[التعصب مذموم دعوها فانها منتة ]
كتبه أبومقبل يونس العدني
إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا،ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.
*
{ يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله حقَّ تقاته ولا تموتنَّ إلا وأنتم مسلمون} (آل عمران:102)، {يا أيها الناس اتقوا ربكم الذي خلقكم من نفس واحدة وخلق منها زوجها وبثَّ منهما رجالاً كثيراً ونساءً واتقوا الله الذي تساءلون به والأرحام إنَّ الله كان عليكم رقيباً} (النساء: 1)، {يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وقولوا قولاً سديداً. يصلح لكم أعمالكم ويغفر لكم ذنوبكم ومن يطع الله ورسوله فقد فاز فوزاً عظيماً} (الأحزاب:70-71).
*
أما بعد، فإن خير الحديث كتاب الله، وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار.
*
التعصب سبب للفرقه
قال تعالى : {وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَأُوْلَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ * يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ فَأَمَّا الَّذِينَ اسْوَدَّتْ وُجُوهُهُمْ أَكَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ فَذُوقُوا الْعَذَابَ بِمَا كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ * وَأَمَّا الَّذِينَ ابْيَضَّتْ وُجُوهُهُمْ فَفِي رَحْمَةِ اللَّهِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ}.
قال ابن جرير -رحمه الله- يعني بذلك جل ثناؤه : "ولا تكونوا يا معشر الذين آمنوا كالذين تفرقوا من أهل الكتاب، واختلفوا في دين الله وأمره ونهيه، من بعد ما جاءهم البينات، من حجج الله، فيما اختلفوا فيه، وعلموا الحق فيه، فتعمدوا خلافه، وخالفوا أمر الله، ونقضوا عهده وميثاقه، جرأة على الله، وأولئك لهم -يعني ولهؤلاء الذين تفرقوا، واختلفوا من أهل الكتاب، من بعد ما جاءهم- عذاب من عند الله عظيم، يقول جل ثناؤه : "فلا تفرقوا يا معشر المؤمنين في دينكم تفرق هؤلاء في دينهم، ولا تفعلوا فعلهم، وتستنوا في دينكم بسنتهم، فيكون لكم من عذاب الله العظيم مثل الذي لهم".
ثم ذكر ابن جرير بسنده عن ابن عباس -رضي الله عنهما- قوله : {وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا}، ونحو هذا في القرآن أمر الله -جل ثناؤه- المؤمنين بالجماعة، فنهاهم عن الاختلاف والفرقة، وأخبرهم إنما هلك من كان قبلهم بالمراء والخصومات في دين الله".
وقال ابن كثير -رحمه الله- في تفسير الآيات السابقة : "ينهى الله -تبارك وتعالى- هذه الأمة أن يكونوا كالأمم الماضين في افتراقهم واختلافهم وتركهم الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر مع قيام الحجة عليهم".
ثم ساق الإمام ابن كثير -رحمه الله- حديث الافتراق الذي رواه الإمام أحمد -رحمه الله- ثم قال : "وقد ورد هذا الحديث من طرق" وذلك إشارة إلى توثيقه وتقويته.
*
وقال القرطبي -رحمه الله- : "فمن بدل أو غير أو ابتدع في دين الله ما لا يرضاه الله ولم يأذن به الله فهو من المطرودين عن الحوض المبتعدين منه المسودي الوجوه، وأشدهم طردًا وإبعادًا من خالف جماعة المسلمين وفارق سبيلهم، كالخوارج على اختلاف فرقها، والروافض على تباين ضلالها، والمعتزلة على أصناف أهوائها، فهؤلاء كلهم مبدلون ومبتدعون، وكذلك الظلمة المسرفون في الجور والظلم وطمس الحق وقتل أهله وإذلالهم، والمعلنون بالكبائر المستخفون بالمعاصي، وجماعة أهل الزيغ والأهواء والبدع، كل يخاف عليهم أن يكونوا عنوا بالآية، والخبر عن النبي صلى الله عليه وسلم؛ ولا يخلد في النار إلا كافر جاحد ليس في قلبه مثقال حبة خردل من إيمان. وقد قال ابن القاسم : وقد يكون من غير أهل الأهواء من هو شر من أهل الأهواء وكان يقول : تمام الإخلاص تجنب المعاصي".
*
وقال الشوكاني -رحمه الله- في تفسير الآية : {وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا}، هم اليهود والنصارى عند جمهور المفسرين، وقيل : هم المبتدعة من هذه الأمة، وقيل : الحرورية، والظاهر الأول. والبينات : الآيات الواضحة المبينة للحق الموجبة لعدم الاختلاف".
*
أما قوله تعالى : {يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ}، فقد قال ابن كثير -رحمه الله- في تفسيرها : "يعني يوم القيامة حين تبيض وجوه أهل السنة والجماعة، وتسود وجوه أهل البدعة والفرقة- قاله ابن عباس -رضي الله عنهما-".
*
والقول الذي ذكره ابن كثير -رحمه الله- عن ابن عباس -رضي الله عنهما- منقول عن الإمام مالك -رحمه الله- كما نص على ذلك الشاطبي بقوله : "وقال ابن وهب : سمعت مالكًا يقول : ما آية في كتاب الله أشد على أهل الاختلاف من أهل الأهواء من هذه الآية : {يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ}، -إلى قوله- {بِمَا كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ}. قال مالك : فأي كلام أبين من هذا؟ فرأيته يتأولها لأهل الأهواء. ورواه ابن القاسم وزاد : قال مالك : إنما هذه الآية لأهل القبلة".
*وقد وردت احاديث كثيرة في ذم التعصب بغير حق
والأحاديث الواردة عن النبي صلى الله عليه وسلم في هذا الباب سيدور معناها على ذم التعصب لأحد بالباطل ، كالتعصب للقوم والقبيلة والبلد ، بحيث يقف مع قومه أو قبيلته أو أهل بلده ضد من نازعهم ، سواء كانوا على الحق أو على الباطل .
ومثل ذلك حين حدث شجار بين أنصاري ومهاجري ، فتنادى البعض : يا للأنصار ، وتنادى آخرون : يا للمهاجرين ، فذم النبي صلى الله عليه وسلم ذلك ، وجعله من دعوى الجاهلية ؛ لأن مقتضاه أن ينصر الأنصاري أخاه الأنصاري ولو كان مبطلا ، وأن ينصر المهاجر أخاه المهاجر ولو كان مبطلا أيضا ، وإنما شأن المؤمن أن يقف مع الحق ، وأن ينصر المظلوم برفع الظلم عنه ، وينصر الظالم بحجزه ومنعه عن الظلم ، لا يفرق بين من كان من قومه أو من خارج قومه ؛ إذ الجميع يشملهم وصف الإيمان والإسلام .
الحديث الأول رواه أبو داود (5121) عَنْ جُبَيْرِ بْنِ مُطْعِمٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : ( لَيْسَ مِنَّا مَنْ دَعَا إِلَى عَصَبِيَّةٍ وَلَيْسَ مِنَّا مَنْ قَاتَلَ عَلَى عَصَبِيَّةٍ وَلَيْسَ مِنَّا مَنْ مَاتَ عَلَى عَصَبِيَّةٍ ). وهو حديث ضعيف كما قال الألباني في ضعيف أبي داود .
قال في "عون المعبود" : " ( لَيْسَ مِنَّا ) : أَيْ لَيْسَ مِنْ أَهْل مِلَّتنَا ( مَنْ دَعَا ) : أَيْ النَّاس ( إِلَى عَصَبِيَّة ) : قَالَ الْمَنَاوِيُّ : أَيْ مَنْ يَدْعُو النَّاس إِلَى الِاجْتِمَاع عَلَى عَصَبِيَّة وَهِيَ مُعَاوَنَة الظَّالِم . وَقَالَ الْقَارِي : أَيْ إِلَى اِجْتِمَاع عَصَبِيَّة فِي مُعَاوَنَة ظَالِم . وَفِي الْحَدِيث " مَا بَال دَعْوَى الْجَاهِلِيَّة " قَالَ صَاحِب النِّهَايَة : هُوَ قَوْلهمْ : يَا آلُ فُلَان ، كَانُوا يَدْعُونَ بَعْضهمْ بَعْضًا عَنْ الْأَمْر الْحَادِث ( مَنْ قَاتَلَ عَلَى عَصَبِيَّة ) : أَيْ عَلَى بَاطِل , وَلَيْسَ فِي بَعْض النُّسَخ لَفْظ (عَلَى).
( مَنْ مَاتَ عَلَى عَصَبِيَّة ) : أَيْ عَلَى طَرِيقَتهمْ مِنْ حَمِيَّة الْجَاهِلِيَّة . قَالَ الْمُنْذِرِيُّ . قَالَ أَبُو دَاوُدَ فِي رِوَايَة اِبْن الْعَبْد هَذَا مُرْسَل , عَبْد اللَّه بْن أَبِي سُلَيْمَان لَمْ يَسْمَع مِنْ جُبَيْر . هَذَا آخِر كَلَامه . وَفِي إِسْنَاده مُحَمَّد بْن عَبْد الرَّحْمَن الْمَكِّيّ وَقِيلَ فِيهِ الْعَكِيّ . قَالَ أَبُو حَاتِم الرَّازِيُّ : هُوَ مَجْهُول , وَقَدْ أَخْرَجَ مُسْلِم فِي صَحِيحه وَالنَّسَائِيُّ فِي سُنَنه مِنْ حَدِيث أَبِي هُرَيْرَة بِمَعْنَاهُ أَتَمَّ مِنْهُ , وَمِنْ حَدِيث جُنْدُب بْن عَبْد اللَّه الْبَجَلِيّ مُخْتَصَرًا .
لكن الحديث معناه صحيح ، وقد روى مسلم (1850) عَنْ جُنْدَبِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ الْبَجَلِيِّ قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : ( مَنْ قُتِلَ تَحْتَ رَايَةٍ عِمِّيَّةٍ يَدْعُو عَصَبِيَّةً أَوْ يَنْصُرُ عَصَبِيَّةً فَقِتْلَةٌ جَاهِلِيَّةٌ ) .
والحديث الثاني : رواه البخاري (4905) ومسلم (2584) عن جَابِر بْن عَبْدِ اللَّهِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ كُنَّا فِي غَزَاةٍ فَكَسَعَ رَجُلٌ مِنْ الْمُهَاجِرِينَ رَجُلًا مِنْ الْأَنْصَارِ ، فَقَالَ الْأَنْصَارِيُّ : يَا لَلْأَنْصَارِ !! وَقَالَ الْمُهَاجِرِيُّ : يَا لَلْمُهَاجِرِينَ !!
فَسَمِعَ ذَلِكَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، فَقَالَ : ( مَا بَالُ دَعْوَى الْجَاهِلِيَّةِ ؟ ) قَالُوا : يَا رَسُولَ اللَّهِ كَسَعَ رَجُلٌ مِنْ الْمُهَاجِرِينَ رَجُلًا مِنْ الْأَنْصَارِ .
فَقَالَ : ( دَعُوهَا فَإِنَّهَا مُنْتِنَةٌ ) .
والكسْع : ضرب الدبر باليد أو بالرجل .
وروى مسلم (2584) عَنْ جَابِرٍ قَالَ : اقْتَتَلَ غُلَامَانِ : غُلَامٌ مِنْ الْمُهَاجِرِينَ ، وَغُلَامٌ مِنْ الْأَنْصَارِ ؛ فَنَادَى الْمُهَاجِرُ ـ أَوْ الْمُهَاجِرُونَ ـ : يَا لَلْمُهَاجِرِينَ !! وَنَادَى الْأَنْصَارِيُّ : يَا لَلْأَنْصَارِ !! فَخَرَجَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ : مَا هَذَا ؟! دَعْوَى أَهْلِ الْجَاهِلِيَّةِ ؟! قَالُوا : لَا يَا رَسُولَ اللَّهِ ، إِلَّا أَنَّ غُلَامَيْنِ اقْتَتَلَا ، فَكَسَعَ أَحَدُهُمَا الْآخَرَ .
قَالَ : فَلَا بَأْسَ ؛ وَلْيَنْصُرْ الرَّجُلُ أَخَاهُ ، ظَالِمًا أَوْ مَظْلُومًا ؛ إِنْ كَانَ ظَالِمًا فَلْيَنْهَهُ ، فَإِنَّهُ لَهُ نَصْرٌ . وَإِنْ كَانَ مَظْلُومًا فَلْيَنْصُرْهُ ) .
قال النووي رحمه الله في "شرح مسلم" : " وَأَمَّا تَسْمِيَته صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ذَلِكَ دَعْوَى الْجَاهِلِيَّة فَهُوَ كَرَاهَة مِنْهُ لِذَلِكَ ; فَإِنَّهُ مِمَّا كَانَتْ عَلَيْهِ الْجَاهِلِيَّة مِنْ التَّعَاضُد بِالْقَبَائِلِ فِي أُمُور الدُّنْيَا وَمُتَعَلِّقَاتهَا , وَكَانَتْ الْجَاهِلِيَّة تَأْخُذ حُقُوقهَا بِالْعَصَبَاتِ وَالْقَبَائِل , فَجَاءَ الْإِسْلَام بِإِبْطَالِ ذَلِكَ , وَفَصَلَ الْقَضَايَا بِالْأَحْكَامِ الشَّرْعِيَّة . فَإِذَا اِعْتَدَى إِنْسَان عَلَى آخَر حَكَمَ الْقَاضِي بَيْنهمَا , وَأَلْزَمَهُ مُقْتَضَى عِدْوَانه كَمَا تَقَرَّرَ مِنْ قَوَاعِد الْإِسْلَام .
وَأَمَّا قَوْله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي آخِر هَذِهِ الْقِصَّة : ( لَا بَأْس ) فَمَعْنَاهُ لَمْ يَحْصُل مِنْ هَذِهِ الْقِصَّة بَأْس مِمَّا كُنْت خِفْته ; فَإِنَّهُ خَافَ أَنْ يَكُون حَدَثَ أَمْر عَظِيم يُوجِب فِتْنَة وَفَسَادًا , وَلَيْسَ هُوَ عَائِدًا إِلَى رَفْع كَرَاهَة الدُّعَاء بِدَعْوَى الْجَاهِلِيَّة . قَوْله ( فَكَسَعَ أَحَدهمَا الْآخَر ) هُوَ بِسِينٍ مُخَفَّفَة مُهْمَلَة أَيْ ضَرَبَ دُبُره وَعَجِيزَته بِيَدٍ أَوْ رِجْل , أَوْ سَيْف وَغَيْره " انتهى .
والحديث الثالث : رواه النسائي في الكبرى (8865) وأحمد في المسند ( : عن أبي بن كعب قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : ( من تعزى بعزاء الجاهلية فأعضوه ولا تكنوا )، وفي رواية : ( فَأَعِضُّوهُ بِهَنِ أبيه ولا تَكْنُوا). والحديث حسنه شعيب الأرنؤوط في تحقيق المسند .
وصححه الألباني كما في السلسلة الصحيحة - (1 / 537) وصحيح الأدب المفرد - (1 / 376) .
قال الملا علي القاري في "شرح مشكاة المصابيح" (14/ 183) : " من تعزى : أي انتسب بعزاء الجاهلية ـ بفتح العين ـ أي نسب أهلها وافتخر بآبائه وأجداده . فأعضُّوه : بتشديد الضاد المعجمة ، من أعضضت الشيء جعلته يعضه ، والعض أخذ الشيء بالأسنان أو باللسان على ما في القاموس . بِهَنِ أبيه : بفتح الهاء وتخفيف النون ، وفي النهاية : الهن بالتخفيف والتشديد كناية عن الفرج . أي قولوا له : أعضض بذكر أبيك أو أيره أو فرجه . ولا تَكنوا : بفتح أوله وضم النون ، أي لا تكنوا بذكر الهن عن الأير ، بل صرحوا له بآلة أبيه التي كانت سببا فيه ، تأديبا وتنكيلا " انتهى .
وعدّ النّبيّ صلّى اللّه عليه وسلّم : ميتة المتعصّب ميتةً جاهليّةً ، فعن أبي هريرة رضي اللّه عنه أنّه قال قال : النّبىّ -صلى الله عليه وسلم- « من خرج من الطّاعة وفارق الجماعة فمات مات ميتةً جاهليّةً ومن قاتل تحت رايةٍ عمّيّةٍ يغضب لعصبةٍ أو يدعو إلى عصبةٍ أو ينصر عصبةً فقتل فقتلةٌ جاهليّةٌ ومن خرج على أمّتى يضرب برّها وفاجرها ولا يتحاش من مؤمنها ولا يفى لذى عهدٍ عهده فليس منّى ولست منه ».رواه مسلم
وقد زرع اهل الباطل هذا المرض البغيض في اوساطنا فلان جنوبي فلان شمالي على وجه التنقص والعصبية ؛ ولقد ابطل الاسلام هذا
كما أبطل الإسلام التّفاخر بالآباء ومآثر الأجداد ، قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم : لينتهينّ أقوام يفتخرون بآبائهم الّذين ماتوا ، إنّما هم فحم جهنّم ، أو ليكوننّ أهون على اللّه من الجعل الّذي يدهده الخرء بأنفه ، إنّ اللّه قد أذهب عنكم عبّيّة الجاهليّة ، إنّما هو مؤمن تقيّ وفاجر شقيّ ، النّاس كلّهم بنو آدم وآدم خلق من ترابٍ .رواه الترمذي قال وفي الباب عن ابن عمر و ابن عباس وأبي هريرة .
قال الشيخ الألباني صحيح كما في الجامع الصغير وزيادته - (1 / 962) ورواه أبو داود والترمذي وحسنه وصححه ابن تيمية وغيره وهو مخرج في غاية المرام 312 وسلسلة الأحاديث الضعيفة والموضوعة وأثرها السيئ في الأمة - (1 / 299) وصحيح الترغيب والترهيب - (3 / 69) و أخرجه أبو داود والترمذي والطحاوي والبيهقي وأحمد وابن وهب والن منده وأبو نعيم غاية المرام في تخريج أحاديث الحلال والحرام - (1 / 190)
والحديث الرابع :عن أبي مالك الأشعري رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه و سلم قال أربع في أمتي من أمر الجاهلية لا يتركونهن الفخر بالاحساب والطعن في الأنساب والاستسقاء بالنجوم والنياحة وقال النائحة إذا لم تتب قبل موتها تقام يوم القيامة وعليها سربال من قطران ودرع من جرب . رواه مسلم
وقال النبي صلى الله عليه و سلم وأنا آمركم بخمس الله أمرني بهن السمع والطاعة والجهاد والهجرة والجماعة فإن من فارق الجماعة قيد شبر فقد خلع ربقة الإسلام من عنقه إلا أن يرجع ومن ادعى دعوى الجاهلية فإنه من جثا جهنم فقال رجل يا رسول الله وإن صلى وصام ؟ قال وإن صلى وصام فدعوا بدعوى الله الذي سماكم المسلمين المؤمنين عباد الله . رواه الترمذي من حديث الحارث الأشعري وقال الشيخ الألباني :صحيح
والحديث الخامس: عن جابر بن عبد اللّه فخطب رسول اللّه -صلى الله عليه وسلم- النّاس وقال « إنّ دماءكم وأموالكم حرام عليكم كحرمة يومكم هذا فى شهركم هذا فى بلدكم هذا ألا كلّ شىءٍ من أمر الجاهليّة تحت قدمىّ موضوع ودماء الجاهليّة موضوعة .رواه مسلم
وعن عائشة، أنّ قريشًا أهمّهم شأن المرأة المخزوميّة الّتي سرقت، فقال: ومن يكلّم فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالوا: ومن يجترى عليه إلاّ أسامة بن زيدٍ، حبّ رسول الله صلى الله عليه وسلم فكلّمه أسامة، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أتشفع في حدٍّ من حدود الله ثمّ قام فاختطب، ثمّ قال: إنّما أهلك الّذين قبلكم أنّهم كانوا، إذا سرق فيهم الشّريف تركوه، وإذا سرق فيهم الضّعيف أقاموا عليه الحدّ؛ وايم الله لو أنّ فاطمة ابنة محمّدٍ سرقت، لقطعت يدها . متفق عليه
وعنها رضي الله عنها قالت فقام رسول الله صلى الله عليه وسلم من يومه، فاستعذر من عبد الله بن أبيٍّ، وهو على المنبر، فقال: يا معشر المسلمين من يعذرني من رجلٍ قد بلغني عنه أذاه في أهلي والله ما علمت على أهلي إلاّ خيراً ولقد ذكروا رجلاً ما علمت عليه إلاّ خيراً وما يدخل على أهلي إلاّ معي قالت: فقام سعد بن معاذٍ، أخو بني عبد الأشهل فقال: أنا، يا رسول الله أعذرك فإن كان من الأوس ضربت عنقه وإن كان من إخواننا من الخزرج أمرتنا ففعلنا أمرك قالت فقام سعد بن عبادة وهو سيّد الخزرج ، وكان قبل ذلك رجلاً صالحًا ولكن احتملته الحميّة فقال كذبت لعمر اللّه ، لا تقتله ولا تقدر على ذلك ، فقام أسيد بن الحضير فقال كذبت لعمر اللّه ، واللّه لنقتلنّه ، فإنّك منافقٌ تجادل عن المنافقين .متفق عليه
قال ابن حجر: وفيه أن التعصب لأهل الباطل يخرج عن اسم الصلاح وجواز سب من يتعرض للباطل ونسبته إلى ما يسوءه وإن لم يكن ذلك في الحقيقة فيه لكن إذا وقع منه ما يشبه ذلك جاز إطلاق ذلك عليه تغليظا له,وإطلاق الكذب على الخطأ والقسم بلفظ لعمر الله وفيه الندب إلى قطع الخصومة وتسكين ثائرة الفتنة وسد ذريعة ذلك واحتمال أخف الضررين بزوال أغلظهما وفضل احتمال الأذى وفيه مباعدة من خالف الرسول ولو كان قريباً حميماً وفيه أن من آذى النبي صلى الله عليه و سلم بقول أو فعل يقتل لأن سعد بن معاذ أطلق ذلك ولم ينكره النبي عليه وسلم. فتح الباري - ابن حجر - (8 / 480)
وقال أبو الفرج ابن الجوزي : وقولها احتملته الحمية أي أغضبته الأنفة والتعصب .كشف المشكل من حديث الصحيحين - (1 / 1209)
عن أبي أمامة قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم ما ضل قوم بعد هدى كانوا عليه إلا أوتوا الجدل ثم تلا رسول الله صلى الله عليه و سلم هذه الآية { ما ضربوه لك إلا جدلاً بل هم قوم خصمون } رواه الترمذي وابن ماجه وحسنه الألباني والوادعي
وقال المناوي :أي ما ضل قوم مهديون كائنين على حال من الأحوال إلا أوتوا الجدل يعني من ترك سبيل الهدى وركب سنن الضلالة والمراد لم يمش حاله إلا بالجدل أي الخصومة بالباطل .
وقال القاضي : المراد التعصب لترويج المذاهب الكاسدة والعقائد الزائفة لا المناظرة لإظهار الحق واستكشاف الحال واستعلام ما ليس معلوماً عنده أو تعليم غيره ما عنده لأنه فرض كفاية خارج عما نطق به الحديث. فيض القدير - (5 / 579)
وقال سيف الدين الآمدى : قلما تنفك عن التعصب والأهواء وإثارة الفتن والشحناء والرجم بالغيب فى حق الائمة والسلف بالإزراء , غاية المرام في علم الكلام - (1 / 363)
ومن عادة أهل الجهل والمخالفات ينسبون أهل العلم والإيمان والحق إلى السفه والجهالة وسوء الأخلاق وكل ذلك لأجل التعصب والعصبية التي أصابتهم,كما قال تعالى عن المنافقين: {وإذا قيل لهم آمنوا كما آمن النّاس قالوا أنؤمن كما آمن السّفهاء ألا إنّهم هم السّفهاء}.وقال فرعون لقومه:{أم أنا خير من هذا الّذي هو مهين ولا يكاد يبين}.
فهذه سنّة معروفة لأهل الكفر والنفاق والبدع والمخالفات، يستجهلون أهل الإيمان، ويزدرونهم، ويرونهم بالسفه، وعدم العلم،
وقال صالح الفوزان :والحرمان له أسباب:ومنها: التعصّب للباطل، وحميّة الجاهلية تسبّبان أن الإنسان لا يوفّقه الله جل وعلا، فمن تبيّن له الحق ولم يقبله فإنه يعاقب بالحرمان -والعياذ بالله-، يعاقب بالزّيغ والضلال، ولا يقبل الحق بعد ذلك، فهذا فيه الحثّ على أن من بلغه الحق وجب عليه أن يقبله مباشرة، ولا يتلكّأ ولا يتأخر، لأنه إن تأخر فحريّ أن يحرم منه: {فلمّا زاغوا أزاغ الله قلوبهم} ، {ونقلّب أفئدتهم وأبصارهم كما لم يؤمنوا به أوّل مرّةٍ} . وفيه التحذير من التعصّب لدين الآباء والأجداد إذا كان يخالف ما جاءت به الرسل، فإن الذي حمل أبا طالب على ما وقع فيه هو التعصّب لدين عبد المطّلب، وأنه سبب لسوء الخاتمة- والعياذ بالله-، فليحذر المسلم من هذا. الواجب على المسلم أن يقبل الحق ولو خالف ما عليه آباؤه وأجداده، أما إذا كان آباؤه وأجداده على حق، فأتباعهم حق، ويوسف عليه السلام يقول: {واتّبعت ملّة آبائي إبراهيم وإسحاق ويعقوب ما كان لنا أن نشرك بالله من شيءٍ ذلك من فضل الله علينا وعلى النّاس} .فإتباع الآباء والأجداد على الحق مشروع. إعانة المستفيد بشرح كتاب التوحيد - (1 / 258)
وقال أيضاً :وكذا إثارة العصبيات والقوميات والحزبيات، وما إلى ذلك. كل ذلك من دعوى الجاهلية. وكذا التعصب للأقوال والمذاهب التي لا دليل عليها. إعانة المستفيد بشرح كتاب التوحيد - (2 / 84)
وقال ابن القيّم رحمه الله: الدعاء بدعوى الجاهلية، والتّعزّى بعزائهم، كالدّعاء إلى القبائل والعصبيّة لها وللأنساب، ومثله التعصب للمذاهب، والطرائق، والمشايخ، وتفضيل بعضها على بعض بالهوى والعصبية، وكونه منتسباً إليه، فيدعو إلى ذلك، ويوالى عليه، ويعادى عليه، ويزن الناس به، كلّ هذا من دعوى الجاهلية. زاد المعاد في هدي خير العباد - (2 / 471)
وقال أيضاً : وهذا دليل قاطع على أنه يجب رد موارد النزاع في كل ما تنازع فيه الناس من الدين كله إلى الله ورسوله لا إلى أحد غير الله ورسوله فمن أحال الرد على غيرهما فقد ضاد أمر الله ومن دعا عند النزاع إلى حكم غير الله ورسوله فقد دعا بدعوى الجاهلية فلا يدخل العبد في الإيمان حتى يرد كل ما تنازع فيه المتنازعون إلى الله ورسوله. زاد المهاجر - (42)
قلت الصحيح أن دعوى الجاهلية يعم ذلك كله تيسير العزيز الحميد - (456)
وكل من تعصّب إلى مذهب، أو تعصّب إلى قبيلة أو إلى وطن أو إلى حزبية كلّه يدخل في دعوى الجاهلية،- دعوها فانها منتة- فلا يجوز للمسلم أن يتعصّب لأحد العلماء أو لأحد المذاهب ولا يقبل غير هذا المذهب أو لا يقبل غير هذا الرجل من العلماء، فهذه عصبية جاهلية. أو يتعصّب لقبيلته إذا كانت على خطأ، كما يقول الشاعر:
وهل أنا إلاّ من غزيّة إن غوت ... غويت وإن ترشد غزية أرشد
والواجب على المسلم: أن يتبع الحق سواء كان مع إمامه أو مع غيره، وسواء كان مع قبيلته أو مع غيرها، والله سبحانه وتعالى يقول: {يا أيّها الّذين آمنوا كونوا قوّامين بالقسط شهداء للّه ولو على أنفسكم أو الوالدين والأقربين} .
وكم رأيت هذا من الصوماليين إلا من رحمه الله يتعصبون لأجل ذلك ويردون الحق وأهله ولا يقبلونها لأن الحق ما جاء من طريق قومهم.
قال صالح الفوزان :فلا تجوز العصبية للمذاهب، ولا تجوز العصبية للأشخاص، ولا تجوز العصبية للقبائل، وإنما المسلم يتبع الحق مع من كان، ولا يتعصّب، ولا يترك الحق الذي مع خصمه. فالمسلم يدور مع الحق أينما كان، سواءً كان في مذهبه، أو مع إمامه، أو مع قبيلته، أو حتى مع عدوه. والرجوع إلى الحق خير من التمادي في الباطل، والله تعالى يقول: {وإذا قلتم فاعدلوا ولو كان ذا قربى} ، والنبي صلّى اللّه عليه وسلّم يقول: " قل الحق ولو كان مرًّا " . إعانة المستفيد بشرح كتاب التوحيد - (2 / 85)
فنهاية كلامي أنصح نفسي وإخواني لاسيما اهل السنة باجتناب هذه الكبير والعظيمة التي إذا تخلق بها العبد تدمر وانتهى لاسيما إذا كان صاحب دعوة وعلم فالشيطان يحرص كل الحرص كل الحرص أن يغويه ويضله ؛ومن أسهل طريق الإضلال التعصب إلى الآراء والمشايخ والاعتماد على أمرهما ؛ دعوها فانها منتة ؛ ان هذه امتكم امة واحدة وانا ربكم فاعبدوه....الااية فأسأل الله أن يجنبي وإخواني والمسلمين من الفتن ماظهر منها ومابطن ؛وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم
كتبه أخوكم ومحبكم : أبومقبل يونس بن سعيد العدني
1437/2/11 في خميس مشيط
كتبه أبومقبل يونس العدني
إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا،ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.
*
{ يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله حقَّ تقاته ولا تموتنَّ إلا وأنتم مسلمون} (آل عمران:102)، {يا أيها الناس اتقوا ربكم الذي خلقكم من نفس واحدة وخلق منها زوجها وبثَّ منهما رجالاً كثيراً ونساءً واتقوا الله الذي تساءلون به والأرحام إنَّ الله كان عليكم رقيباً} (النساء: 1)، {يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وقولوا قولاً سديداً. يصلح لكم أعمالكم ويغفر لكم ذنوبكم ومن يطع الله ورسوله فقد فاز فوزاً عظيماً} (الأحزاب:70-71).
*
أما بعد، فإن خير الحديث كتاب الله، وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار.
*
التعصب سبب للفرقه
قال تعالى : {وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَأُوْلَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ * يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ فَأَمَّا الَّذِينَ اسْوَدَّتْ وُجُوهُهُمْ أَكَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ فَذُوقُوا الْعَذَابَ بِمَا كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ * وَأَمَّا الَّذِينَ ابْيَضَّتْ وُجُوهُهُمْ فَفِي رَحْمَةِ اللَّهِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ}.
قال ابن جرير -رحمه الله- يعني بذلك جل ثناؤه : "ولا تكونوا يا معشر الذين آمنوا كالذين تفرقوا من أهل الكتاب، واختلفوا في دين الله وأمره ونهيه، من بعد ما جاءهم البينات، من حجج الله، فيما اختلفوا فيه، وعلموا الحق فيه، فتعمدوا خلافه، وخالفوا أمر الله، ونقضوا عهده وميثاقه، جرأة على الله، وأولئك لهم -يعني ولهؤلاء الذين تفرقوا، واختلفوا من أهل الكتاب، من بعد ما جاءهم- عذاب من عند الله عظيم، يقول جل ثناؤه : "فلا تفرقوا يا معشر المؤمنين في دينكم تفرق هؤلاء في دينهم، ولا تفعلوا فعلهم، وتستنوا في دينكم بسنتهم، فيكون لكم من عذاب الله العظيم مثل الذي لهم".
ثم ذكر ابن جرير بسنده عن ابن عباس -رضي الله عنهما- قوله : {وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا}، ونحو هذا في القرآن أمر الله -جل ثناؤه- المؤمنين بالجماعة، فنهاهم عن الاختلاف والفرقة، وأخبرهم إنما هلك من كان قبلهم بالمراء والخصومات في دين الله".
وقال ابن كثير -رحمه الله- في تفسير الآيات السابقة : "ينهى الله -تبارك وتعالى- هذه الأمة أن يكونوا كالأمم الماضين في افتراقهم واختلافهم وتركهم الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر مع قيام الحجة عليهم".
ثم ساق الإمام ابن كثير -رحمه الله- حديث الافتراق الذي رواه الإمام أحمد -رحمه الله- ثم قال : "وقد ورد هذا الحديث من طرق" وذلك إشارة إلى توثيقه وتقويته.
*
وقال القرطبي -رحمه الله- : "فمن بدل أو غير أو ابتدع في دين الله ما لا يرضاه الله ولم يأذن به الله فهو من المطرودين عن الحوض المبتعدين منه المسودي الوجوه، وأشدهم طردًا وإبعادًا من خالف جماعة المسلمين وفارق سبيلهم، كالخوارج على اختلاف فرقها، والروافض على تباين ضلالها، والمعتزلة على أصناف أهوائها، فهؤلاء كلهم مبدلون ومبتدعون، وكذلك الظلمة المسرفون في الجور والظلم وطمس الحق وقتل أهله وإذلالهم، والمعلنون بالكبائر المستخفون بالمعاصي، وجماعة أهل الزيغ والأهواء والبدع، كل يخاف عليهم أن يكونوا عنوا بالآية، والخبر عن النبي صلى الله عليه وسلم؛ ولا يخلد في النار إلا كافر جاحد ليس في قلبه مثقال حبة خردل من إيمان. وقد قال ابن القاسم : وقد يكون من غير أهل الأهواء من هو شر من أهل الأهواء وكان يقول : تمام الإخلاص تجنب المعاصي".
*
وقال الشوكاني -رحمه الله- في تفسير الآية : {وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا}، هم اليهود والنصارى عند جمهور المفسرين، وقيل : هم المبتدعة من هذه الأمة، وقيل : الحرورية، والظاهر الأول. والبينات : الآيات الواضحة المبينة للحق الموجبة لعدم الاختلاف".
*
أما قوله تعالى : {يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ}، فقد قال ابن كثير -رحمه الله- في تفسيرها : "يعني يوم القيامة حين تبيض وجوه أهل السنة والجماعة، وتسود وجوه أهل البدعة والفرقة- قاله ابن عباس -رضي الله عنهما-".
*
والقول الذي ذكره ابن كثير -رحمه الله- عن ابن عباس -رضي الله عنهما- منقول عن الإمام مالك -رحمه الله- كما نص على ذلك الشاطبي بقوله : "وقال ابن وهب : سمعت مالكًا يقول : ما آية في كتاب الله أشد على أهل الاختلاف من أهل الأهواء من هذه الآية : {يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ}، -إلى قوله- {بِمَا كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ}. قال مالك : فأي كلام أبين من هذا؟ فرأيته يتأولها لأهل الأهواء. ورواه ابن القاسم وزاد : قال مالك : إنما هذه الآية لأهل القبلة".
*وقد وردت احاديث كثيرة في ذم التعصب بغير حق
والأحاديث الواردة عن النبي صلى الله عليه وسلم في هذا الباب سيدور معناها على ذم التعصب لأحد بالباطل ، كالتعصب للقوم والقبيلة والبلد ، بحيث يقف مع قومه أو قبيلته أو أهل بلده ضد من نازعهم ، سواء كانوا على الحق أو على الباطل .
ومثل ذلك حين حدث شجار بين أنصاري ومهاجري ، فتنادى البعض : يا للأنصار ، وتنادى آخرون : يا للمهاجرين ، فذم النبي صلى الله عليه وسلم ذلك ، وجعله من دعوى الجاهلية ؛ لأن مقتضاه أن ينصر الأنصاري أخاه الأنصاري ولو كان مبطلا ، وأن ينصر المهاجر أخاه المهاجر ولو كان مبطلا أيضا ، وإنما شأن المؤمن أن يقف مع الحق ، وأن ينصر المظلوم برفع الظلم عنه ، وينصر الظالم بحجزه ومنعه عن الظلم ، لا يفرق بين من كان من قومه أو من خارج قومه ؛ إذ الجميع يشملهم وصف الإيمان والإسلام .
الحديث الأول رواه أبو داود (5121) عَنْ جُبَيْرِ بْنِ مُطْعِمٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : ( لَيْسَ مِنَّا مَنْ دَعَا إِلَى عَصَبِيَّةٍ وَلَيْسَ مِنَّا مَنْ قَاتَلَ عَلَى عَصَبِيَّةٍ وَلَيْسَ مِنَّا مَنْ مَاتَ عَلَى عَصَبِيَّةٍ ). وهو حديث ضعيف كما قال الألباني في ضعيف أبي داود .
قال في "عون المعبود" : " ( لَيْسَ مِنَّا ) : أَيْ لَيْسَ مِنْ أَهْل مِلَّتنَا ( مَنْ دَعَا ) : أَيْ النَّاس ( إِلَى عَصَبِيَّة ) : قَالَ الْمَنَاوِيُّ : أَيْ مَنْ يَدْعُو النَّاس إِلَى الِاجْتِمَاع عَلَى عَصَبِيَّة وَهِيَ مُعَاوَنَة الظَّالِم . وَقَالَ الْقَارِي : أَيْ إِلَى اِجْتِمَاع عَصَبِيَّة فِي مُعَاوَنَة ظَالِم . وَفِي الْحَدِيث " مَا بَال دَعْوَى الْجَاهِلِيَّة " قَالَ صَاحِب النِّهَايَة : هُوَ قَوْلهمْ : يَا آلُ فُلَان ، كَانُوا يَدْعُونَ بَعْضهمْ بَعْضًا عَنْ الْأَمْر الْحَادِث ( مَنْ قَاتَلَ عَلَى عَصَبِيَّة ) : أَيْ عَلَى بَاطِل , وَلَيْسَ فِي بَعْض النُّسَخ لَفْظ (عَلَى).
( مَنْ مَاتَ عَلَى عَصَبِيَّة ) : أَيْ عَلَى طَرِيقَتهمْ مِنْ حَمِيَّة الْجَاهِلِيَّة . قَالَ الْمُنْذِرِيُّ . قَالَ أَبُو دَاوُدَ فِي رِوَايَة اِبْن الْعَبْد هَذَا مُرْسَل , عَبْد اللَّه بْن أَبِي سُلَيْمَان لَمْ يَسْمَع مِنْ جُبَيْر . هَذَا آخِر كَلَامه . وَفِي إِسْنَاده مُحَمَّد بْن عَبْد الرَّحْمَن الْمَكِّيّ وَقِيلَ فِيهِ الْعَكِيّ . قَالَ أَبُو حَاتِم الرَّازِيُّ : هُوَ مَجْهُول , وَقَدْ أَخْرَجَ مُسْلِم فِي صَحِيحه وَالنَّسَائِيُّ فِي سُنَنه مِنْ حَدِيث أَبِي هُرَيْرَة بِمَعْنَاهُ أَتَمَّ مِنْهُ , وَمِنْ حَدِيث جُنْدُب بْن عَبْد اللَّه الْبَجَلِيّ مُخْتَصَرًا .
لكن الحديث معناه صحيح ، وقد روى مسلم (1850) عَنْ جُنْدَبِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ الْبَجَلِيِّ قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : ( مَنْ قُتِلَ تَحْتَ رَايَةٍ عِمِّيَّةٍ يَدْعُو عَصَبِيَّةً أَوْ يَنْصُرُ عَصَبِيَّةً فَقِتْلَةٌ جَاهِلِيَّةٌ ) .
والحديث الثاني : رواه البخاري (4905) ومسلم (2584) عن جَابِر بْن عَبْدِ اللَّهِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ كُنَّا فِي غَزَاةٍ فَكَسَعَ رَجُلٌ مِنْ الْمُهَاجِرِينَ رَجُلًا مِنْ الْأَنْصَارِ ، فَقَالَ الْأَنْصَارِيُّ : يَا لَلْأَنْصَارِ !! وَقَالَ الْمُهَاجِرِيُّ : يَا لَلْمُهَاجِرِينَ !!
فَسَمِعَ ذَلِكَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، فَقَالَ : ( مَا بَالُ دَعْوَى الْجَاهِلِيَّةِ ؟ ) قَالُوا : يَا رَسُولَ اللَّهِ كَسَعَ رَجُلٌ مِنْ الْمُهَاجِرِينَ رَجُلًا مِنْ الْأَنْصَارِ .
فَقَالَ : ( دَعُوهَا فَإِنَّهَا مُنْتِنَةٌ ) .
والكسْع : ضرب الدبر باليد أو بالرجل .
وروى مسلم (2584) عَنْ جَابِرٍ قَالَ : اقْتَتَلَ غُلَامَانِ : غُلَامٌ مِنْ الْمُهَاجِرِينَ ، وَغُلَامٌ مِنْ الْأَنْصَارِ ؛ فَنَادَى الْمُهَاجِرُ ـ أَوْ الْمُهَاجِرُونَ ـ : يَا لَلْمُهَاجِرِينَ !! وَنَادَى الْأَنْصَارِيُّ : يَا لَلْأَنْصَارِ !! فَخَرَجَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ : مَا هَذَا ؟! دَعْوَى أَهْلِ الْجَاهِلِيَّةِ ؟! قَالُوا : لَا يَا رَسُولَ اللَّهِ ، إِلَّا أَنَّ غُلَامَيْنِ اقْتَتَلَا ، فَكَسَعَ أَحَدُهُمَا الْآخَرَ .
قَالَ : فَلَا بَأْسَ ؛ وَلْيَنْصُرْ الرَّجُلُ أَخَاهُ ، ظَالِمًا أَوْ مَظْلُومًا ؛ إِنْ كَانَ ظَالِمًا فَلْيَنْهَهُ ، فَإِنَّهُ لَهُ نَصْرٌ . وَإِنْ كَانَ مَظْلُومًا فَلْيَنْصُرْهُ ) .
قال النووي رحمه الله في "شرح مسلم" : " وَأَمَّا تَسْمِيَته صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ذَلِكَ دَعْوَى الْجَاهِلِيَّة فَهُوَ كَرَاهَة مِنْهُ لِذَلِكَ ; فَإِنَّهُ مِمَّا كَانَتْ عَلَيْهِ الْجَاهِلِيَّة مِنْ التَّعَاضُد بِالْقَبَائِلِ فِي أُمُور الدُّنْيَا وَمُتَعَلِّقَاتهَا , وَكَانَتْ الْجَاهِلِيَّة تَأْخُذ حُقُوقهَا بِالْعَصَبَاتِ وَالْقَبَائِل , فَجَاءَ الْإِسْلَام بِإِبْطَالِ ذَلِكَ , وَفَصَلَ الْقَضَايَا بِالْأَحْكَامِ الشَّرْعِيَّة . فَإِذَا اِعْتَدَى إِنْسَان عَلَى آخَر حَكَمَ الْقَاضِي بَيْنهمَا , وَأَلْزَمَهُ مُقْتَضَى عِدْوَانه كَمَا تَقَرَّرَ مِنْ قَوَاعِد الْإِسْلَام .
وَأَمَّا قَوْله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي آخِر هَذِهِ الْقِصَّة : ( لَا بَأْس ) فَمَعْنَاهُ لَمْ يَحْصُل مِنْ هَذِهِ الْقِصَّة بَأْس مِمَّا كُنْت خِفْته ; فَإِنَّهُ خَافَ أَنْ يَكُون حَدَثَ أَمْر عَظِيم يُوجِب فِتْنَة وَفَسَادًا , وَلَيْسَ هُوَ عَائِدًا إِلَى رَفْع كَرَاهَة الدُّعَاء بِدَعْوَى الْجَاهِلِيَّة . قَوْله ( فَكَسَعَ أَحَدهمَا الْآخَر ) هُوَ بِسِينٍ مُخَفَّفَة مُهْمَلَة أَيْ ضَرَبَ دُبُره وَعَجِيزَته بِيَدٍ أَوْ رِجْل , أَوْ سَيْف وَغَيْره " انتهى .
والحديث الثالث : رواه النسائي في الكبرى (8865) وأحمد في المسند ( : عن أبي بن كعب قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : ( من تعزى بعزاء الجاهلية فأعضوه ولا تكنوا )، وفي رواية : ( فَأَعِضُّوهُ بِهَنِ أبيه ولا تَكْنُوا). والحديث حسنه شعيب الأرنؤوط في تحقيق المسند .
وصححه الألباني كما في السلسلة الصحيحة - (1 / 537) وصحيح الأدب المفرد - (1 / 376) .
قال الملا علي القاري في "شرح مشكاة المصابيح" (14/ 183) : " من تعزى : أي انتسب بعزاء الجاهلية ـ بفتح العين ـ أي نسب أهلها وافتخر بآبائه وأجداده . فأعضُّوه : بتشديد الضاد المعجمة ، من أعضضت الشيء جعلته يعضه ، والعض أخذ الشيء بالأسنان أو باللسان على ما في القاموس . بِهَنِ أبيه : بفتح الهاء وتخفيف النون ، وفي النهاية : الهن بالتخفيف والتشديد كناية عن الفرج . أي قولوا له : أعضض بذكر أبيك أو أيره أو فرجه . ولا تَكنوا : بفتح أوله وضم النون ، أي لا تكنوا بذكر الهن عن الأير ، بل صرحوا له بآلة أبيه التي كانت سببا فيه ، تأديبا وتنكيلا " انتهى .
وعدّ النّبيّ صلّى اللّه عليه وسلّم : ميتة المتعصّب ميتةً جاهليّةً ، فعن أبي هريرة رضي اللّه عنه أنّه قال قال : النّبىّ -صلى الله عليه وسلم- « من خرج من الطّاعة وفارق الجماعة فمات مات ميتةً جاهليّةً ومن قاتل تحت رايةٍ عمّيّةٍ يغضب لعصبةٍ أو يدعو إلى عصبةٍ أو ينصر عصبةً فقتل فقتلةٌ جاهليّةٌ ومن خرج على أمّتى يضرب برّها وفاجرها ولا يتحاش من مؤمنها ولا يفى لذى عهدٍ عهده فليس منّى ولست منه ».رواه مسلم
وقد زرع اهل الباطل هذا المرض البغيض في اوساطنا فلان جنوبي فلان شمالي على وجه التنقص والعصبية ؛ ولقد ابطل الاسلام هذا
كما أبطل الإسلام التّفاخر بالآباء ومآثر الأجداد ، قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم : لينتهينّ أقوام يفتخرون بآبائهم الّذين ماتوا ، إنّما هم فحم جهنّم ، أو ليكوننّ أهون على اللّه من الجعل الّذي يدهده الخرء بأنفه ، إنّ اللّه قد أذهب عنكم عبّيّة الجاهليّة ، إنّما هو مؤمن تقيّ وفاجر شقيّ ، النّاس كلّهم بنو آدم وآدم خلق من ترابٍ .رواه الترمذي قال وفي الباب عن ابن عمر و ابن عباس وأبي هريرة .
قال الشيخ الألباني صحيح كما في الجامع الصغير وزيادته - (1 / 962) ورواه أبو داود والترمذي وحسنه وصححه ابن تيمية وغيره وهو مخرج في غاية المرام 312 وسلسلة الأحاديث الضعيفة والموضوعة وأثرها السيئ في الأمة - (1 / 299) وصحيح الترغيب والترهيب - (3 / 69) و أخرجه أبو داود والترمذي والطحاوي والبيهقي وأحمد وابن وهب والن منده وأبو نعيم غاية المرام في تخريج أحاديث الحلال والحرام - (1 / 190)
والحديث الرابع :عن أبي مالك الأشعري رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه و سلم قال أربع في أمتي من أمر الجاهلية لا يتركونهن الفخر بالاحساب والطعن في الأنساب والاستسقاء بالنجوم والنياحة وقال النائحة إذا لم تتب قبل موتها تقام يوم القيامة وعليها سربال من قطران ودرع من جرب . رواه مسلم
وقال النبي صلى الله عليه و سلم وأنا آمركم بخمس الله أمرني بهن السمع والطاعة والجهاد والهجرة والجماعة فإن من فارق الجماعة قيد شبر فقد خلع ربقة الإسلام من عنقه إلا أن يرجع ومن ادعى دعوى الجاهلية فإنه من جثا جهنم فقال رجل يا رسول الله وإن صلى وصام ؟ قال وإن صلى وصام فدعوا بدعوى الله الذي سماكم المسلمين المؤمنين عباد الله . رواه الترمذي من حديث الحارث الأشعري وقال الشيخ الألباني :صحيح
والحديث الخامس: عن جابر بن عبد اللّه فخطب رسول اللّه -صلى الله عليه وسلم- النّاس وقال « إنّ دماءكم وأموالكم حرام عليكم كحرمة يومكم هذا فى شهركم هذا فى بلدكم هذا ألا كلّ شىءٍ من أمر الجاهليّة تحت قدمىّ موضوع ودماء الجاهليّة موضوعة .رواه مسلم
وعن عائشة، أنّ قريشًا أهمّهم شأن المرأة المخزوميّة الّتي سرقت، فقال: ومن يكلّم فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالوا: ومن يجترى عليه إلاّ أسامة بن زيدٍ، حبّ رسول الله صلى الله عليه وسلم فكلّمه أسامة، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أتشفع في حدٍّ من حدود الله ثمّ قام فاختطب، ثمّ قال: إنّما أهلك الّذين قبلكم أنّهم كانوا، إذا سرق فيهم الشّريف تركوه، وإذا سرق فيهم الضّعيف أقاموا عليه الحدّ؛ وايم الله لو أنّ فاطمة ابنة محمّدٍ سرقت، لقطعت يدها . متفق عليه
وعنها رضي الله عنها قالت فقام رسول الله صلى الله عليه وسلم من يومه، فاستعذر من عبد الله بن أبيٍّ، وهو على المنبر، فقال: يا معشر المسلمين من يعذرني من رجلٍ قد بلغني عنه أذاه في أهلي والله ما علمت على أهلي إلاّ خيراً ولقد ذكروا رجلاً ما علمت عليه إلاّ خيراً وما يدخل على أهلي إلاّ معي قالت: فقام سعد بن معاذٍ، أخو بني عبد الأشهل فقال: أنا، يا رسول الله أعذرك فإن كان من الأوس ضربت عنقه وإن كان من إخواننا من الخزرج أمرتنا ففعلنا أمرك قالت فقام سعد بن عبادة وهو سيّد الخزرج ، وكان قبل ذلك رجلاً صالحًا ولكن احتملته الحميّة فقال كذبت لعمر اللّه ، لا تقتله ولا تقدر على ذلك ، فقام أسيد بن الحضير فقال كذبت لعمر اللّه ، واللّه لنقتلنّه ، فإنّك منافقٌ تجادل عن المنافقين .متفق عليه
قال ابن حجر: وفيه أن التعصب لأهل الباطل يخرج عن اسم الصلاح وجواز سب من يتعرض للباطل ونسبته إلى ما يسوءه وإن لم يكن ذلك في الحقيقة فيه لكن إذا وقع منه ما يشبه ذلك جاز إطلاق ذلك عليه تغليظا له,وإطلاق الكذب على الخطأ والقسم بلفظ لعمر الله وفيه الندب إلى قطع الخصومة وتسكين ثائرة الفتنة وسد ذريعة ذلك واحتمال أخف الضررين بزوال أغلظهما وفضل احتمال الأذى وفيه مباعدة من خالف الرسول ولو كان قريباً حميماً وفيه أن من آذى النبي صلى الله عليه و سلم بقول أو فعل يقتل لأن سعد بن معاذ أطلق ذلك ولم ينكره النبي عليه وسلم. فتح الباري - ابن حجر - (8 / 480)
وقال أبو الفرج ابن الجوزي : وقولها احتملته الحمية أي أغضبته الأنفة والتعصب .كشف المشكل من حديث الصحيحين - (1 / 1209)
عن أبي أمامة قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم ما ضل قوم بعد هدى كانوا عليه إلا أوتوا الجدل ثم تلا رسول الله صلى الله عليه و سلم هذه الآية { ما ضربوه لك إلا جدلاً بل هم قوم خصمون } رواه الترمذي وابن ماجه وحسنه الألباني والوادعي
وقال المناوي :أي ما ضل قوم مهديون كائنين على حال من الأحوال إلا أوتوا الجدل يعني من ترك سبيل الهدى وركب سنن الضلالة والمراد لم يمش حاله إلا بالجدل أي الخصومة بالباطل .
وقال القاضي : المراد التعصب لترويج المذاهب الكاسدة والعقائد الزائفة لا المناظرة لإظهار الحق واستكشاف الحال واستعلام ما ليس معلوماً عنده أو تعليم غيره ما عنده لأنه فرض كفاية خارج عما نطق به الحديث. فيض القدير - (5 / 579)
وقال سيف الدين الآمدى : قلما تنفك عن التعصب والأهواء وإثارة الفتن والشحناء والرجم بالغيب فى حق الائمة والسلف بالإزراء , غاية المرام في علم الكلام - (1 / 363)
ومن عادة أهل الجهل والمخالفات ينسبون أهل العلم والإيمان والحق إلى السفه والجهالة وسوء الأخلاق وكل ذلك لأجل التعصب والعصبية التي أصابتهم,كما قال تعالى عن المنافقين: {وإذا قيل لهم آمنوا كما آمن النّاس قالوا أنؤمن كما آمن السّفهاء ألا إنّهم هم السّفهاء}.وقال فرعون لقومه:{أم أنا خير من هذا الّذي هو مهين ولا يكاد يبين}.
فهذه سنّة معروفة لأهل الكفر والنفاق والبدع والمخالفات، يستجهلون أهل الإيمان، ويزدرونهم، ويرونهم بالسفه، وعدم العلم،
وقال صالح الفوزان :والحرمان له أسباب:ومنها: التعصّب للباطل، وحميّة الجاهلية تسبّبان أن الإنسان لا يوفّقه الله جل وعلا، فمن تبيّن له الحق ولم يقبله فإنه يعاقب بالحرمان -والعياذ بالله-، يعاقب بالزّيغ والضلال، ولا يقبل الحق بعد ذلك، فهذا فيه الحثّ على أن من بلغه الحق وجب عليه أن يقبله مباشرة، ولا يتلكّأ ولا يتأخر، لأنه إن تأخر فحريّ أن يحرم منه: {فلمّا زاغوا أزاغ الله قلوبهم} ، {ونقلّب أفئدتهم وأبصارهم كما لم يؤمنوا به أوّل مرّةٍ} . وفيه التحذير من التعصّب لدين الآباء والأجداد إذا كان يخالف ما جاءت به الرسل، فإن الذي حمل أبا طالب على ما وقع فيه هو التعصّب لدين عبد المطّلب، وأنه سبب لسوء الخاتمة- والعياذ بالله-، فليحذر المسلم من هذا. الواجب على المسلم أن يقبل الحق ولو خالف ما عليه آباؤه وأجداده، أما إذا كان آباؤه وأجداده على حق، فأتباعهم حق، ويوسف عليه السلام يقول: {واتّبعت ملّة آبائي إبراهيم وإسحاق ويعقوب ما كان لنا أن نشرك بالله من شيءٍ ذلك من فضل الله علينا وعلى النّاس} .فإتباع الآباء والأجداد على الحق مشروع. إعانة المستفيد بشرح كتاب التوحيد - (1 / 258)
وقال أيضاً :وكذا إثارة العصبيات والقوميات والحزبيات، وما إلى ذلك. كل ذلك من دعوى الجاهلية. وكذا التعصب للأقوال والمذاهب التي لا دليل عليها. إعانة المستفيد بشرح كتاب التوحيد - (2 / 84)
وقال ابن القيّم رحمه الله: الدعاء بدعوى الجاهلية، والتّعزّى بعزائهم، كالدّعاء إلى القبائل والعصبيّة لها وللأنساب، ومثله التعصب للمذاهب، والطرائق، والمشايخ، وتفضيل بعضها على بعض بالهوى والعصبية، وكونه منتسباً إليه، فيدعو إلى ذلك، ويوالى عليه، ويعادى عليه، ويزن الناس به، كلّ هذا من دعوى الجاهلية. زاد المعاد في هدي خير العباد - (2 / 471)
وقال أيضاً : وهذا دليل قاطع على أنه يجب رد موارد النزاع في كل ما تنازع فيه الناس من الدين كله إلى الله ورسوله لا إلى أحد غير الله ورسوله فمن أحال الرد على غيرهما فقد ضاد أمر الله ومن دعا عند النزاع إلى حكم غير الله ورسوله فقد دعا بدعوى الجاهلية فلا يدخل العبد في الإيمان حتى يرد كل ما تنازع فيه المتنازعون إلى الله ورسوله. زاد المهاجر - (42)
قلت الصحيح أن دعوى الجاهلية يعم ذلك كله تيسير العزيز الحميد - (456)
وكل من تعصّب إلى مذهب، أو تعصّب إلى قبيلة أو إلى وطن أو إلى حزبية كلّه يدخل في دعوى الجاهلية،- دعوها فانها منتة- فلا يجوز للمسلم أن يتعصّب لأحد العلماء أو لأحد المذاهب ولا يقبل غير هذا المذهب أو لا يقبل غير هذا الرجل من العلماء، فهذه عصبية جاهلية. أو يتعصّب لقبيلته إذا كانت على خطأ، كما يقول الشاعر:
وهل أنا إلاّ من غزيّة إن غوت ... غويت وإن ترشد غزية أرشد
والواجب على المسلم: أن يتبع الحق سواء كان مع إمامه أو مع غيره، وسواء كان مع قبيلته أو مع غيرها، والله سبحانه وتعالى يقول: {يا أيّها الّذين آمنوا كونوا قوّامين بالقسط شهداء للّه ولو على أنفسكم أو الوالدين والأقربين} .
وكم رأيت هذا من الصوماليين إلا من رحمه الله يتعصبون لأجل ذلك ويردون الحق وأهله ولا يقبلونها لأن الحق ما جاء من طريق قومهم.
قال صالح الفوزان :فلا تجوز العصبية للمذاهب، ولا تجوز العصبية للأشخاص، ولا تجوز العصبية للقبائل، وإنما المسلم يتبع الحق مع من كان، ولا يتعصّب، ولا يترك الحق الذي مع خصمه. فالمسلم يدور مع الحق أينما كان، سواءً كان في مذهبه، أو مع إمامه، أو مع قبيلته، أو حتى مع عدوه. والرجوع إلى الحق خير من التمادي في الباطل، والله تعالى يقول: {وإذا قلتم فاعدلوا ولو كان ذا قربى} ، والنبي صلّى اللّه عليه وسلّم يقول: " قل الحق ولو كان مرًّا " . إعانة المستفيد بشرح كتاب التوحيد - (2 / 85)
فنهاية كلامي أنصح نفسي وإخواني لاسيما اهل السنة باجتناب هذه الكبير والعظيمة التي إذا تخلق بها العبد تدمر وانتهى لاسيما إذا كان صاحب دعوة وعلم فالشيطان يحرص كل الحرص كل الحرص أن يغويه ويضله ؛ومن أسهل طريق الإضلال التعصب إلى الآراء والمشايخ والاعتماد على أمرهما ؛ دعوها فانها منتة ؛ ان هذه امتكم امة واحدة وانا ربكم فاعبدوه....الااية فأسأل الله أن يجنبي وإخواني والمسلمين من الفتن ماظهر منها ومابطن ؛وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم
كتبه أخوكم ومحبكم : أبومقبل يونس بن سعيد العدني
1437/2/11 في خميس مشيط