أصل منشأ الفتن في الدين ممن لم يرسخ في علم الشريعة
إن تلمس العلل في داخل أمة الإسلام وإبرازها حتى ينكشف الأمر ويتجلى لمن يبحث عن الحقائق من أعظم أسباب العلاج لأمراض الأمة، وقد تكلم العلماء الراسخون وبينوا مواطن الخلل ومنابع العلل، ، ومما بينوه: حال من لم يتمكن من تعلم الشريعة ولم يقتد بمن قد رسخ فيها بل ذهب يدعي الاستقلال في العلم وسبق العلماء في التصدي لأمور لو عرضت على عمر بن الخطاب لجمع لها أهل بدر .
قال العلامة ابن القيم رحمه الله في "الصواعق" 2/411-413 وهو يتكلم عن الشبه والشكوك: (والناس في هذه الأشياء في الشرع على ثلاث مراتب: صنف لا يشعرون بالشكوك العارضة في هذا المعنى وخاصة متى تركت هذه الأشياء على ظاهرها في الشرع وهؤلاء هم الأكثر وهم الجمهور.
وصنف عرفوا حقيقة هذه الأشياء وهم العلماء الراسخون في العلم وهؤلاء هم الأقل من الناس.
وصنف عرضت لهم في هذه الأشياء شكوك ولم يقدروا على حلها وهؤلاء هم فوق العامة ودون العلماء، وهذا الصنف هم الذين يوجد في حقهم التشابه في الشرع وهم الذين ذمهم الله، وأما عند العلماء والجمهور فليس في الشرع تشابه... وهم صنفا الناس في الحقيقة لأن هؤلاء هم الأصحاء، والغذاء الملائم إنما يوافق أبدان الأصحاء، وأما أولئك فمرضى، والمرضى هم الأقل ، ولذلك قال الله تعالى: {فأما الذين في قلوبهم زيغ فيتبعون ما تشابه منه ابتغاء الفتنة وابتغاء تأويله} آل عمران، وهؤلاء أهل الجدل والكلام، وأشد ما عرض على الشريعة من هذا الصنف أنهم تأولوا كثيرا مما ظنوه ليس على ظاهره وقالوا: (إن هذا التأويل هو المقصود به وإنما أتى الله به في صورة المتشابه ابتلاء لعباده واختبارا لهم ونعوذ بالله من هذا الظن بالله).
وقال الإمام الطرطوشي وهو يتحدث عن حديث قبض العلماء: (فتدبر هذا الحديث فإنه يدل على أنه لا يؤتى الناس قط من قبل علمائهم وإنما يؤتون من قبل أنه إذا مات علماؤهم أفتى من ليس بعالم[1]
وقال الإمام الشوكاني في "البدر الطالع" 1/473 في ترجمة علي بن قاسم حنش: (ومن محاسن كلامه الذي سمعته منه: الناس على طبقات ثلاث:
فالطبقة العالية: العلماء الأكابر وهم يعرفون الحق والباطل، وإن اختلفوا لم ينشأ عن اختلافهم الفتن لعلمهم بما عند بعضهم بعضا.
والطبقة السافلة: عامة على الفطرة لا ينفرون عن الحق وهم أتباع من يقتدون به، إن كان محقا كانوا مثله وإن كان مبطلا كانوا كذلك.
والطبقة المتوسطة: هي منشأ الشر وأصل الفتن الناشئة في الدين وهم الذين لم يمعنوا في العلم حتى يرتقوا إلى رتبة الطبقة الأولى ولا تركوا حتى يكونوا من أهل الطبقة السافلة فإنهم إذا رأوا أحدا من أهل الطبقة العليا يقول مالا يعرفونه مما يخالف عقائدهم التي أوقعهم فيها القصور فوقوا إليه سهام التقريع ونسبوه إلى كل قول شنيع وغيروا فطر أهل الطبقة السفلى عن قبول الحق بتمويهات باطلة فعند ذلك تقوم الفتن الدينية على ساق).
ثم قال الشوكاني معقبا على كلامه : هذا معنى كلامه الذي سمعناه منه وقد صدق فإن من تأمل ذلك وجده كذلك. وقال أيضا في المصدر نفسه 1/65: (وهذه قاعدة مطردة في كل عالم يتبحر في المعارف العلمية ويفوق أهل عصره ويدين بالكتاب والسنة فإنه لابد أن يستنكره المقصرون، ويقع له معهم محنة بعد محنة ثم يكون أمره الأعلى وقوله الأولى ويصير له بتلك الزلازل لسان صدق في الآخرين ويكون لعلمه حظ لا يكون لغيره ...).
وقال الإمام ابن حزم رحمه الله في كتابه "الأخلاق والسير" ص (91): (لا آفة أضر على العلوم وأهلها من الدخلاء فيها وهم من غير أهلها فإنهم يجهلون ويظنون أنهم يعلمون ويفسدون ويقدرون أنهم يصلحون).
وقال الإمام الشاطبي رحمه الله: (إنه قد تقدم أن البدع لا تقع من راسخ في العلم وإنما تقع ممن لم يبلغ مبلغ أهل الشريعة المتصرفين في أدلتها والشهادة بأن فلانا راسخ في العلم وفلانا غير راسخ في غاية الصعوبة فإن كل من خالف وانحاز إلى فرقة يزعم أنه راسخ وغيره قاصر النظر فإن فرض على ذلك المطلب علامة وقع النـزاع إما في العلامة أو في مناطها)[2]
وقال أيضا: (إن كل راسخ لا يبتدع أبدا وإنما يقع الابتداع في من لم يتمكن من العلم الذي ابتدع فيه حسب ما دل عليه الحديث ويأتي تقريره بحول الله فإنما يؤتى الناس من قبل جهالهم الذين يحسبون أنهم علماء، وإذا كان كذلك فاجتهاد من اجتهد منهي عنه إذ لم يستكمل شروط الاجتهاد فهو على أصل العمومية ...)[3] وقال بعض العلماء: (لو سكت من لا يعلم حتى يتكلم من يعلم لانتهى الخلاف)
وقال علامة اليمن في عصره شيخنا مقبل الو ادعي رحمه الله وهو يتحدث عن الخلاف الحاصل بين أهل السنة وبما يزول فذكر أشياء يزول بها الخلاف ومنها سؤال أهل العلم ثم قال: (ولكن بعض طلبة العلم رضي بما عنده من العلم وأصبح يجادل به كل من يخالفه، وهذا سبب من أسباب الفرقة والاختلاف[4]
وقال صاحب "رسائل الإصلاح" 1/13: (إن فلاح الأمة في صلاح أعمالها، وصلاح أعمالها في صحة علومها، وصحة علومها أن يكون رجالها أمناء فيما يروون أو يصفون، فمن تحدث في العلم بغير أمانة فقد مس العلم بقرحة ووضع في سبيل فلاح الأمة حجر عثرة).
وقال العلامة ابن الجوزي: (أفضل الأشياء التزيد من العلم فإن من اقتصر على ما يعلمه فظنه كافيا استبد برأيه وصار تعظيمه لنفسه مانعا من الاستفادة والمذاكرة تبين له خطؤه ...[5]
أخي القارئ تأمل رحمك الله كلام هؤلاء الأئمة وخذه بعين الاعتبار لتقف على بالغ الضرر بالشريعة وبالأمة بسبب وجود هذا الصنف المذكور آنفا حيث قالوا فيه: (أشد ما عرض على الشريعة من هذا الصنف) وقالوا: (هو منشأ الشر وأصل الفتنة) وقالوا فيه: (ولا آفة أضر على العلوم وأهلها من الدخلاء فيها وهم من غير أهلها فإنهم يجهلون ويظنون أنهم يعلمون ويقدرون أنهم يصلحون) وقالوا فيه أيضا: (فإنما يؤتى الناس من قبل جهالهم الذين يحسبون أنهم علماء، ولكن بعض طلبة العلم رضي بما عنده من العلم وأصبح يجادل كل من يخالفه، وهذا سبب من أسباب الفرقة والاختلاف).
وخلاصة ما سبق ذكره ، ما يلي :
1- كل علماء البدع والتحزب والضلالات داخلون دخولا أوليا في هذا الصنف الذي تكلم عليه أهل العلم لأن شرهم ظاهر حيث فرقوا أمة الإسلام ومزقوها وجلبوا عليها الويلات وأنواع الرزايا، كما تقدم ذكره في مضار الابتداع والتحزب ولا يغرنك أن تسمع من يقول في علماء الفتن إنهم نالوا الثقافة العليا أو محققون أو عارفون أو جمعوا بين المنقول والمعقول أو أنهم حجة الإسلام أو لسان الشرع أو سيف الملة إذ لو كانوا على قدم الرسوخ في العلم لما جرى منهم ما جرى من مخالفة الشرع .
2- كثيرا ما يدخل أناس أنفسهم في زمرة العلماء أو يدخلهم غيرهم كذلك ، وعلى سبيل المثال:
أ – القراء الذين يجيدون قراءة كتاب الله .
ب- الخطباء والوعاظ
جـ - المفكرون والكتاب ، فهؤلاء مهما أحسنوا في فنهم فلن يكونوا في مقام علماء الأمة ومرجعيتها ، فالحذر من الغلو فيهم بخلع الألقاب الضخمة عليهم ومزاحمة أهل العلم بهم .
3- الراسخون في العلم هم الذين ورثوا الأنبياء في العلم والعمل: قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: (ومن له في الأمة لسان صدق عام بحيث يثنى عليه ويحمد في جماهير أجناس الأمة فهؤلاء هم ئمة الهدى ومصابيح الدجى) "مجموع الفتاوى" 11/43 فالراسخون هم من عرفوا بحمل الشريعة قولا واعتقادا ودعوة وتعليما وإفتاء وعملا وسلوك طريق الأنبياء فلم يغيروا ولم يبدلوا قال الله تعالى: {وجعلنا منهم أئمة يهدون بأمرنا لما صبروا وكانوا بآياتنا يوقنون} فهذه الآية أجمع الآيات في باب الرسوخ وقد قال غير واحد في قوله: (لما صبروا): عن الشبهات.
تنبيـه: قد يفهم القارئ من كلام العلماء السابق أن المستفيدين من طلاب العلم الشرعي مذمومون عموما ، وليس كذلك بل طلاب العلم هم سفراء أهل العلم إلى الناس ،وإنما يذم منهم من سابق أهل العلم واستغنى عن توجيهاتهم ونصائحهم وتلقى العلم على أيديهم .
حكم الله ورسوله على علماء البدع والتحزب بأنهم أئمة ضلال
وكيف لا يكون علماء البدع والتحزب من علماء الضلال وقد قال فيهم الرسول r: ((إن أخوف ما أخاف على أمتي كل منافق عليم اللسان))[6] وقد جاء عن ثوبان أنه قال: سمعت رسول الله r يقول: ((إنما أخاف على أمتي المضلين))[7] وفي البخاري 1/194 رقم (100) ومسلم برقم (2673) عن عبد الله بن عمرو قال: قال رسول الله r: ((إن الله لا يقبض العلم انتزاعا ينتزعه من العباد ولكن يقبض العلم بقبض العلماء حتى إذا لم يُبق عالما اتخذ الناس رؤوسا جهالا فسئلوا فأفتوا بغير علم فضلوا وأضلوا))
قال الطرطوشي: (فتدبر هذا الحديث فانه يدل على انه لا يؤتى الناس قط من قبل علمائهم وإنما يؤتون من قبل أنه إذا مات علماؤهم أفتى من ليس بعالم) "الحوادث والبدع" ص (77) وكيف يكون هؤلاء أئمة إسلام والرسول يسميهم أئمة ضلال ويحذر أمته من ضلالهم؟!
قال ابن عبد البر: (أجمع أهل الفقه والآثار من جميع الأمصار أن أهل الكلام أهل بدع وزيغ ولا يعدون عند الجميع في طبقات الفقهاء، وإنما العلماء أهل الأثر والتفقه فيه ويتفاضلون فيه بالإتقان والميز والفهم[8] وقال الشافعي: (كل من تكلم بكلام في الدين أو في شيء من هذه الأهواء ليس له فيه إمام متقدم من النبي e وأصحابه فقد أحدث في الإسلام حدثا[9]
وقال ابن رجب: (وفي الجملة ففي هذه الأزمان الفاسدة إما أن يرضى الإنسان لنفسه أن يكون عالما عند الله أو لا يرضى إلا بأن يكون عند أهل الزمان عالما فان رضي بالأول فليكتفي بعلم الله فيه ومن كان بينه وبين الله معرفة اكتفى بمعرفة الله إياه، ومن لم يرض إلا بأن يكون عالما عند الناس دخل في قوله r: ((من طلب العلم ليباهي به العلماء أو يماري به السفهاء أو ليصرف به وجوه الناس إليه فليتبوأ مقعده من النار))[10] وقال وهب ابن الورد: (رب عالم يقول له الناس: عالم، وهو معدود عند الله من الجاهلين[11]
وقال الحافظ الذهبي وهو يتحدث عن علماء السوء وأنهم ليس عندهم صدع بالحق: (لا كخلق من علماء السوء الذين يحسنون للأمراء ما يقتحمون به من الظلم والعسف ويقلبون لهم الباطل حقا قاتلهم الله، أو يسكتون مع القدرة على بيان الحق[12]
وقال أيضا وهو يتكلم عن علماء السوء: (وبعضهم لم يتق الله في علمه بل ركب الحيل وأفتى بالرخص وروى الشاذ من الأخبار، وبعضهم اجترأ على الله ووضع الأحاديث فهتكه الله وذهب علمه وصار زاده إلى النار[13]
وقال أيضا وهو يتحدث عن أقسام طلب العلم: (ومن طلب العلم للمدارس والإفتاء والفخر والرياء تحامق واختال وازدرى بالناس وأهلكه العجب ومقتته الأنفس {قد أفلح من زكاها وقد خاب من دساها} أي دسسها بالفجور والمعصية)[14] فعلماء الإسلام هم ورثة الأنبياء وهم أهل القرآن والسنة المقتدون بهما والسائرون على ما كان عليه السلف ومن تبعهم بإحسان والحمد لله.
خطورة شبه أهل الباطل على المسلمين ووجوب البعد عنها
إن دعاة البدع والتحزب يثيرون الشبه على الناس ويروجونها بينهم وتأثيرها خطير على من سمعها وسلم بها وقد حذر النبي r من قبول الشبه ممن عرف بها ، روى البخاري رقم (4547) ومسلم رقم (2665) من حديث عائشة رضي الله عنها قالت: (تلى رسول الله قوله تعالى: {هو الذي أنزل عليك الكتاب منه آيات محكمات هن أم الكتاب وأخر متشابهات} إلى قوله: {أولو الألباب} قالت: قال رسول الله r: ((فإذا رأيتم الذين يتبعون ما تشابه منه فأولئك الذين سمى الله فاحذروهم)) انظر إلى التوجيه النبوي (فاحذروهم ). وعن عمران بن حصين رضي الله عنه قال: قال رسول الله r: ((من سمع بالدجال فلينأ عنه فإن الرجل ليأتيه وهو يحسب أنه صادق تبعه مما يبعث به من الشبهات))[15]
ذكر الحافظ الذهبي في السير 7/261 عن الثوري أنه قال: (من أصغى بسمعه إلى صاحب بدعة وهو يعلم خرج من عصمة الله وأوكله إلى نفسه)
قال الحافظ الذهبي: (قلت: أكثر أئمة السلف على هذا التحذير يرون أن القلوب ضعيفة والشبه خطافة).
قال العلامة ابن القيم رحمه الله وهو يتكلم عن حديث ((لأن يمتلئ جوف أحدكم قيحا ...)) فبين أن الجوف يمتلئ بالشعر، فكذلك يمتلئ بالشبه والشكوك والخيالات والتقديرات التي لا وجود لها والعلوم التي لا تنفع المفاكهات والمضحاكات والحكايات ونحوها وإذا امتلأ القلب بذلك جاءته حقائق القرآن والعلم الذي به كماله وسعادته فلم يجد فيه فراغا للأول ولا قبولا[16]
وقال العلامة السعدي رحمه الله: (الشبه الباطلة والمقالات الفاسدة تختلف نتائجها وثمراتها باختلاف الناس فتحدث لأناس الجهل والضلال ولأناس الشك والارتياب ولأناس زيادة العلم واليقين، أما الذين تلتبس عليهم ويعتقدونها على علاتها أو يقلدون فيها غيرهم من غير معرفة بها بل يأخذونها مسلمة فهؤلاء يضلون ويبقون في جهلهم يعمهون وهم يظنون أنهم يعلمون ويتبعون الحق وما أكثر هذا الصنف فدهماء أهل الباطل كلهم من هذا الباب ضلال مقلدون وأما الذين تحدث لهم الشك فهم الحذاق ممن عرف الشبه وميز ما هي عليه من التناقض والفساد ولم يكن عنده من البصيرة في الحق ما يرجع إليه فإنهم يبقون في شك واضطراب يرون فسادها وتناقضها ولا يدرون أين يوجهون وأما الذين عندهم بصيرة وعلم بالحق فهؤلاء يزدادون علما ويقينا وبصيرة إذا رأوا ما عارض الحق من الشبه واتضح لهم فسادها ورأوا الحق محكما منتظما فإن الضد يظهر منه بضده ولهذا كانت معارضات أعداء الرسل وأتباعهم من أهل العلم والبصيرة لا تزيد الحق إلا يقينا وبصيرة[17]
وقال أيضا في نفس المصدر 232: (فالله قطع كل شبهة يتعلق بها المبطلون فالأحوال المختصة بالنبي r كلها متوفرة على صحة رسالته وعلى نفي الشبهات القريبة والبعيدة وهذا من رحمة الله بعباده لأن جمهور الخلق يخشى عليهم من كل شبهة تقال أو توجه إلى دعوة الرسل لعدم بصيرتهم).
وقال العلامة ابن القيم رحمه الله: (... والقلب يتوارده جيشان من الباطل جيش شهوات الغي وجيش شبهات الباطل فأيما قلب أصغى إليها وركن إليها تشربها وامتلأ بها فينضح لسانه وجوارحه بموجبها فإن أشرب شبهات الباطل تفجرت على لسانه الشكوك والشبهات والإيرادات فيظن الجاهل أن ذلك لسعة علمه وإنما ذلك من عدم علمه ويقينه وقال لي شيخ الإسلام وقد جعلت أورد عليه إيرادا بعد إيراد: لا تجعل قلبك للإيرادات والشبهات مثل السفنجة فيتشربها فلا ينضح إلا بها، ولكن اجعله كالزجاجة المصمتة تمر الشبهات بظاهرها ولا تستقر فيها فيراها بصفائه ويدفعها بصلابته وإلا فإذا أشربت قلبك كل شبهة تمر عليها صار مقرا للشبهات. فما أعلم أني انتفعت بوصية في دفع الشبهات كانتفاعي بذلك، وإنما سميت الشبهة شبهة لاشتباه الحق بالباطل فيها، فإنها تلبس ثوب الحق على جسم الباطل وأكثر الناس أصحاب حسن ظاهر فينظر الناظر فيما ألبسته من اللباس فيعتقد صحتها... وكل أهل نحلة ومقالة يكسون نحلتهم ومقالتهم أحسن ما يقدرون عليه من الألفاظ ومقالة مخالفيهم أقبح ما يقدرون عليه من الألفاظ ومن رزقه الله بصيرة فهو يكشف بها حقيقة ما تحت تلك الألفاظ من الحق والباطل ولا يغتر باللفظ كما قيل في هذا المعنى:
تقول هذا جني النحـل تمدحـه وإن تشأ قلت ذا قي الزنابير
مدحا وذما وما جاوزت وصفهما والحق قد يعتريه سوء تعبير
فإذا أردت الاطلاع على كنه المعنى هل هو حق أو باطل فجرده من لباس العبارة وجرد قلبك من النفرة والميل ثم اعط النظر حقه ناظرا بعين الإنصاف، فالناظر بعين العداوة يرى المحاسن مساوئ والناظر بعين المحبة عكسه وما سلم من هذا إلا من أراد الله كرامته وارتضاه لقبول الحق ...)[18]
وقال العلامة ابن القيم في "إعلام الموقعين" 1/137 في قوله تعالى: {وخضتم كالذي خاضوا}: (إشارة إلى الشبهات وهو داء المبتدعة وأهل الأهواء والخصومات ...).
وقال الإمام ابن بطة في "الإبانة": (... فكرت في السبب الذي أخرج أقواما من السنة والجماعة واضطرهم إلى البدعة والشناعة وفتح باب البلية على أفئدتهم وحجب نور الحق عن بصيرتهم فوجدت ذلك من وجهين أحدهما: البحث والتنقير وكثرة السؤال عما لا يغني ولا يضر العاقل جهله ولا ينفع المؤمن فهمه، والآخر: مجالسة من لا تؤمن فتنته وتفسد القلوب صحبته)[19]
وليس الخطر في الشبهات على العوام وطلاب العلم فحسب بل حتى على العلماء وكيف لا وأنت تجد من العلماء من وقع في شيء من الإرجاء ومنهم من وقع في شيء من القول بالقدر ومنهم من وقع في شيء من التشيع ومنهم من وقع في شيء من الاعتزال ومنهم من وقع في بعض التمشعر وهم كثر ومنهم من وقع في التصوف ومنهم من وقع في التحزب ومنهم ومنهم... فلا سلامة للعلماء من ذلك إلا بكثرة اللجوء إلى الله بالدعاء المشهور (يا مقلب القلوب ثبت قلبي على دينك " وبقوله عليه الصلاة والسلام : " واهدني لما اختلف فيه من الحق بإذنك إنك تهدي من تشاء إلى صراط مستقيم) وبالسير على ما كان عليه السلف علما وعملا في مواجهة أهل البدع ، وتجنب حضور مجالسهم وسماع شبههم ، هذا وسأضرب أمثلة تثبت خطورة سماع شبه أهل البدع ومدى تأثيرها:
روى صاحب "الإبانة" 2/471 عن البتي قال: (كان عمران بن حطان من أهل السنة فقدم غلام من أهل عمان مثل البغل فقلبه في مقعد وصار عمران بن حطان من رؤوس الخوارج وهو مادح عبد الرحمن بن ملجم قاتل علي بن أبي طالب رضي الله عنه.
وفي المصدر نفسه 2/462 (قال مغيرة: قال محمد بن السائب: قوموا بنا إلى المرجئة نسمع كلامهم قال: فما رجع حتى عقله يعني: الإرجاء. وقال يونس: أدركت الحسن يعيب قول معبد ثم تلطف له معبد فألقى في نفسه ما ألقى[20] ولكن الحسن قد رجع عن ذلك كله.
وجاء عن الإمام الشافعي أنه قال: (كلمتني أم بعض أصحاب الكلام على أن أكلم ابنها ليكف عن الخوض في الكلام قال: فكلمته ليكف عن الكلام فدعاني إلى الكلام)[21]
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: (وفي الحكاية المعروفة أن عمرو بن عبيد وهو رأس من رؤوس المعتزلة مر بمن كان يناجي سفيان الثوري ولم يعلم أنه سفيان فقال عمرو لذلك الرجل: من هذا؟ قال: هذا سفيان الثوري قال: من أهل الكوفة؟ قال: لو علمت بذلك لدعوته إلى رأيي ولكن ظننته من هؤلاء المدنيين الذين يجيؤونك من فوق[22]
وذكر الحافظ الذهبي في السير 15/559 قال إبراهيم بن أحمد الطبري سمعت الخلدي يقول: مضيت إلى عباس الدوري وأنا حدث فكتبت عنه مجلسا وخرجت فلقيني صوفي فقال: أيش هذا؟ فأريته، فقال: ويحك تدع علم الخرق وتأخذ علم الورق ثم خرق الأوراق فدخل كلامه في قلبي فلم أعد إلى عباس).
وقال الحافظ الذهبي: (اهربوا بدينكم من شبه الأوائل وإلا وقعتم في الحيرة)[23]
وعلى كلٍ الشبه تعود على صاحبها بالشكوك والحيرة والاضطراب ، بل تحول منهجه وعقيدته إلى الإنحراف حسب قوتها ، فالشبه باب شر ، وتجنبها أمر سهل على من سهله الله عليه وذلك أن تقبل أمرين اثنين وتحرص عليهما أشد الحرص وهما الكتاب والداعية، أما الكتاب فلا تقرأ كتابا إلا بعد عرضه على أهل العلم ، وأما الداعية أو العالم فلا تتلقى عنه شيئا من دينك حتى تعلم صحة معتقده وسلامة منهجه ، وذلك عن طريق شهادة أهل الحديث له بذلك .
تنبيه : من مستجدات عصرنا وجود الأشرطة وما تفرع عنها ، فحكمها حكم ما سبق .
لا تغتر بظاهر رجوع أهل البدع:
إن أهل البدع إذا رأوا نفرة الناس عنهم وشعروا بسقوط مكانتهم أو لحقتهم المؤاذاة لهم بالسجن أو بالطرد وما أشبه ذلك تظاهر بعضهم بالرجوع عن بدعته وهم غير صادقين، وعلى سبيل المثال: غيلان الدمشقي أظهر الرجوع عن بدعة القدر عند الخليفة عمر بن عبد العزيز ثم بعد ذلك عاد يدعو إليها حتى قتل في عهد هشام بن عبد الملك.
وهذا أيوب السختياني قال: كان رجل يرى رأيا فرجع عنه فأتيت محمد بن سيرين فرحا بذلك أخبره فقلت: أشعرت أن فلانا ترك رأيه الذي كان يرى؟ فقال: انظر إلى مَ يتحول، إن آخر الحديث أشد عليهم من الأول، أوله: (يمرقون من الدين) وآخره: (ثم لا يعودون)[24]
فأهل البدع محتالون مخادعون ماكرون فإذا قام أحدهم يتوب فالمطلوب اعتبار الضوابط المعتبرة عند أهل العلم المتعلقة بتوبته فكم من تائب ظهر منه حسن التوبة والرجوع إلى الحق فرفعه الله وقبله أهل السنة ودافعوا عنه، وعلى سبيل المثال: رجوع أبي الحسن الأشعري فقد صدق في رجوعه بدليل إعلانه التوبة وتأليفه في نقض ما كان عليه نصرة للحق وتركا لبدعته كما هو معلوم.
حرمان الله أهل البدع غالبا من التوبة والرجوع إليه سبحانه:
الغالب أن أهل البدع يخذلون فلا يتوبون إلى الله خصوصا الذين تأصلت فيهم البدع وأشربتها قلوبهم وإن كانوا مطالبين بالتوبة إلى الله قال رسول الله r: ((إن الله حجب التوبة عن كل صاحب بدعة))[25] وقال الرسول r في الخوارج: ((يخرجون من الدين كما يخرج السهم من الرمية ثم لا يعودون فيه ...))[26] وهذا الحديث وإن كان في الخوارج نصا إلا أنه يدخل فيه أهل البدع عموما لأنهم يشتركون في الخروج من الإسلام شيئا فشيئا. وقال الرسول r: ((تتجارى بهم الأهواء كما يتجارى الكَلَب بصاحبه لا يبقى منه عرق ولا مفصل إلا دخله))[27] بل قال الله تعالى: {قل هل ننبئكم بالأخسرين أعمالا الذين ضل سعيهم في الحياة الدنيا وهم يحسبون أنهم يحسنون صنعا} الكهف، وقال تعالى: {أفمن زين له سوء عمله فرآه حسنا} فاطر، وقال تعالى: {أفمن كان على بينة من ربه كمن زين له سوء عمله واتبعوا أهواءهم} محمد، وقال: {فلما زاغوا أزاغ الله قلوبهم} الصف
قال الأوزاعي مخاطبا أهل البدع: (لا ترجعون من بدعة إلا تعلقتم بأخرى هي أضر منها)[28]
وروي عن علي رضي الله عنه أنه قال: (الهوى عند من خالف السنة حق وإن ضربت فيه عنقه)[29]
وقال ابن سيرين: (ما أخذ رجل بدعة فراجع سنة)[30]
وقال ابن عون: (إذا غلب الهوى على القلب استحسن الرجل ما كان يستقبحه)[31]
وقال أبو عمرو الشيباني : (كان يقال يأبى الله لصاحب بدعة توبة وما انتقل صاحب بدعة إلا إلى شر منها)[32]
وقال عامر بن عبد الله : (ما ابتدع رجل بدعة إلا أتى غدا بما ينكره اليوم)[33]
وقال الفضيل بن عياض: (لا يزال العبد مستورا حتى يرى قبيحه حسنا).
وقال الثوري: (البدعة أحب إلى إبليس من المعصية، فالمعصية يتاب منها والبدعة لا يتاب منها)[34]
انظر أخي القارئ إلى خطر البدعة وشؤمها على صاحبها وكيف صارت حائلا بينه وبين أعظم ما يكرم الله ويرحم عبده به التوبة والمغفرة.
وقال شيخ الإسلام: (ولهذا قال طائفة من السلف منهم الثوري: البدعة أحب إلى إبليس من المعصية، فالمعصية يتاب منها والبدعة لا يتاب منها، وهذا معنى ما روي عن طائفة أنهم قالوا: إن الله حجز التوبة على كل صاحب بدعة بمعنى: أنه لا يتوب منها لأنه يحسب أنه على هدى، ولو تاب لتاب الله عليه كما يتوب على الكافر. ومن قال إنه لا يقبل توبة مبتدع مطلقا فقد غلط غلطا منكرا، ومن قال: ما أذن الله لصاحب بدعة في توبة فمعناه: ما دام مبتدعا يراها حسنة لا يتوب منها، فأما إذا أراه الله أنها قبيحة فإنه يتوب منها كما يرى الكافر أنه على ضلال، وإلا فمعلوم أن كثيرا ممن كان على بدعة تبين له ضلالها وتاب الله عليه منها، وهؤلاء لا يحصيهم إلا الله)[35]
وقال الإمام الشاطبي: (وكل بدعة فللهوى فيها مدخل لأنها راجعة إلى نظر مخترعها لا إلى نظر الشارع فعلى حكم التبع لا بحكم الأصل مع ضميمة أخرى وهي أن المبتدع لابد له من تعلق بشبهة دليل ينسبها إلى الشارع ويدعي أن ما ذكره هو مقصود الشارع فصار هواه مقصودا بدليل شرعي في زعمه فكيف يمكنه الخروج عن ذلك وداعي الهوى مستمسك بحسن ما يتمسك به وهو الدليل الشرعي في الجملة)[36]
والذي يعول عليه في توبة المبتدع سواء كانت البدعة مغلظة أو غير مغلظة أن الله يقبل توبته إن تاب إليه إلا أن موانع توبة المبتدع أكثر سببا من توبة العاصي لأن المبتدع يحتاج إلى علم بأنه مبتدع واقتناع بذلك بخلاف العاصي. وقد لا يقبل العلم وإن قبله فلا يقنع بذلك، والذي يظهر أن الذين تابوا من أهل البدع التابع والمتبوع أقل من الذين لم يتوبوا وهذا يختلف باختلاف الأزمنة والأمكنة ولا حول ولا قوة إلا بالله والله الهادي إلى سواء السبيل.
وجوب الرد على أهل البدع ومناظرتهم بالضوابط الشرعية
إن ردود علماء أهل السنة على أهل البدع لها أهمية كبيرة وكيف لا وهي دفاع عن الحق وإظهار له وإزهاق للباطل وإحباط له والقرآن الكريم والسنة المطهرة كفيلان بمقاومة المفسدين قال الله تعالى: {ولا يأتونك بمثل إلا جئناك بالحق وأحسن تفسيرا} وقال تعالى: {إن هذا القرآن يقص على بني إسرائيل أكثر الذي هم فيه يختلفون وإنه لهدى ورحمة للمؤمنين} ففيه الرد على كافة المبطلين من الدهريين والماديين والمعطلين والمشركين والمتمسكين بالأديان المبدلة والمحرفة والمنسوخة من يهودية ونصرانية وفيه المقاومة للعقلانيين والمنافقين . وقال تعالى : ]َكَذَلِكَ نفَصِّلُ الآيَاتِ وَلِتَسْتَبِينَ سَبِيلُ الْمُجْرِمِينَ [الأنعام55
والراد على أهل البدع بالطريقة المرضية شرعا يعد مجاهدا في سبيل الله قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: (فالراد على أهل البدع مجاهد حتى كان يحيى بن يحيى يقول: الذب عن السنة أفضل من الجهاد ...)[37]
وقال العلامة ابن القيم وهو يتحدث عن أهل التأويل الفاسد: (فكشف عورات هؤلاء وبيان فضائحهم وفساد قواعدهم من أفضل الجهاد في سبيل الله ...)[38]
وقال أيضا وهو يبين أنواع الأقلام: (القلم الثاني عشر: القلم الجامع وهو قلم الرد على المبطلين ورفع سنة المحقين وكشف أباطيل المبطلين على اختلاف أنواعها وأجناسها وبيان تناقضهم وتهافتهم وخروجهم عن الحق ودخولهم في الباطل، وهذا القلم في الأقلام نظير الملوك في الأنام وأصحابه أهل الحجة الناصرون لما جاءت به الرسل المحاربون لأعدائهم وهم الداعون إلى الله بالحكمة والموعظة الحسنة والمجادلون لمن خرج عن سبيله بأنواع الجدال وأصحاب هذا القلم حرب لكل مبطل وعدو لكل مخالف للرسل)[39]
وقال أيضا: (ومن بعض حقوق الله على عبده رد الطاعنين على كتابه ورسوله ودينه ومجاهدتهم بالحجة والبيان والسيف والسنان والقلب والجنان وليس وراء ذلك حبة خردل من إيمان)[40]
وقال أيضا: (فما ذنب أهل السنة والحديث إذا نطقوا بما نطقت به النصوص وأمسكوا عما أمسكت عنه ...وردوا تأويل الجاهلين وانتحال المبطلين الذين عقدوا ألوية الفتنة وأطلقوا أعنة المحنة وقالوا على الله وفي الله بغير علم فردوا باطلهم وبينوا زيفهم وكشفوا إفكهم ونافحوا عن الله ورسوله)[41]
والقاعدة المعروفة تقول : إذا وضح الحق وبان لم يبق للمعارضة العلمية والعملية محل، قال الله في كتابه: {فبأي حديث بعد الله وآياته يؤمنون} الجاثية، وقال تعالى: {فماذا بعد الحق إلا الضلال فأنى تصرفون} يونس، والآيات كثيرة تبين أن المحاجة لأهل الباطل والمناظرة لهم تجعل الحق يصير واضحا جليا وكل ما كان المبطلون يصولون بباطلهم ويفسدون في الأرض كانت دواعي المجادلة والمناظرة لهم آكد فالله الله في الدفاع عن الإسلام وأهله وضوابط المناظرة المحمودة المشروعة كالآتي:
1- أن تكون مجادلة بالحق لدحض الباطل لأن الله ذم المجادلين بالباطل الداحضين للحق قال تعالى: {وجادلوا بالباطل ليدحضوا به الحق} غافر.
2- أن يكون المناظر عالما فيما يناظر فيه فان الله قد ذم من يجادل بغير علم فقال: {ها أنتم هؤلاء حاججتم فيما لكم به علم فلم تحاجون فيما ليس لكم به علم} آل عمران قال شيخ الإسلام: (وكل من لم يناظر أهل الإلحاد والبدع مناظرة تقطع دابرهم لم يكن أعطى الإسلام حقه ولا وفى بموجب العلم والإيمان ولا حصل بكلامه شفاء الصدور والطمأنينة في النفوس ولا أفاد كلامه العلم واليقين)ا.هـ
3- أن تكون المناظرة لقصد تعليم الجاهل بالحق لأن الله ذم المجادلة بعد بيان الحق وإيضاحه قال تعالى: {يجادلونك في الحق بعدما تبين} الأنفال.
4- إخلاص النية لله لأن مناظرة أهل السنة القصد منها حراسة الدين ونصرة الحق ورد المبطل إلى حظيرة الحق.
5- التزام المناظر بالأدلة الشرعية في مناظرته فلا يرد الخطأ بخطأ والباطل بباطل كأن يستدل بما هو مذموم في الشرع كالأحاديث الواهية والآراء الشاذة قال شيخ الإسلام: (ومن أراد أن يناظر مناظرة شرعية بالعقل الصريح فلا يلزم لفظا بدعيا ولا يخالف دليلا شرعيا ولا عقليا فإنه يسلك طريقة أهل السنة والحديث)ا.هــ
وقال الإمام الشاطبي: (... روينا أن الخصمين إما أن يتفقا على أصل يرجعان إليه أو لا فان لم يتفقا على شيء لم يقع بمناظرتهما فائدة بحال ...)
منقول من موقع الشيخ محمد الإمام