إعـــــــلان

تقليص
لا يوجد إعلان حتى الآن.

لمحة عن الفرق الضالة / محاضرة للشيخ الفوزان حفظه الله

تقليص
X
 
  • تصفية - فلترة
  • الوقت
  • عرض
إلغاء تحديد الكل
مشاركات جديدة

  • لمحة عن الفرق الضالة / محاضرة للشيخ الفوزان حفظه الله

    لمحة عن الفرق الضالة

    [نص محاضرة ألقاها الشيخ: صالح الفوزان بمدينة الطائف، يوم الاثنين، الموافق: 3/3/1415 هـ في مسجد الملك فهد بالطائف.]

    المقدمة

    الحمد لله رب العالمين وصلى الله وسلم على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.
    أما بعد:
    فإن الحديث عن الفرق ليس هو من باب السرد التاريخي، الذي يقصد منه الاطلاع على أصول الفرق لمجرد الاطلاع، كما يطلع على الحوادث التاريخية، والوقائع التاريخية السابقة، وإنما الحديث عن الفرق له شأن أعظم من ذلك؛ ألا وهو الحذر من شر هذه الفرق ومن محدثاتها، والحث على لزوم فرقة أهل السنة والجماعة.
    بعد ذلك الشر من خير ؟. قال " نعم، وفيه دخن ". قلت: وما دخنه ؟. قال: " قوم يستنون بغير سنتي، ويهدون بغير هديي، تعرف منهم وتنكر ". فقلت: هل بعد ذلك الخير من شر ؟. قال: " نعم، دعاة على أبواب جهنم، من أجابهم إليها قذفوه فيها ". فقلت: يا رسول الله، صفهم لنا. قال: " نعم، قوم من جلدتنا ويتكلمون بألسنتنا ". قلت: يا رسول الله، فما ترى إن أدركني ذلك ؟. قال: " تلزم جماعة المسلمين وإمامهم " فقلت: فإن لم تكن لهم جماعة ولا إمام ؟. قال: " فاعتزل تلك الفرق، ولو أن تعض على أصل شجرة حتى يدركك الموت، وأنت على ذلك ") [رواه البخاري في صحيحه : (3606) و(7084)، ومسلم في صحيحه - أيضا -: (1847)، وأحمد مطولا: (5/386، 403) ومختصرا: (5/391، 399) ومختصرا بلفظ مختلف: (5/404)، وأبو داود السجستاني: (4244)، وبلفظ مختلف: (4246)، والنسائي في الكبرى: (5/17، 18)، وابن ماجه: (4027) و(4029)، وأبو داود الطيالسي في مسنده : (442)، وبلفظ مختلف: (443) ص 59، وأبو عوانة في الصحيح المسند: (4/474 و 475)، وعبد الرازق في مصنفه: (20711) (11/341)، وابن أبي شيبة في كتاب الفتن: (2449) و(8960) (18961) و(18980)، والحاكم في مستدركه ؟!!: (4/432) وصحح إسناده، ووافقه الذهبي ؟!.]
    فمعرفة الفرق ومذاهبها وشبهاتها، ومعرفة الفرقة الناجية، أهل السنة والجماعة، وما هي عليه؛ فيه خير كثير للمسلم، لأن هذه الفرق الضالة عندها شبهات، وعندها مغريات تضليل، فقد يغتر الجاهل بهذه الدعايات وينخدع بها؛ فينتمي إليها، كما قال صلى الله عليه وسلم لما ذكر في حديث حذيفة : (هل بعد ذلك الخير من شر؟. قال: " نعم، دعاة على أبواب جهنم، من أجابهم إليها قذفوه فيها ". فقلت: يا رسول الله، صفهم لنا. قال: " نعم، قوم من جلدتنا ويتكلمون بألسنتنا ").
    فالخطر شديد، وقد وعظ النبي صلى الله عليه وسلم أصحابه ذات يوم - كما في حديث العرباض بن سارية - :
    أنه وعظهم موعظة بليغة، وجلت منها القلوب، وذرفت منها العيون. قلنا: يا رسول الله كأنها موعظة مودع فأوصنا. قال: (أوصيكم بتقوى الله، والسمع والطاعة، وإن تأمر عليكم عبد؛ فإنه من يعش منكم فسيرى اختلافا كثيرا، فعليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين من بعدي، تمسكوا بها، وعضوا عليها بالنواجذ، وإياكم ومحدثات الأمور؛ فإن كل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة). [رواه أحمد في مسنده : (4/126)، (4/127)، والترمذي: (2676)، وأبو داود: (4607)، وابن ماجه: (34) في المقدمة، والدارمي في سننه : (95)، وابن حبان في صحيحه : (5)، والطبراني في الكبير: (18/617، 618، 619، 622، 623، 624، 642)، والآجري في الشريعة ص: (46 - 47)، وابن أبي عاصم في السنة: (27، 32، 57، 54)، وابن بطة العكبري في الإبانة الكبرى: (142) (1/305)، واللالكائي في شرح أصول اعتقاد أهل السنة والجماعة: (81)، ومحمد بن نصر المروزي في السنة ص: 21، والبغوي في شرح السنة : (205) وفي تفسيره : (3/209)، والطحاوي في مشكل الآثار : (2/69)، والبيهقي: (6/541)، والحاكم في المستدرك : (1/96 - 97).]
    فأخبر صلى الله عليه وسلم أنه سيكون هناك اختلاف وتفرق وأوصى عند ذلك بلزوم جماعة المسلمين وإمامهم، والتمسك بسنة الرسول صلى الله عليه وسلم، وترك ما خالفها من الأقوال، والأفكار، والمذاهب المضلة، فإن هذا طريق النجاة، وقد أمر الله - سبحانه وتعالى - بالاجتماع والاعتصام بكتابه، ونهى عن التفرق، قال - سبحانه - :
    {وَاعْتَصِمُواْ بِحَبْلِ اللّهِ جَمِيعاً وَلاَ تَفَرَّقُواْ وَاذْكُرُواْ نِعْمَتَ اللّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنتُمْ أَعْدَاء فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُم بِنِعْمَتِهِ إِخْوَاناً وَكُنتُمْ عَلَىَ شَفَا حُفْرَةٍ مِّنَ النَّارِ فَأَنقَذَكُم مِّنْهَا كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ} [ سورة آل عمران ].
    إلى أن قال - سبحانه وتعالى - :
    {وَلاَ تَكُونُواْ كَالَّذِينَ تَفَرَّقُواْ وَاخْتَلَفُواْ مِن بَعْدِ مَا جَاءهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَأُوْلَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ [قال البغوي - رحمه الله - في تفسير هذه الآية (2/86): (قال أكثر المفسرين: هم اليهود والنصارى. وقال بعضهم: المبتدعة من هذه الأمة. وقال أبو أمامة - رضي الله عنه -: هم الحرورية بالشام - أي: الخوارج -. قال عبد الله بن شداد: وقف أبو أمامة وأنا معه على رأس الحرورية بالشام فقال: " هم كلاب النار، كانوا مؤمنين فكفروا بعد إيمانهم "، ثم قرأ: {وَلاَ تَكُونُواْ كَالَّذِينَ تَفَرَّقُواْ وَاخْتَلَفُواْ مِن بَعْدِ مَا جَاءهُمُ الْبَيِّنَاتُ} إلى قوله - تعالى -: {أَكْفَرْتُم بَعْدَ إِيمَانِكُمْ}) اهـ.] * يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ}. [ سورة آل عمران ].
    قال ابن عباس - رضي الله عنهما -: (تبيض وجوه أهل السنة والجماعة، وتسود وجوه أهل البدعة والفرقة) [ذكره البغوي في تفسيره : (2/87)، وابن كثير: (2/87) طبعة الأندلس].
    وقال - سبحانه وتعالى - :
    {إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُواْ دِينَهُمْ وَكَانُواْ شِيَعاً لَّسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ إِنَّمَا أَمْرُهُمْ إِلَى اللّهِ ثُمَّ يُنَبِّئُهُم بِمَا كَانُواْ يَفْعَلُونَ} [ سورة الأنعام ].
    فالدين واحد، وهو ما جاء به رسول الله صلى الله عليه وسلم، لا يقبل الانقسام إلى ديانات وإلى مذاهب مختلفة، بل دين واحد هو دين الله - سبحانه وتعالى -، وهو ما جاء به رسوله صلى الله عليه وسلم، وترك أمته عليه، حيث ترك صلى الله عليه وسلم أمته على البيضاء، ليلها كنهارها، لا يزيغ عنها إلا هالك.
    وقال صلى الله عليه وسلم: (تركت فيكم ما إن تمسكتم به لن تضلوا بعدي أبدا: كتاب الله، وسنتي) [رواه مالك في الموطأ: (2/1899)، والحاكم في المستدرك : (1/93) موصولا عن أبي هريرة - رضي الله عنه -.
    ورواه مطولا دون لفظة وسنتي مسلم: (1218)، وابن ماجه: (3110)، وأبو داود: (1909) من حديث جابر بن عبد الله - رضي الله عنه -، وفيه صفة حجة النبي صلى الله عليه وسلم وخطبته بهم].
    وما جاء التفرق في الكتاب العزيز إلا مذموما ومتوعدا عليه، وما جاء الاجتماع على الحق والهدى إلا محمودا وموعودا عليه بالأجر العظيم، لما فيه من المصالح العاجلة والآجلة.
    وجاء عن النبي صلى الله عليه وسلم في السنة أحاديث كثيرة تأمر بلزوم الجماعة [قال ابن حجر في " الفتح ": (13/391): (... وورد بلزوم الجماعة في عدة أحاديث، منها: ما أخرجه الترمذي مصححا من حديث الحارث بن الحارث الأشعري - رضي الله عنه -، فذكر حديثا طويلا وفيه: (وأنا آمركم بخمس أمرني الله بهن: السمع، والطاعة، والجهاد، والهجرة، والجماعة، فإن من فارق الجماعة قيد شبر فقد خلع ربقة الإسلام من عنقه). (رواه مرفوعا الإمام أحمد في مسنده : (4/130، 4/202، 5/344)، والترمذي (2863 - 2864) وقال: حديث حسن صحيح غريب). وفي خطبة عمر المشهورة، التي خطبها بالجابية: " عليكم بالجماعة، وإياكم والفرقة، فإن الشيطان مع الواحد، وهو من الاثنين أبعد " (رواه مرفوعا الإمام أحمد في مسنده : (1/18)، والترمذي في سننه : (2165)، والنسائي في " الكبرى ": (9219) (9226)، والبغوي في تفسيره : (2/86)، وابن أبي عاصم في " السنة ": (86 _ 88)، واللالكائي في " شرح أصول اعتقاد أهل السنة ": (1/106 - 107)، والحاكم في " مستدركه ": (1/114) وصححه، ووافقه الذهبي). وفيه: " ومن أراد بحبوحة الجنة فليلزم الجماعة ". قال ابن بطال: " مراد الباب الحض على الاعتصام بالجماعة... والمراد بالجماعة أهل الحل والعقد من كل عصر " وقال الكرماني: " مقتضى الأمر بلزوم الجماعة أنه يلزم المكلف المتابعة لما أجمع عليه المجتهدون "...) انتهى من فتح الباري. وقال الترمذي في سننه بعد الحديث رقم (2167): (وتفسير الجماعة عند أهل العلم هم: أهل الفقه، والعلم، والحديث) انتهى. ولأهمية هذا الأمر بوب البخاري - رحمه الله - في صحيحه: (باب.. وكذلك جعلناكم أمة وسطا.. وما أمر النبي صلى الله عليه وسلم بلزوم الجماعة، وهم أهل العلم). وبوب النووي في صحيح مسلم: (باب وجوب ملازمة جماعة المسلمين عند ظهور الفتن، وفي كل حال، وتحريم الخروج على الطاعة، ومفارقة الجماعة). وبوب الترمذي في سننه باب ما جاء في لزوم الجماعة. وكذلك بوب الدرامي في سننه بابين فيه، أولهما في " كتاب السير ": (باب في لزوم الطاعة والجماعة)، والآخر في " كتاب الرقاق ": (باب في الطاعة ولزوم الجماعة). وبوب الآجري في " الشريعة " بابين - كذلك -، الأول: (باب ذكر الأمر بلزوم الجماعة)، والثاني: (باب ذكر أمر النبي صلى الله عليه وسلم أمته بلزوم الجماعة، وتحذيره إياهم الفرقة) وغيرهم من أئمة الحديث ثم ساقوا - رحمهم الله - بعد ذلك الأحاديث التي جاءت في ذلك، ومنها: حديث ابن عباس - رضي الله عنهما - عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (من رأي من أميره شيئا يكرهه فليصبر، فإنه ليس من أحد يفارق الجماعة شبرا فيموت إلا مات ميتة جاهلية). (رواه أحمد في مسنده : (1/275، 297، 310)، والبخاري: (7053) (7054) (7143)، ومسلم: (1849)، والدرامي: (2519)، والبغوي: (2458)، وابن أبي عاصم في " السنة ": (1101)، والطبراني في " المعجم الكبير ": (12759)، والبيهقي: (8/157)). وعن عوف بن مالك الأشجعي يقول: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ("خيار أئمتكم الذين تحبونهم ويحبونكم، وتصلون عليهم ويصلون عليكم، وشرار أئمتكم الذين تبغضونهم ويبغضونكم، وتلعنونهم ويلعنونكم " قلنا: أفلا ننابذهم يا رسول الله عند ذلك ؟. قال: " لا. ما أقاموا فيكم الصلاة، ألا من ولي عليه وال فرآه يأتي شيئا من معصية الله فليكره ما يأتي من معصية الله، ولا ينزعن يدا من طاعة). (رواه أحمد في مسنده : (6/24)، ومسلم: (1855)، والدرامي: (2797)، وابن أبي عاصم في " السنة ": (1017)، والبيهقي: (8/158)). وعن ابن عباس - رضي الله عنهما - قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (يد الله مع الجماعة). (رواه الترمذي: (2166)). وعن ابن عمر - رضي الله عنهما - أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (إن الله لا يجمع أمتي على ضلالة، ويد الله مع الجماعة، ومن شذ شذ إلى النار). (رواه الترمذي: (2167))

    ما جاء في لزوم الجماعة. وكذلك بوب الدرامي في سننه بابين فيه، أولهما في " كتاب السير ": (باب في لزوم الطاعة والجماعة)، والآخر في " كتاب الرقاق ": (باب في الطاعة ولزوم الجماعة). وبوب الآجري في " الشريعة " بابين - كذلك -، الأول: (باب ذكر الأمر بلزوم الجماعة)، والثاني: (باب ذكر أمر النبي صلى الله عليه وسلم أمته بلزوم الجماعة، وتحذيره إياهم الفرقة) وغيرهم من أئمة الحديث ثم ساقوا - رحمهم الله - بعد ذلك الأحاديث التي جاءت في ذلك، ومنها: حديث ابن عباس - رضي الله عنهما - عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (من رأي من أميره شيئا يكرهه فليصبر، فإنه ليس من أحد يفارق الجماعة شبرا فيموت إلا مات ميتة جاهلية). (رواه أحمد في مسنده : (1/275، 297، 310)، والبخاري: (7053) (7054) (7143)، ومسلم: (1849)، والدرامي: (2519)، والبغوي: (2458)، وابن أبي عاصم في " السنة ": (1101)، والطبراني في " المعجم الكبير ": (12759)، والبيهقي: (8/157)). وعن عوف بن مالك الأشجعي يقول: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ("خيار أئمتكم الذين تحبونهم ويحبونكم، وتصلون عليهم ويصلون عليكم، وشرار أئمتكم الذين تبغضونهم ويبغضونكم، وتلعنونهم ويلعنونكم " قلنا: أفلا ننابذهم يا رسول الله عند ذلك ؟. قال: " لا. ما أقاموا فيكم الصلاة، ألا من ولي عليه وال فرآه يأتي شيئا من معصية الله فليكره ما يأتي من معصية الله، ولا ينزعن يدا من طاعة). (رواه أحمد في مسنده : (6/24)، ومسلم: (1855)، والدرامي: (2797)، وابن أبي عاصم في " السنة ": (1017)، والبيهقي: (8/158)). وعن ابن عباس - رضي الله عنهما - قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (يد الله مع الجماعة). (رواه الترمذي: (2166)). وعن ابن عمر - رضي الله عنهما - أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (إن الله لا يجمع أمتي على ضلالة، ويد الله مع الجماعة، ومن شذ شذ إلى النار). (رواه الترمذي: (2167))
    ويؤخذ من تبويب أبي دواد على هذا الحديث: أن من فارق الجماعة فإنه خارجي. ورواه النسائي: (4032) واللفظ له).
    وبوب النسائي عليه في كتاب " تحريم دم المسلم " من " سننه ": (باب قتل من فارق الجماعة).
    فما بالك بمن فارق الجماعة، ولحق بأعداء الله المشركين في بلادهم، يدعي أنه ينصر دين الله بذلك وبما يبثه من منشورات، ينتقص فيها العلماء، ويهون فيها من قدر الولاة والأمراء، ورسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (من جامع المشرك وسكن مع فإنه مثله).
    (رواه أبو داود في سننه من حديث سمرة بن جندب - رضي الله عنه -: (2787)).
    وقال صلى الله عليه وسلم: ("أنا بريء من كل مسلم يقيم بين أظهر المشركين" قالوا: يا رسول الله، لم ؟. قال: "لا تراءى ناراهما").
    (رواه أبو داود: (2645)، والترمذي: (1604)).
    قال الفضل بن زياد: سمعت أحمد - رحمه الله تعالى - يسئل عن معنى: " لا تراءى نارهما " فقال: (لا تنزل من المشركين في موضع إذا أوقدت رأوا فيه نارك، وإذا أوقدوا رأيت فيه نارهم، ولكن تباعد عنهم).
    وقال جرير بن عبد الله البجلي - رضي الله عنه -: (بايعت رسول الله صلى الله عليه وسلم على إقام الصلاة، وإيتاء الزكاة، والنصح لكل مسلم، وعلى فراق المشركين).
    (رواه الإمام أحمد في مسنده : (4/365)، والنسائي: (7/148)، والبيهقي: (9/13)).
    قال الشيخ العلامة: حمود بن عبد الله التويجري - رحمه الله - في كتابه " تحفة الإخوان " ص 27: (وقد ورد النهي عن مجامعة المشركين، ومساكنتهم في ديارهم، والتغليظ في ذلك، لأن مجامعتهم ومساكنتهم من أعظم الأسباب الجالبة لموالاتهم وموادتهم. والأحاديث في ذلك كثيرة).
    ثم ساق الشيخ عدة أحاديث، ثم قال :
    (فليتأمل المسلمون الساكنون مع أعداء الله - تعالى - هذه الأحاديث، وليعطوها حقها من العمل، فقد قال - تعالى -: {فَبَشِّرْ عِبَادِ {17} الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ أُوْلَئِكَ الَّذِينَ هَدَاهُمُ اللَّهُ وَأُوْلَئِكَ هُمْ أُوْلُوا الْأَلْبَابِ}) اهـ. (سورة الزمر) ].
    قال صلى الله عليه وسلم: ("إن بني إسرائيل تفرقت على ثنتين وسبعين ملة، وتفترق أمتي على ثلاث وسبعين ملة، كلهم في النار إلا ملة واحدة". قالوا ومن هي يا رسول الله ؟. قال: " ما أنا عليه اليوم وأصحابي ") [أخرجه الترمذي: (2641)، واللالكائي في " شرح اعتقاد أهل السنة ": (147)، والآجري في " الشريعة " ص 15، والمروزي في السنة ص 18، وابن بطة في " الإبانة الكبرى ": (264، 165) من حديث عبد الله بن عمرو بن العاص - رضي الله عنهما -.
    وفيه عبد الرحمن بن زياد الأفريقي: ضعيف. لكن الحديث يصح بشواهده، ومنها :

    1 - حديث أبي هريرة - رضي الله عنه - :

    رواه الإمام أحمد في مسنده : (2/332)، وأبو داود: (4596)، والترمذي: (2640)، وابن ماجه: (3991)، والآجري في " الشريعة " ص 25، وابن بطة في " الإبانة الكبرى ": (252)، وابن أبي عاصم في " السنة ": (66)، والحاكم في " مستدركه ": (1/128) وقال: " هذا حديث صحيح على شرط مسلم، ولم يخرجاه " ووافقه الذهبي. وصححه ابن حبان: (2614)، ورواه - أيضا - أبو يعلى الموصلي في مسنده : (541 - 542)، والمروزي في السنة ص 17.

    2 - حديث معاوية بن أبي سفيان - رضي الله عنهما - :
    رواه أحمد: (4/201)، وأبو داود: (4597)، وأبو داود الطيالسي: (2754)، والدرامي: (2521)، واللالكائي في " شرح أصول اعتقاد أهل السنة ": (150)، وابن أبي عاصم: (1) (65)، والآجري في " الشريعة " ص 18، والمروزي في السنة ص 14 - 15، وابن بطة في " الإبانة الكبرى ": (266)، والطبراني في " الكبير ": (19/884 - 885).
    3 - حديث أنس بن مالك - رضي الله عنه - :

    أخرجه أحمد: (3/120، 145)، والآجري في " الشريعة " ص 16، واللالكائي في " شرح أصول اعتقاد أهل السنة ": (148)، وابن بطة في " الإبانة الكبرى ": (269 - 270 - 271)، وابن أبي عاصم في " السنة ": (74).

    4 - حديث عوف بن مالك - رضي الله عنه - :

    رواه ابن ماجه: (3992)، والبزار: (172)، واللالكائي: (149)، وابن أبي عاصم في " السنة ": (63)، وابن بطة في " الإبانة الكبرى ": (272) " , والحاكم في " مستدركه ": (4/430).

    5 - حديث ابن مسعود - رضي الله عنه - :

    أخرجه ابن جرير في تفسيره : (27/239)، والطبراني في " الكبير ": (10375) (10531)، وابن أبي عاصم: (70 - 71)، والمروزي في السنة ص 16.

    6 - حديث أبي أمامة - رضي الله عنه - :

    أخرجه اللالكائي في " شرح اعتقاد أهل السنة ": (151 - 152)، والمروزي في السنة ص 16 وص 17، وابن أبي عاصم: (86)، والطبراني في " الكبير ": (8035 - 8051)، والبيهقي: (8/88).

    7 - حديث علي بن أبي طالب - رضي الله عنه - :

    رواه المروزي في السنة ص 19، وابن وضاح ص 85، وابن بطة في " الإبانة الكبرى ": (274 - 275).

    8 - حديث سعد بن أبي وقاص - رضي الله عنه - :
    رواه ابن بطة في " الإبانة الكبرى ": (263) (266) (267)، والمروزي في السنة ص 17، والآجري في " الشريعة " ص 17.
    وفيه: موسى بن عبيدة الربذي: ضعيف.]
    فأخبر صلى الله عليه وسلم في هذا الحديث أنه لا بد أن يحصل تفرق في هذه الأمة، وهو لا ينطق عن الهوى، لا بد أن يحصل ما أخبر به صلى الله عليه وسلم.
    وهذا الإخبار منه صلى الله عليه وسلم معناه النهي عن التفرق، والتحذير من التفرق، ولهذا قال: (كلها في النار إلا واحدة).
    ولما سئل عنها صلى الله عليه وسلم: ما هذه الواحدة الناجية ؟. قال: (من كان على مثل ما أنا عليه اليوم وأصحابي).
    فمن بقي على ما كان عليه الرسول صلى الله عليه وسلم وأصحابه، فهو من الناجين من النار، ومن اختلف عن ذلك فإنه متوعد بالنار، على حسب بعده عن الحق، إن كانت فرقته فرقة كفر وردة فإنه يكون من أهل النار الخالدين فيها، وإن كانت فرقته لم تخرجه عن الإيمان. لكن عليه وعيد شديد، ولا ينجو من هذا الوعيد إلا طائفة واحدة من ثلاث وسبعين، وهي " الفرقة الناجية " " من كان على مثل ما عليه الرسول صلى الله عليه وسلم وأصحابه "، هو: كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، والمنهج السليم والمحجة البيضاء.
    هذا هو ما كان عليه الرسول صلى الله عليه وسلم، ولهذا قال - تعالى - :
    {وَالسَّابِقُونَ الأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالأَنصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُم بِإِحْسَانٍ رَّضِيَ اللّهُ عَنْهُمْ وَرَضُواْ عَنْهُ} [ سورة التوبة، الآية: 100 ].
    قال: {وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُم بِإِحْسَانٍ}.
    فدل هذا على أنه مطلوب من آخر هذه الأمة أن يتبعوا منهج السابقين الأولين، من المهاجرين والأنصار، الذي هو منهج الرسول صلى الله عليه وسلم، وما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم.
    أما من خالف منهج السابقين الأولين، من المهاجرين والأنصار، فإنه يكون من الضالين، قال - سبحانه - :
    {وَمَن يُطِعِ اللّهَ وَالرَّسُولَ فَأُوْلَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللّهُ عَلَيْهِم مِّنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاء وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولَئِكَ رَفِيقاً. ذَلِكَ الْفَضْلُ مِنَ اللّهِ وَكَفَى بِاللّهِ عَلِيماً}.
    فمن أطاع الله وأطاع الرسول في أي زمان ومكان، سواء كان في وقت الرسول صلى الله عليه وسلم، أو آخر مسلم في الدنيا، إذا كان على طاعة الله ورسوله، فإنه يكون مع الفرقة الناجية..
    {فَأُوْلَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللّهُ عَلَيْهِم مِّنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاء وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولَئِكَ رَفِيقاً}.
    أما من تخلف عن هذا المنهج فإنه لن يحصل على هذا الوعد، ولن يكون مع هؤلاء الرفقة الطيبين، وإنما يكون مع الذين انحاز إليهم من المخالفين.
    ولهذا، هذا الدعاء العظيم، الذي نكرره في صلاتنا، في كل ركعة في آخر الفاتحة:
    {اهدِنَا الصِّرَاطَ المُستَقِيمَ. صِرَاطَ الَّذِينَ أَنعَمتَ عَلَيهِمْ غَيرِ المَغضُوبِ عَلَيهِمْ وَلاَ الضَّالِّينَ} [ الفاتحة ].
    هذا دعاء عظيم، نسأل الله في كل ركعة من صلاتنا، أن يهدينا لصراط الذين أنعم الله عليهم، وهو الذي جاءت به الرسل - عليهم الصلاة والسلام -، وكان عليه أتباعهم إلى يوم القيامة، وآخرهم محمد صلى الله عليه وسلم هو المتبع، والمطاع، والمقتدى به صلى الله عليه وسلم؛ لأنه نبي آخر الزمان، ومنذ بعثه الله إلى أن تقوم الساعة والناس كلهم مأمورون باتباعه صلى الله عليه وسلم، حتى لو قدر أنه جاء نبي من السابقين فإنه يجب أن يكون متبعا لهذا الرسول صلى الله عليه وسلم، قال صلى الله عليه وسلم: (لو كان موسى حيا بين أظهركم، ما حل له إلا أن يتبعني). [رواه أحمد: (3/338 و 387)، والدارمي: (1/115)، والبزار: (124) من حديث جابر بن عبد الله.
    ومدار إسناده على مجالد بن سعيد، وهو ضعيف.
    قال شعيب في " السير ": (13/324): (لكن الحديث يتقوى بشواهده، منها: حديث عبد الله بن ثابت: عند أحمد: (3/470 - 471). وفي سنده جابر الجعفي، وهو ضعيف.
    وحديث عمر: عند أبي يعلى. وفيه: عبد الرحمن بن إسحاق الواسطي.
    وحديث عقبة بن عامر: عند الروياني في مسنده : (9، 50، 2). وفيه: ابن لهيعة.
    وحديث أبي الدرداء: عند الطبراني في " الكبير ") اهـ.
    انظر: " مجمع الزوائد ": (1/173 - 174).
    قال الشيخ حافظ الحكمي في " الجوهرة الفريدة " :
    وكان بعثته للخلق قاطبة ** وشرعه شامل لم يعده أحد
    ولم يسع أحدا عنها الخروج ولو ** كان النبيون أحياء لها قصدوا ]
    وذلك في قوله - تعالى - : {وَإِذْ أَخَذَ اللّهُ مِيثَاقَ النَّبِيِّيْنَ لَمَا آتَيْتُكُم مِّن كِتَابٍ وَحِكْمَةٍ ثُمَّ جَاءكُمْ رَسُولٌ} يعني: محمدًا صلى الله عليه وسلم {مُّصَدِّقٌ لِّمَا مَعَكُمْ لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنصُرُنَّهُ قَالَ أَأَقْرَرْتُمْ وَأَخَذْتُمْ عَلَى ذَلِكُمْ إِصْرِي قَالُواْ أَقْرَرْنَا قَالَ فَاشْهَدُواْ وَأَنَاْ مَعَكُم مِّنَ الشَّاهِدِينَ {81} فَمَن تَوَلَّى بَعْدَ ذَلِكَ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ {82} أَفَغَيْرَ دِينِ اللّهِ يَبْغُونَ} [ سورة آل عمران ].
    فلا دين بعد بعثة محمد صلى الله عليه وسلم إلا دين محمد صلى الله عليه وسلم، ومن ابتغى غيره من الأديان فإنه لن يقبل منه، ويكون يوم القيامة من الخاسرين :
    {وَمَن يَبْتَغِ غَيْرَ الإِسْلاَمِ دِيناً فَلَن يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ} [ سورة آل عمران ]
    {غَيرِ المَغضُوبِ عَلَيهِمْ}: وهم كل من عنده علم ولم يعمل به، من اليهود وغيرهم من ضلال العلماء، الذين عرفوا الحق وتركوه؛ تبعًا لأهوائهم، وأغراضهم، ومنافعهم الشخصية، يعرفون الحق الذي جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم ولكنهم لا يتبعونه، بل يتبعون أهواءهم، ورغباتهم، وما تمليه عليهم عواطفهم، أو انتماءاتهم المذهبية أو غير ذلك، هؤلاء يُعتبرون من {المَغضُوبِ عَلَيهِمْ}، لأنهم عصوا الله على بصيرة، فغَضب الله عليهم.
    {وَلاَ الضَّالِّينَ}: وهم الذين يعملون بغير علم، ويجتهدون في العبادة، لكنهم على غير طريق الرسول صلى الله عليه وسلم، كالمبتدعة والمخرّفين، الذين يجتهدون في العبادة، والزهد، والصلاة، والصيام، وإحداث عبادات ما أنزل الله بها من سلطان، ويتبعون أنفسَهم بأشياء لم يأتِ بها الرسولُ صلى الله عليه وسلم. هؤلاء ضالون، عملُهم مرود عليهم، كما قال الرسول صلى الله عليه وسلم: (من عمل عملاً ليسَ عليه أمرنا فهو رَدٌّ) [رواه الإمام أحمد في مسنده : (6/180 و 146 و 256)، ورواه البخاري بهذا اللفظ معلقًا: (13/391) في كتاب " الاعتصام ".
    ومسلم في صحيحه : (1718)، (18)، والبخاري موصولاً في " خلق أفعال العباد " ص 43، وأبو عوانة: (4/18 - 19)، وأبو داود الطيالسي في مسنده : (1422) من حديث عائشة - رضي الله عنها -.
    ورواه بلفظ: (من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فو رَدٌّ) :
    الإمام أحمد: (6/240 و 270)، والبخاري في صحيحه موصولاً: (2697)، ومسلم: (1718) (17)، وأبو داود: (4606)، وابن ماجه: (12)، وأبو عوانة: (4/18)، والبغوي في شرح السنة : (103)، وابن أبي عاصم في " السنة ": (52 - 53)، والبيهقي: (10/119)، والدارقطني: (4/224، 225، 227)، وابن بطة في " الإبانة الكبرى ": (148) بلفظ: (من فعل في أمرنا ما لا يجوز فهو مردود)، وأحمد في مسنده : (6/173) بلفظ: (من صنع أمرًا من غير أمرنا فهو مردود).]
    هؤلاء هم (الضالون) ومنهم النصارى، وكل من عبد الله على جهل وضلال، وإن كانت نيته حسنة ومقصده طيبًا، لأنَّ العبرةَ ليستْ بالمقاصد فقط، بل العبرةُ بالاتباع.
    ولهذا يُشْتَرَطٌ في كلِّ عملٍ، أن يتوفَّرَ فيه شرطان، ليكونَ مقبولاً عند الله، ومثابًا عليه صاحبُه :

    الشرط الأول: الإخلاص لله - عز وجل –

    الشرط الثاني: المتابعةُ للرسول صلى الله عليه وسلم قال - تعالى - :

    {بَلَى مَنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ فَلَهُ أَجْرُهُ عِندَ رَبِّهِ وَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ}. [ سورة البقرة ]
    وإسلام الوجهِ يعني: الإخلاصَ للهِ.
    والإحسانُ هو المتابعةُ للرسولِ صلى الله عليه وسلم.
    فالله - جل وعلا - أمرَ بالاجتماعِ على الكتابِ والسنّةِ، ونهانا عن التفرقِ والاختلاف.
    والنبيُّ صلى الله عليه وسلم كذلك أمرنا بالاجتماع على الكتاب والسنّةِ، ونهانا عن التفرق والاختلاف. لما في الاجتماع على الكتاب والسّنة من الخير العاجل والآجل، ولما في التفرقِ من المضارِ العاجلةِ والآجلة في الدنيا والآخرة.
    فالأمرُ يحتاجُ إلى اهتمامٍ شديدٍ، لأنه كلما تأخّر الزمانُ كَثُرتِ الفِرَقُ، وكثرتِ الدعايات، كثرتِ النِّحَلُ والمذاهبُ الباطلةُ، كثرتِ الجماعاتُ المتفرقةُ. لكن الواجب على المسلم أن يَنْظُرَ، فما وافق كتابَ الله وسنّةَ رسولهِ صلى الله عليه وسلم أخذَ به، ممن جاءَ به، كائنًا من كان؛ لأن الحقَّ ضالةُ المؤمن.
    أما ما خالف ما كان عليه الرسولُ صلى الله عليه وسلم تركَه، ولو كان مع جماعتِهِ، أو مع من ينتمي إليهم، مادام أنهُ مخالفُ للكتاب والسنّة؛ لأن الإنسان يريدُ النجاةَ لا يريدُ الهلاكَ لنفسه.
    والمجاملةُ لا تنفعُ في هذا، المسألةُ مسألةُ جنّةٍ أو نار، والإنسانُ لا تأخذُه المجاملةُ، أو يأخذه التعصبُ، أو يأخذُه الهوى في أن ينحازَ مع غير أهل السنّةِ والجماعةِ، لأنه بذلك يضرٌّ نفسّهُ، ويُخرِجُ نفسَه من طريق النجاةِ إلى طريقِ الهلاكِ.
    وأهلُ السنّةِ والجماعةِ، لا يضُّرهم من خالفهم سواءً كنتَ معهم، أو خالفتَهم. إن كنتَ معهم، أو خالفتهم. إن كنتَ معهم فالحمدُ لله، وهم يفرحون بهذا، لأَّنهم يريدون الخيرَ للناس، وإن خالفتَهم فأنتَ لا تضرُّهم، ولهذا قال صلى الله عليه وسلم: (لا تزالُ طائفةٌ من أمتي ظاهرين على الحق، لا يضرهم من خذلهم، حتى يأتيَ أمرُ الله وهم كذلك).
    أخرجه بهذا اللفظ: مسلم: (1920)، وأبو داود: (4252)، وفيه: " لا يضرهم من خالفهم "، وزيادةٌ طويلةٌ في أوَّلِه. وأخرجه - أيضًا - الترمذي: (2229) مختصرًا وصحَّحه، وأخرجه ابن ماجة في " المقدمة ": (10) وفي: (3952) مطوَّلاً، وأخرجه أحمد: (5/278) مطولاً، وفي: (5/279) مختصرًا.
    وأبو عوانة: (5/109) مختصرًا، وأبو نعيم: (192)، والبيهقي: (9/181)، والحاكم: (4/449) مطولاً.
    وأخرجه من حديث المغيرة بن شعبة - رضي الله عنه - :
    البخاري: (3640) (959)، ومسلم: (1921)، وأحمد: (4/244، 252)، والدارمي: (3437)، وأبو عوانة: (5/109)، واللالكائي: (167)، وأبو نعيم: (437)، والطبراني في " الكبير ": (659) (960) (962).
    وأخرجه من حديث معاوية - رضي الله عنه - :
    البخاري: (3641)، ومسلم: (3/1524)، وأحمد: (4/101)، وأبو عوانة: (5/106 - 107)، واللالكائي: (166)، وأبو نعيم: (311)، والبغوي في تفسيره : (2/218) مختصرًا.
    وأخرجه من حديث جابر بن سمرة - رضي الله عنه - :
    الإمام أحمد: (5/103)، ومسلم: (1922)، وأبو عوانة: (5/105)، والطبراني في " الكبير ": (1819)، والحاكم: (4/449).
    وأخرجه من حديث جابر بن عبد الله - رضي الله عنه - :
    مسلم: (1923)، وأبو عوانة: (5/105)، وأحمد: (3/345، 384) وأبو يعلى في مسنده : (313)، والبيهقي: (8/180).
    ومن حديث سعد بن أبي وقاص - رضي الله عنه - :
    أخرجه مسلم: (1925)، وأبو عوانة: (5/109)، واللالكائي: (170)، وأبو نعيم: (214).
    ورُويَ الحديثُ عن عدد من الصحابة غير هؤلاء، منهم: عمر بن الخطاب، وسلمة الكندي، وعمران بن حصين، والنواس بن سمعان، وأبو أمامة، وقرة المزني، وأبو هريرة - رضي الله عنهم -. ]
    فالمخالفُ لا يضرُّ إلا نفسَه.
    وليست العبرةُ بالكثرةِ، بل العبرةُ بالموافقةِ للحق [ هذا هو الحق الذي ندينُ الله به، بخلاف ما اعتمدتهُ بعضُ الجماعات في الدعوةِ إلى الله؛ بأن الهدف هو التجميعُ والتكتيلُ فقط، ولو اختلفتِ العقائدُ، فيجعلون في جماعتِهم الأشعريَّ، والجهميَّ، والمعتزليَّ، والرافضيَّ، وربما النصرانيَّ واليهوديَّ، ويقولون: (نجتمع على ما اتفقنا عليه، ويعذر بعضنا بعضًا فيما اختلفنا فيه !). ]
    ، ولو لم يكنْ عليه إلا قِلَّةٌ من الناس، حتى ولو لم يكن في بعض الأزمان إلا واحدٌ من الناس؛ فهو على الحق، وهو الجماعة.
    فلا يلزمُ من الجماعةِ الكثرةُ، بل الجماعةُ من وافقَ الحقَّ، ووافقَ الكتاب والسنّة، ولو كان الذي عليه قليلٌ.
    أما إذا اجتمعَ كثرةٌ وحقٌ، فالحمد لله هذا قوة.
    أما إذا خالفته الكثرة، فنحن ننحازُ مع الحقِّ، ولو لم يكنْ معه إلا القليلُ.
    وكما أخبرَ به صلى الله عليه وسلم من حصول التفرق والاختلاف قد وقَعَ، ويتطور كلما تأخَّرَ الزمان، يتطوَّرُ التفرقُ والاختلاف إلى أن تقوم الساعةُ، حكمةٌ من الله - سبحانه وتعالى -، ليبتلي عبادَهُ، فيتميزُ من كان يطلبُ الحقَّ، ممن يؤثرُ الهوى والعصبية :
    {أَحَسِبَ النَّاسُ أَن يُتْرَكُوا أَن يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لَا يُفْتَنُونَ. وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ} [ سورة العنكبوت ].
    وقال - سبحانه وتعالى - :
    {وَلاَ يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ. إِلاَّ مَن رَّحِمَ رَبُّكَ وَلِذَلِكَ خَلَقَهُمْ وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ لأَمْلأنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ}. [ سورة هود ]
    فحصول هذا التفرق، وهذا الاختلاف؛ ابتلاءٌ من الله - سبحانه وتعالى -، وإلا فهو قادر - سبحانه - أن يجمعَهم على الحق :
    {وَلَوْ شَاء اللّهُ لَجَمَعَهُمْ عَلَى الْهُدَى} [ سورة الأنعام، الآية: 35}.
    هو قادر على هذا، لكنَّ حكمتَهُ اقَتضَتْ أنْ يبتليَهم بوجودِ التفرق والاختلاف، من أجل أنْ يتميزَ طالبُ الحقِّ من طالبِ الهوى والتعصب.
    ومازالَ علماءُ الأمة في كلِّ زمانٍ ومكانٍ ينهون عن هذا الاختلاف، ويوصون بالتمسك بكتابِ الله وسنّةِ رسولهِ صلى الله عليه وسلم في كتبهم التي بقيتْ بعدَهم.
    تجدون في كتاب " صحيح البخاري " مثلاً: " كتاب الاعتصام بالكتاب والسنّة ".
    تجدون في كتب العقائد ذكرَ الفرقِ الهالكة، وذكرَ الفِرقة الناجية.
    وأقربُ شيئٍ لكم شرحُ الطحاوية، وهي بين أيديكم الآن.
    والغرضُ من هذا بيانُ الحقِّ منن الباطل؛ إذ وقعَ ما أخبرَ به صلى الله عليه وسلم من التفرق والاختلاف.
    فالواجبُ أن نعملَ بما أوصانا به الرسولُ صلى الله عليه وسلم في قوله: " فعليكم بسنتي وسنّة الخلفاء الراشدين من بعدي ". [ سَبَقَ تخريجه ص: 7، وهو جزءٌ من حديث العرباض بن سارية - رضي الله عنه -. ]
    لا نجاةَ من هذا الخطر إلا بالتمسكِ بكتاب الله وسنّة رسوله صلى الله عليه وسلم، ولا تحسبَنَّ هذا الأمرَ يَحْصُلُ بسهولةٍ، لا بد أن يكونَ فيه مشقةً.
    لكن يحتاج إلى صبرٍ وثباتٍ، وإلا فإن المتمسك بالحقِّ - خصوصًا في آخر الزمان - سيعاني من المشاق، ويكونُ القابضُ على دينِه كالقابضِ على الجمرِ، كما صَحَّ عن النبي صلى الله عليه وسلم [ أخرجه الترمذي: (2260)، وابن بطة في " الإبانة الكبرى ": (195) عن أنس - رضي الله عنه - أنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " يأتي على الناس زمانٌ، الصابرُ فيهم على دينه كالقابِضِ على الجمر " وفيه: عمر بن شاكر: ضعيف، كما في " التقريب ".

    والحديث حّسَّنَهُ السيوطي كما في " الجامع الصغير ": (9988)، وأورده الألباني في " الصحيحة " برقم: (957) وصَحَّحَه.
    وللحديث شواهد: الأول: أخرجه أحمد في مسنده (2/390 - 391) عن أبي هريرة مرفوعًا، ولفظه: " ويلٌ للعربِ من شرٍّ قد اقترب؛ فِتَنًا كقِطَعِ الليل المظلم، يصبح الرجل مؤمنًا ويمسي كافرًا، يبيع قومٌ دينَهم بعَرَضٍ من الدنيا قليل، المتمسك يومئذٍ على دينه كالقابضِ على الجمر - أو قال: على الشوك - " وفيه: ابن لهيعة، قال الألباني بعده - كما في الصحيحة: (2/682) -: (قلتُ: وإسناده لا بأسَ به في الشواهد، رجاله ثقات، غيرَ ابن لهيعة؛ فإنه سيء الحفظ).
    الثاني: أخرجه الترمذي: (3058)، وأبو داود: (4341)، وابن ماجه: (4063)، والبغوي في شرح السنة : (14/344)، وفي تفسيره : (3/110) بلفظٍ مطوَّل في آخره: ".. فإن من ورائكم أيامًا، الصبرُ فيهنَّ مثلُ القبض على الجمر، للعامل فيهم مثل أجر خمسين رجلاً يعملون مثل عملَكم ".
    ومدار إسناده على:

    1 - عتبة بن أبي حكيم: صدوق يخطئ.
    2 - عمرو بن جارية: مقبول.
    3 - أبي أُميَّةَ الشَّعْباني الدمشقي: مقبول.
    الثالث: عن ابن مسعود - رضي الله عنه - مرفوعًا بلفظ: " يأتي على الناس زمانٌ، المتمسكُ فيه بسنتي عند اختلافِ أمتي كالقابضِ على الجمر ".
    قال الألباني بعده - (2/683) " الصحيحة " -: (أخرجه أبو بكر الكلاباذي في " مفتاح المعاني " ق 118/2، والضياء المقدسي في " المنتقى.. ": 99/1... وقد عزاه السيوطي للحكيم الترمذي عن ابن مسعود، وبيض له المناوي !.
    وجملة القول: أنَّ الحديثَ بهذه الشواهد - أي: حديثَ أنس السابق - صحيحٌ ثابتٌ، لأنَّه ليسَ في شيء من طرقها متهم، لا سيما وقد حسَّنَ بعضها الترمذي وغيرُه. والله أعلم) اهـ.
    قال المباركفوري في شرحه لحديث أنس السابق، في " تحفة الأحوذي ": (6/445): (قال الطيبي: " المعنى: كما لا يقدر القابض على الجمر أن يصبرَ لإحراق يدِه، كذلك المتدينُ يومئذٍ لا يقدرُ على ثباتِه على دينِه؛ لغلَبةِ العصاَةِ والمعاصي، وانتشار الفسقِ، وضعفِ الإيمان " انتهى.
    قال القاري: " الظاهرُ أن معنى الحديثِ: كَما لا يمكنُ القَبضُ على الجمرةِ إلا بصبرٍ شديدٍ وتحمل غلبةِ المشقةِ، كذلك في ذلك الزمان، لا يتصوَّرُ حفظُ دينِهِ ونورِ إيمانِه إلا بصبرٍ عظيمٍ " انتهى) اهـ من التحفة. ]، والمتمسكون بسنة الرسول صلى الله عليه وسلم، والسائرون على منهج السلف؛ يكونون غرباء في آخر الزمان، كما أخبر بذلك صلى الله عليه وسلم بقوله: " فطوبى للغرباء الذين يُصْلِحُونَ ما أفسدَ الناسُ من بعدي من سنتي ". [ أخرجه الترمذي: (2630) بهذا اللفظ وقال: " حسن صحيح "، وأخرجه أبو نعيم في " الحلية ": (98)، والبغوي معلقًا في شرح السنة : (1/120 - 121) من حديث عمرو بن عوف - رضي الله عنه -.
    وفي سنده كثير بن عبد الله المزني: متروك.
    والحديث صحيح من وجوهٍ أخرى؛ فأخرجه مسلم في صحيحه : (145) من حديث أبي هريرة - رضي الله عنه - بلفظ: " بدأ الإسلام غريبًا وسيعودُ - كما بدأ - غريبًا، فطوبى للغرباء ".
    ورواه أحمد: (2/389)، وابن ماجه: (3986)، واللالكائي: (174)، والآجري في كتاب " الغرباء ": (4)، وابن منده في " الإيمان ": (422 - 423).
    ومن حديث ابن عمر - رضي الله عنهما - :
    رواه مسلم: (146)، وابن منده في " الإيمان ": (421).
    ومن حديث ابن مسعود - رضي الله عنه - :
    رواه أحمد: (1/398)، والترمذي: (2629)، وابن ماجه: (3988)، والدارمي: (2758)، والآجري في كتاب " الغرباء ": (2)، والبغوي في شرح السنة : (64).
    وأخرجه أحمد (1/184) من حديث سعد بن أبي وقاص - رضي الله عنه -.
    وأخرجه ابن ماجه: (3987)، والآجري في كتاب " الغرباء ": (5) من حديث أنس - رضي الله عنه -. ]
    وفي رواية: " الذين يَصْلُحُونَ إذا فسدَ الناسُ ". [ أخرج الحديثَ بهذا اللفظ: الطبراني في " الكبير ": (7659)، والآجري في كتاب " الغرباء ": (5) من حديث أبي الدرداء، وأبي أمامة، وواثلة بن الأسقع، وأنس بن مالك - رضي الله عنهم -. وفي إسناده كثير بن مروان الشامي: متروك.
    وأخرجه اللالكائي: (173)، والطبراني في " الأوسط " كما في المجمع: (7/278) من حديث جابر - رضي الله عنه -، وفيه: أبو عياش النعمان المعافري: مجهول.
    ومن حديث ابن عمر - رضي الله عنهما - :
    أخرجه أبو يعلى في مسنده . ذكره في " المطالب العالية " لابن حجر: (483).
    ومن حديث عبد الرحمن بن سنة:
    أخرجه عبد الله بن الإمام أحمد في " الزوائد ": (4/73 - 74)، وابن عدي في " الكامل ": (4/1615).
    ومن حديث سهل بن سعد الساعدي - رضي الله عنه - :
    أخرجه الطبراني في " الكبير ": (6/202)، وفيه: بكر بن سليم الصواف: ضعيف.]
    فهذا يحتاجُ إلى العلم أولاً؛ بكتابِ الله وسنّة رسوله صلى الله عليه وسلم، والعلمِ بمنهجِ السلف الصالح وما كانوا عليه.
    ويحتاجُ التسمكُ بهذا إلى صبرٍ على ما يلحقُ الإنسانَ من الأذى في ذلك، ولذلك يقولُ - سبحانه وتعالى - :
    {وَالْعَصْرِ. إِنَّ الْإِنسَانَ لَفِي خُسْرٍ. إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ}. [ سورة العصر ]
    {وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ} هذا يدلُ على أنَّهم سيلاقون مشقةً في إيمانهم وعملهم، وتواصيهم بالحق، سيلاقون عنتًا من الناس، ولومًا من الناس وتوبيخًا، وقد يلاقون تهديدًا، أو قد يلاقون قتلاً وضربًا، ولكن يصبرون، ماداموا على الحق، يصبرون على الحق ويثبتون عليه، وإذا تبين لهم أنَّهم على شيءٍ من الخطأ يرجعون إلى الصواب، لأنه هدفُهم.
    لقد حدثَ التفرقُ في وقتٍ مبكرٍ، ونحنُ في هذهِ المحاضرةِ سنتكلمُ عن أربعِ فرقٍ، هي أصول الفرقِ تقريبًا.
    الفرقة الأولى : القدرية

    فأولُ ما حدثُ، فرقةُ " القدرية " في آخر عهد الصحابة.
    " القدريةُ ": الذين ينكرونَ القدرَ، ويقولون: إنَّ ما يجري في هذا الكون ليس بقدر وقضاءٍ من الله - سبحانه وتعالى -، وإنما هو أمرٌ يحدثُ بفعل العبد، وبدون سابقِ تقدير من الله - عز وجل -، فأنكروا الركن السادسَ من أركانِ الإيمان، لأنَّ أركانَ الإيمان ستةٌ: الإيمانُ بالله، وملائكتِهِ، وكتبِه، ورسلِه، واليومِ الآخرِ، والإيمانِ بالقدرِ خيره وشره، كُلِّه من الله - سبحانه وتعالى -.
    وسُمُّوا " بالقدرية "، وسُمًّوا " بمجوس " هذه الأمة، لماذا ؟.
    لأنهم يزعمون أنَّ كُلَّ واحدٍ يَخْلُقُ فعلَ نفسِه، ولم يكنْ ذلك بتقديرٍ من الله، لذلك أثبتوا خالقين مع الله كالمجوس الذين يقولون: (إنَّ الكونَ له خالقانِ: " النور والظلمة "، النورُ خلقَ الخيرَ، والظلمةُ خلقَتِ الشرَّ).
    " القدريةُ " زادوا على المجوسِ، لأنهم أثبتوا خالقَين متعدَّدِين، حيث قالوا: (كُلٌ يخلُقُ فعلَ نفسِه)، فلذلك سُمُّوا " بمجوسِ هذه الأمة ".
    وقابَلَتْهم " فرقةُ الجبرية " الذين يقولون: " إنَّ العبدَ مجبورٌ على فعلِه، وليس له فعلٌ ولا اختيارٌ، وإنما هو كالريشةِ التي تحركُها الريحُ بغير اختيارها.
    فهؤلاء يُسَمَّونَ " بالجبرية " وهم " غُلاةُ القدرية "، الذين غلوا في إثبات القدر، وسَلَبوا العبدَ الاختيارَ.
    والطائفةُ الأولى منهم على العكس، أثبتوا اختيارَ الإنسان وغَلَو فيه، حتى قالوا: إنه يخلُقُ فِعْلَ نفسِهِ مستقلاً عن الله، تعالى الله عما يقولون.
    وهؤلاء يُسمَّون " بالقدرية النفاةِ ". ومنهم: " المعتزلةُ ", ومن سارَ في ركابهم.
    هذه فرقة القدرية بقسميها:
    1 - الغلاةُ في النفي.
    2 - والغلاةُ في الإثباتِ.
    وتفرَّقتِ " القدريةُ " إلى فرقٍِ كثيرةٍ، لا يعلمها إلا الله؛ لأنَّ الإنسانَ إذا تركَ الحق فإنه يهيمُ في الضلال، كُلُّ طائفةٍ تُحدثُ لها مذهبًا وتنشقُ به عن الطائفة التي قبلها، هذا شأنُ أهلِ الضلالِ؛ دائمًا في انشقاقٍ، ودائمًا في تفرقٍ، ودائمًا تحدثُ لهم أفكارٌ وتصوراتٌ مختلفة متضاربة.
    أما أهلُ السنّةِ والجماعةِ؛ فلا يَحدُثُ عندَهم اضطرابٌ ولا اختلافٌ، لأنهم متمسكون بالحق الذي جاء عن الله - سبحانه وتعالى -، فهم معتصمون بكتابِ الله وبسنةِ رسوله صلى الله عليه وسلم؛ فلا يَحْصُلُ عندَهم افتراقٌ ولا اختلافٌ، لأَّنهم يسيرونَ على منهجٍ واحدٍ.

    الفرقة الثانية : الخوارج
    وهم الذين خرجوا على ولي الأمر في آخر عهدِ عثمان - رضي الله عنه -، ونتَجَ عن خروجهم قتلُ عثمان - رضي الله عنه -.
    ثم في خلافةِ علي - رضي الله عنه - زادَ شرُهم، وانشقوا عليه، وكفّروه، وكفّروا الصحابة؛ لأنهم لم يوافقوهم على مذهبهم، وهم يحكُمون على من خالفَهم في مذهبهم أنه كافرٌ، فكفّروا خيرةَ الخلقِ وهم صحابةُ رسولِ الله صلى الله عليه وسلم. لماذا ؟. لأنَّهم لم يوافقوهم على ضلالِهم وعلى كفرهم.
    ومذهبُهم: أنَّهم لا يلتزمون بالسنّة والجماعة، ولا يطيعون وليَّ الأمر، ويرون أن الخروجَ عليه من الدين، وأن شَقَّ العصا من الدين [وفي عصرنا ربما سمّوا من يرى السمعَ والطاعةَ لأولياء الأمور في غير ما معصية عميلاً، أو مداهنًا، أو مغفلاً. فتراهم يقدحون في وَليَّ أمرهم، ويشِّهرون بعيوبه من فوق المنابر، وفي تجمعاتهم، والرسولُ صلى الله عليه وسلم يقولُ: (من أرادَ أن ينصحَ لسلطان بأمر؛ فلا يبدِ له علانيةً ولكن ليأخذْ بيدِه، فيخلوا به، فإن قَبِلَ منه فذَّاكَ، وإلا كان قد أدَّى الذي عليه) رواه أحمد: (3/404) من حديث عياض بن غنم - رضي الله عنه -، ورواه - أيضًا - ابن أبي عاصم في " السنة ": (2/522).
    أو إذا رأى وليُّ الأمرِ إيقافَ أحدِهم عن الكلام في المجامع العامة؛ تجمعوا وساروا في مظاهرات، يظنونَ - جهلاً منهم - أنَّ إيقافَ أحدِهم أو سجنَهُ يسوغُ الخروج، أوَلَمْ يسمعوا قولَ النبي صلى الله عليه وسلم في حديث عوف بن مالك الأشجعي - رضي الله عنه -، عند مسلم (1855): (لا. ما أقاموا فيكم الصلاة).
    وفي حديث عبادة بن الصامت - رضي الله عنه - في " الصحيحين ": (إلا أن تروا كفرًا بواحًا، عندكم فيه من الله برهان) وذلك عند سؤال الصحابة واستئذانهم له بقتال الأئمة الظالمين.
    ألا يعلمُ هؤلاء كم لبثَ الإمامُ أحمدُ في السجنِ، وأينَ ماتَ شيخُ الإسلامِ ابنُ تيمية ؟!.
    ألم يسجن الإمام أحمد بضع سنين، ويجلد على القول بخلق القرآن، فلما لم يأمر الناس بالخروج على الخليفة ؟!.
    وألم يعلموا أن شيخ الإسلام مكث في السجن ما يربو على سنتين، ومات فيه، لِمَ لَمْ يأمرِ الناسَ بالخروجِ على الوالي - مع أنَّهم في الفضلِ والعلمِ غايةٌُ، فيكف بمن دونهم - ؟؟!.
    إنَّ هذه الأفكارَ والأعمالَ لم تأتِ إلينا إلا بعدما أصبحَ الشبابُ يأخذون علمَهم من المفكِّرِ المعاصرِ فلان، ومن الأديب الشاعرِ فلان، ومن الكاتبِ الإسلامي فلان، ويتركونَ أهل العلمِ، وكتبَ أسلافِهم خلفَهم ظهريًا؛ فلا حولَ ولا قوّةَ إلا بالله. ]، وعكس ما أمر الله به في قوله:
    {أَطِيعُواْ اللّهَ وَأَطِيعُواْ الرَّسُولَ وَأُوْلِي الأَمْرِ مِنكُمْ}. [ سورة النساء، الآية: 59 ]
    الله - جل وعلا - جعل طاعة ولي الأمر من الدين، والنبي صلى الله عليه وسلم جَعَلَ طاعةَ وليِّ الأمرِ من الدين قال صلى الله عليه وسلم: (أوصيكم بتقوى الله والسمعِ والطاعةِ، وإن تأَمَّرَ عليكم عبدٌ، فإنه من يعشْ منكم فسيرى اختلافًا كثيرًا..). [ سبق تخريجه ص: 7. ]
    فطاعةُ وليِّ الأمرِ المسلمِ من الدين. و " الخوارجُ " يقولون: لا، نحنُ أحرارٌ. هذه طريقة الثوراتِ اليوم.
    فـ " الخوراجُ " الذين يريدونَ تفريقَ جماعةِ المسلمين، وشّقَّ عصا الطاعة، ومعصية الله ورسولهِ في هذا الأمر، ويرون أن مرتكبَ الكبيرةِ كافرٌ.
    ومرتكبُ الكبيرة هو: الزاني - مثلاً -، والسارقُ، وشاربُ الخمر؛ يرون أنه كافرٌ، في حين أنَّ أهلَ السنّةِ والجماعةِ يرون أنهُ " مسلمٌ ناقصُ الإيمان " [ حتى لو فعل الكبيرة مستخفًا بها لا يكفر ما لم يستحلها، خلافًا لما يقوله بعضُهم: من أنَّ مرتكبَ الكبيرة إذا كان مستخفًا يكفر كفرًا مخرجًا عن الملَّة.
    وهذا القولُ هو عينُ قولِ الخوارجِ، كما قال ذلك شيخنا الشيخ: عبد العزيز بن عبد الله بن باز، عندما سئل عنه بالطائف عام 1415 هـ. ]
    ، ويسمونه بالفاسق الملَّي؛ فهو " مؤمنٌ بإيمانهِ فاسقٌ بكبيرته "، لأنه لا يخُرِجُ من الإسلام إلا الشركُ أو نواقضُ الإسلام المعروفة، أما المعاصي التي دون الشرك؛ فإنها لا تُخرجُ من الإيمانِ، وإن كانتْ كبائرَ، قال الله - تعالى - :
    {إِنَّ اللّهَ لاَ يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَن يَشَاءُ} [ سورة النساء، الآيتان: 48، 116 ].
    و " الخوارجُ " يقولون: مرتكبُ الكبيرة كافرٌ، ولا يٌغفرُ له، وهو مخلّدٌ في النار. وهذا خلافُ ما جاءَ في كتاب الله - سبحانه وتعالى -.
    والسببُ: أنهم ليسَ عندهم فقهٌ.
    لاحظُوا أن السببَ الذي أوقَعَهُم في هذا أنهم ليس عندَهم فقه، لأنَّهم جماعةٌ اشتدوا في العبادةِ، والصلاةِ، والصيامِ، وتلاوةِ القرآنِ، وعندهم غَيرةٌ شديدةٌ، لكنهم لا يفقهون، وهذه هي الآفة.
    فالاجتهادُ في الورعِ والعبادةِ؛ لا بدَّ أن يكونَ مع الفقه في الدين والعلم.

    ولهذا وصفهم النبيُّ صلى الله عليه وسلم لأصحابه، بأن الصحابةَ يحقرون صلاتهم إلى صلاتهم، وعبادتهم إلى عبادتهم، ثم قال صلى الله عليه وسلم: " يمرُقُون من الدين كما يمرق السهم من الرَّمَّيةِ " [ جزءٌ من حديثٍ طويل، أخرجه أحمد: (3/73)، والبخاري: (7432)، ومسلم: (1064)، والنسائي: (2577) (4112)، وأبو داود: (7464)، والطيالسي: (2234) من حديث أبي سعيد - رضي الله عنه -.
    ومن حديث علي ابن أبي طالب - رضي الله عنه - :
    البخاري: (3611) (5057) (6930)، ومسلم: (1066)، وأبو داود: (4767)، والطيالسي: (168)، والنسائي: (4113)، وأحمد: (1/81) (1/113).
    ومن حديث جابر - رضي الله عنه -، عند: أحمد، ومسلم، والنسائي، وابن ماجه.
    ومن حديث سهل بن حنيف - رضي الله عنه -، عند: الشيخين، والنسائي.
    ومن حديث ابن مسعود - رضي الله عنه -، عند: أحمد، والترمذي، وابن ماجه.
    ومن حديث أبي برزة الأسلمي - رضي الله عنه -، عند: أحمد، والطيالسي، والنسائي، والحاكم.
    ومن حديث أبي سعيد وأنس - رضي الله عنهما -، عند: أحمد، وأبي داود، والحاكم في " مستدركه ".
    ومن حديث أبي بكرة - رضي الله عنه -، عند: أحمد، والطبراني.
    ومن حديث عامر بن وائلة - رضي الله عنه -، عند: الطبراني. ]
    مع عبادتهم، ومع صلاحهم، ومع تهجدهم وقيامهم بالليل، لكن لما كان اجتهادُهم ليس على أصلٍ صحيحٍ، ولا على علمٍ صحيح، صار ضلالاً ووباءً وشرًا عليهم وعلى الأمةِ.
    وما عُرِفَ عن " الخوارجِ " في يومٍ من الأيام أنهم قاتلوا الكفار، أبدًا، إنما يقاتلون المسلمين، كما قال صلى الله عليه وسلم: " يقتلون أهلَ الإسلامِ ويَدَعُون أهلَ الأوثانِ ". [ جزءٌ من حديثٍ طويل، أخرجه أحمد: (3/73) (3/68) ومختصرًا: (3/72)، والبخاري: (7432) (4667) مختصرًا، ومسلم: (1064)، والنسائي: (2577) (4112)، وأبو داود: (7464)، والطيالسي: (2234). ]

    فما عرفنا في تاريخ " الخوارجِ "، في يومٍ من الأيام أنَّهم قاتلوا الكفار والمشركينَ، وإنما يقاتلون المسلمين دائمًا: قتلوا عثمان. وقتلوا علي بن أبي طالب. وقتلوا الزبير بن العوام. وقتلوا خيار الصحابة. وما زالوا يقتلون المسلمين.
    وذلك بسبب جهلهم في دين الله - عزَّ وجلَّ -، مع ورَعِهم، ومع عبادتهم، ومع اجتهادهم، لكن لما لم يكنْ هذا مؤسَّسًا على علمٍ صحيح؛ صارَ وبالاً عليهم، ولهذا يقول العلامةُ ابنُ القيم في وصفهم :
    (وَلَهُمْ نُصُوصٌ قَصَّروا في فَهْمِهَا ** فَأُتُوْا مِنَ التقْصِيرِ في العِرْفَانِ)
    [ نونية ابن القيم المسمّاة: " الكافية الشافية في الانتصار للفرقة الناجية " ص: 97. ]
    فهم استدلوا بنصوصٍ وهم لا يفهمونها، استدلوا بنصوصٍ من القرآن ومن السنّة؛ في الوعيدِ على المعاصي، وهم لا يفقهون معناها، لم يُرجعوها إلى النصوص الأخرى، التي فيها الوعدُ بالمغفرة، والتوبة لمن كانت معصيتُه دون الشرك؛ فأخذوا طرفًا وتركوا طرفًا. هذا لجهلهم.
    والغيرةُ على الدين والحماسُ لا يكفيان، لا بد أَنْ يكونَ هذا مؤسَّسًا على علمٍ، وعلى فقهٍ في دين الله - عز وجل -، يكونُ ذلك صادرًا عن علمٍ، وموضوعًا في محله.
    والغيرةُ على الدين طيبةٌ، والحماسُ للدين طيِّب، لكن لا بد أن يُرشًَّدَ ذلك باتباع الكتابِ والسنة.
    ولا أَغْيَرَ على الدين، ولا أنصحَ للمسلمين؛ من الصحابة - رضي الله عنهم -، ومع ذلك قاتلوا " الخوارج "؛ لخطرهم وشرِّهم.
    قاتَلهم عليُّ بن أبي طالب - رضي الله عنه -، حتى قتَلهم شرَّ قِتْلَةٍ في وقعةِ " النهروان "، وتحقق في ذلك ما أخبر به صلى الله عليه وسلم: من أنَّ النبي صلى الله عليه وسلم بَشَّرَ من يقتُلُهم بالخير والجنة. فكان علي بن أبي طالب هو الذي قتلَهم، فحصَلَ على البشارةِ من الرسول صلى الله عليه وسلم. [ روى البخاري في صحيحه : (6930)، ومسلم في صحيحه : (1066)، وأحمد في مسنده : (1/113)، وابن أبي عاصم في " السنة ": (914)، وعبد الله ابن الإمام أحمد في " السنة ": (1487) :
    عن علي - رضي الله عنه - قال: سمعتُ رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: " يخرجُ في آخرِ الزمانِ قومٌ أحداثُ الأسنانِ، سفهاءُ الأحلامِ، يقولون من خير قول البريةِ، لا يجاوزُ إيمانُهم حناجرَهم، فأينما لقيتموهم فاقُتلوهُم؛ فإنًّ قَتْلَهم أجرٌ لمن قتَلَهم يوم القيامة ".
    قال أبو سعيد الخدري - رضي الله عنه - بعدما روى حديثًا في الخوارج وعلاماتِهم، رواه أحمد في " المسند ": (3/33)، وابنه في " السنة ": (1512) - قال: (فحدثني عشرون أو بضعٌ وعشرون من أصحابِ رسولِ الله صلى الله عليه وسلم أنَّ عليًّا وَلِيَ قتْلَهم).
    وروى أحمد: (1/59)، ومسلم: (1066)، وعبد الله بن الإمام أحمد في " السنة ": (1471) عن علي - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " يخرجُ قومٌ فيهم رجلٌ مودنٌ اليدِ، أو مثدون اليدِ، أو مخدج اليدِ، ولولا أن تبطروا لأنبأتكم بما وَعَدَ الله الذين يقاتلونهم على لسان نبيه ".
    وروى مسلم: (1065)، وأبو داود: (4667)، وعبد الله بن الإمام أحمد في " السنة ": (1511) عن أبي سعيد الخدري - رضي الله عنه - أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (تَمرق مارقةٌ في فِرقَةٍ من المسلمين، يقتُلُهما أولى الطائفتين بالحق).
    هذا، وقد جاء الأمرُ بقتلِهم وفضلِه في أحاديثَ كثيرةٍ، ليسَ هذا مجالُ ذِكرِها. ]
    قَتَلَهُم ليدفعَ شرَّهم عن المسلمين.
    وواجبٌ على المسلمين في كلِّ عصرٍ إذا تحققوا من وجودِ هذا المذهبِ الخبيثِ؛ أن يعالجوه بالدعوة إلى الله أولاً، وتبصيرِ الناس بذلك؛ فإن لم يمتثلوا قاتَلُوهم دفعًا لشرِّهم.
    وعليُّ بن أبي طالب - رضي الله عنه - أرسلَ إليهم ابنَ عمه: عبدَ الله بنَ عباس، حَبْرَ الأمة، وترجمانَ القرآن؛ فناظرَهم، ورَجَعَ منهم ستَّةُ آلاف، وبقي منهم بقيةٌ كثيرةٌ لم يرجعوا، عندَ ذلك قاتَلَهم أميرُ المؤمنين عليُّ بنُ أبي طالب ومعه الصحابة؛ لدفعِ شرِّهم وأذاهم عن المسلمين.
    هذه " فرقةُ الخوراج " ومذهبُهم.

    الفرقة الثالثة : الشيعة
    " الشيعة ": هم الذين يتشيّعون لأهلِ البيت.
    و " التشيّع " في الأصل: الاتباعُ والمناصرةُ :
    {وَإِنَّ مِن شِيعَتِهِ لَإِبْرَاهِيمَ}. [ سورة الصافات ]
    يعني: أتباعه إبراهيم، ومن أنصار ملتِه؛ لأنَّ الله - سبحانه - لما ذكر قصةَ نوحٍ قال: {وَإِنَّ مِن شِيعَتِهِ لَإِبْرَاهِيمَ}.
    فأصلُ " التشيّع ": الاتباعُ والمناصرةُ، ثم صار يُطلقُ على هذه الفِرقة، التي تزعم أنها متَّبعةٌ لأهل البيت - وهم: عليُّ بنُ أبي طالب - رضي الله عنه - وذريتُه -.
    ويزعمون أن عليًّا هو الوصي بعد الرسول صلى الله عليه وسلم على الخلافِة، وأنَّ أبا بكر، وعمرَ، وعثمانَ، والصحابةَ؛ ظلموا عَليَّا، واغتصبوا الخلافةَ منه. هكذا يقولون.
    وقد كذبوا في ذلك، لأن الصحابة أجمعوا على بيعة أبي بكرٍ ومنهم عليٌّ - رضي الله عنه -، حيثُ بايَعَ لأبي بكرٍ، وبايعَ لعمر، وبايعَ لعثمان.
    فمعنى هذا: أنهم خونوا عليًّا - رضي الله عنه -.
    وقد كَفَّروا الصحابةَ إلا عددًا قليلاً منهم، وصاروا يعلنونَ أبا بكرٍ وعمرَ، ويلقِّبونهما " بصنمي قريش ".
    ومن مذهبهم: أنهم يُغلون في الأئمةِ من أهلِ البيت، ويُعطونَهم حقَّ التشريع ونسخَ الأحكام.
    ويزعمون أن القرآن قد حُرِّفَ ونُقِّصَ، حتى آل بهم الأمرُ إلى أن اتخذوا الأئمةَ أربابًا من دون الله، وبنوا على قبورهم الأضرحةَ، وشَيَّدوا عليها القبابَ، وصاروا يطوفونَ بها، ويذبحون لها وينذرون.
    وتفَّرقت " الشيعة " إلى فرقٍ كثيرة، بعضُها أخَفُّ من بعض، وبعضُها أشَدُّ من بعض، منهم: " الزيدية "، ومنهم: " الرافضة الإثنا عشرية "، ومنهم: " الإسماعيلية " و " الفاطمية "، ومنهم: " القرامطة "، ومنهم..، ومنهم..، عددٌ كبيرٌ، وفِرَقٌ كثيرة.
    وهكذا.. كلُّ من تركَ الحقَّ فإنهم لا يزالون في اختلافٍ وتفَرُّقٍ، قال - تعالى - :
    {فَإِنْ آمَنُواْ بِمِثْلِ مَا آمَنتُم بِهِ فَقَدِ اهْتَدَواْ وَّإِن تَوَلَّوْاْ فَإِنَّمَا هُمْ فِي شِقَاقٍ فَسَيَكْفِيكَهُمُ اللّهُ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ}. [ سورة البقرة ]
    فمن تركَ الحقَّ يُبتلى بالباطل، والزيغِ، والتفرُّقِ، ولا ينتهي إلى نتيجة، بل إلى الخسارة - والعياذُ بالله -.
    وتفرَّقت " الشيعةُ " إلى فرقٍ كثيرةٍِ، ونِحَلٍ كثيرة.
    وتفرَّقت " القدرية ".
    وتفرَّقت " الخوارج " إلى فرق كثيرة: " الأزارقة "، و " الحرورية "، و " النجدات "، و " الصفرية "، و " الإباضية "، ومنهم الغلاةُ، ومنهم من هو دون ذلك.

    الفرقة الرابعة : الجهمية

    " الجهميةُ "، وما أرداك مالجهمية ؟!!.
    " الجهميةُ ": نسبةً إلى " الجهم بن صفوان "، الذي تتلمذَ على " الجعد بن دِرهم "، و " الجعد بن درهم " تتلمذَ على " طالوت "، و " طالوت " تتلمذ على " لبيد بن الأعصم " اليهودي؛ فهم تلاميذ اليهود.
    وما هو " مذهبُ الجهمية " ؟.
    " مذهبُ الجهمية ": أنهم لا يُثبتون لله اسمًا ولا صفةً، ويزعمون أنه ذاتٌ مجرَّدةٌ عن الأسماءِ والصفاتِ؛ لأن إثباتَ الأسماءِ والصفاتِ - بزعمهم - يقتضي الشركَ، وتعدُّدَ الآلهة - كما يقولون -.
    هذه شبهتُهم اللعينة.
    ولا ندري ماذا يقولون في أنفسهم ؟. فالواحدُ منهم يوصفُ بأنه عالمٌ، وبأنه غنيٌّ، وبأنه صانعٌ، وبأنه تاجرٌ. فالواحدُ منهم له عِدَّةُ صفاتٍ، هل معنى ذلك أن يكونَ عِدَّةَ أشخاصٍ ؟؟!!.
    هذه مكابرةٌ للعقولِ؛ فلا يلزمُ من تعددِ الأسماءِ والصفاتِ تعدُّدَ الآلهةِ، ولهذا لمَّا قال المشركون من قبلُ لَمَّا سمعوا النبي صلى الله عليه وسلم يقول: (يا رحمن، يا رحيم) قالوا: هذا يزعم أنه يعبدُ إلهًا واحدًا، وهو يدعو آلهةً متعددةً، فأنزل الله - سبحانه وتعالى - قوله :
    {قُلِ ادْعُواْ اللّهَ أَوِ ادْعُواْ الرَّحْمَنَ أَيّاً مَّا تَدْعُواْ فَلَهُ الأَسْمَاء الْحُسْنَى} [ تفسير ابن كثير: (4/359). ] [ سورة الإسراء، الآية: 110 ]
    فأسماء الله كثيرة، هي تُدلُّ على كمالِه وعظمتِه - سبحانه وتعالى -، لا تدلُّ على تعدُّدِّ الآلهةِ - كما يقولون -، بل تدلُّ على العظمة، وعلى الكمالِ.
    أما الذاتُ المجرَّدةُ التي ليس لها صفاتٌ فهذهِ لا وجودَ لها، مستحيلٌ يوجدُ شيٌء وليس له صفاتٌ، أبدًا، ولو على الأقل صفة الوجود.
    ومن شبههم: " أن إثباتَ الصفاتِ يقتضي التشبيه، لأنَّ هذه الصفات يوجد مثلها في المخلوقين ".
    وهذا قولٌ باطل، لأنَّ صفات الخالق تليق به، وصفات المخلوقين تليقُ بهم؛ فلا تشابه.
    و " الجهميةُ " جمعوا إلى ضلالِهم في الأسماء والصفاتِ الجبرَ في القدر، لأن " الجهميةَ " يقولون: (إنَّ العبدَ ليس له مشيئةٌ، وليس له اختيارٌ، وإنما هو مُجْبَرٌ على أفعالِه).
    ومعنى هذا: أنَّه إذا عُذِّبَ على المعصيةِ يكونُ مظلومًا، لأنَّها ليستْ فِعْلَهُ، وإنما هو مجبرٌ عليها - كما يقولون -، تعالى الله عن ذلك.
    فهم جمعوا بين " الجبرِ في القدر "، وبين " التجهُّم في الأسماءِ والصفاتِ "، وجمعوا إلى ذلك " القولَ بالإرجاءِ "، وأضافوا إلى ذلكَ " القول بخلقِ القرآن " {ظلماتٌ بعضُها فوقَ بعضٍ}.
    قال ابن القيم : جِيْمٌ وجِيْمٌ ثُمَّ جِيْمٌ مَعْهُمَا ** مَقْرُونَةً مَعْ أَحْرُفٍ بِوِزَانِ
    جَبْرٌ وإِرْجَاءٌ وَجِيْمُ تَجَهُّمٍ ** فَتَأَمَّلِ المجمُوعَ في الْمِيْزَانِ
    فَاحْكُمْ بِطالِعِها لِمَنْ حَصُلَتْ ** بخلاصِهِ مِنْ رِبْقَةِ الإيمانِ
    [ نونية ابن القيم، ص: 115. ]
    يعني: جمعوا بين " جَبْرٍ " و " تَجَهُّمٍ " و "إِرجاءٍ "، ثلاثُ جيمات، والجِيمُ الرابعةُ جِيمُ جهنَّم.
    الحاصلُ: أن هذا " مذهبَ الجهميةِ "، والذي اشتهرَ فيه نفيُ الأسماءِ والصفاتِ عن الله - سبحانه وتعالى -، انشَقَّ عنه " مذهبُ المعتزلةَ "، و " مذهبُ الأشاعرة "، و " مذهبُ الماتريدية ".
    و " مذهبُ المعتزلة ": أنهم أثبتوا الأسماءَ ونفوا الصفات، لكن أثبتوا أسماءً مجرَّدة، مجرَّدَ ألفاظٍ لا تدلُّ على معانٍ ولا صفاتٍ.
    سُمُّوا " بالمعتزلة ": لأن إمامهم " واصل بن عطاء " كان من تلاميذ الحسن البصري - رحمه الله -، الإمامَ التابعي الجليل، فلمَّا سئُلَ الحسن البصري عن مرتكب الكبيرة، ما حكمه ؟. فقال بقولِ أهل السنَّةِ والجماعة: (إنه مؤمنٌ ناقصُ الإيمان، مؤمنٌ بإيمانِه فاسقٌ بكبيرته).
    فلم يرضَ " واصلُ بنُ عطاء " بهذا الجواب من شيخه؛ فاعتزلَ وقال: (لا. أنا أرى أنه ليس بمؤمنٍ ولا كافر، وأنه في المنزلةِ بين المنزلتين). وانشَقَّ عن شيخه - الحسن - وصار في ناحيةِ المسجد، واجتمعَ عليه قومٌ من أوباشِ الناس وأخذوا بقوله.
    وهكذا دعاةُ الضلالِ في كلِّ وقتٍ، لا بدَّ أن ينحازَ إليهم كثيرٌ من الناس، هذه حِكمةٌ من الله.
    تركوا مجلسَ الحسنِ، شيخِ أهلِ السنّةِ، الذي مجلسُه مجلسُ الخيرِ، ومجلسُ العلمِ، وانحازوا إلى مجلسِ " المعتزلي: واصلِ بنِ عطاء " الضالِ المضِل.
    ولهم أشباهٌ في زماننا، يتركونَ علماءَ أهلِ السنّة والجماعةِ، وينحازونَ إلى أصحابِ الفكرة المنحرف. [ فتجدهم يقتنون أشرطتهم، وكتبهم، ويحرصون عليها، وإذا قلت لهم: إن في هذه الكتب ما يخالف معتقد أهل السنة والجماعة، السلف الصالح، من قول بخلق القرآن، أو من تأويل للصفات، أو من تحريض على أولياء الأمور، أو غيره. قالوا: " هذه أخطاءٌ بسيطةٌ، لا تمنعُ من قراءتها واستماعها "، مع أن في كتب علمائنا - سلفًا وخلفًا - الغنية عنها وهكذا يضللون كل من سمعهم: {لِيَحْمِلُواْ أَوْزَارَهُمْ كَامِلَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَمِنْ أَوْزَارِ الَّذِينَ يُضِلُّونَهُم بِغَيْرِ عِلْمٍ أَلاَ سَاء مَا يَزِرُونَ} [ النحل ].
    ألم يعلموا أن من سلفنا الصالح من هجر من قال ببدعةٍ واحدة، أو أوَّلَ صفةً واحدةً فقط ؟.
    فهذا عبدُ الوهاب بنُ عبدِ الحكم الوراق، وهو من أصحاب أحمد - رحمهم الله - يسئل عن أبي ثور فقال: (ما أدين فيه إلا بقول أحمد بن حنبل: " يُهجرُ أبو ثور، ومَن قال بقوله ").
    وذلك لأنه أول حديث الصورة، وخالف قول السلف فيها.
    فكيف بمن لا تجمع أخطاءه ولا تحصيها إلا الكتبُ ؟؟!
    ومع ذلك تسمعُ بعضَهم يقولُ: أخطاءٌ بسيطة لا تمنعُ من قراءتِها !!.
    فلا حول ولا قوة إلا بالله. ]
    ومن ذلك الوقت سُمُّوا " بالمعتزلة "، لأنهم اعتزلوا أهلَ السنّة والجماعة؛ فصاروا ينفونَ الصفات عن الله - سبحانه وتعالى -، ويثبتون له أسماءَ مجرَّدة، ويحكُمون على مرتكبِ الكبيرة بما حَكَمَتْ به " الخوارجُ ": (أنه مخلَّدٌ في النار)، لكن اختلفوا عن " الخوارج " في الدنيا، وقالوا: (إنه يكون بالمنزلة بين المنزلتين، ليس بمؤمن ولا كافر).
    بينما " الخوارجُ " يقولون: (كافر).
    يا سبحانَ الله ! هل يُعقَلُ أنَّ الإنسانَ لا يكونُ مؤمنًا ولا كافرًا ؟!.
    والله - تعالى - يقول :
    {هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ فَمِنكُمْ كَافِرٌ وَمِنكُم مُّؤْمِنٌ}. [ سورة التغابن، الآية: 2 ]
    ما قال: ومنكم من هو بالمنزلة بين المنزلتين. لكن هل هؤلاء يفقهون ؟؟!!.
    ثمَّ تَفَرَّعَ عن " مذهبِ المعتزلةِ " " مذهبُ الأشاعرة ".
    و " الأشاعرة ": يُنسبونَ إلى " أبي الحسن الأشعري " - رحمه الله -.
    وكان أبو الحسن الأشعري معتزليًا، ثم مَنَّ الله عليه، وعرفَ بطلانَ مذهب المعتزلة، فوقف في المسجد يومَ الجمعة وأعلنَ براءَتَهُ من مذهبِ المعتزلة، وخلعَ ثوبًا عليه وقال: (خلعتُ مذهبَ المعتزلةِ، كما خلعتُ ثوبي هذا). لكنَّه صار إلى " مذهبِ الكُلاَّبِيَّة ": أتباعِ " عبدِ الله بن سعيد بن كُلاَّب ".
    و" عبدُ الله بنُ سعيد بن كُلاَّب ": كان يُثبِتُ سبعَ صفاتٍ، وينفي ما عداها، يقول: (لأنَّ العقلَ لا يدُلُّ إلا على سبعِ صفاتٍ فقط: " العلمُ "، و " القدرةُ "، و " الإرادةُ "، و " الحياةُ "، و " السمعُ "، و " البصرُ "، و " الكلامُ ") يقول: (هذه دَلَّ عليها العقل، أما ما لم يدلُّ عليه العقل - عنده - فليس بثابتٍ).
    ثم إنَّ الله مَنَّ على " أبي الحسن الأشعري "، وتركَ " مذهب الكُلاَّبِيَّةِ "، ورجعَ إلى مذهبِ الإمام أحمد بن حنبل، وقال: (أنا أقولُ بما يقولُ به إمامُ أهلِ السنَّة والجماعة أحمد بن حنبل: إنَّ الله استوى على العرش، وإنَّ له يدًا، وإنَّ له وجهًا). ذَكَرَ هذا في كتابه: " الإبانة عن أصول الديانة "، وذَكَرَ هذا في كتابه الثاني: " مقالات الإسلاميين واختلاف المصلين " ذَكَرَ (أنَّه على مذهب الإمام أحمد بن حنبل). وإن بَقِيَتْ عندَهُ بعضُ المخالفات..
    ولكنَّ أتباعَهُ بقوا على " مذهب الكُلابية "؛ فغالبُهٍم لا يزالون على مذهبه الأول، ولذلك يُسَممّون " بالأشعرية ": نسبةً إلى الأشعري في مذهبه الأول.
    أما بعدَ أن رجعَ إلى مذهبِ أهلِ السنّة والجماعة؛ فنسبةُ هذا المذهب إليه ظلمٌ، والصوابُ أن يُقال: " مذهبُ الكُلاَّبِيَّة "، لا مذهب أبي الحسن الأشعري - رحمه الله -؛ لأنه تابَ من هذا، وصَنَّفَ في ذلك كتابه: " الإبانة عن أصول الديانة "، وصَرَّح برجوعه، وتمسِّكِه بما كان عليه أهلُ السنّة والجماعة - خصوصًا الإمام: أحمد بن حنبل رحمه الله -، وإن كانت عندَه بعضُ المخالفات، مثلُ قولِه في الكلام: (إنَّه المعنى النفسي القائم بالذات، والقرآن حكاية - أو عبارة - عن كلام الله، لا أنَّه كلامُ الله).
    هذا " مذهبُ الأشاعرة "، منشَقٌّ عن " مذهبِ المعتزلةِ ".
    " ومذهبُ المعتزلةِ " منشَقٌّ عن " مذهبِ الجهمية ".
    ثُمَّ تفرَّعت مذاهبُ كثيرةٌ، كلُّها أصلُها " مذهبُ الجهمية ".
    هذه - تقريبًا - أصول الفِرَقِ [ قال ابن أبي رندقه الطرطوشي في كتابه " كتاب الحوادث والبدع " ص: 14: (اعلم أن علماءنا - رضي الله عنهم - قالوا: أصول البدع أربعة، وسائر الأصناف الاثنتين وسبعين فرقة من هؤلاء تفرقوا وتشعبوا، وهم: " الخوارج " وهي أول فرقة خرجت على علي بن أبي طالب - رضي الله عنه -، و " الروافض "، و " القدرية "، و " المرجئة "). ]
    على الترتيب.
    أولاً: " القدريةُ ".
    ثُمَّ: " الشيعةُ ".
    ثُمَّ: " الخوراجُ ".
    ثُمَّ: " الجهمية ".
    هذه أصول الفِرَق.
    وتفرَّقت بعدها فِرَقٌ كثيرةٌ لا يحصيها إلا الله، وصُنِّفتْ في هذا كتبٌ، منها :
    1 - كتاب: " الفَرْق بين الفِرَق " للبغدادي.
    2 - كتاب: " المِلل والنِّحَل " لمحمّد بن عبد الكريم الشهرستاني.
    3 - كتاب: " الفِصَل في المِلل والنِّحَل " لابن حزم.
    4 - كتاب: " مقالات الإسلاميين واختلاف المصلين " لأبي الحسن الأشعري.
    كُلُّ هذه الكتب في بيان الفِرَقِ، وتنوّعِها، وتعدادِها، واختلافِها، وتطوراتِها.

    ولا تزالُ إلى عصرنا هذا تتطوّر، وتزيدُ، وينشأُ عنها مذاهبُ أخرى، وتنشَقُّ عنها أفكارٌ جديدةٌ منبثقةٌ عن أصلِ الفكرة، ولم يبقَ على الحقِّ إلا أهلُ السنّة والجماعة، في كُلِّ زمانٍ ومكان هم على الحق إلى أن تقومَ الساعةُ، كما قال صلى الله عليه وسلم: (لا تزالُ طائفةٌ من أمتي ظاهرين على الحق، لا يضرُّهم من خذَلهم حتى يأتي أمرُ الله وهم كذلك). [ سبق تخريجه ص: (21). ]
    أهلُ السنّة والجماعة - والحمدُ للهِ - يخالفون " القدرية النفاة ":
    فيؤمنون بالقدر، وأنَّه من أركان الإيمان الستة، وأنه لا يحصُلُ في هذا الكونِ شيءٌ إلا بقضائه وقدره - سبحانه وتعالى -، لأنَّه الخلاَّق، الربُّ، المالَكُ، المتصرفُ :
    {اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ. لَهُ مَقَالِيدُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ}. [ سورة الزمر ]
    لا أحدَ يتصرَّفُ في هذا الكونِ إلا بمشيئتِه - سبحانه -، وإرادتِه، وقدرتِه، وتقديرِه.
    عَلِمَ الله ما كان، وما سيكون في الأزَلِ، ثم كتبه في اللوحِ المحفوظِ، ثم شاءَه وأوجدَه وخلقَه - سبحانه وتعالى -.
    وأنَّ للعبد مشيئةً، وكسبًا، واختيارًا، لا أنَّه مسلوبُ الإرادَةِ، مُجْبَرٌ على أفعالهِ - كما تقول " الجبرية الغُلاة " -؛ فهم يخالفونهم.
    ومذهبُهم في صحابة رسولِ الله صلى الله عليه وسلم: أنَّهم يوالونَهم كلَّهم، أهلَ البيت وغيرَ أهل البيت، يوالون الصحابة كلهم، المهاجرين، والأنصار، والذين اتبعوهم بإحسان، ويمتثلونَ بذلك قولَهُ - تعالى -:
    {وَالَّذِينَ جَاؤُوا مِن بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْإِيمَانِ وَلَا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلّاً لِّلَّذِينَ آمَنُوا}. [ سورة الحشر، الآية: 10 ]
    فهم يخالفون " الشيعة "، لأنَّهم يفرِّقون بينَ أصحابِ رسولِ الله صلى الله عليه وسلم فيوالون بعضهم، ويعادون بعضهم. فأهلُ السنّة يوالونهم جميعًا، ويحبونهم جميعًا، والصحابةُ يتفاضلون، وأفضلُهم: الخلفاءُ الراشدون، ثم بقيّة العشرة، ثم المهاجرون أفضلُ من الأنصارِ، وأصحابُ بدرٍ لهم فضيلةٌ، وأصحابُ بيعةِ الرضوانِ لهم فضيلةٌ، فلهم فضائلُ - رضي الله عنهم -.
    ويعتقدون: السمعَ والطاعةَ - خلافًا " للخوارجِ " -؛ فهم يعتقدون السمعَ والطاعةَ لولاةِ أمورِ المسلمين، ولا يرونَ الخروجَ على إمامِ المسلمين، وإنْ حصَلَ منه خطأ، ما دامَ هذا الخطأُ دون الكفر، ودون الشرك، حيث نهى صلى الله عليه وسلم عن الخروجِ عليهم لمجرَّدِ المعاصي، وقال: (إلا أن تروا كفرًا بواحًا، عندَكم فيه من الله برهان). [ جزءٌ من حديثِ عبادة بن الصامت، ولفظه: (دعانا رسول الله صلى الله عليه وسلم فبايعناه، فكان فيما أخذ علينا، أن بايعنا على السمع والطاعة، في منشطنا ومكرهنا، وعسرنا ويسرنا، وأَثَرَةٍ علينا، وأن لا نُنَازع الأمر أهله - قال: - إلا أن تروا كفرًا بواحًا، عندكم من الله فيه برهان).
    رواه البخاري: (7056)، ومسلم: (3/1470) (42). ]
    وكذلك هم يخالفون " الجهمية " ومشتقاتهم في أسماء الله وصفاته: فيؤمنونَ بما وصفَ الله به نفسَهُ، وما وصَفَهُ به رسولُه صلى الله عليه وسلم، ويتَّبعون في ذلك الكتابَ والسنَّة، من غير تشبيهٍ ولا تمثيل، من غير تحريفٍ ولا تعطيل، على حَدِّ قوله - سبحانه وتعالى -: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ}. [ سورة الشورى ]
    فمذهبُ أهلِ السنّةِ والجماعةِ - وللهِ الحمدِ - جامعٌ للحقِّ كُلِّه، في جميعِ الأبوابِ، وفي جميعِ المسائل، ومخالفٌ لكُلِّ ما عليه الفِرَقُ الضالةُ والنِّحَلُ الباطلة.
    فمن أراد النجاةَ فهذا مذهبُ أهلِ السنّةِ والجماعة.
    وأهلُ السنّةِ والجماعةِ في بابِ العبادةِ: يعبدونَ الله على مقتضَى ما جاءَتْ به الشريعةُ، خلافًا " للصوفيةِ " و " المبتدعةِ " و " الخرافيين "، الذين لا يتقَّيدونَ في عبادتِهم بالكتابِ والسنّةِ، بل يتبعون في ذلك ما رَسَمَهُ لهم شيوخُ الطُرقِ، وأئمةُ الضلال.
    نسألُ الله أنْ يجعلني وإياكم من أهلِ السنّةِ والجماعةِ؛ بمَنَّهِ وكرَمِهِ، وأن يرينا الحقَّ حقًّا ويرزقنا اتباعَهُ، وأنْ يرينا الباطلَ باطلاً ويرزقَنا اجتنابَهُ. إنه سميعٌ مجيب.
    هذا، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وآله وصحبه.


    الملفات المرفقة
يعمل...
X