزل الكتب ينكر عليهم ذلك ويكفرهم ويأمر بقتالهم حتى يكون الدين كله لله ، أم هذا شرك أصغر وشرك المتقدمين غير هذا ، فاعلم أن الكلام في هذه المسألة سهل على من يسره الله عليه بسبب أن علماء المشركين اليوم يقرون أنه الشرك الأكبر ولا ينكرونه إلا ما كان من مسيلمة الكذاب وأصحابه كابن إسماعيل وابن خالد مع تناقضهم في ذلك واضطرابهم ، فأكثر أحوالهم يقرون أنه الشرك الأكبر ولكن يعتذرون بأن أهله لم تبلغهم الدعوة .
    وتارة يقولون لا يكفر إلا من كان في زمن النبي -صلى الله عليه وسلم- ، وتارة يقولون إنه شرك أصغر وينسبونه لابن القيم رحمه الله في المدارج كما تقدم ، وتارة لا يذكرون شيئاً من ذلك بل يعظمون أهله وطريقتهم في الجملة ، وأنهم خير أمة أخرجت للناس ، وأنهـم العلماء الذين يجب رد الأمر عند التنازع إليهم وغير ذلك من الأقاويل المضطربة ، وجواب هؤلاء كثير في الكتاب ، والسنة ، والإجماع .
    ومن أصرح ما يجاوبون به إقرارهم في غالب الأوقات أن هذا هو الشرك الأكبر ، وأيضاً إقرار غيرهم من علماء الأقطار ، مع أن أكثرهم قد دخل في الشرك وجاهد أهل التوحيد ، لكن لم يجدوا بداً من الإقرار به لوضوحه .
    المسألة الثانية : الإقرار بأن هذا هو الشرك الأكبر ولكن لا يكفر به إلا من أنكر الإسلام جملة ، وكذب الرسول والقرآن واتبع اليهودية أو النصرانية أو غيرهما ، وهذا هو الذي يجادل به أهل الشرك والعناد في هذه الأوقات ، وإلا المسألة الأولى قلَّ الجدال فيها ولله الحمد لما وقع من إقرار علماء الشرك بها . فاعلم أن تصور هذه المسألة تصوراً حسناً يكفي في إبطالها من غير دليل خاص لوجهين :
    الأول : أن مقتضى قولهم أن الشرك بالله وعبادة الأصنام لا تأثير لها في التكفير لأن الإنسان إن انتقل عن الملة إلى غيرها وكذب الرسول والقرآن فهو كافر وإن لم يعبد الأوثان كاليهود ، فإذا كان من انتسب إلى الإسلام لا يكفر إذا أشرك الشرك الأكبر لأنه مسلم يقول لا إله إلا الله ويصلي ويفعل كذاو كذا لم يكن للشرك وعبادة الأوثان تأثير بل يكون ذلك كالسواد في الخلقة أو العمى أو العرج ، فان كان صاحبها يدعي الإسلام فهو مسلم ، وإن ادعى ملة غيرها فهو كافر ، وهذه فضيحة عظيمة كافية في رد هذا القول الفظيع .
    الوجه الثاني : أن معصية الرسول -صلى الله عليه وسلم- في الشرك وعبادة الأوثان بعد بلوغ العلم كفر صريح بالفطر والعقول والعلوم الضرورية ، فلا يتصور أنك تقول لرجل ولو من أجهل الناس أو أبلدهم ، ما تقول فيمن عصى الرسو ل -صلى الله عليه وسلم- ولم ينقد له في ترك عبادة الأوثان والشرك ، مع أنه يدعي أنه مسلم متبع إلا ويبادر بالفطرة الضرورية إلى القول بأن هذا كافر من غير نظر في الأدلة أو سؤال أحد من العلماء .
    ولكن لغلبة الجهل وغربة العلم وكثرة من يتكلم بهذه المسألة من الملحدين أشتبه الأمـر فيها على بعض العوام من المسلمين الذين يحبون الحق ، فلا تحقرها وأمعن النظر في الأدلة التفصيلية لعل الله أن يمن عليك بالإيمان الثابت ويجعلك من الأئمة الذين يهدون بأمره .
    فمن أحسن ما يزيل الإشكال فيها ويزيد المؤمن يقيناً ما جرى من النبي -صلى الله عليه وسلم- وأصحابه والعلماء بعدهم فيمن انتسب إلى الإسلام ، كما ذكر أنه -صلى الله عليه وسلم- بعث البراء ومعه الراية إلى رجل تزوج امـرأة أبيه ليقتله ويأخذ ماله .
    ومثل همه بغزو بني المصطلق لما قيل أنهم منعوا الزكاة . ومثل قتال الصديق وأصحابه لمانع الزكاة وسبي ذراريهم وغنيمة أموالهم وتسميتهم مرتدين .
    ومثل إجماع الصحابة في زمن عمر تكفير قدامة بن مظعون وأصحابه إن لم يتوبوا لما فهموا من قوله تعالى : ( ليس على الذين آمنوا وعملوا الصالحات جناح فيما طعموا إذا ما اتقوا وآمنوا ) حل الخمر لبعض الخواص .
    ومثل إجماع الصحابة في زمن عثمان في تكفير أهل المسجد الذين ذكروا كلمة في نبوة مسيلمة مع أنهم لم يتبعوه ، وإنما اختلف الصحابة في قبول توبتهم . ومثل تحريق علي رضي الله عنه أصحابه لما غلوا فيه .
    ومثل إجماع التابعين مع بقية الصحابة على كفر المختار بن أبي عبيد ومن اتبعه ، مع أنه يدعي أنه يطلب بدم الحسين وأهل البيت . ومثل إجماع التابعين ومن بعدهم على قتل الجعد بن درهم وهو مشهور بالعلم والدين وهلم جرا ، ومن وقائع لا تعد ولا تحصى .
    ولم يقل أحد من الأولين والآخرين لأبي بكر الصديق وغيره كيف تقاتل بنى حنيفة وهم يقولون لا إله إلا الله ويصلون , ويزكون . وكذلك لم يستشكل أحد تكفير قدامة وأصحابه لو لم يتوبوا وهلم جرا .
    إلى زمن عبيد القداح الذين ملكوا لمغرب ومصر والشام وغيرها مع تظاهرهم بالإسلام وصلاة الجمعة والجماعة ونصب القضاة والمفتين لما أظهروا من الأقوال والأفعال ما أظهروا لم يستشكل أحد من أهل العلم والدين قتالهم ولم يتوقفوا فيه وهم في زمن ابن الجوزي , والموفق , وصنف ابن الجوزي كتاباً لما أخذت مصر منهم سماه ( النصر على مصر ) .
    ولم يسمع أحد من الأولين والآخرين أن أحدا أنكر شيئا من ذلك أو استشكله لأجل ادعائهم الملة , أو لأجل قول لا إله إلا الله ، أو لأجل إظهار شيء من أركان الإسلام ، إلا ما سمعناه من هؤلاء الملاعين في هذه الأزمان من إقرارهم أن هذا هو الشرك ، ولكن من فعله أو حسنه أو كان مع أهله أو ذم التوحيد أو حارب أهله لأجله أو أبغضهم لأجله أنه لا يكفر لأنه يقول لا إله إلا الله أو لأنه يؤدي أركان الإسلام الخمسة ، ويستدلون بأن النبي -صلى الله عليه وسلم- سماها الإسلام ، هذا لم يسمع قط إلا من هؤلاء الملحدين الجاهلين الظالمين ، فإن ظفروا بحرف واحد عن أهل العلم أو أحد منهم يستدلون به على قولهم الفاحش الأحمق فليذكروه ، ولكن الأمر كما قال اليمني في قصيدته :

    أقاويل لا تعزى إلى عالم فلا تساوي فلساً إن رجعت إلى نقد

    ولنختم الكلام في هذا النوع بمـا ذكره البخاري في صحيحه حيث قال : ( باب يتغير الزمان حتى تعبد الأوثان ) . ثم ذكر بإسناده قوله -صلى الله عليه وسلم- : ( لا تقوم الساعة حتى تضطرب إليات نساء دوس حول ذي الخلصة ) وذو الخلصة صنم لدوس يعبدونه فقال -صلى الله عليه وسلم- لجـرير بن عبد الله : ( ألا تريحني من ذي الخلصة ) فركب إليه بمن معه فأحرقه وهدمه ثم أتى النبي -صلى الله عليه وسلم- فأخبره قال فبرك على خيل أحمس ورجالها خمساً . وعادة البخاري رحمه الله إذا لم يكن الحديث على شرطه ذكره في الترجمة ، ثم أتى بما يدل على معناه مما هو على شرطه ، ولفظ الترجمة وهو قوله : ( يتغير الزمان حتى تعبد الأوثان ) لفظ حديث أخرجه غيره من الأئمة والله سبحانه وتعالى أعلم .
    ولنذكر من كلام الله تعالى ، وكلام رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ، وكلام أئمة العلم جملاً في جهاد القلب واللسان ومعادات أعداء الله وموالات أوليائه ، وأن الدين لا يصح ولا يدخل الإنسان فيه إلا بذلك فنقول :

    باب في وجوب عداوة أعداء الله
    من الكفار والمرتدين والمنافقين

    وقول الله تعالى : ( وقد نزل عليكم في الكتاب أن إذا سمعتم آيات الله يكفر بها ويستهزؤ بها فلا تقعدوا معهم حتى يخوضوا في حديث غيره إنكم إذا مثلهم ) وقوله تعالى : ( ومن يتولهم منكم فإنه منهم ) وقوله تعالى : ( يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا عدوي وعدوكم أولياء ) إلى قوله : ( كفرنا بكم وبدا بيننا وبينكم العداوة والبغضاء أبداً حتى تؤمنوا بالله وحده ) وقوله تعالى : ( لا تجد قوماً يؤمنون بالله واليوم الآخر يوادون من حاد الله ورسوله ولو كانوا آباءهم أو أبناءهم أو إخوانهم أو عشيرتهم ) .
    وقال ( الإمام الحافظ ) محمد بن وضاح : أخبرني غير واحد ، أن أسد بن موسى كتب إلى أسد بن الفرات :
    إعلم يا أخي أن ما حملني على الكتاب إليك ما ذكر أهل بلدك من صالح ما أعطاك الله من إنصافك الناس ، وحسن حالك مما أظهرت من السنة ، وعيبك لأهل البدع وكثرة ذكرك لهم وطعنك عليهم فقمعهم الله بك وشد بك ظهر أهل السنة وقواك عليهم ، بإظهار عيبهم والطعن عليهم فأذلهم الله بيدك وصاروا ببدعتهم مستترين ، فأبشر يا أخي بثواب ذلك واعتد به من أفضل حسناتك من الصلاة والصيام والحج والجهاد ، وأين تقع هذه الأعمال من إقامة كتاب الله تعالى وإحياء سنة رسـول الله -صلى الله عليه وسلم- ، وقد قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم- : ( من أحيا شيئاً من سنتي كنت أنا وهو في الجنة كهاتين ـ وضم بين إصبعيه ـ ) وقال : ( أيما داع دعى إلى هدى فاتُبع عليه كان له مثل أجر من اتبعه إلى يوم القيامة ) فمتى يدرك أجر هذا بشيء من عمله . وذكر أيضاً أن لله عند كل بدعة كيد بها الإسلام ولياً يذب عنها وينطق بعلامتها .
    فاغتنم يا أخي هذا الفضل وكن من أهله فإن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال لمعاذ حين بعثه إلى اليمن وأوصاه : ( لأن يهدي الله بك رجلاً واحداً خيرا لك من كذا وكذا ) وأعظم القول فيه . فاغتنم ذلك وادع إلى السنة حتى يكون لك في ذلك ألفة وجماعة يقومون مقامك إن حدث بك حدث فيكونون أئمة بعدك فيكون لك ثواب ذلك إلى يوم القيامة ، كما جاء في الأثر فاعمل على بصيرة ونية وحسبة ، فيرد الله بك المبتدع المفتون الزائغ الحائر فتكون خلفاً من نبيك -صلى الله عليه وسلم- فإنك لن تلقى الله بعمل يشبهه ، وإياك أن يكون لك من أهل البدع أخ أو جليس أو صاحب فإنه جاء في الأثر : من جالس صاحب بدعة نزعت منه العصمة ووكل إلى نفسه ، ومن مشى إلى صاحب بدعة مشى في هدم الإسلام . وجاء : ما من إله يعبد من دون الله أبغض إلى الله من صاحب هوى .
    وقد وقعت اللعنة من رسول الله -صلى الله عليه وسلم- على أهل البدع وأن الله لا يقبل منهم صرفاً ولا عدلاً ولا فريضة ولا تطوعاً وكلما ازدادوا اجتهادا وصوماً وصلاة ازدادوا من الله بعداً ، فارفض مجالسهم وأذلهم وأبعدهم كما أبعدهم الله وأذلهم رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وأئمة الهدى بعده . انتهى كلام أسد رحمه الله تعالى .
    واعلم رحمك الله أن كلامه وما يأتي من كلام أمثاله من السلف في معادات أهل البدع والضلالة في ضلالة لا تخرج عن الملة ، لكنهم شددوا في ذلك و حذروا منه لأمرين :
    الأول : غلظ البدعة في الدين في نفسها فهي عندهم أجل من الكبائر ، ويعاملون أهلها بأغلظ مما يعاملون به أهل الكبائر كما تجد في قلوب الناس اليوم أن الرافضي عندهم ولو كان عالماً عابداً أبغض وأشد ذنباً من السني المجاهر بالكبائر .
    الأمر الثاني : أن البدع تجر إلى الردة الصريحة كما وجد من كثير من أهل البدع ، فمثال البدعة التي شددوا فيها مثل تشديد النبي -صلى الله عليه وسلم- فيمن عبد الله عند قبر رجل صالح خوفاً مما وقع من الشرك الصريح الذي يصير به المسلم مرتداً ، فمن فهم هذا فهم الفرق بين البدع وبين ما نحن فيه من الكلام في الردة ومجاهدة أهلها ، أو النفاق الأكبر ومجاهدة أهله وهذا هو الذي نزلت فيه الآيات المحكمات ، ومثل قوله تعالى : ( يا أيها الذين آمنوا من يرتد منكم عن دينه فسوف يأت الله بقوم يحبهم ويحبونه ) الآية ، وقوله تعالى : ( يا أيها النبي جاهد الكفار والمنافقين وأغلظ عليهم ومأواهم جهنم وبئس المصير . يحلفون بالله ما قالوا ولقد قالوا كلمة الكفر وكفروا بعد إسلامهم ) الآيـة . وقال ابن وضاح في كتاب ( البدع والحوادث ) بعد حديث ذكره أنه سيقع في هذه الأمة فتنة الكفر وفتنة الضلالة ، قال رحمه الله : إن فتنة الكفر هي الردة يحل فيها السبي والأموال ، وفتنة الضلالة لا يحل فيها السبي والأموال ، وهذا الذي نحن فيه فتنة ضلاله لا يحل فيها السبي ولا الأموال . وقال رحمه الله أيضا : أخبرنا أسد أخبرناً رجل عن ابن المبارك قال : قال ابن مسعود : إن لله عند كل بدعة كيد بها الإسلام ولياً من أوليائه يذب عنه وينطق بعلامتها ، فاغتنموا حضور تلك المواطن وتوكلوا على الله . قال ابن المبارك : وكفى بالله وكيلاً ، ثم ذكر بإسناده عن بعض السلف قال : لإن أرد رجلاً عن رأي سيئ أحب إليَّ من اعتكاف شهر .
    أخبرنا أسد عن أبي إسحاق الحذاء عن الأوزاعي قال : كان بعض أهل العلم يقولون لا يقبل الله من ذي بدعة صلاة ، ولا صدقة ، ولا صياماً ، ولا جهاداً ، ولا حجاً ، ولا صرفاً ، ولا عدلاً ، وكانت أسلافكم تشتد عليهم ألسنتهم وتشمئز منهم قلوبهم ويحـذرون الناس بدعتهم . قال : ولو كانوا مستترين ببدعتهم دون الناس ما كان لأحد أن يهتك عنهم سترا ، ولا يظهر منهم عورة ، الله أولى بالأخذ بها أو بالتوبة عليها ، فإما إذا جاهروا به فنشر العلم حياة ، والبلاغ عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- رحمة يعتصم بها على مصر ملحد . ثم روى بإسناده قال : جاء رجل إلى حذيفة وأبو موسى الأشعري قاعد فقال : أرأيت رجل ضرب بسيفه غضباً لله حتى قتل ، أفي الجنة أم في النار ؟ . فقال أبو موسى في الجنة ! . فقال : حذيفة استفهم الرجل وأفهمه ما تقول حتى فعل ذلك ثلاث مرات ، فلما كان في الثالثة قال : والله لأستفهمه فدعا به حذيفة فقال : رويدك وما يدريك أن صاحبك لو ضرب بسيفه حتى ينقطع فأصاب الحق حتى يقتل عليه فهو في الجنة ، وإن لم يصب الحق ولم يوفقه الله للحق فهو في النار . ثم قال : والذي نفسي بيده ليدخلن النار في مثل الذي سألت عنه أكثر من كذا وكذا . ثم ذكر بإسناده عن الحسن قال : لا تجالس صاحب بدعة فإنه يمرض قلبك . ثم ذكر بإسناده عن سفيان الثوري قال : من جالس صاحب بدعة لم يسلم من إحدى ثلاث : إما أن يكون فتنة لغيره ، وإما أن يقع في قلبه شيء فيزل به فيدخله الله النار ، وإمـا أن يقول والله ما أبالي ما تكلموه ، وإني واثق بنفسي ، فمن أمن الله على دينه طرفة عين سلبه إياه . ثم ذكر بإسناده عن بعض السلف قال : من أتى صاحب بدعة ليوقره فقد أعان على هدم الإسلام .
    أخبرنا أسد قال : حدثنا كثير أبو سعيد قال : من جلس إلى صاحب بدعة نزعت منه العصمة ووكل إلى نفسه . أخبرنا أسد ابن موسى قال : أخبرنا حماد بن زيد عن أيوب قال : قال أبو قلابة لا تجالسوا أهل الأهواء ولا تجادلوهم فإني لا آمن أن يغمسوكم في ضلالتهم أو يلبسوا عليكم ما كنتم تعرفون . قال : أيوب وكان والله من الفقهاء ذوي الألباب .
    أخبرنا أسد بن موسى قال أخبرنا زيد عن محمد بن طلحة قال : قال إبراهيم : لا تجالسوا أصحاب البدع ، ولا تكلموهم فإني أخاف أن ترتد قلوبكم أخبرنا أسد بالإسناد عن أبي هريرة رضي الله عنه قال : قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم- : ( الرجل على دين خليله فلينظر أحدكم من يخالل ) .
    أخبرنا أسد أخبرنا مؤمل بن إسماعيل عن حماد بن زيد عن أيوب قال دخل على محمد بن سيرين يوماً رجل فقال : يا أبا بكر اقرأ عليك آية من كتاب الله لا أزيد على أن اقرأها ثم أخـرج ، فوضع إصبعيه في أذنيه ثم قال : أحرَّج عليك إن كنت مسلماً لما خرجت من بيتي . قال : فقال يا أبا بكر إني لا أزيد على أن أقرا ثم أخرج . قال : فقام بإزاره يشده عليه وتهيأ للقيام ، فأقبلنا على الرجل فقلنا قد حرَّج عليك إلا خرجت ، أفيحل لك أن تخرج رجلا من بيته . قال : فخرج ، فقلنا : يا أبا بكر ما عليك لو قرأ آية ثم خرج . قال : إني والله لو ظننت أن قلبي يثبت على ما هو عليه ما باليت أن يقرأ ولكنني خفت أن يلقي في قلبي شيئاً أجهد أن أخرجه من قلبي فلا أستطيع .
    أخبرنا أسد قال : أخبرنا ضمرة عن سودة قال : سمعت عبد الله بن القاسم وهو يقول : ما كان عبد على هوى فتركه إلا آل إلى ما هو شر منه . قال : فذكرت هذا الحديث لبعض أصحابنا فقال : تصديقه في حديث عن النبي -صلى الله عليه وسلم- : ( يمرقون من الإسلام مروق السهم من الرمية ثم لا يرجعون حتى يرجع السهم إلى فوقه ) .
    أخبرنا أسد قال : أخبرنا موسى بن إسماعيل عن حماد بن زيد عن زيد عن أيوب قال : كان رجل يرى رأياً فرجع عنه ، فأتيت محمداً فرحاً بذلك أخبره ، فقلت أشعرت أن فلاناً ترك رأيه الذي كان يرى . فقال : انظروا إلى ما يتحول ، إن آخر الحديث أشد عليهم من أوله يمرقون من الإسلام لا يعودون إليه .
    ثم روى بإسناده عن حذيفة أنه أخذ حصاة بيضاء فوضعها في كفه ، ثم قال : إن هذا الدين قد استضاء استضاءة هذه الحصاة ثم أخذ كفاً من تراب فجعل يذره على الحصاة حتى واراها ثم قال : والذي نفسي بيده ليجيئن أقوام يدفنون الدين كما دفنت هذه الحصاة .
    أخبرنا محمد بن سعيد بإسناده عن أبي الدرداء قال : لو خرج رسول الله -صلى الله عليه وسلم- اليوم إليكم ما عرف شيئاً مما كان عليه هو وأصحابه إلا الصلاة . قال الأوزاعي : فكيف لو كان اليوم . قال عيسى ( يعني الراوي عن الأوزاعي ) : فكيف لو أدرك الأوزاعي هذا الزمان . أخبرنا سليمان بن محمد بإسناده عن علي أنه قال : تعلموا العلم تعرفون به ، وأعملوا به تكونوا من أهله ، فإنه سيأتي بعدكم زمان ينكر الحق فيه تسعة أعشارهم .
    أخبرنا يحي بن يحي بإسناده عن أبي سهل بن مالك عن أبيه أنه قال : ما أعرف منكم شيئاً مما أدركت عليه الناس إلا النداء بالصلاة . حدثني إبراهيم بن محمد بإسناده عن أنس قال : ما أعرف منكم شيئاً كنت أعهده على عهد رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ليس قولكم لا إله إلا الله .
    أخبرنا محمد بن سعيد قال أخبرنا أسد بإسناده عن الحسن قال : لو أن رجلاً أدرك السلف الأول ، ثم بعث اليوم ما عرف من الإسلام شيئاً ، قال : ووضع يده على خده ثم قال : إلا هذه الصلاة . ثم قال : أما والله لمن عاش في هذه النكرا أو لم يدرك هذا السلف الصالح فرأى مبتدعاً يدعو إلى بدعته ورأى صاحب يدعو إلى دنياه فعصمه الله عن ذلك وجعل قلبه يحن إلى ذكر هذا السلف الصالح يسأل عن سبيلهم ويقتص آثارهم ويتبع سبيلهم ليعوض أجراً عظيماً فكذلك فكونوا إن شاء الله تعالى .
    حدثني عبد الله بن محمد بإسناده عن ميمون بن مهران قال : لو أن رجلاً نشر فيكم من السلف ما عرف فيكم غير هذه القبلة . أخبرنا محمد بن قدامة الهاشمي بإسناده عن أم الدرداء قالت : دخل علي أبو الدرداء مغضباً ، فقلت له : ما أغضبك ؟ فقال : والله ما أعرف فيهم من أمر محمد -صلى الله عليه وسلم- إلا أنهم يصلون جمعياً . وفي لفظ : لو أن الرجل تعلم الإسلام وأهمه ثم تفقده ما عرف منه شيئاً .
    حدثني إبراهيم بإسناده عن عبدالله بن عمرو قال : لو أن رجلين من أوائل هذه الأمة خليا بمصحفيهما في بعض هذه الأودية لأتيا الناس اليوم ولا يعرفان شيئاً مما كانا عليه .
    قال مالك : وبلغني أن أبا هريرة رضي الله عنه تلا : ( إذا جاء نصر الله والفتح . ورأيت الناس يدخلون في دين الله أفواجاً ) فقال : والذي نفسي بيده إن الناس ليخرجون اليوم من دينهم أفواجا كما دخلوا فيه أفواجاً .
    قف تأمل رحمك الله إذا كان هذا في زمن التابعين بحضرة أواخر الصحابة فكيف يغتر المسلم بالكثرة أو تشكل عليه أو يستدل بها على الباطل .
    ثم روى ابن وضاح بإسناده عن أبي أمية قال : أتيت أبا ثعلبة الخشني فقلت : يا أبا ثعلبة كيف تصنع في هذه الآية ؟ قال : أية آية ، قلت : قول الله تعالى : ( لا يضركم من ضل إذا اهتديتم ) قال : أما والله قد سألت عنها خبيراَ ، سألت عنها رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فقال : ( بل ائتمروا بالمعروف وتناهوا عن المنكر حتى إذا رأيت شحاً مطاعاً ، وهوى متبعاً ، ودنيا مؤثرة ، وإعجاب كل ذي رأى برأيه ، فعليك بنفسك ودع عنك أمر العوام ، فإن من ورائكم أياما الصبر فيهن مثل القبض على الجمر للعامل فيهن مثل أجـر خمسين رجلاً يعملون مثل عمله ) قيل يا رسول الله : أجر خمسين منهم ؟ قال : ( أجر خمسين منكم ) .
    ثم روى بإسناده عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال : ( طوبى للغرباء ـ ثلاثاً ـ ) قالوا : يا رسـول الله ومن الغرباء ؟ قال : ( ناس صالحون قليل في أناس سـوء كثير من يبغضهم أكثر ممن يحبهم ) .
    أخبرنا محمد بن سعيد بإسناده عن المعافري قال : قال رسـول الله -صلى الله عليه وسلم- : ( طوبى للغرباء الذين يتمسكون بكتاب الله حين ينكر ويعلمون بالسنة حين تطفى ) . أخبرنا محمد بن يحي أخبرنا أسد بإسناده عن سالم بن عبد الله عن أبيه أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال : ( بدأ الإسلام غريباً ، ولا تقوم الساعة حتى يكون غريباً كما بدأ فطوبى للغرباء حين يفسد الناس , ثم طوبى للغرباء حين يفسد الناس ) . أخبرنا محمد بن يحي أخبرنا أسد بإسناده عن عبدالرحمن أنه سمع رسول الله يقول : ( إن الإسلام بدأ غريباً وسيعود غريباً كما بدأ فطوبى للغرباء ) قيل : ومن الغرباء يا رسـول الله ؟ قال : ( الذين يصلحون إذا فسد الناس ) هذا آخر ما نقلته من كتاب البدع والحوادث للإمام الحافظ محمد بن وضاح رحمه الله .
    فتأمل رحمك الله أحاديث الغربة وبعضها في الصحيح مع كثرتها وشهرتها ، وتأمل إجماع العلماء كلهم أن هذا قد وقع من زمن طويل ، حتى قال ابن القيم رحمه الله : الإسلام في زماننا أغـرب منه في أول ظهوره .
    فتأمل هذا تأملاً جيداً لعلك أن تسلم من هذه الهوة الكبيرة التي هلك فيها أكثر الناس وهي الإقتداء بالكثرة والسواد الأكبر والنفرة من الأقل فما أقل من سلم منها ما أقله ما أقله !! .
    ولنختم ذلك بالحديث الصحيح الذي أخرجه مسلم في صحيحه عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال : ( ما من نبي بعثه الله في أمة قبلي إلا كان له من أمته حواريون وأصحاب يأخذون بسنته ويعتقدون بأمره ) وفي رواية : ( يهتدون بهديه ، ويستنون بسنته ، ثم إنها تخلف من بعدهم خلوف يقولون ما لا يفعلون ، ويفعلون ما لا يؤمـرون ، فمن جاهدهم بيده فهو مؤمن ، ومن جاهدهم بلسانه فهو مؤمن ، ومن جاهدهم بقلبه فهو مؤمن ، وليس وراء ذلك من الإيمان حبة خردل ) انتهى ما نقلته والحمد لله رب العالمين .
    وقد رأيت للشيخ تقي الدين ، رسالة كتبها وهو في السجن إلى بعض إخوانه لما أرسلوا إليه يشيرون عليه بالرفق بخصومه ليتخلص من السجن أحببت أن أنقل أولها لعظم منفعته .
    قال رحمه الله تعالى : الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ونتوب إليه ، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا ، من يهده الله فلا مضل له ، ومن يضلل فلا هادي له ، ونشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ونشهد أن محمداً عبده ورسوله ، أرسله بالهدى ودين الحق ، ليظهره على الدين كله وكفى بالله شهيداً ، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً ، أما بعد :
    فقد وصلت الورقة التي فيها رسالة الشيخين الناسكين القدوتين أيدهما الله وسائر الإخوان بروح منه وكتب في قلوبهم الإيمان , وأدخلهم مدخل صدق , وأخرجهم مخرج صدق , وجعل لهم من لدنه ما ينصر به من السلطان ، سلطان العلم والحجة بالبيان والبرهان وسلطان القدرة والنصرة بالسنان والأعوان , وجعلهم من أوليائه المتقين وحزبه الغالبين , لمن ناوأهم من الأقران , ومن الأئمة المتقين الذين جمعوا بين الصبر والإيقان والله محقق ذلك ومنجز وعده في السر والإعلان ، ومنتقم من حزب الشيطان لعباد الرحمن ، لكن بما اقتضت حكمته ومضت به سنته من الابتلاء والامتحان ، الذي يميز الله به أهل الصدق والإيمان , من أهل النفاق والبهتان , إذ قد دل كتابه على أنه لابد من الفتنة لكل من أدعى الإيمان , والعقوبة لذوي السيئات والطغيان ، فقال تعالى : ( آلم . أحسب الناس أن يتركوا أن يقولوا آمنا وهم لا يفتنون . ولقد فتنا الذين من قبلهم فليعلمن الله الذين صدقوا وليعلمن الكاذبين . أم حسب الذين يعملون السيئات أن يسبقونا ساء ما يحكمون ) فأنكر سبحانه على من ظن أن أهل السيئات يفوتون الطالب الغالب ، وأن مدعي الإيمان يتركون بلا فتنة تميز بين الصادق والكاذب .
    وأخبر في كتابه أن الصدق في الإيمان لا يكون إلا بالجهاد في سبيله فقال تعالى : ( قالت الأعراب آمنا قل لم تؤمنوا ولكن قولوا أسلمنا ولما يدخل الإيمان في قلوبكم وإن تطيعوا الله ورسوله لا يلتكم من أعمالكم شيئاً إن الله غفور رحيم . إنما المؤمنون الذين آمنوا بالله ورسوله ثم لم يرتابوا وجاهدوا بأموالهم وأنفسهم في سبيل الله أولئك هم الصادقون ) وأخبر سبحانه وتعالى بخسران المنقلب على وجهه عند الفتنة , الذي يعبد الله فيها على حرف , وهو الجانب والطرف الذي لا يستقر من هو عليه , بل لا يثبت على الإيمان إلا عند وجود ما يهواه من خير الدنيا ، فقال تعالى : ( ومن الناس من يعبد الله على حرف فإن أصابه خير اطمئن به وإن أصابته فتنة انقلب على وجهه خسر الدنيا والآخرة ذلك هو الخسران المبين ) وقال تعالى : ( أم حسبتم أن تدخلوا الجنة ولما يعلم الله الذين جاهدوا منكم ويعلم الصابرين ) وقال تعالى : ( ولنبلوكم حتى نعلم المجاهدين منكم والصابرين ونبلو أخباركم ) .
    وأخبر سبحانه أنه عند وجـود المرتدين فلا بد مـن وجـود المحبين المحبوبين المجـاهدين فقال تعالى : ( يا أيها الذين آمنوا من يرتد منكم عن دينه فسوف يأت الله بقوم يحبهم ويحبونه ) فهؤلاء هـم الشاكـرون لنعمة الإيمان , والصابرون على الامتحان , كما قال تعالى : ( وما محمد إلا رسول قد خلت من قبله الرسل أفإن مات أو قتل انقلبتم على أعقابكم ) إلى قوله : ( والله يحب المحسنين ) .
    فإذا أنعم الله على إنسان بالصبر والشكر كان جميع ما يقضي له من القضاء خيراً له , كما قال النبي -صلى الله عليه وسلم- : ( لا يقضي الله للمؤمن من قضاء إلا كان خيراً له ، إن أصابته سراء فشكر كان خيراً له ، وإن أصابته ضراء فصبر كان خيراً له ) والصبار الشكور هو المؤمن الذي ذكر الله في غير موضع من كتابه ، ومن لم ينعم الله عليه بالصبر والشكر فهو بشر حال , وكل واحد من السراء والضراء في حقه يفضي به إلى قبيح المال , فكيف إذا كان ذلك في الأمور العظيمة التي هي محن الأنبياء والصديقين , وفيها تثبيت أصول الدين ، وحفظ الإيمان والقرآن من كيد أهل النفاق والإلحاد والبهتان , فالحمدلله حمداً كثيراً طيباً مباركاً كما يحب ربنا ويرضى , وكما ينبغي لكرم وجهه وعز جلاله .
    والله المسؤول أن يثبتكم وسائر المؤمنين بالقول الثابت في الحياة الدنيا وفي الآخرة , ويتم نعمه عليكم الظاهرة والباطنة وينصر دينه وكتابه ورسوله وعباده المؤمنين على الكافرين والمنافقين الذين أمرنا بجهادهم والإغلاظ عليهم في كتابه المبين . انتهى ما نقلته من كلام أبي العباس رحمه الله في الرسالة المذكورة وهي طويلة .
    ومن جواب له رحمه الله لما سئل عن الحشيشة ما يجب على من يدعي أن أكلها جائز ، فقال : أكل هذه الحشيشة حرام وهي من أخبث الخبائث المحرمة سواء أكل منها كثيراً أو قليلاً لكن الكثير المسكر منها حرام بإتفاق المسلمين , ومن استحل ذلك فهو كافر يستتاب فإن تاب وإلا قتل كافراً مرتداً لا يغسل ولا يصلى عليه ولا يدفن بين المسلمين .
    وحكم المرتد أشر من حكم اليهود والنصارى وسواء اعتقد أن ذلك يحل للعامة أو للخاصة الذين يزعمون أنها لقمة الذكر والفكر , وأنها تحرك العزم الساكن وتنفع الطريق .
    وقد كان بعض السلف ظن أن الخمر يباح للخاصة متأولا ًقوله تعالى : ( ليس على الذين آمنوا وعملوا الصالحات جناح ) فاتفق عمر وعلي وغيرهما من علماء الصحابة على أنهم إن أقروا بالتحريم جلدوا ، وإن أصروا على الاستحلال قتلوا . انتهى ما نقلته من كلام الشيخ رحمه الله تعالى .
    فتأمل كلام هذا الذي ينسب إليه عدم تكفير المعين إذا جاهر بسب دين الأنبياء وصار من أهل الشرك , ويزعم أنهم على الحق ويأمر بالمصير معهم وينكر على من لا يسب التوحيد ويدخل مع المشركين لأجل انتسابه إلى الإسلام .
    أنظر كيف كفر المعين ولو كان عابداً بإستحلال الحشيشة ولو زعم حلها للخاصة الذين تعينهم على الفكرة واستدل بإجماع الصحابة على تكفير قدامة وأصحابه إن لم يتوبوا وكلامه في المعين , وكلام الصحابة في المعين فكيف بما نحن فيه مما لا يساوي إستحلال الحشيشة جزء من ألف جزء منه ، والله أعلم .

    والحمد الله رب العالمين .
    وصلى الله على محمد وآله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً .
يعمل...
X