مقدمــــــة
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ، ونستغفره ونتوب إليه ، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ، وسيئـات أعمالنا ، من يهد الله فلا مضل له ، ومن يضلل فلا هادي له ، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله ، أرسله بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله ولو كره المشركون ، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً.
أما بعد:
الباعث على اختيار البحث:
فهذا جهد متواضع ، أُسهم به لبيان المنهج الذي كان عليه السلف الصالح في العقيدة ، ومدى مخالفة الناس لذلك المنهج ، مما فرق كلمة المسلمين وأضعف وحدتهم.
وجعلت عنوان البحث: ((منهج السلف في العقيدة وأثره في وحدة المسلمين)) ، وقد حملني على ذلك إهمال كثير من الباحثين لهذا الجانب ، أعني جانب العقيدة ، والذي هو العامل الأول ، والركيزة الأساسية التي ينبني عليها كيان المجتمع الإسلامي ، وتنضوي تحت لوائها صفوف المسلمين.
منها يستلهمون طريق وحدتهم ، وعلى ضوئها يشقون طريقهم إلى أعلى قمم المجد والعلى ، وبهداها ومبادئها القيمة يفتحون القلوب قبل أن يفتحوا الأمصار والأقطار ، ولقد كثرت المؤلفات والخطب والمحاضرات والمواعظ والندوات التي تنادي بوحدة المسلمين ، وجمع كلمتهم وتوحيد صفوفهم بالأساليب المتعددة ، وطرح الحلول الكثيرة ، لكن هذه الأساليب والحلول ، ناقصة وغير تامة نظراً لاهتمامها بالجوانب الفرعية فقط.
فنجد أن جماعة ممن يهتمون بعوامل التضامن الإسلامي يركزون جل اهتمامهم على الجانب السياسي ، ونجد جماعة أخرى تركز على الجانب الأخلاقي ، ونجد جماعة ثالثة تركز على جوانب الترغيب والترهيب والزهد والورع. وقلّ أن تجد من بين هؤلاء من يهتم بالجانب الأساسي والركن العظيم ، والذي هو الحصن الحصين ، والمنطبق المتين لجمع كلمة المسلمين ، ألا وهو عقيدة التوحيد الذي جمعنا الله به بعد الفرقة ، وألف بين قلوبنا بعد التمزق ، حتى أصبحنا به أمة واحدة ذات هدف واحد ومنطلق واحد ، وعقيدة واحدة ، هي مصدر عزتنا ، وعنوان سعادتنا ، ومناط وجودنا في هذه الحياة إنها عبادة الله الذي لا إله غيره ، ولا رب سواه إنه الهدف الأسمى ، والمقصد الأعلى الذي خلقنا الله له ، وأوجدنا من أجله ، كما قال تعالى: {ومَا خَلَقْتُ الجِّن والإِنْس إلاَّ لِيعْبُدُون}( ).
وقال تعالى: {فَاعْبُد الله مُخْلصا لَه الدِّين}( )
وقال تعالى: {ومَا أُمِروا إلاَّ لِيَعْبُدوا الله مُخْلِصِين له الدِّين حُنفَاء وَيُقِيموا الصَّلاة ويُؤْتُوا الزَّكاة وذلكَ دِينُ القيِّمة}( )
أســاس نجـــاح العمـــل:
إذا تأملنا هذه الآيات الكريمات وما جاء في معناها وما أكثره في كتاب الله ، وجدنا أن أساس كل عمل في الإسلام إنما ينطلق من العقيدة ، ويرتكز عليها ، كما يرتكز البناء على أركانه.
والبيـت لا يبتنـى إلا له عمد *** ولا عماد إذا لم ترس أوتاد( )
وإذا عرفنا ذلك فإن أية دعوة إلى التضامن الإسلامي ، إذا لم ينطلق أصحابها من هذا المبدأ الأساسي ، ولم تؤسس على هذا البناء الراسخ ، ولم تقم على تحقيق التوحيد ، وتخليصه من شوائب الشرك ، والبدع ، والمعاصي ، فإنها دعوة سيكتب لها الفشل لا محالة ، عاجلاً أم آجلاً لأن البناء لا يقوم في الهواء ، ولا يمكن تشييده إلا على أرض صلبة حتى لا يتعرض للانهيار يوما من الأيام.
قال الله تعالى: {أفَمَن أسس بنيانه على التقوى من الله ورضوان خير أم من أسس بنيانه على شفا جرف هار فانهار به في نار جهنم والله لا يهدي القوم الظالمين}( )
دفـــع توهـــم:
وحينما نقول إن مبنى التضامن الإسلامي على عقيدة التوحيد وعندما ندعوا إلى وجوب الانطلاق من هذا المبدأ ، فإن ذلك لا يعني إهمال الجوانب الأخرى التي أشرنا إليها أو إلى بعضها في ما مضى ، وإنما نعني وجوب التأسيس وذلك بأن نبدأ أعمالنا كلها من هذا المنطلق.
فعلى ضوئه تكون السياسة ، وعلى منهجه نبني الآداب ، والأخلاق ، وفي حدوده ندعو إلى الترغيب والترهيب ، وعلى مبادئه يوجد بإذن الله تعالى المجتمع الإسلامي الصالح المنشود ، وتوجد السعادة البشرية في الدنيا والآخرة ، ويعود الناس إلى دين الله أفواجاً فينعمون بالخير ، والأمن ، والطمأنينة وفق هدي العقيدة الخالصة الوارفة الظلال ، فيتخلصون بذلك من أدران الوثنية ، وأوضار الجهل.
الفطـــرة السليــــــــــمة:
وحينئذ تصفو قلوبهم ، وتخلص لله وتخلع ربقة الشرك الذي ران عليها سنين طويلة ، والذي هو أعظم ذنب عُصي به الله عز وجل ، منذ أن انحرف الناس عن الفطرة السليمة التي فطر الله الناس عليها حتى وقعوا فيما وقعوا فيه من الإفراط والتفريط والغلو والتقصير.
بدء انحراف البشريــة عن الفطـــرة:
فلقد كان الإنسان في أول خلقه على المنهج الرباني الصحيح ، عقيدة وسلوكاً ، وأخلاقاً ، وعبادة ، ومعاملة ، حقبة من الزمن.
يذكر علماء التاريخ ، السير بأنها تقدر بعشرة قرون( ) إلى أن بدأ الانحراف في العقيدة ، في أولئك القوم الذين بعث الله فيهم نوحاً عليه الصلاة والسلام ، بعد أن زين لهم الشيطان عبادة الأصنام ، الأوثان بسبب الغلو في الصالحين.
فقد روى البخاري رحمه الله في صحيحه عن ابن عباس رضي الله عنهما في قله تعالى: {وَقَالُوا لَا تَذَرُنَّ آلِهَتَكُمْ وَلَا تَذَرُنَّ وَدًّا وَلَا سُوَاعًا وَلَا يَغُوثَ وَيَعُوقَ
وَنَسْرًا} قال: "هذِهِ أَسْمَاءُ رِجَالٍ صَالِحِينَ مِنْ قَوْمِ نُوحٍ فَلَمَّا هَلَكُوا أَوْحَى الشَّيْطَانُ إِلَى قَوْمِهِمْ أَنْ انْصِبُوا إِلَى مَجَالِسِهِمْ الَّتِي كَانُوا يَجْلِسُونَ أَنْصَابًا وَسَمُّوهَا بِأَسْمَائِهِمْ فَفَعَلُوا فَلَمْ تُعْبَدْ حَتَّى إِذَا هَلَكَ أُولَئِكَ وَتَنَسَّخَ الْعِلْمُ عُبِدَتْ"( )
فانظر كيف بدأ الانحراف عن الصراط السوي نتيجة للغلو ، بطريق التدريج ، وذلك أنهم كانوا يتبركون بدعائهم ، وكلما مات منهم أحد مثلوا صورته وتمسحوا بها زمنـاً طويلاً إلى أن عبدوها باستدراج الشيطان لهم.
ثم صارت سنة في الناس يهرم عليها الكبير ، ويشب عليها الصغير إلى أن بعث الله فيهم نوحـاً عليه الصلاة و السلام فلبث فيهم ألف سنة إلا خمسين عاماً يدعوهم إلى توحيد الله ونبذ عبادة ما سواه فأصروا واستكبروا استكباراً، ولم يؤمن منهم إلا النزر اليسير.
وما كان عليه حال قوم نوح هي نفس الحال التي ارتكس فيها الناس بعد ذلك من الغلو ، ومجاوزة الحد ، واتباع الهوى الذي أودى بالناس إلى عبادة غير الله سبحانه وتعالى.
أخطـــر أسبـــاب الضــــلال:
وأخطر هذه الأسباب هو الغلو الذي حذر الله منه في غير آية من كتابه.
والغلو هو مجاوزة الحد ، وضابطه تعدي ما أمر الله به ، بالزيادة فيه وهو الطغيان الذي نهـى الله عنه في قوله تعالى: {وَلَا تَطْغَوْا فِيهِ فَيَحِلَّ عَلَيْكُمْ غَضَبِي}.
وكذا قال تعالى: {يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لاَ تَغْلُواْ فِي دِينِكُم} ، أي لا تتعدوا ما حد الله لكم.
وأهل الكتاب هنا ، هم اليهود والنصارى ، فنهاهم عن الغلو في الدين ، ونحن كذلك ، كما قال تعالى: {فَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ وَمَن تَابَ مَعَكَ وَلاَ تَطْغَوْاْ
إِنَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ}، والغلو كثير في النصارى فإنهم غلوا في عيسى عليه الصلاة والسلام ، فتقلوه من حيز النبوة إلى أن اتخذوه إلهاً من دون الله ، يعبدونه كما يعبدون الله ، بل غلوا فيمن زعم أنه دينه من أتباعه ، فادعوا لهم العصمة ، واتبعوهم في كل ما قالوه سواء كان حقا أو باطلاً ، وناقضتهم اليهود في أمر عيسى عليه الصلاة والسلام ، فحطوا من منزلته حتى جعلوه ولد بغـي.( )
قال شيخ الإسلام ابن تيمية يرحمه الله: ((ومن تشبه من هذه الأمة باليهود والنصارى ، وغلا في الدين بإفراط أو تفريط ، وضاهاهم في ذلك ، فقد شابههم ، كالخوارج المارقين من الإسلام الذين خرجوا في خلافة علي بن أبي طالب رضي الله عنه ، وقاتلهم حين خرجوا على المسلمين – وكان قتالهم بأمر النبي صلى الله عليه وسلم ، كما ثبت ذلك من عشرة أوجه في الصحاح ، والمسانيد وغير ذلك ، وكذلك من غلا في دينه من الرافضة والقدرية والجهمية ،والمعتزلة)).
وقال أيضاً: ((فإذا كان على عهد النبي صلى الله عليه وسلم من انتسب إلى الإسلام وقد مرق منه مع عبادته العظيمة ، فليعلم أن لمنتسب إلى الإسلام والسنة في هذه الأزمان ، وقد يمرق أيضاً من الإسلام ، وذلك بأسباب منها الغلو الذي ذمه الله في كتابه ، حيث قال: {يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لاَ تَغْلُواْ فِي دِينِكُم}( )
وهذا الكلام يدل دلالة واضحة على أن أعظم فتنة ابتليت بها البشرية إنما هي فتنة الغلو الذي جاء التحذير منه في غير ما آية وحديث ، وقد نقدم من الآيات ما يوضح ذلك.
أما الأحاديث فمنهاما ثبت في صحيح البخاري وغيره من حديث عمر بن الخطاب رضي الله عنه ن النبي صلى الله عليه وسلم ، قال: "لَا تُطْرُونِي( ) كَمَا أَطْرَتْ النَّصَارَى ابْنَ مَرْيَمَ فَإِنَّمَا أَنَا عَبْدُهُ فَقُولُوا عَبْدُ اللَّهِ وَرَسُولُهُ"( )
وثبت في سنن أبي داود ة الترمذي ، وابن ماجه ، من حديث ابن عباس أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " إِيَّاكُمْ وَالْغُلُوَّ فِي الدِّينِ، فَإِنَّهُ أَهْلَكَ مَنْ كَانَ قَبْلَكُمُ الْغُلُوَّ فِي الدِّينِ"( ).
وهذه نصوص صريحة ، وواضحة في أن سبب الانحراف عن العقيدة الصحيحة والفطرة السليمة إنما هو ذلك الغلو ومجاوزة الحد الذي أدى بالتالي إلى صرف العبادة إلى غير الله سبحانه وتعالى.
لـمــــــــــاذا بعــــــــث الرســـــــــــل؟
الأمر الذي من أجله بعث الله الرسل لإعادة الناس من عبادة العباد إلى عبادة رب العباد. ذلكم هو الهدف الأسمى الذي أوجد الله من أجله الثقلين ، الجن ، والإنس . فكل عاقل في هذا الوجود يعرف أنه مخلوق لخالق ، ومربوب، لرب أوجده بعد أن لم يكن.
لو طرح سؤال مفاده: لماذا خلقت في هذه الحياة؟ ولماذا فضلت على سائر الكائنات الأخرى؟ وما هي مهمتك في هذه الحياة ؟.. فإن الجواب عند المؤمن حاضر بكل بساطة: إن كل صانع يعرف سر صنعته ، لماذا صنعها... ولماذا صنعها على نحو معين دون غيره...
والله تعالى هو صانع الإنسان وخالقه ، ومدبر أمره.
فلنسأله: يا رب لماذا خلقت هذا الإنسان...؟
هل خلقته لمجرد الطعام والشراب..؟ هل خلقته للهو واللعب..؟ هل خلقته لمجرد أن يمشي على التراب ، ويأكل مما خرج من التراب ، ثم يعود كما كان إلى التراب ، فإذا لم يكن الأمر كذلك فما سر هذه القوى والملكات التي أودعها الله الإنسان من عقل وإرادة ونفس وروح.
لقد جاء جواب ذلك بما يشفي ، ويكفي في الكتاب العزيز الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه تنزيل من حكيم حميد ، حيث نص تبارك وتعالى على أنه خلق هذا الإنسان ليكون خليفة في الأرض.
قال تعالى: {وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلاَئِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً قَالُواْ أَتَجْعَلُ فِيهَا مَن يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاء وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ قَالَ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ}. وهذه الخلافة معناها أن يعرف الإنسان ربه حق معرفته ، ويعبده حق عبادته.( )
قال تعالى: {اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ وَمِنَ الْأَرْضِ مِثْلَهُنَّ يَتَنَزَّلُ الْأَمْرُ بَيْنَهُنَّ لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ وَأَنَّ اللَّهَ قَدْ أَحَاطَ بِكُلِّ شَيْءٍ عِلْمًا}.
ويقول الله تعالى: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ {56} مَا أُرِيدُ مِنْهُم مِّن رِّزْقٍ وَمَا أُرِيدُ أَن يُطْعِمُونِ {57} إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ {58}.
وإذن ، فالجواب البدهي الذي تنطق به الفطرة في هذا الكون ، أن الإنسان عبد الله خلق لذلك ، وسخر الله له ما في السموات ، وما في الأرض ، من أجل تحقيق هذا الغرض.
عبـــادة غيــر الله قلـب للفطـــــرة:
ومن هنا يعلم كل ذي فطرة سليمة ، وعقل متجرد ، أن عبادة الإنسان ، لقوي الطبيعة ومظاهرها من فوقه ، ومن تحته كالشمس ، والقمر ، والنجوم ، والأنهار ، والأبقار ، والأشجار ، ونحوها قلب للوضع الطبيعي ، وانتكاس بالإنسان أي انتكاس!!
والإنسان إذن ، بحكم فطرته ، ومنطق الكون ، إنما هو مربوب لله سبحانه لا لغيره ، لعبادته وحده ، لا لعبادة بشر ، ولا حجر ، ولا بقر ، ولا شجر ، ولا شمس ، ولا قمر ، وكل عبادة لغير الله إنما هي من تزيين الشيطان عدو الإنسان. ولذا نرى أول نداء يوجهه الله لرسله هو الأمر بعبادته ، وبيان أنه لا إله غيره ، ولا رب سواه ، اقرأ مثلاً قوله تعالى: {اعْبُدُواْ اللَّهَ مَا لَكُم مِّنْ إِلَـهٍ غَيْرُه}.
عهــــــد الله:
هذه العبادة لله وحده هي العهد القديم الذي أخذه الله على بني الإنسان ، ورسخه في فطرهم البشرية ، وغرسه في طبائعهم الأصلية ، منذ خلقهم ، وصورهم ، وجعلهم في أحسن تقويم ، وأوجد فيهم العقل الواعي ، الذي يتميزون به على سائر الكائنات، وجعل كل ما حولهم من الآيات البينات دليلا قاطعاً على وحدانيته سبحانه ، وإفراده بكامل العبودية ، وأخذ العهد عليهم حيث قال تعالى" {أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يَا بَنِي آدَمَ أَن لَّا تَعْبُدُوا الشَّيْطَانَ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُّبِينٌ {60} وَأَنْ اعْبُدُونِي هَذَا صِرَاطٌ مُّسْتَقِيمٌ {61}.
ومن هنا نعلم أن كل عبادة لغير الله ، وإن ظهرت في صورة عبادة حجر ، أو شجر ، أو مدر ، أو هوى ، إنما هي من إيحاء الشيطان ، وتزيينه ، ووسوسته بشكل مباشر أو غير مباشر ، بغض النظر عن القالب الذي ظهرت فيه تلك العبادة ، ولذا نرى أن الله تبارك وتعالى قد أخذ العهد على بني آدم منذ أن كانوا في صلب أبيهم آدم.
هذا العهد بين الله وعباده ، هو الذي صورة القرآن في لأروع صورة ، وبلاغة ، حين قال: {وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِن بَنِي آدَمَ مِن ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنفُسِهِمْ أَلَسْتَ بِرَبِّكُمْ قَالُواْ بَلَى شَهِدْنَا أَن تَقُولُواْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هَذَا غَافِلِينَ {172} أَوْ تَقُولُواْ إِنَّمَا أَشْرَكَ آبَاؤُنَا مِن قَبْلُ وَكُنَّا ذُرِّيَّةً مِّن بَعْدِهِمْ أَفَتُهْلِكُنَا بِمَا فَعَلَ الْمُبْطِلُونَ {173}
فلا عجب أن يكون المقصود الأعظم من بعثة النبيين وإرسال المرسلين ، وإنزال الكتب المقدسة ، هو تذكير الناس بهذا العهد القديم ، وإزالة ما تراكم على معدن الفطرة من غبار الغفلة أو الوثنية ، أو التقليد الأعمى.
دعـــــوة الرســـــل واحــــــــــــــدة:
ولا عجب أن يكون النداء الأول لكل رسول: {يَا قَوْمِ اعْبُدُواْ اللَّهَ مَا لَكُم
مِّنْ إِلَـهٍ غَيْرُهُ}. جاء في العبودية لشيخ الإسلام ابن تيمية ما خلاصته:
((بهذا دعا قومه ، نوح ، وهود ، وصالح ، وإبراهيم ، ولوط ، وشعيب وكل رسول بعث إلى قوم مكذبين)).
قال تعالى: {وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَّسُولاً أَنِ اعْبُدُواْ اللّهَ وَاجْتَنِبُواْ الطَّاغُوتَ}.
وقال تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ مِن رَّسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ}.
وقال تعالى بعد أن ذكر قصص طائفة كبيرة من الأنبياء: {إِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاعْبُدُونِ}.
وقال تعالى: {يَا أَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَاعْمَلُوا صَالِحًا إِنِّي بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ {51} وَإِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاتَّقُونِ {52}.
وقد أمر الله نبيه محمداً صلى الله عليه وسلم بذلك فقال: {وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ {99} أي الموت. كما قال تعالى على لسان قوم: {وَكُنَّا نُكَذِّبُ بِيَوْمِ الدِّينِ {46} حَتَّى أَتَانَا الْيَقِينُ {47}وهو الموت( ). فالتكليف بالعبادة لازم له حتى يلقى ربه.
ولم تسقط عنه بسمو الروح ، ولا بالاتصال القوي بالله كما يدعي غلاة الصوفية.
وقال تعالى في شأن عيسى بن مريم الذي رفعه قومه إلى مرتبة الألوهية: {لَّن يَسْتَنكِفَ الْمَسِيحُ أَن يَكُونَ عَبْداً لِّلّهِ وَلاَ الْمَلآئِكَةُ الْمُقَرَّبُونَ وَمَن يَسْتَنكِفْ عَنْ عِبَادَتِهِ وَيَسْتَكْبِرْ فَسَيَحْشُرُهُمْ إِلَيهِ جَمِيعًا {172}
{فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ فَيُوَفِّيهِمْ أُجُورَهُمْ وَيَزيدُهُم مِّن فَضْلِهِ وَأَمَّا الَّذِينَ اسْتَنكَفُواْ وَاسْتَكْبَرُواْ فَيُعَذِّبُهُمْ عَذَابًا أَلُيمًا وَلاَ يَجِدُونَ لَهُم مِّن دُونِ اللّهِ وَلِيًّا وَلاَ نَصِيرًا {173}
ويعرض لنا القرآن مشهداً من مشاهد يوم الحشر ، يسأل الله فيه المسيح عليه الصلاة والسلام عما نسبوه إليه ، وافتروه عليه. فيجيب في أدب العبودية متبرئاً مما صنعوا {وَإِذْ قَالَ اللّهُ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ أَأَنتَ قُلتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّيَ إِلَـهَيْنِ مِن دُونِ اللّهِ قَالَ سُبْحَانَكَ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أَقُولَ مَا لَيْسَ لِي بِحَقٍّ إِن كُنتُ قُلْتُهُ فَقَدْ عَلِمْتَهُ تَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِي وَلاَ أَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِكَ إِنَّكَ أَنتَ عَلاَّمُ الْغُيُوبِ {116} مَا قُلْتُ لَهُمْ إِلاَّ مَا أَمَرْتَنِي بِهِ أَنِ اعْبُدُواْ اللّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ وَكُنتُ عَلَيْهِمْ شَهِيدًا مَّا دُمْتُ فِيهِمْ فَلَمَّا تَوَفَّيْتَنِي كُنتَ أَنتَ الرَّقِيبَ عَلَيْهِمْ وَأَنتَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ {117}.
فالأديان كلها دعوة إلى عبادة الله وحده. والأنبياء جميعاً أول العابدين لله. فعبادة الله وحده هي إذن مهمة الإنسان الأولى في الوجود كما بينت ذلك كل الرسالات ، قال تعالى: {شَرَعَ لَكُم مِّنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحًا وَالَّذِي أَوْحَيْنَا
إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلَا تَتَفَرَّقُوا فِيه} فقد دلت الآية الكريمة وما في معناها على وحدة الهدف والعقيدة التي هي محور دعوة جميع الرسل من لدن نوح عليه الصلاة والسلام إلى خاتمهم وأفضلهم نبينا محمد صلى الله عليه وسلم( ) ، الذي بعثه الله رحمة للعالمين ليخرج الناس من الظلمات إلى النور ، ولينقذهم من أوحال الشرك ، وأدران الوثنية ، فكان بذلك نبراسا للأمة ينير لها الطريق ، ومشعلاً {يَهْدِي بِهِ اللّهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ سُبُلَ السَّلاَمِ وَيُخْرِجُهُم مِّنِ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِهِ وَيَهْدِيهِمْ إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ {16}.
السلــــف الصــالح ودعـــوة الرســــــل:
وقد كان السلف الصالح من الصحابة والتابعين يترسمون تلك الخطى النبوية ، ويستلهمون سر وحدتهم من صفاء العقيدة الخالصة التي لم تشبها شائبة ، فأصبحوا بذلك سادة الدنيا ، وفتح الله لهم أبواب الخير من كل مكان ورفعوا رابة التوحيد في مشارق الأرض ومغاربها. وكل عاقل يدرك أن هذا النصر المؤزر الذي حققه الله على أيديهم لم يكن وليد الصدفة ، ولم يكن بسبب كثرة العدد والعدة ، وإنما تحقق ذلك ، بسبب اعتمادهم على الله ، والتوكل عليه مع الأخذ بالأسباب المشروعة ، وبدئهم بالأهم قبل المهم ، وانطلاقهم في دعوتهم من تحقيق كلمتي التوحيد (( لا إله إلا الله محمد رسول الله)) ، لأن ذلك هو الأساس الذي أمروا أن يبدءوا به.
البــــدء بمـــا بدأ الله بــــــــــه:
قال تعالى: {وَاعْبُدُواْ اللّهَ وَلاَ تُشْرِكُواْ بِهِ شَيْئًا} ، وقال تعالى: {وَقَضَى رَبُّكَ أَلاَّ تَعْبُدُواْ إِلاَّ إِيَّاه} ، وقال تعالى: {قُلْ تَعَالَوْاْ أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ أَلاَّ تُشْرِكُواْ بِهِ شَيْئًا} ، وقال تعالى: {قُلْ هَـذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَاْ وَمَنِ اتَّبَعَنِي وَسُبْحَانَ اللّهِ وَمَا أَنَاْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ {108}.
ومن السنة ما ثبت في الصحيحين من حديث عبد الله بن عباس قال: (لما بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم معاذا إلى اليمن قال: "إِنّكَ تَأْتِي قَوْما مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ. فَادْعُهُمْ إِلَى شَهَادَةِ أَنْ لاَ إِلَهَ إِلاّ الله.... ( ).
التوحيــــــــــــد سبــــــــــــــــب لتكفيـــــــــــــر الذنــــــــــــــوب:
ومما يدل على أهمية العقيدة ، وكونها أساس كل عمل ، تكفيرها للذنوب والكبائر إذا صدرت عن إخلاص وقوة إيمان ، يدل لذلك ما رواه الترمذي وغيره عن عبد الله بن عمرو بن العاص من حديث صاحب البطاقة حيث يُنْشَرُ لَهُ تِسْعَةٌ وَتِسْعُونَ سِجِلاً. كُلُّ سِجِلٍّ مَدَّ الْبَصَرِ ، ثم يُؤتَى ببِطَاقَةٌ فِيهَا: أَشْهَدُ أَنْ لاَإِلهَ إِلاَّ اللهُ، وَأَنَّ مُحَمَّداً عَبْدُهُ وَرَسُولُهٌ ، فَتُوضَعُ السِّجِلاَّتُ فِي كِفَّةٍ وَالْبِطَاقَةُ فِي كَفَّةٍ. فَطَاشَتِ السِّجِلاَّتُ، وَثَقُلَتِ الْبِطَاقَةُ.( )
وإذاً فتوحيد الله تعالى ، هو رأس الأمر كله ، والجسد لا يستقيم بلا رأس ، كما قال الرسول صلى الله عليه وسلم: رأسُ الأمْرِ الإِسْلامُ، وَعَمُودُهُ الصَّلاةُ، وَذِرْوَةُ سَنَامِهِ الجِهادُ في سبيل الله"( )
وهذه نصوص صريحة دالة على وجوب البدء بالدعوة إلى توحيد الله تعالى ، قبل جميع التكاليف ، لأن قبول جميع التكاليف مرهون بتحقيق ذلك ، وهذا ما سار عليه السلف الصالح في دعوتهم ، مما حقق لهم النجاح في برهة وجيزة ، أذهلت العقول ، وتحطمت أمامها عروش الكفر والطغيان.
كيفيــــة بدء الانحراف في هذه الأمـــة وأسبـــاب ذلك:
وقد استمر الأمر على هذا الحال ثم بدأ الانحراف بعد ذلك عن هذه الجادة بسبب الانصراف عن الكتاب والسنة – اللذين يجب أن نأخذ العقيدة منهما – والاشتغال بالفلسفة والمنطق ، اللذين لم يستفد منهما المسلمون غير تخريب العقيدة ، والقيل ، والقال ، والجدل الذي لا طائل تحته ولا جدوى من ورائه حتى قال قائلهم:
نهاية إقدام العقول عقال **وأكثر سعي العالمين ضلال
وأرواحنا في وحشة من جسومنا** وغاية دنيانا أذى ووبال
ولم نستفد من بحثنا طول عمرنا**سوى أن جمعنا فيه قيل وقالوا.( )
الأمر الذي حدى بكثير من الناس إلى تعطيل صفات الله عز وجل ، أو تفويضها ، و تأويلها ، أو تمثيلها ، وكذلك الحال في عبادة الله عز وجل حيث لم يقتصر الأمر على التقيد بالكتاب والسنة ومنهج السلف الصالح في ذلك ، حتى أصبح الناس في العبادة نتيجة لجهلهم بما كان عليه السلف الصالح من صحة الاعتقاد ، أصبحوا ما بين مُفْرِطٍ ومُفَرِّطٍ.
الإفـــراط والتفــــريـــط:
...فالمفرطون أسرفوا في دعوى المحبة حتى أخرجهم ذلك إلى نوع من الرعونة والدعاوى التي تنافي العبودية ، وتثبت الربوبية أو شيئاً منها لغير الله ، ومعلوم أن الرب والمعبود هو الله وحده ، ومع ذلك يدعي هؤلاء دعاوى تتجاوز حدود الأنبياء والمرسلين – فضلاً عن عامة الناس – مما لا يصلح بكل وجه إلا لله – لا يصلح للأنبياء ، ولا للمرسلين.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: (وهذا باب وقع فيه كثير من الشيوخ (يعني شيوخ المتصوفة) وسببه: ضعف تحقيق العبودية التي بينها الرسل ، وحددها الأمر والنهي ، الذي جاءوا به ، بل ضعف العقل الذي به يعرف العبه حقيقته.
وإذا ضعف العقل ، وقل العلم بالدين ، وفي النفس محبة طائشة جاهلة ، انبسطت النفس بحمقها في ذلك ، كما ينبسط الإنسان في محبة الإنسان مع حمقه وجهله ، ويكون سبباً لبغض المحبوب له ، ونفوره منه ، بل سبباً لعقوبته.
وكثير من السالكين سلكوا في دعوى حب الله أنواعاً من أمور الجهل بالدين ، إما من تعدي حدود الله ، وإما من تضييع حقوق الله ، وإما من ادعاء الدعاوى الباطلة التي لا حقيقة لها. كقول بعضهم: ((أي مريد لي ترك في النار أحدا فأنا بريء منه ، وقال الآخر: أي مريد لي ترك أحداً من المؤمنين يدخل النار فأنا منه بريء)).
فالأول: جعل مريده يخرج كل من في النار.
والثاني: جعل مريده يمنع أهل الكبائر من دخول النار.
ويقول بعضهم: إذا كان يوم القيامة نصبت خيمتي على جهنم ، حتى لا يدخلها أحد ، وأمثال ذلك من الأقوال التي تؤثر عن بعض المشايخ المشهورين. وهي إما كذب عليهم ، وإما غلط منهم) ( )اهـ.
دعــــــاوى بــاطلـــــــــــــــة:
وإذا كانت هذه المقالات الإلحادية قد وجدت في عهد شيخ الإسلام ابن تيمية ، وقبله ، فإن في عصرنا من الدعاوى التي تبلغ حد التأليه ، وما هو أدهى وأمــر.
من ذلك قول أحد زعماء الطرق الصوفية المعاصرين:
قد خصني بالفضل والتشريــف**إن قلت كن يكن بلا تسويف
لو شئت عمَّ فيضه البسيطـة**وأدركوا أسراره المحيطة
ومرة أخرى ترون عجباً**من سر ذي الختم إمام النجبا.( )
ويدعي هذا الكذاب الأشر أن رجلاً نصرانياً دخل الجنة بسبب أنه عاشر امرأة من أتباع ذلك الشيخ ، معاشرة غير شرعية مع أن المرأة التي عاشرها كما يقول ليست ملتزمة كما يقول بالطريقة ، ولكنه دخل الجنة ببركة شيخ الطريقة التي تنتمي إليها هذه المرأة( ) ، ويقول أحد الأفاكين من هؤلاء: ((إن من ضرورات مذهبهم أن لأئمتهم درجة لا يبلغها ملك مقرب ، ولا نبي مرسل( ) إلى غير ذلك من المقالات الكفرية والإلحادية ، القديمة والحديثة ، والتي لا تكاد تعد ولا تحصى.
ترى ماذا ترك هؤلاء الملاحدة لله من العبودية! إذا ادعوا بلوغ مثل هذه المراتب ، وإذا سُئلوا عن تفسير هذه التراهات ، ادعوا أنهم كانوا في حالة سكر بحب الإله.
قال الشاعر في التهكم بهم ووصف أحوالهم التي يزعمون أنها عبادة:
ألا قل لهم قول عبد نصــوح**وحق النصيحة أن تستمــع
متى علم الناس في ديننا**بأن الغنا سنة تتبــع؟
وأن يأكل المــرء أكل الحمــار**ويرقـص في الجمـع حتى يقـــع
وقالوا سكرنـا بحب الإلــه**وما أسكــر القوم إلا القصـــع
كذاك البهائــم إن أشبعــت**يُرقِّصُــها ريُّــها والشِّبـــع
ويسكــره النــايُ ثم الغنـــا**ويَس ، لو تليت ما انصـــدع
فيــا للعقول ويــا للنهــى**ألا منكـــر منكمــو للبــدع
تهــان مسـاجدنــا بالسمـــاع**وتكــرم عن مثــل ذاك البيـــع( )
وقــال آخـــر:
تلي الكتـاب فأطرقوا ، ولا خيفة**لكنه إطراق ساهٍ لاهي
وأتى الغناء ، فكالحمير تناهقوا**والله ما رقصوا لأجل الله
دفٍّ ومزمار ونغمـة شادن**فمتى رأيت عبادة بملاهــي
ثقل الكتاب عليهمو لما رأوا**تقييدة بأوامــر ونواهـــي
سمعــوا له رعدا وبرقا إذ حوى**زجرا وتخويفا بفعل منــاهي
ورأوه أعظم قاطع للنفس عن**شهواتها يا ذبحهـــا المتناهــي
وأتى السمــاعُ موافقا أغراضهـا**فلأجل ذاك إذا عظيم الجـاه
أين المساعد للهوى من قاطع**أسبابه عند الجهول الساهــــــي؟
إن لم يكن خمر الجســوم فإنه**خمر العقــول مماثل ومضاهـــي
فانظر إلى النشوان عند شرابه**وانظر إلى النشوان عند ملاهــي
وانظر إلى تمزيق ذا أثوابه**من بعد تمزيق الفــؤاد اللاهـــــــــــي
واحكـم فأي الخمرتيــن أحــق**بالتحريـــم والتأثيـــم عند الله؟( )
وما وصفه الشاعر من أحوال هؤلاء الناس يعطي صورة حقيقية عن مدى الانحراف الذي وقعوا فيه حيث بلغ بهم الحال إلى اعتبار الرقص والغناء عبادة تقربهم إلى الله بدعوى أن تلك الرقصات والأنغام الصوفية إنما هي نابعة من قلب مفعم بالمحبة ، فجعلوا محبتهم للخالق مشابهة لمحبة المخلوق للمخلوق من وجود العتاب ، والعذل واللوم والغرام ، ونح ذلك مما يجب أن ينزه الله عنه. لأنه لا يليق بجلال الله وعظمته.
دليــــــل محبـــــــــة الله ورسولــــــــــــه:
ولكن الدليل والبرهان على محبة القلب لله وخضوعه له إنما يتجسد في اتباع رسول الله صلى الله عليه وسلم ، قال تعالى: {قُلْ إِن كُنتُمْ تُحِبُّونَ اللّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللّه}. فلا يكون محباً لله إلا من يتبع رسوله.
وطاعة الرسول ، ومتابعته لا تكون إلا بتحقيق العبودية.
وكثير ممن يدعـي المحبة يخرج عن شريعته وسنته صلى الله عليه وسلم ، ويدعـي من الحالات ما لا يتسع هذا الموضوع لذكره ، حتى قد يظن أحدهم سقوط الأمر. وتحليل الحرام له ، وغير ذلك مما فيه مخالفة لشريعة الرسول وسنته وطاعته.
بل قد جعل الله أساس محبته ومحبة رسوله ، الجهاد في سبيله. والجهاد يتضمن كمال محبة ما أمر الله به. وكمال بُغض ما نهى الله عنه. ولهذا قال في صفة من يحبهم ويحبونه: {أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللّهِ وَلاَ يَخَافُونَ لَوْمَةَ لآئِم}. (ولهذا كانت محبة هذه الأمة لله أكمل من محبة من قبلها وعبوديتهم لله أكمل من عبودية من قبلهم ، وأكمل هذه الأمة في ذلك هم أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم ، ومن كان بهم أشبه كان ذلك فيه أكمل)( ) <<هذا صنف>>
المحبـــــة لا تنـــــافــــي العبوديـــــــــــــة:
والصنف الثاني وهم المُفرطون وهم العصاة أو الذين غلطوا في فهم حقيقة العبادة وهم الذين ظنوا أن المحبة تنافي أدب العبودية ، ولا تصاحب خشية الله ومخافته التي يجب أن يتصف بها كل عبد لله. كما ظن أن المحبة لا تتحقق من المخلوق للخالق ، وإنما المطلوب منه الطاعة والخضوع فقط.
ولذا نجد بعضهم يقول: ((اللهم إني أعبدك لا طمعاً في ثوابك ولا خوفاً من عقابك)) ، فانظر يا أخي المسلم ، كيف فصلوا بين العبادة وبين الخوف والخشية ، والمحبة والرجاء.
والحقيقة أن المحبة لا تنافي الخشية ، والمخافة بل الخوف لازم للمحبة ، كما قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله إذ ليس عند القلب السليم أحلى ، ولا ألذ ، ولا أطيب ، ولا أسر ، ولا أنعم من حلاوة الإيمان المتضمن عبوديته لله ، ومحبته له ، وإخلاص الدين له)).
وذلك يقتضي انجذاب القلب إلى الله ، فيصير القلب منيباً إلى الله خائفاً منه ، راغباً راهباً ، كما قال تعالى: {مَنْ خَشِيَ الرَّحْمَن بِالْغَيْبِ وَجَاء بِقَلْبٍ مُّنِيبٍ} .
إذ المحب يخاف من زوال مطلوبه أو عدم حصول مرغوبه ، فلا يكون عبدا لله ، ومحبه ، إلا بين خوف ورجاء. كما قال تعالى: {أُولَـئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ وَيَرْجُونَ رَحْمَتَهُ وَيَخَافُونَ عَذَابَهُ إِنَّ عَذَابَ رَبِّكَ كَانَ مَحْذُورًا}.
فقد دلت الآية الكريمة على أن كل عبد مخلص لله ، لابد أن يكون مع عبادته بين الخوف والرجاء ، وقد نص العلماء رحمهم الله على أنه ينبغي للمسلم أن يُغلِّب جانب الخوف في الصحة حتى لا يأمن من مكر الله ، وأن يُغلِّب جانب الرجاء في المرض حتى لا ييأس من روح الله( ) ، والآية الكريمة نزلت في أناس من الإنس كانوا يعبدون نفراً من الجن ، فأسلم الجن ، وبقي الإنس على عبادتهم( ) إياهم ، فأخبر الله تعالى ، أن هؤلاء المدعوين يطلبون القربة إلى الله عز وجل بالعمل بما يرضيه ، خوفاً من عقابه وطمعاً في ثوابه ، وهذا ينطبق على كل من يدعو غير الله في الوقت الذي يكون المدعو أحوج ما يكون إلى عبادة الله. كما يقال: (فاقد الشيء لا يعطيه) ، ومع ذلك نجد كثيراً ممن انتكست فطرتهم ، يعكف عند ميت في قبره ، يطلب منه قضاء الحاجات ، وتفريج الكربات ، ويزعم أنه يعلم الغيب ، ويعطي الولد ، وغير ذلك مما لا يقدر عليه إلا الله.
حــاجة المسلميـن إلى معرفـة العقيــدة الصحيحــة:
ولا نكاد نجد بلداً من بلاد الإسلام ، إلا وفيه أنماط من هذه الطقوس التي حالت بين الناس ، وبين فهم العقيدة الصحيحة.
ومن هنا تبدو الحاجة ملحة إلى بيان تلك العقيدة الصافية ، الخالصة التي ترتكز على نصوص الوحيين الكتاب والسنة.
فالإنسان في كل زمان ومكان في حاجة ماسة إلى عقيدة تحدد لع غايته ، وتوضح له منهجه الذي يسير عليه لتحقيق هذه الغاية ، ولكنه عندما تنتكس فطرته ، وتطول غفلته وينقلب فهمه ، حتى يرى حسنا ما ليس بالحسن ، عندها تتحول عقيدته إلى حجر يقدسه ، أو شجر يعظمه ، أو شمس تضيء نهاره ، أو قمر ينير ليله ، أو بحر تتلاطم أمواجه ، أو نار تتلظى ، أو حيوان يهابه ، أو إنسان يكبر في نفسه ، أو أي مخلوق يرى له فضلاً عليه من ملك أو جني ، أو نبي ، أو ولي ميت أو حي ، فيتعلق من ذلك كله بما هو أوهن من خيوط بيت العنكبوت.
قال تعالى: {مَثَلُ الَّذِينَ اتَّخَذُوا مِن دُونِ اللَّهِ أَوْلِيَاء كَمَثَلِ الْعَنكَبُوتِ اتَّخَذَتْ بَيْتًا وَإِنَّ أَوْهَنَ الْبُيُوتِ لَبَيْتُ الْعَنكَبُوتِ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ}.
وقد يكون ذلك منه لمجرد التقليد من غير وعــي ، أو تفكير ، قال تعالى: {وَقَالُوا لَوْ شَاء الرَّحْمَنُ مَا عَبَدْنَاهُم مَّا لَهُم بِذَلِكَ مِنْ عِلْمٍ إِنْ هُمْ إِلَّا يَخْرُصُونَ {20} أَمْ آتَيْنَاهُمْ كِتَابًا مِّن قَبْلِهِ فَهُم بِهِ مُسْتَمْسِكُونَ {21} بَلْ قَالُوا إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِم مُّهْتَدُونَ {22}وَكَذَلِكَ مَا أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ فِي قَرْيَةٍ مِّن نَّذِيرٍ إِلَّا قَالَ مُتْرَفُوهَا إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِم مُّقْتَدُونَ {23}.
وقد يكون الانحراف في العقيدة باتباع الهوى الذي ذمه الله في غير ما آيـة من كتابه العزيز.
قال تعالى: {أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ وَأَضَلَّهُ اللَّهُ عَلَى عِلْمٍ وَخَتَمَ عَلَى سَمْعِهِ
وَقَلْبِهِ وَجَعَلَ عَلَى بَصَرِهِ غِشَاوَةً فَمَن يَهْدِيهِ مِن بَعْدِ اللَّهِ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ {23} وَقَالُوا مَا هِيَ إِلَّا حَيَاتُنَا الدُّنْيَا نَمُوتُ وَنَحْيَا وَمَا يُهْلِكُنَا إِلَّا الدَّهْرُ وَمَا لَهُم بِذَلِكَ مِنْ عِلْمٍ إِنْ هُمْ إِلَّا يَظُنُّونَ {24}.
وقال تعالى: {إِن يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَمَا تَهْوَى الْأَنفُسُ وَلَقَدْ جَاءهُم مِّن رَّبِّهِمُ الْهُدَى }
حكـــم التحـــزب والانتمـــاءات في الإســــــــــلام:
وفي هذا العصر الذي ادلهمَّت فيه الظلمات ، وانقلبت فيه الحقائق ، وتغيرت فيه المفاهيم ، يتساءل الفرد المسلم عن طريق الخلاص ، يتساءل وهو حائر بين هذه الجماعات المتصارعة ، والأحزاب المتناحرة ، والدعوات المتفرقة ذات المناهج المختلفة التي تدعـي لنفسها السير على المنهج الصحيح.
وكـل يدعـي وصـلاً لليلـى ** وليلــى لا تقــر لهــم بذاك.
وأيـاً ما كان الأمر وبغض النظر عن صدق النوايا لدى المنتمين إلى هذه الجماعات والأحزاب ، فإن كل مسلم فهم الكتاب والسنة ومنهج سلف الأمة يتساءل عن شرعية وجود مثل هذه الجماعات والطوائف في الإسلام والجواب: أن الإسلام لا يقر ذلك بل يمقته ويذم أهله لأنه أخطر سبب يفرق الأمة ويشتت شملهـا.
فتــــوى في التحــــــــزب:
ويجدر بنا نحن في الكلام على حم الإسلام في هذه الانتماءات وهذا التحزب أن ننقل الفتوى التي صدرت في ذلك من اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء (من هيئة كبار العلماء بالمملكة العربية السعودية) رقم 164 في 7/10/1397 وهو حكم صريح بعدم شرعية وجود هذه الجماعات ، وإليك نص هذه الفتوى:
<<لا يجوز أن يتفرق المسلمون في دينهم شيعاً وأحزاباً يلعن بعضهم بعضاً ويضرب بعضهم رقاب بعض. فإن هذا التفرق مما نهى الله عنه ونعى على من أحدثه أو تابع أهله ..وتوعَّد فاعليه بالعذاب العظيم..وقد برَّأ الله رسوله صلى الله عليه وسلم منه قال تعالى {واعتصموا بحبل الله جميعا ولا تفرقوا} إلى قوله تعالى {وَلاَ
تَكُونُواْ كَالَّذِينَ تَفَرَّقُواْ وَاخْتَلَفُواْ مِن بَعْدِ مَا جَاءهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَأُوْلَـئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ عَظِيم}. الآيات.
وقال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُواْ دِينَهُمْ وَكَانُواْ شِيَعًا لَّسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ إِنَّمَا أَمْرُهُمْ إِلَى اللّهِ ثُمَّ يُنَبِّئُهُم بِمَا كَانُواْ يَفْعَلُونَ {159} مَن جَاء بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا وَمَن جَاء بِالسَّيِّئَةِ فَلاَ يُجْزَى إِلاَّ مِثْلَهَا وَهُمْ لاَ يُظْلَمُونَ {160}.
وثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: ((لا ترجعوا بعدي كفارا يضرب بعضكم رقاب بعض))( ).
والآيات والأحاديث في ذم التفرق في الدين كثيرة. أما إذا كان ولي أمر المسلمين هو الذي نظَّمهم ووزع بينهم أعمال الحياة ومرافقها الدينية والدنيوية ليقوم كل بواجبه في جانب من جوانب الدين والدنيا فهذا مشروع.. بل واجب على ولي أمر المسلمين أن يوزع رعيته على واجبات الدين والدنيا على اختلاف أنواعها فيجعل جماعة لخدمة علم الحديث من جهة نقله وتدوينه وتمييز صحيحه من سقيمه..الخ.
وجماعة أخرى لخدمة فقه متونه تدوينا وتعلما وتعليما.. وثالثة لخدمة اللغة العربية قواعدها ومفرداتها وبيان أساليبها والكشف عن أسرارها.. وإعداد جماعة رابعة للجهاد وللدفاع عن بلاد الإسلام وفتح الفتوح وتذليل العقبات لنشر الإسلام.. وأخرى للإنتاج صناعة وتجارة وزراعة.. إلى آخره.. فهذه من ضرورات الحياة التي لا تقوم للأمة قائمة إلا بها ولا يحفظ الإسلام ولا ينتشر إلا عن طريقه.. هذا مع اعتصام الجميع بكتاب الله وهدي رسوله صلى الله عليه وسلم وما كان عليه الخلفاء الراشدون وسلف الأمة ووحدة الهدف وتعاون جميع المسلمين على نصرة الإسلام والذود عن حياضه وتحقيق وسائل الحياة السعيدة وسير الجميع في ظل الإسلام وتحت لوائه على صراط الله المستقيم وتجنبهم السبل المضلة والفرق الهالكة : قال الله تعالى:{ وَأَنَّ هَـذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلاَ تَتَّبِعُواْ السُّبُلَ
فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَن سَبِيلِهِ ذَلِكُمْ وَصَّاكُم بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ}( )
قال الشيخ سعد بن عبد الرحمن الحصين وفقه الله في كتابه الدعوة في جزيرة العرب بعد أن أورد فتوى الجنة الدائمة آنفة الذكر قال: <<يتبين من هذا أن مجرد قيام جماعة أو حزب أو طائفة أو فرقة وتميَّزها عن جماعة لمسلمين باسم غير الاسم الذي سمى الله به الأمة>> {هُوَ سَمَّاكُم المُسلمين}. أو تميزها بعقيدة أو عبادة لم يأذن بها الله في كتابه وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم وسبيل المؤمنين من أصحابه – أو انعزالها بمركز خاص أو أمير غير ولي الأمر أو بيعة دينية أو سياسية غير بيعة العامة لولي الأمر. كل ذلك أو بعضه خروج عن جماعة المسلمين وتشتيت لشمها وتقطيع لأمرها زبراً. انتهى بأهله إلى التعصب والتنازع والفشل وذهاب الريح والموالاة في الحزب والمعاداة فيه والحب فيه ، والبغض فيه بدعوى أن ذلك كله في الله. بل لقد وصل الأمر بكثير من المسلمين نتيجة لتعدد الجماعات والأحزاب والفرق والطوائف إلى أن تعدى بعضهم على بعض بالتهم والإشاعات الكاذبة والسباب حتى قتل رفقاء الجهاد والدعوة بعضهم بعضاً.
والعجب كل العجب أن يدعي أكثر الحزبيين أن همهم الأول تجميع الصفوف ووحدة المسلمين وفي سبيل ذلك رأوا أنه لا يجوز إنكار البدع ولا بيان مسائل العقيدة التي اختلف عليها المسلمون في العصر المتأخر حتى لا يكاد وجه الحق يعرف فيها بين أكثرية المسلمين.
كيف تتجمع الصفوف ويتحد المسلمون بواسطة جماعات وطوائف ، وأحزاب متفرقة يحاول كل طرف فيها أن يثبت أنه على الحق وغيره على الباطل..ويؤيد حزبه ويعارض الأحزاب الأخرى يجمع التبرعات لجماعته ويحاول أن يصرفها عن غيره.؟
أم كيف تتجمع الصفوف ويتحد المسلمون على عبادات لم يكن عليها أمر محمد صلى الله عليه وسلم وصحبه رضي الله عنهم.( )
الالتزام بالمنهـج الإسلامــي لا بالأشخــــاص:
ومن هنا فالالتزام إنما يكون دائماً وأبداً بالمنهج الإسلامي..بالفكرة..بما شرعه الله لنا..وليس الالتزام بالأشخاص ، أو التنظيمات ، أو الجماعات التي هي دائماً محل للخطأ والصواب والكارثة والخلل والأمراض والعلل تتسلل إلى الحياة الإسلامية من يد الإنسان المسلم ، ومن ثم تكون العصمة الكاذبة التي تخلع على بعض الأشخاص والمبررات المضحكة التي توضع لتصرفاتهم وأخطائهم. وهذا بدأ مرحلة السقوط ، حيث تبدأ عملية تخديم الأهداف والقيم ، لا خدمتها ، أو تستبد بهم حالات اليأس ، أو تمارس عمليات الإرهـاب الفكري ، أو الفساد السياسي ، فتفصَّل الأحكام على الأشخاص ، وتوصَّل الحيل الشرعية حتى تصبح لها مؤلفات ، وتؤوَّل الأحاديث والآيات على مقتضى الأهواء ، ولا يجوز أن يظن أحد أن الدعوة إلى التزام المنهج مقياس وميزان للحق والباطل ، وعدم الالتزام بالأشخاص الذين يخطئون ويصيبون ارتداد إلى الفردية..وبعثرة للجهود ، وابتعاد عن جماعة المسلمين كافةً ، فهذا ليس من الأمور الاختيارية بالنسبة للمسلم ، وإنما هو في حقيقته تصويب لمسيرة حياة المسلمين الجماعية ، وإلغاء للإقطاعات البشرية من حياة الناس ، والتزام بالإسلام الذي بيَّنه رسول الله صلى الله عليه وسلم بقوله: <<ورجلان تحابا في الله اجتمعا عليه وافترقا عليه>>( )
فالاجتماع على المنهج وليس على الأشخاص والافتراق أيضاً على المنهج ، وليس على الأشخاص ، إلا في حالة العمى العقلي ، وعدم الإبصار الصحيح ، بسبب التعصب لفئة ، أو شخص ، أو عرق ، أو قوم ، أو في حالة عدم وجود العَزْمة الأكيدة على الالتزام بهذا الدين.( )
النصيحــــة تفرق الأمــة في مفهــوم الحزبييـــن:
والملاحظ أن هذه الجماعات الحزبية ترى أن الأمر بالمعروف والنهـي عن المنكـر يفرق صفوف الأمة ويمزق كيانها وهذا قول فيه مغالطة خطيرة وتناقض عجيب فإن من أعظم وسائل نشر الدين ، وظهور الإسلام هو الأمر بالمعروف والنهـي عن المنكـر – عجباً لهذا القول ، إن قائله يشبه من يقول الماء لا يروي والطعام لا يشبع.
وخلاصة القول: إنه << فساد النظر الاعتقاد بأن عملية النقد ، والمناصحة ، والأمر بالمعروف والنهـي عن المنكر تُحدث تشويشاً في الصف الإسلامي ، واضطراباً في العمل ، ذلك أن الصف ، أو الجماعة التي تخشى من الحوار ، وتخاف من المناصحة ، ويلبَّس الشيطان على بعض أفرادها بأن الأمر بالمعروف ، ومحاربة المنكر يهدد كيانها ، جماعة لا يوثق بها ، ولا تستحق البقاء ، ولا تستأهل حمل رسالة الإسلام التي من أولى متطلباتها الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، ففاقد الشيء لا يعطيه ، إن مطاردة عمليات المناصحة ، ومحاصرتها ، والقضاء عليها ، تنطوي على خطورة كبيرة تؤدي بأصل القضية في سبيل استبقاء الصورة الشكلية للعمل والدعوة ، حيث تنقلب الوسيلة – التعاون في إطار الجماعة للوصول إلى قدر أكبر من الخير غاية بحد ذاتها . إن التسلط الفردي والإرهاب الفكري الذي يقع فيه أحياناً بعض العاملين للإسلام عندما يغيب عن ساحة العمل البُعدُ الإيماني العيني ، وما يقتضيه من خفض الجناح ، ولين الجانب ، والخلق الكريم ، يؤدي إلى لون من التشرذم ، وضرب من الطائفيات الجديدة ، تتمزق معها رقعة التفكير ، وتنمو الجزئيات ، وتغيب الكليات ، ويضطرب سلَّم الأولويات ، ويضيع تصنيف المشكلات ويتوقف العمل المنتج ، وتنقلب الوسائل إلى غايات – كما أسلفنا – وتتمحور الصورة الإسلامية حول أشخاص لا تُرى القضية الإسلامية إلا من خلالهم ، وينقلب جهد العمل إلى صناعة المبررات ، وتتغلب عملية صناعة التبرير على عقلية دراسة أسباب التقصير ، لا تعالج هذه القضية إلا من خلال ممارسة الحركة الفكرية ، والحوار الشامل ، والتزام أدب الخلاف الإسلامي وجعل المشروعية للمبادئ والأفكار ، وليس للوسائل والأشخاص ، إن العقيدة مقرها القلب ، ولا سلطان لأحد عليه إلا سلطان الدليل ، والقناعة بالشيء هي الدافع لممارسته ، والله تعالى خاطب النبي صلى الله عليه وسلم بأن الغاية من ابتعاثه إلحاق الرحمة بالعالمين ، قال تعالى: {ومَا أَرْسَلنَاك إلاَّ رَحمَة لِلعَالَمِين}. وقال : {لَسْتَ عليْهِم بِمُسيطِر}. وقال مخاطبا ًنبيَّه أيضاً: {أَفَأَنتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُواْ مُؤْمِنِينَ}.وقال: {وَلَوْ كُنتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لاَنفَضُّواْ مِنْ حَوْلِك}.
وهذه من الأبجديات الأولى في الدعوة إلى الله ، وإلحاق الرحمة بالعالمين.( )
البيعـــــة عنــــد الحزبييــــــــــــــــن:
قلت: ومن عوامل الهدم والفرقة لدى هذه الجماعات أنهم يدعون من انضوى تحت لوائهم إلى البيعة لشخص أو أشخاص على طريقة بل طرق متعددة أحياناً الأمر الذي جعل الأمة شيعاً وأحزاباً حتى في الدول التي توجد فيها أقليات إسلامية ، فجعلوا الأمة أمماً ، وأوغلوا في ذلك حتى إنهم ليأخذون البيعة على أتباعهم لأشخاص مجهولين تحت ستار الدعوة إلى الله عـز وجـل ، هي دعوة للتعلق بذات الأشخاص ، وتلك المبادئ الحزبية التي يُوالون ويعادون عليها ، وإننا لنتساءل هنا: أين كان سلف هذه الأمة عن مثل هذه البيعات الاستثنائية؟ وهل نستطيع أن نصل بعقولنا وأهوائنا إلى خير نظنه فات صالحي هذه الأمة من السلف رضوان الله تعالى عليهم أجمعيــن ، وصدق النبي المصطفى صلوات الله وسلامه عليه: <<مَن أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو ردٌ>>.
فمثل هذه البيعات الاستثنائية التي لم ترد في نص قرآني ، أو حديث نبوي ، أو فعل أحد من السلف الصالح تعد <<بدعة ومحدثة ، أحدثت لاستغلال العوام ، والبسطاء من المسلمين للتأثير على نفوسهم ، بقصد تسخيرهم والتحكم فيهم تحت شعار الولاء والانتماء والسمع والطاعة والتوبة وغير ذلك من العبارات المُنمَّقة ، والكلمات المزخرفة ، والألفاظ البرَّاقة!!( )
الولاء والبــراء عند الجماعــات الحزبيـــة:
قلت: وهذه الدعوات لا يخلو أمرها من حالين:
إحداهما: الخطأ في المنهج والسلوك.
كمناهج الطرق الصوفية التي ذكرنا فيما سبق بعض مقالاتهم الإلحادية التي لا تمت بصلة بل صرفت أتباعها عن الاعتماد على الكتاب والسنة اللذين هما مصدر شريعة الإسلام.
والحالة الثانية: الخطـأ في الفكر.
كمثل جماعات الدعوة الإسلامية المعاصرة ، والتي تنطلق في دعواتها من منطلق حزبـي ضيــق.
الأمر الذي بعد بهم عن منهج السلف الصالح، إذ أن هذه الجماعات لم تؤسس بناء دعوتها على توحيد الباري جل وعلا ، والعقيدة السلفية الصافية من الشوائب.
فإن من تأثر بتلك الدعوات إن كان من أهل العقيدة أصلاً لا يكون ولاؤه لها ، ولا يكون فكره متفقاً معها ، بسبب سيطرة هذه المناهج على أفكاره ، حتى ماتت العقيدة في نفسه ، فأصبح لا يدعو لها ، وإن كان يعتقدها ، لكنه بعد عنها تحت تأثير المنهج الحزبي ، لأنه يوالي ، ويعادي على ذلك الفكر الضيق ، الذي بني على غير أسس سليمة ، فلا يكون للعقيدة مكان ولا مجال في التطبيق العملي ، ولا تعطي ثمراتها الطيبة اليانعة ، فهي لا تفيد معتقدها ، لأنها قد فقدت روحها ، فأصبحت ، بلا روح كالجذوة التي استترت وانغمرت تحت الرماد.
وخطورة هذه الأمر لا تقل عن الجهل بالعقيدة ، فإن من يعرف العقيدة ولا يدعو إليها ، هو كالجاهل بها سواء بسواء. وهؤلاء إنما أصيبوا بالخرس عن الدعوة إلى العقيدة بدعوى أن ذلك يفرق الأمة ، ويمزق كيانها ،لأنهم يريدون أن يجمعوا تحت لوائهم من هب ودب ، لا فرق في ذلك عندهم بين ملتزم بالعقيدة الصحيحة وغيره.
إذ أن الهدف الذي يقصدونه هو مجرد الجمع دون تمييز ، وهذا منهج بلا شك سينتهـي بأصحابه إلى الفشل الذريع ، نظراً لكونه قد بني على غير أسس سليمة ، وذلك أن أصحاب هذا المسلك أتوا من عدم الفهم ، والإدراك الصحيح حيث لم يفرقوا في الدعوة بين الأصول ، والفروع.
فتراهم يبدءون بالدعوة إلى بعض الفروع ، ويزعمون أنه متى أقيم هذا الفرع ، فإنه سوف يوجد الأصل تلقائياً ، ولذا نرى كثيراً منهم يهتمون بالجانب السياسي ، بدعوى أنه متى وجدت الدولة التي ينشدونها عند ذلك تصلح العقيدة وغيرها ، مما فسد من أحوال المسلمين ، وهذه تصور غير صحيح ، لأن صاحب هذا التصور ذكر شيئاً ، وغابت عنه أشيــاء.
هذا على فرض أن صاحب هذا الفكر حسن النية ، بيد أننا نشط في حسن نية كثير منهم ، فقد اتضح أن بعضاً ممن ينتمي إلى هذه الأحزاب لا همَّ له إلا تحقيق هدف سياسي وهو الحصول على منصب معين ، وإنما يموَّه بذلك على أولئك الذين لا رسوخ لهم في فهم العقيدة مستغلاً عواطفهم نحوها( ) ، ولكنه ينوي خلاف ذلك لأنه ليس من أهل العقيدة ،ولا أدل على ذلك من كونه يدعـي أن الدعوة إلى العقيدة تفرق الأمة كما أسلفنا.
الإســــلام وحـــدة لا تتجـــــــــــــزأ:
نعم الإسلام دين ، ودولة ، وعقيدة ، وشريعة ، ولكن يجب أن نأخذه كوحدة متكاملة بحيث ينطلق في سياسته ، وجميع أموره من العقيدة الإسلامية المستمدة من الكتاب والسنة ، وهما كفيلان ببيان منهج الدعوة الإسلامية كما فصلنا ذلك فيما تقدم.
لا بمجرد الدعاية والأناشيد الحماسية ، والهتافات ، والشعارات الجوفاء ، والبيعات الحزبية التي لم يستفد منها المسلمون سوى القضاء على الدعوة وأهلها في كثير من البلاد ، حيث يهيجون الشباب المسلم ، ويلهبون حماسه ، ويستثيرونه إلى أن يثور ، ويتحرك فيقع في أيدي الطغاة الظلمة ، أعداء الإسلام ، والمسلمين فيقضون على هؤلاء الشباب ، ويهدرون هذه الطاقة نتيجة لذلك المسلك الخاطئ الذي تسلكه تلك الجماعات في دعوتها.
المنهــــج الحـــــــــــــق:
وإذا أردنا أن يتحقق للمسامين ما يصبون إليه ، وما يتطلعون إليه من العودة بالمسلمين إلى الإسلام الصحيح ، فعلينا أن نسلك بهم طريق التعليم ، والتربية ، وتفقيه الشبب المسلم في دينه وتبصيرهم في ذلك حتى تزول تلك الشوائب التي علقت بالدين ، ودعوته وتلك الرواسب التي أكل عليها الدهر وشرب ، التي انحرفت بالمسلمين عن الجادة الصحيحة التي رسمها لهم الله عز وجـل في كتابه المبين ، وبينها رسول الهدى صلى الله عليه وسلم في سنته المطهرة ، ولنا لأسوة حسنة في أولئك الدعاة المصلحين الذين أسسوا دعوتهم على عقيدة الإسلام ، وبدءوا بتطهيرها من شوائب الشرك والخرافات.
الأمر الذي تحقق بسببه رفع راية التوحيد خفاقة في ربوع الجزيرة العربية ، بعد أن ران عليها الجهل ، وخيم عليها الظلام عدة قرون ، وعاد كثير من الناس إلى الشرك والخرافات ، فانقشع ذلك الجهل وتحول ذلك الظلام إلى نور على يد شيخ الإسلام محمد بن عبد الوهاب رحمه الله ، الذي بدأ بتعليم الناس لعقيدة الصحيحة ، وقامت بفضل هذه العقيدة دولة التوحيد ، منذ أن قام الإمام محمد بن سعود رحمه الله مؤسس هذه الدولة المباركة ، هذه الدعوة الطيبة ، فكتب الله لها بذلك النصر ، والبقاء ، وزالت مظاهر الشرك والوثنية في برهة وجيزة ، وهي لم تكن لتزول لو لم تنطلق هذه الدعوة من روح العقيدة.
ولستُ مبالغاً حينما أذكر هذه الحقيقة فإنها حقيقة يسلم بها الأعداء فضلاً عن الأصدقاء ، والحق ما شهدت به الأعداء.
وخلاصـة القول إنه لا صلاح لنا ، ولا فلاح ، ولا نجاح لدعوتنا ، إلا إذا بدأنا بالأهم ، قبل المهم ، وذلك بأن ننطلق في دعوتنا من عقيدة التوحيد نبني عليها سياستنا ، وأحكامنا ، وأخلاقنا ، وآدابنا ، ننطلق في كل ذلك من هدي الكتاب والسنة ، بلا إفراط ، ولا تفريط ، ذلكم هو لصراط المستقيم ، والمنهج القويم الذي أمرنا الله تعالى بسلوكه فقال: { وَأَنَّ هَـذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلاَ تَتَّبِعُواْ السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَن سَبِيلِهِ }.
وال تعالى ك { واعتصموا بحبل الله جميعا ولا تفرقوا }، وقال رسول الهدى صلى الله عليه وسلم: <<تركت فيكم أمرين ، لن تضلوا بعدي ما تمسكتم بهما ، كتاب الله وسنتي>>.( )
ويقول الإمام مالك بن أنس رحمه الله: لن يصلح آخر هذه الأمة إلا بما صلح به أولها.( )
اللهم إنا نسألــك أن ترد المسلميــن إلى دينهـم رداً جميلاً ، ونسألـك أن ترينــا الحــق حقــاً ، وترزقنــا اتباعــه ، والباطــل باطلاً ، وترزقنـــا اجتنابــه ، وأن لا تجعلــه علينا فنضل إنـــك ولـــي ذلــك والقادر عليـه ، وصلـى الله وسلــم وبارك على نبينـــا محمد وعــلى آلــه وصحبــه وأتباعهــــم بإحســــان إلى يــوم الديــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ـــن.
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ، ونستغفره ونتوب إليه ، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ، وسيئـات أعمالنا ، من يهد الله فلا مضل له ، ومن يضلل فلا هادي له ، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله ، أرسله بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله ولو كره المشركون ، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً.
أما بعد:
الباعث على اختيار البحث:
فهذا جهد متواضع ، أُسهم به لبيان المنهج الذي كان عليه السلف الصالح في العقيدة ، ومدى مخالفة الناس لذلك المنهج ، مما فرق كلمة المسلمين وأضعف وحدتهم.
وجعلت عنوان البحث: ((منهج السلف في العقيدة وأثره في وحدة المسلمين)) ، وقد حملني على ذلك إهمال كثير من الباحثين لهذا الجانب ، أعني جانب العقيدة ، والذي هو العامل الأول ، والركيزة الأساسية التي ينبني عليها كيان المجتمع الإسلامي ، وتنضوي تحت لوائها صفوف المسلمين.
منها يستلهمون طريق وحدتهم ، وعلى ضوئها يشقون طريقهم إلى أعلى قمم المجد والعلى ، وبهداها ومبادئها القيمة يفتحون القلوب قبل أن يفتحوا الأمصار والأقطار ، ولقد كثرت المؤلفات والخطب والمحاضرات والمواعظ والندوات التي تنادي بوحدة المسلمين ، وجمع كلمتهم وتوحيد صفوفهم بالأساليب المتعددة ، وطرح الحلول الكثيرة ، لكن هذه الأساليب والحلول ، ناقصة وغير تامة نظراً لاهتمامها بالجوانب الفرعية فقط.
فنجد أن جماعة ممن يهتمون بعوامل التضامن الإسلامي يركزون جل اهتمامهم على الجانب السياسي ، ونجد جماعة أخرى تركز على الجانب الأخلاقي ، ونجد جماعة ثالثة تركز على جوانب الترغيب والترهيب والزهد والورع. وقلّ أن تجد من بين هؤلاء من يهتم بالجانب الأساسي والركن العظيم ، والذي هو الحصن الحصين ، والمنطبق المتين لجمع كلمة المسلمين ، ألا وهو عقيدة التوحيد الذي جمعنا الله به بعد الفرقة ، وألف بين قلوبنا بعد التمزق ، حتى أصبحنا به أمة واحدة ذات هدف واحد ومنطلق واحد ، وعقيدة واحدة ، هي مصدر عزتنا ، وعنوان سعادتنا ، ومناط وجودنا في هذه الحياة إنها عبادة الله الذي لا إله غيره ، ولا رب سواه إنه الهدف الأسمى ، والمقصد الأعلى الذي خلقنا الله له ، وأوجدنا من أجله ، كما قال تعالى: {ومَا خَلَقْتُ الجِّن والإِنْس إلاَّ لِيعْبُدُون}( ).
وقال تعالى: {فَاعْبُد الله مُخْلصا لَه الدِّين}( )
وقال تعالى: {ومَا أُمِروا إلاَّ لِيَعْبُدوا الله مُخْلِصِين له الدِّين حُنفَاء وَيُقِيموا الصَّلاة ويُؤْتُوا الزَّكاة وذلكَ دِينُ القيِّمة}( )
أســاس نجـــاح العمـــل:
إذا تأملنا هذه الآيات الكريمات وما جاء في معناها وما أكثره في كتاب الله ، وجدنا أن أساس كل عمل في الإسلام إنما ينطلق من العقيدة ، ويرتكز عليها ، كما يرتكز البناء على أركانه.
والبيـت لا يبتنـى إلا له عمد *** ولا عماد إذا لم ترس أوتاد( )
وإذا عرفنا ذلك فإن أية دعوة إلى التضامن الإسلامي ، إذا لم ينطلق أصحابها من هذا المبدأ الأساسي ، ولم تؤسس على هذا البناء الراسخ ، ولم تقم على تحقيق التوحيد ، وتخليصه من شوائب الشرك ، والبدع ، والمعاصي ، فإنها دعوة سيكتب لها الفشل لا محالة ، عاجلاً أم آجلاً لأن البناء لا يقوم في الهواء ، ولا يمكن تشييده إلا على أرض صلبة حتى لا يتعرض للانهيار يوما من الأيام.
قال الله تعالى: {أفَمَن أسس بنيانه على التقوى من الله ورضوان خير أم من أسس بنيانه على شفا جرف هار فانهار به في نار جهنم والله لا يهدي القوم الظالمين}( )
دفـــع توهـــم:
وحينما نقول إن مبنى التضامن الإسلامي على عقيدة التوحيد وعندما ندعوا إلى وجوب الانطلاق من هذا المبدأ ، فإن ذلك لا يعني إهمال الجوانب الأخرى التي أشرنا إليها أو إلى بعضها في ما مضى ، وإنما نعني وجوب التأسيس وذلك بأن نبدأ أعمالنا كلها من هذا المنطلق.
فعلى ضوئه تكون السياسة ، وعلى منهجه نبني الآداب ، والأخلاق ، وفي حدوده ندعو إلى الترغيب والترهيب ، وعلى مبادئه يوجد بإذن الله تعالى المجتمع الإسلامي الصالح المنشود ، وتوجد السعادة البشرية في الدنيا والآخرة ، ويعود الناس إلى دين الله أفواجاً فينعمون بالخير ، والأمن ، والطمأنينة وفق هدي العقيدة الخالصة الوارفة الظلال ، فيتخلصون بذلك من أدران الوثنية ، وأوضار الجهل.
الفطـــرة السليــــــــــمة:
وحينئذ تصفو قلوبهم ، وتخلص لله وتخلع ربقة الشرك الذي ران عليها سنين طويلة ، والذي هو أعظم ذنب عُصي به الله عز وجل ، منذ أن انحرف الناس عن الفطرة السليمة التي فطر الله الناس عليها حتى وقعوا فيما وقعوا فيه من الإفراط والتفريط والغلو والتقصير.
بدء انحراف البشريــة عن الفطـــرة:
فلقد كان الإنسان في أول خلقه على المنهج الرباني الصحيح ، عقيدة وسلوكاً ، وأخلاقاً ، وعبادة ، ومعاملة ، حقبة من الزمن.
يذكر علماء التاريخ ، السير بأنها تقدر بعشرة قرون( ) إلى أن بدأ الانحراف في العقيدة ، في أولئك القوم الذين بعث الله فيهم نوحاً عليه الصلاة والسلام ، بعد أن زين لهم الشيطان عبادة الأصنام ، الأوثان بسبب الغلو في الصالحين.
فقد روى البخاري رحمه الله في صحيحه عن ابن عباس رضي الله عنهما في قله تعالى: {وَقَالُوا لَا تَذَرُنَّ آلِهَتَكُمْ وَلَا تَذَرُنَّ وَدًّا وَلَا سُوَاعًا وَلَا يَغُوثَ وَيَعُوقَ
وَنَسْرًا} قال: "هذِهِ أَسْمَاءُ رِجَالٍ صَالِحِينَ مِنْ قَوْمِ نُوحٍ فَلَمَّا هَلَكُوا أَوْحَى الشَّيْطَانُ إِلَى قَوْمِهِمْ أَنْ انْصِبُوا إِلَى مَجَالِسِهِمْ الَّتِي كَانُوا يَجْلِسُونَ أَنْصَابًا وَسَمُّوهَا بِأَسْمَائِهِمْ فَفَعَلُوا فَلَمْ تُعْبَدْ حَتَّى إِذَا هَلَكَ أُولَئِكَ وَتَنَسَّخَ الْعِلْمُ عُبِدَتْ"( )
فانظر كيف بدأ الانحراف عن الصراط السوي نتيجة للغلو ، بطريق التدريج ، وذلك أنهم كانوا يتبركون بدعائهم ، وكلما مات منهم أحد مثلوا صورته وتمسحوا بها زمنـاً طويلاً إلى أن عبدوها باستدراج الشيطان لهم.
ثم صارت سنة في الناس يهرم عليها الكبير ، ويشب عليها الصغير إلى أن بعث الله فيهم نوحـاً عليه الصلاة و السلام فلبث فيهم ألف سنة إلا خمسين عاماً يدعوهم إلى توحيد الله ونبذ عبادة ما سواه فأصروا واستكبروا استكباراً، ولم يؤمن منهم إلا النزر اليسير.
وما كان عليه حال قوم نوح هي نفس الحال التي ارتكس فيها الناس بعد ذلك من الغلو ، ومجاوزة الحد ، واتباع الهوى الذي أودى بالناس إلى عبادة غير الله سبحانه وتعالى.
أخطـــر أسبـــاب الضــــلال:
وأخطر هذه الأسباب هو الغلو الذي حذر الله منه في غير آية من كتابه.
والغلو هو مجاوزة الحد ، وضابطه تعدي ما أمر الله به ، بالزيادة فيه وهو الطغيان الذي نهـى الله عنه في قوله تعالى: {وَلَا تَطْغَوْا فِيهِ فَيَحِلَّ عَلَيْكُمْ غَضَبِي}.
وكذا قال تعالى: {يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لاَ تَغْلُواْ فِي دِينِكُم} ، أي لا تتعدوا ما حد الله لكم.
وأهل الكتاب هنا ، هم اليهود والنصارى ، فنهاهم عن الغلو في الدين ، ونحن كذلك ، كما قال تعالى: {فَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ وَمَن تَابَ مَعَكَ وَلاَ تَطْغَوْاْ
إِنَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ}، والغلو كثير في النصارى فإنهم غلوا في عيسى عليه الصلاة والسلام ، فتقلوه من حيز النبوة إلى أن اتخذوه إلهاً من دون الله ، يعبدونه كما يعبدون الله ، بل غلوا فيمن زعم أنه دينه من أتباعه ، فادعوا لهم العصمة ، واتبعوهم في كل ما قالوه سواء كان حقا أو باطلاً ، وناقضتهم اليهود في أمر عيسى عليه الصلاة والسلام ، فحطوا من منزلته حتى جعلوه ولد بغـي.( )
قال شيخ الإسلام ابن تيمية يرحمه الله: ((ومن تشبه من هذه الأمة باليهود والنصارى ، وغلا في الدين بإفراط أو تفريط ، وضاهاهم في ذلك ، فقد شابههم ، كالخوارج المارقين من الإسلام الذين خرجوا في خلافة علي بن أبي طالب رضي الله عنه ، وقاتلهم حين خرجوا على المسلمين – وكان قتالهم بأمر النبي صلى الله عليه وسلم ، كما ثبت ذلك من عشرة أوجه في الصحاح ، والمسانيد وغير ذلك ، وكذلك من غلا في دينه من الرافضة والقدرية والجهمية ،والمعتزلة)).
وقال أيضاً: ((فإذا كان على عهد النبي صلى الله عليه وسلم من انتسب إلى الإسلام وقد مرق منه مع عبادته العظيمة ، فليعلم أن لمنتسب إلى الإسلام والسنة في هذه الأزمان ، وقد يمرق أيضاً من الإسلام ، وذلك بأسباب منها الغلو الذي ذمه الله في كتابه ، حيث قال: {يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لاَ تَغْلُواْ فِي دِينِكُم}( )
وهذا الكلام يدل دلالة واضحة على أن أعظم فتنة ابتليت بها البشرية إنما هي فتنة الغلو الذي جاء التحذير منه في غير ما آية وحديث ، وقد نقدم من الآيات ما يوضح ذلك.
أما الأحاديث فمنهاما ثبت في صحيح البخاري وغيره من حديث عمر بن الخطاب رضي الله عنه ن النبي صلى الله عليه وسلم ، قال: "لَا تُطْرُونِي( ) كَمَا أَطْرَتْ النَّصَارَى ابْنَ مَرْيَمَ فَإِنَّمَا أَنَا عَبْدُهُ فَقُولُوا عَبْدُ اللَّهِ وَرَسُولُهُ"( )
وثبت في سنن أبي داود ة الترمذي ، وابن ماجه ، من حديث ابن عباس أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " إِيَّاكُمْ وَالْغُلُوَّ فِي الدِّينِ، فَإِنَّهُ أَهْلَكَ مَنْ كَانَ قَبْلَكُمُ الْغُلُوَّ فِي الدِّينِ"( ).
وهذه نصوص صريحة ، وواضحة في أن سبب الانحراف عن العقيدة الصحيحة والفطرة السليمة إنما هو ذلك الغلو ومجاوزة الحد الذي أدى بالتالي إلى صرف العبادة إلى غير الله سبحانه وتعالى.
لـمــــــــــاذا بعــــــــث الرســـــــــــل؟
الأمر الذي من أجله بعث الله الرسل لإعادة الناس من عبادة العباد إلى عبادة رب العباد. ذلكم هو الهدف الأسمى الذي أوجد الله من أجله الثقلين ، الجن ، والإنس . فكل عاقل في هذا الوجود يعرف أنه مخلوق لخالق ، ومربوب، لرب أوجده بعد أن لم يكن.
لو طرح سؤال مفاده: لماذا خلقت في هذه الحياة؟ ولماذا فضلت على سائر الكائنات الأخرى؟ وما هي مهمتك في هذه الحياة ؟.. فإن الجواب عند المؤمن حاضر بكل بساطة: إن كل صانع يعرف سر صنعته ، لماذا صنعها... ولماذا صنعها على نحو معين دون غيره...
والله تعالى هو صانع الإنسان وخالقه ، ومدبر أمره.
فلنسأله: يا رب لماذا خلقت هذا الإنسان...؟
هل خلقته لمجرد الطعام والشراب..؟ هل خلقته للهو واللعب..؟ هل خلقته لمجرد أن يمشي على التراب ، ويأكل مما خرج من التراب ، ثم يعود كما كان إلى التراب ، فإذا لم يكن الأمر كذلك فما سر هذه القوى والملكات التي أودعها الله الإنسان من عقل وإرادة ونفس وروح.
لقد جاء جواب ذلك بما يشفي ، ويكفي في الكتاب العزيز الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه تنزيل من حكيم حميد ، حيث نص تبارك وتعالى على أنه خلق هذا الإنسان ليكون خليفة في الأرض.
قال تعالى: {وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلاَئِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً قَالُواْ أَتَجْعَلُ فِيهَا مَن يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاء وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ قَالَ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ}. وهذه الخلافة معناها أن يعرف الإنسان ربه حق معرفته ، ويعبده حق عبادته.( )
قال تعالى: {اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ وَمِنَ الْأَرْضِ مِثْلَهُنَّ يَتَنَزَّلُ الْأَمْرُ بَيْنَهُنَّ لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ وَأَنَّ اللَّهَ قَدْ أَحَاطَ بِكُلِّ شَيْءٍ عِلْمًا}.
ويقول الله تعالى: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ {56} مَا أُرِيدُ مِنْهُم مِّن رِّزْقٍ وَمَا أُرِيدُ أَن يُطْعِمُونِ {57} إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ {58}.
وإذن ، فالجواب البدهي الذي تنطق به الفطرة في هذا الكون ، أن الإنسان عبد الله خلق لذلك ، وسخر الله له ما في السموات ، وما في الأرض ، من أجل تحقيق هذا الغرض.
عبـــادة غيــر الله قلـب للفطـــــرة:
ومن هنا يعلم كل ذي فطرة سليمة ، وعقل متجرد ، أن عبادة الإنسان ، لقوي الطبيعة ومظاهرها من فوقه ، ومن تحته كالشمس ، والقمر ، والنجوم ، والأنهار ، والأبقار ، والأشجار ، ونحوها قلب للوضع الطبيعي ، وانتكاس بالإنسان أي انتكاس!!
والإنسان إذن ، بحكم فطرته ، ومنطق الكون ، إنما هو مربوب لله سبحانه لا لغيره ، لعبادته وحده ، لا لعبادة بشر ، ولا حجر ، ولا بقر ، ولا شجر ، ولا شمس ، ولا قمر ، وكل عبادة لغير الله إنما هي من تزيين الشيطان عدو الإنسان. ولذا نرى أول نداء يوجهه الله لرسله هو الأمر بعبادته ، وبيان أنه لا إله غيره ، ولا رب سواه ، اقرأ مثلاً قوله تعالى: {اعْبُدُواْ اللَّهَ مَا لَكُم مِّنْ إِلَـهٍ غَيْرُه}.
عهــــــد الله:
هذه العبادة لله وحده هي العهد القديم الذي أخذه الله على بني الإنسان ، ورسخه في فطرهم البشرية ، وغرسه في طبائعهم الأصلية ، منذ خلقهم ، وصورهم ، وجعلهم في أحسن تقويم ، وأوجد فيهم العقل الواعي ، الذي يتميزون به على سائر الكائنات، وجعل كل ما حولهم من الآيات البينات دليلا قاطعاً على وحدانيته سبحانه ، وإفراده بكامل العبودية ، وأخذ العهد عليهم حيث قال تعالى" {أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يَا بَنِي آدَمَ أَن لَّا تَعْبُدُوا الشَّيْطَانَ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُّبِينٌ {60} وَأَنْ اعْبُدُونِي هَذَا صِرَاطٌ مُّسْتَقِيمٌ {61}.
ومن هنا نعلم أن كل عبادة لغير الله ، وإن ظهرت في صورة عبادة حجر ، أو شجر ، أو مدر ، أو هوى ، إنما هي من إيحاء الشيطان ، وتزيينه ، ووسوسته بشكل مباشر أو غير مباشر ، بغض النظر عن القالب الذي ظهرت فيه تلك العبادة ، ولذا نرى أن الله تبارك وتعالى قد أخذ العهد على بني آدم منذ أن كانوا في صلب أبيهم آدم.
هذا العهد بين الله وعباده ، هو الذي صورة القرآن في لأروع صورة ، وبلاغة ، حين قال: {وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِن بَنِي آدَمَ مِن ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنفُسِهِمْ أَلَسْتَ بِرَبِّكُمْ قَالُواْ بَلَى شَهِدْنَا أَن تَقُولُواْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هَذَا غَافِلِينَ {172} أَوْ تَقُولُواْ إِنَّمَا أَشْرَكَ آبَاؤُنَا مِن قَبْلُ وَكُنَّا ذُرِّيَّةً مِّن بَعْدِهِمْ أَفَتُهْلِكُنَا بِمَا فَعَلَ الْمُبْطِلُونَ {173}
فلا عجب أن يكون المقصود الأعظم من بعثة النبيين وإرسال المرسلين ، وإنزال الكتب المقدسة ، هو تذكير الناس بهذا العهد القديم ، وإزالة ما تراكم على معدن الفطرة من غبار الغفلة أو الوثنية ، أو التقليد الأعمى.
دعـــــوة الرســـــل واحــــــــــــــدة:
ولا عجب أن يكون النداء الأول لكل رسول: {يَا قَوْمِ اعْبُدُواْ اللَّهَ مَا لَكُم
مِّنْ إِلَـهٍ غَيْرُهُ}. جاء في العبودية لشيخ الإسلام ابن تيمية ما خلاصته:
((بهذا دعا قومه ، نوح ، وهود ، وصالح ، وإبراهيم ، ولوط ، وشعيب وكل رسول بعث إلى قوم مكذبين)).
قال تعالى: {وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَّسُولاً أَنِ اعْبُدُواْ اللّهَ وَاجْتَنِبُواْ الطَّاغُوتَ}.
وقال تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ مِن رَّسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ}.
وقال تعالى بعد أن ذكر قصص طائفة كبيرة من الأنبياء: {إِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاعْبُدُونِ}.
وقال تعالى: {يَا أَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَاعْمَلُوا صَالِحًا إِنِّي بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ {51} وَإِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاتَّقُونِ {52}.
وقد أمر الله نبيه محمداً صلى الله عليه وسلم بذلك فقال: {وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ {99} أي الموت. كما قال تعالى على لسان قوم: {وَكُنَّا نُكَذِّبُ بِيَوْمِ الدِّينِ {46} حَتَّى أَتَانَا الْيَقِينُ {47}وهو الموت( ). فالتكليف بالعبادة لازم له حتى يلقى ربه.
ولم تسقط عنه بسمو الروح ، ولا بالاتصال القوي بالله كما يدعي غلاة الصوفية.
وقال تعالى في شأن عيسى بن مريم الذي رفعه قومه إلى مرتبة الألوهية: {لَّن يَسْتَنكِفَ الْمَسِيحُ أَن يَكُونَ عَبْداً لِّلّهِ وَلاَ الْمَلآئِكَةُ الْمُقَرَّبُونَ وَمَن يَسْتَنكِفْ عَنْ عِبَادَتِهِ وَيَسْتَكْبِرْ فَسَيَحْشُرُهُمْ إِلَيهِ جَمِيعًا {172}
{فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ فَيُوَفِّيهِمْ أُجُورَهُمْ وَيَزيدُهُم مِّن فَضْلِهِ وَأَمَّا الَّذِينَ اسْتَنكَفُواْ وَاسْتَكْبَرُواْ فَيُعَذِّبُهُمْ عَذَابًا أَلُيمًا وَلاَ يَجِدُونَ لَهُم مِّن دُونِ اللّهِ وَلِيًّا وَلاَ نَصِيرًا {173}
ويعرض لنا القرآن مشهداً من مشاهد يوم الحشر ، يسأل الله فيه المسيح عليه الصلاة والسلام عما نسبوه إليه ، وافتروه عليه. فيجيب في أدب العبودية متبرئاً مما صنعوا {وَإِذْ قَالَ اللّهُ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ أَأَنتَ قُلتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّيَ إِلَـهَيْنِ مِن دُونِ اللّهِ قَالَ سُبْحَانَكَ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أَقُولَ مَا لَيْسَ لِي بِحَقٍّ إِن كُنتُ قُلْتُهُ فَقَدْ عَلِمْتَهُ تَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِي وَلاَ أَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِكَ إِنَّكَ أَنتَ عَلاَّمُ الْغُيُوبِ {116} مَا قُلْتُ لَهُمْ إِلاَّ مَا أَمَرْتَنِي بِهِ أَنِ اعْبُدُواْ اللّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ وَكُنتُ عَلَيْهِمْ شَهِيدًا مَّا دُمْتُ فِيهِمْ فَلَمَّا تَوَفَّيْتَنِي كُنتَ أَنتَ الرَّقِيبَ عَلَيْهِمْ وَأَنتَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ {117}.
فالأديان كلها دعوة إلى عبادة الله وحده. والأنبياء جميعاً أول العابدين لله. فعبادة الله وحده هي إذن مهمة الإنسان الأولى في الوجود كما بينت ذلك كل الرسالات ، قال تعالى: {شَرَعَ لَكُم مِّنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحًا وَالَّذِي أَوْحَيْنَا
إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلَا تَتَفَرَّقُوا فِيه} فقد دلت الآية الكريمة وما في معناها على وحدة الهدف والعقيدة التي هي محور دعوة جميع الرسل من لدن نوح عليه الصلاة والسلام إلى خاتمهم وأفضلهم نبينا محمد صلى الله عليه وسلم( ) ، الذي بعثه الله رحمة للعالمين ليخرج الناس من الظلمات إلى النور ، ولينقذهم من أوحال الشرك ، وأدران الوثنية ، فكان بذلك نبراسا للأمة ينير لها الطريق ، ومشعلاً {يَهْدِي بِهِ اللّهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ سُبُلَ السَّلاَمِ وَيُخْرِجُهُم مِّنِ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِهِ وَيَهْدِيهِمْ إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ {16}.
السلــــف الصــالح ودعـــوة الرســــــل:
وقد كان السلف الصالح من الصحابة والتابعين يترسمون تلك الخطى النبوية ، ويستلهمون سر وحدتهم من صفاء العقيدة الخالصة التي لم تشبها شائبة ، فأصبحوا بذلك سادة الدنيا ، وفتح الله لهم أبواب الخير من كل مكان ورفعوا رابة التوحيد في مشارق الأرض ومغاربها. وكل عاقل يدرك أن هذا النصر المؤزر الذي حققه الله على أيديهم لم يكن وليد الصدفة ، ولم يكن بسبب كثرة العدد والعدة ، وإنما تحقق ذلك ، بسبب اعتمادهم على الله ، والتوكل عليه مع الأخذ بالأسباب المشروعة ، وبدئهم بالأهم قبل المهم ، وانطلاقهم في دعوتهم من تحقيق كلمتي التوحيد (( لا إله إلا الله محمد رسول الله)) ، لأن ذلك هو الأساس الذي أمروا أن يبدءوا به.
البــــدء بمـــا بدأ الله بــــــــــه:
قال تعالى: {وَاعْبُدُواْ اللّهَ وَلاَ تُشْرِكُواْ بِهِ شَيْئًا} ، وقال تعالى: {وَقَضَى رَبُّكَ أَلاَّ تَعْبُدُواْ إِلاَّ إِيَّاه} ، وقال تعالى: {قُلْ تَعَالَوْاْ أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ أَلاَّ تُشْرِكُواْ بِهِ شَيْئًا} ، وقال تعالى: {قُلْ هَـذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَاْ وَمَنِ اتَّبَعَنِي وَسُبْحَانَ اللّهِ وَمَا أَنَاْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ {108}.
ومن السنة ما ثبت في الصحيحين من حديث عبد الله بن عباس قال: (لما بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم معاذا إلى اليمن قال: "إِنّكَ تَأْتِي قَوْما مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ. فَادْعُهُمْ إِلَى شَهَادَةِ أَنْ لاَ إِلَهَ إِلاّ الله.... ( ).
التوحيــــــــــــد سبــــــــــــــــب لتكفيـــــــــــــر الذنــــــــــــــوب:
ومما يدل على أهمية العقيدة ، وكونها أساس كل عمل ، تكفيرها للذنوب والكبائر إذا صدرت عن إخلاص وقوة إيمان ، يدل لذلك ما رواه الترمذي وغيره عن عبد الله بن عمرو بن العاص من حديث صاحب البطاقة حيث يُنْشَرُ لَهُ تِسْعَةٌ وَتِسْعُونَ سِجِلاً. كُلُّ سِجِلٍّ مَدَّ الْبَصَرِ ، ثم يُؤتَى ببِطَاقَةٌ فِيهَا: أَشْهَدُ أَنْ لاَإِلهَ إِلاَّ اللهُ، وَأَنَّ مُحَمَّداً عَبْدُهُ وَرَسُولُهٌ ، فَتُوضَعُ السِّجِلاَّتُ فِي كِفَّةٍ وَالْبِطَاقَةُ فِي كَفَّةٍ. فَطَاشَتِ السِّجِلاَّتُ، وَثَقُلَتِ الْبِطَاقَةُ.( )
وإذاً فتوحيد الله تعالى ، هو رأس الأمر كله ، والجسد لا يستقيم بلا رأس ، كما قال الرسول صلى الله عليه وسلم: رأسُ الأمْرِ الإِسْلامُ، وَعَمُودُهُ الصَّلاةُ، وَذِرْوَةُ سَنَامِهِ الجِهادُ في سبيل الله"( )
وهذه نصوص صريحة دالة على وجوب البدء بالدعوة إلى توحيد الله تعالى ، قبل جميع التكاليف ، لأن قبول جميع التكاليف مرهون بتحقيق ذلك ، وهذا ما سار عليه السلف الصالح في دعوتهم ، مما حقق لهم النجاح في برهة وجيزة ، أذهلت العقول ، وتحطمت أمامها عروش الكفر والطغيان.
كيفيــــة بدء الانحراف في هذه الأمـــة وأسبـــاب ذلك:
وقد استمر الأمر على هذا الحال ثم بدأ الانحراف بعد ذلك عن هذه الجادة بسبب الانصراف عن الكتاب والسنة – اللذين يجب أن نأخذ العقيدة منهما – والاشتغال بالفلسفة والمنطق ، اللذين لم يستفد منهما المسلمون غير تخريب العقيدة ، والقيل ، والقال ، والجدل الذي لا طائل تحته ولا جدوى من ورائه حتى قال قائلهم:
نهاية إقدام العقول عقال **وأكثر سعي العالمين ضلال
وأرواحنا في وحشة من جسومنا** وغاية دنيانا أذى ووبال
ولم نستفد من بحثنا طول عمرنا**سوى أن جمعنا فيه قيل وقالوا.( )
الأمر الذي حدى بكثير من الناس إلى تعطيل صفات الله عز وجل ، أو تفويضها ، و تأويلها ، أو تمثيلها ، وكذلك الحال في عبادة الله عز وجل حيث لم يقتصر الأمر على التقيد بالكتاب والسنة ومنهج السلف الصالح في ذلك ، حتى أصبح الناس في العبادة نتيجة لجهلهم بما كان عليه السلف الصالح من صحة الاعتقاد ، أصبحوا ما بين مُفْرِطٍ ومُفَرِّطٍ.
الإفـــراط والتفــــريـــط:
...فالمفرطون أسرفوا في دعوى المحبة حتى أخرجهم ذلك إلى نوع من الرعونة والدعاوى التي تنافي العبودية ، وتثبت الربوبية أو شيئاً منها لغير الله ، ومعلوم أن الرب والمعبود هو الله وحده ، ومع ذلك يدعي هؤلاء دعاوى تتجاوز حدود الأنبياء والمرسلين – فضلاً عن عامة الناس – مما لا يصلح بكل وجه إلا لله – لا يصلح للأنبياء ، ولا للمرسلين.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: (وهذا باب وقع فيه كثير من الشيوخ (يعني شيوخ المتصوفة) وسببه: ضعف تحقيق العبودية التي بينها الرسل ، وحددها الأمر والنهي ، الذي جاءوا به ، بل ضعف العقل الذي به يعرف العبه حقيقته.
وإذا ضعف العقل ، وقل العلم بالدين ، وفي النفس محبة طائشة جاهلة ، انبسطت النفس بحمقها في ذلك ، كما ينبسط الإنسان في محبة الإنسان مع حمقه وجهله ، ويكون سبباً لبغض المحبوب له ، ونفوره منه ، بل سبباً لعقوبته.
وكثير من السالكين سلكوا في دعوى حب الله أنواعاً من أمور الجهل بالدين ، إما من تعدي حدود الله ، وإما من تضييع حقوق الله ، وإما من ادعاء الدعاوى الباطلة التي لا حقيقة لها. كقول بعضهم: ((أي مريد لي ترك في النار أحدا فأنا بريء منه ، وقال الآخر: أي مريد لي ترك أحداً من المؤمنين يدخل النار فأنا منه بريء)).
فالأول: جعل مريده يخرج كل من في النار.
والثاني: جعل مريده يمنع أهل الكبائر من دخول النار.
ويقول بعضهم: إذا كان يوم القيامة نصبت خيمتي على جهنم ، حتى لا يدخلها أحد ، وأمثال ذلك من الأقوال التي تؤثر عن بعض المشايخ المشهورين. وهي إما كذب عليهم ، وإما غلط منهم) ( )اهـ.
دعــــــاوى بــاطلـــــــــــــــة:
وإذا كانت هذه المقالات الإلحادية قد وجدت في عهد شيخ الإسلام ابن تيمية ، وقبله ، فإن في عصرنا من الدعاوى التي تبلغ حد التأليه ، وما هو أدهى وأمــر.
من ذلك قول أحد زعماء الطرق الصوفية المعاصرين:
قد خصني بالفضل والتشريــف**إن قلت كن يكن بلا تسويف
لو شئت عمَّ فيضه البسيطـة**وأدركوا أسراره المحيطة
ومرة أخرى ترون عجباً**من سر ذي الختم إمام النجبا.( )
ويدعي هذا الكذاب الأشر أن رجلاً نصرانياً دخل الجنة بسبب أنه عاشر امرأة من أتباع ذلك الشيخ ، معاشرة غير شرعية مع أن المرأة التي عاشرها كما يقول ليست ملتزمة كما يقول بالطريقة ، ولكنه دخل الجنة ببركة شيخ الطريقة التي تنتمي إليها هذه المرأة( ) ، ويقول أحد الأفاكين من هؤلاء: ((إن من ضرورات مذهبهم أن لأئمتهم درجة لا يبلغها ملك مقرب ، ولا نبي مرسل( ) إلى غير ذلك من المقالات الكفرية والإلحادية ، القديمة والحديثة ، والتي لا تكاد تعد ولا تحصى.
ترى ماذا ترك هؤلاء الملاحدة لله من العبودية! إذا ادعوا بلوغ مثل هذه المراتب ، وإذا سُئلوا عن تفسير هذه التراهات ، ادعوا أنهم كانوا في حالة سكر بحب الإله.
قال الشاعر في التهكم بهم ووصف أحوالهم التي يزعمون أنها عبادة:
ألا قل لهم قول عبد نصــوح**وحق النصيحة أن تستمــع
متى علم الناس في ديننا**بأن الغنا سنة تتبــع؟
وأن يأكل المــرء أكل الحمــار**ويرقـص في الجمـع حتى يقـــع
وقالوا سكرنـا بحب الإلــه**وما أسكــر القوم إلا القصـــع
كذاك البهائــم إن أشبعــت**يُرقِّصُــها ريُّــها والشِّبـــع
ويسكــره النــايُ ثم الغنـــا**ويَس ، لو تليت ما انصـــدع
فيــا للعقول ويــا للنهــى**ألا منكـــر منكمــو للبــدع
تهــان مسـاجدنــا بالسمـــاع**وتكــرم عن مثــل ذاك البيـــع( )
وقــال آخـــر:
تلي الكتـاب فأطرقوا ، ولا خيفة**لكنه إطراق ساهٍ لاهي
وأتى الغناء ، فكالحمير تناهقوا**والله ما رقصوا لأجل الله
دفٍّ ومزمار ونغمـة شادن**فمتى رأيت عبادة بملاهــي
ثقل الكتاب عليهمو لما رأوا**تقييدة بأوامــر ونواهـــي
سمعــوا له رعدا وبرقا إذ حوى**زجرا وتخويفا بفعل منــاهي
ورأوه أعظم قاطع للنفس عن**شهواتها يا ذبحهـــا المتناهــي
وأتى السمــاعُ موافقا أغراضهـا**فلأجل ذاك إذا عظيم الجـاه
أين المساعد للهوى من قاطع**أسبابه عند الجهول الساهــــــي؟
إن لم يكن خمر الجســوم فإنه**خمر العقــول مماثل ومضاهـــي
فانظر إلى النشوان عند شرابه**وانظر إلى النشوان عند ملاهــي
وانظر إلى تمزيق ذا أثوابه**من بعد تمزيق الفــؤاد اللاهـــــــــــي
واحكـم فأي الخمرتيــن أحــق**بالتحريـــم والتأثيـــم عند الله؟( )
وما وصفه الشاعر من أحوال هؤلاء الناس يعطي صورة حقيقية عن مدى الانحراف الذي وقعوا فيه حيث بلغ بهم الحال إلى اعتبار الرقص والغناء عبادة تقربهم إلى الله بدعوى أن تلك الرقصات والأنغام الصوفية إنما هي نابعة من قلب مفعم بالمحبة ، فجعلوا محبتهم للخالق مشابهة لمحبة المخلوق للمخلوق من وجود العتاب ، والعذل واللوم والغرام ، ونح ذلك مما يجب أن ينزه الله عنه. لأنه لا يليق بجلال الله وعظمته.
دليــــــل محبـــــــــة الله ورسولــــــــــــه:
ولكن الدليل والبرهان على محبة القلب لله وخضوعه له إنما يتجسد في اتباع رسول الله صلى الله عليه وسلم ، قال تعالى: {قُلْ إِن كُنتُمْ تُحِبُّونَ اللّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللّه}. فلا يكون محباً لله إلا من يتبع رسوله.
وطاعة الرسول ، ومتابعته لا تكون إلا بتحقيق العبودية.
وكثير ممن يدعـي المحبة يخرج عن شريعته وسنته صلى الله عليه وسلم ، ويدعـي من الحالات ما لا يتسع هذا الموضوع لذكره ، حتى قد يظن أحدهم سقوط الأمر. وتحليل الحرام له ، وغير ذلك مما فيه مخالفة لشريعة الرسول وسنته وطاعته.
بل قد جعل الله أساس محبته ومحبة رسوله ، الجهاد في سبيله. والجهاد يتضمن كمال محبة ما أمر الله به. وكمال بُغض ما نهى الله عنه. ولهذا قال في صفة من يحبهم ويحبونه: {أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللّهِ وَلاَ يَخَافُونَ لَوْمَةَ لآئِم}. (ولهذا كانت محبة هذه الأمة لله أكمل من محبة من قبلها وعبوديتهم لله أكمل من عبودية من قبلهم ، وأكمل هذه الأمة في ذلك هم أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم ، ومن كان بهم أشبه كان ذلك فيه أكمل)( ) <<هذا صنف>>
المحبـــــة لا تنـــــافــــي العبوديـــــــــــــة:
والصنف الثاني وهم المُفرطون وهم العصاة أو الذين غلطوا في فهم حقيقة العبادة وهم الذين ظنوا أن المحبة تنافي أدب العبودية ، ولا تصاحب خشية الله ومخافته التي يجب أن يتصف بها كل عبد لله. كما ظن أن المحبة لا تتحقق من المخلوق للخالق ، وإنما المطلوب منه الطاعة والخضوع فقط.
ولذا نجد بعضهم يقول: ((اللهم إني أعبدك لا طمعاً في ثوابك ولا خوفاً من عقابك)) ، فانظر يا أخي المسلم ، كيف فصلوا بين العبادة وبين الخوف والخشية ، والمحبة والرجاء.
والحقيقة أن المحبة لا تنافي الخشية ، والمخافة بل الخوف لازم للمحبة ، كما قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله إذ ليس عند القلب السليم أحلى ، ولا ألذ ، ولا أطيب ، ولا أسر ، ولا أنعم من حلاوة الإيمان المتضمن عبوديته لله ، ومحبته له ، وإخلاص الدين له)).
وذلك يقتضي انجذاب القلب إلى الله ، فيصير القلب منيباً إلى الله خائفاً منه ، راغباً راهباً ، كما قال تعالى: {مَنْ خَشِيَ الرَّحْمَن بِالْغَيْبِ وَجَاء بِقَلْبٍ مُّنِيبٍ} .
إذ المحب يخاف من زوال مطلوبه أو عدم حصول مرغوبه ، فلا يكون عبدا لله ، ومحبه ، إلا بين خوف ورجاء. كما قال تعالى: {أُولَـئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ وَيَرْجُونَ رَحْمَتَهُ وَيَخَافُونَ عَذَابَهُ إِنَّ عَذَابَ رَبِّكَ كَانَ مَحْذُورًا}.
فقد دلت الآية الكريمة على أن كل عبد مخلص لله ، لابد أن يكون مع عبادته بين الخوف والرجاء ، وقد نص العلماء رحمهم الله على أنه ينبغي للمسلم أن يُغلِّب جانب الخوف في الصحة حتى لا يأمن من مكر الله ، وأن يُغلِّب جانب الرجاء في المرض حتى لا ييأس من روح الله( ) ، والآية الكريمة نزلت في أناس من الإنس كانوا يعبدون نفراً من الجن ، فأسلم الجن ، وبقي الإنس على عبادتهم( ) إياهم ، فأخبر الله تعالى ، أن هؤلاء المدعوين يطلبون القربة إلى الله عز وجل بالعمل بما يرضيه ، خوفاً من عقابه وطمعاً في ثوابه ، وهذا ينطبق على كل من يدعو غير الله في الوقت الذي يكون المدعو أحوج ما يكون إلى عبادة الله. كما يقال: (فاقد الشيء لا يعطيه) ، ومع ذلك نجد كثيراً ممن انتكست فطرتهم ، يعكف عند ميت في قبره ، يطلب منه قضاء الحاجات ، وتفريج الكربات ، ويزعم أنه يعلم الغيب ، ويعطي الولد ، وغير ذلك مما لا يقدر عليه إلا الله.
حــاجة المسلميـن إلى معرفـة العقيــدة الصحيحــة:
ولا نكاد نجد بلداً من بلاد الإسلام ، إلا وفيه أنماط من هذه الطقوس التي حالت بين الناس ، وبين فهم العقيدة الصحيحة.
ومن هنا تبدو الحاجة ملحة إلى بيان تلك العقيدة الصافية ، الخالصة التي ترتكز على نصوص الوحيين الكتاب والسنة.
فالإنسان في كل زمان ومكان في حاجة ماسة إلى عقيدة تحدد لع غايته ، وتوضح له منهجه الذي يسير عليه لتحقيق هذه الغاية ، ولكنه عندما تنتكس فطرته ، وتطول غفلته وينقلب فهمه ، حتى يرى حسنا ما ليس بالحسن ، عندها تتحول عقيدته إلى حجر يقدسه ، أو شجر يعظمه ، أو شمس تضيء نهاره ، أو قمر ينير ليله ، أو بحر تتلاطم أمواجه ، أو نار تتلظى ، أو حيوان يهابه ، أو إنسان يكبر في نفسه ، أو أي مخلوق يرى له فضلاً عليه من ملك أو جني ، أو نبي ، أو ولي ميت أو حي ، فيتعلق من ذلك كله بما هو أوهن من خيوط بيت العنكبوت.
قال تعالى: {مَثَلُ الَّذِينَ اتَّخَذُوا مِن دُونِ اللَّهِ أَوْلِيَاء كَمَثَلِ الْعَنكَبُوتِ اتَّخَذَتْ بَيْتًا وَإِنَّ أَوْهَنَ الْبُيُوتِ لَبَيْتُ الْعَنكَبُوتِ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ}.
وقد يكون ذلك منه لمجرد التقليد من غير وعــي ، أو تفكير ، قال تعالى: {وَقَالُوا لَوْ شَاء الرَّحْمَنُ مَا عَبَدْنَاهُم مَّا لَهُم بِذَلِكَ مِنْ عِلْمٍ إِنْ هُمْ إِلَّا يَخْرُصُونَ {20} أَمْ آتَيْنَاهُمْ كِتَابًا مِّن قَبْلِهِ فَهُم بِهِ مُسْتَمْسِكُونَ {21} بَلْ قَالُوا إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِم مُّهْتَدُونَ {22}وَكَذَلِكَ مَا أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ فِي قَرْيَةٍ مِّن نَّذِيرٍ إِلَّا قَالَ مُتْرَفُوهَا إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِم مُّقْتَدُونَ {23}.
وقد يكون الانحراف في العقيدة باتباع الهوى الذي ذمه الله في غير ما آيـة من كتابه العزيز.
قال تعالى: {أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ وَأَضَلَّهُ اللَّهُ عَلَى عِلْمٍ وَخَتَمَ عَلَى سَمْعِهِ
وَقَلْبِهِ وَجَعَلَ عَلَى بَصَرِهِ غِشَاوَةً فَمَن يَهْدِيهِ مِن بَعْدِ اللَّهِ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ {23} وَقَالُوا مَا هِيَ إِلَّا حَيَاتُنَا الدُّنْيَا نَمُوتُ وَنَحْيَا وَمَا يُهْلِكُنَا إِلَّا الدَّهْرُ وَمَا لَهُم بِذَلِكَ مِنْ عِلْمٍ إِنْ هُمْ إِلَّا يَظُنُّونَ {24}.
وقال تعالى: {إِن يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَمَا تَهْوَى الْأَنفُسُ وَلَقَدْ جَاءهُم مِّن رَّبِّهِمُ الْهُدَى }
حكـــم التحـــزب والانتمـــاءات في الإســــــــــلام:
وفي هذا العصر الذي ادلهمَّت فيه الظلمات ، وانقلبت فيه الحقائق ، وتغيرت فيه المفاهيم ، يتساءل الفرد المسلم عن طريق الخلاص ، يتساءل وهو حائر بين هذه الجماعات المتصارعة ، والأحزاب المتناحرة ، والدعوات المتفرقة ذات المناهج المختلفة التي تدعـي لنفسها السير على المنهج الصحيح.
وكـل يدعـي وصـلاً لليلـى ** وليلــى لا تقــر لهــم بذاك.
وأيـاً ما كان الأمر وبغض النظر عن صدق النوايا لدى المنتمين إلى هذه الجماعات والأحزاب ، فإن كل مسلم فهم الكتاب والسنة ومنهج سلف الأمة يتساءل عن شرعية وجود مثل هذه الجماعات والطوائف في الإسلام والجواب: أن الإسلام لا يقر ذلك بل يمقته ويذم أهله لأنه أخطر سبب يفرق الأمة ويشتت شملهـا.
فتــــوى في التحــــــــزب:
ويجدر بنا نحن في الكلام على حم الإسلام في هذه الانتماءات وهذا التحزب أن ننقل الفتوى التي صدرت في ذلك من اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء (من هيئة كبار العلماء بالمملكة العربية السعودية) رقم 164 في 7/10/1397 وهو حكم صريح بعدم شرعية وجود هذه الجماعات ، وإليك نص هذه الفتوى:
<<لا يجوز أن يتفرق المسلمون في دينهم شيعاً وأحزاباً يلعن بعضهم بعضاً ويضرب بعضهم رقاب بعض. فإن هذا التفرق مما نهى الله عنه ونعى على من أحدثه أو تابع أهله ..وتوعَّد فاعليه بالعذاب العظيم..وقد برَّأ الله رسوله صلى الله عليه وسلم منه قال تعالى {واعتصموا بحبل الله جميعا ولا تفرقوا} إلى قوله تعالى {وَلاَ
تَكُونُواْ كَالَّذِينَ تَفَرَّقُواْ وَاخْتَلَفُواْ مِن بَعْدِ مَا جَاءهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَأُوْلَـئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ عَظِيم}. الآيات.
وقال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُواْ دِينَهُمْ وَكَانُواْ شِيَعًا لَّسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ إِنَّمَا أَمْرُهُمْ إِلَى اللّهِ ثُمَّ يُنَبِّئُهُم بِمَا كَانُواْ يَفْعَلُونَ {159} مَن جَاء بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا وَمَن جَاء بِالسَّيِّئَةِ فَلاَ يُجْزَى إِلاَّ مِثْلَهَا وَهُمْ لاَ يُظْلَمُونَ {160}.
وثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: ((لا ترجعوا بعدي كفارا يضرب بعضكم رقاب بعض))( ).
والآيات والأحاديث في ذم التفرق في الدين كثيرة. أما إذا كان ولي أمر المسلمين هو الذي نظَّمهم ووزع بينهم أعمال الحياة ومرافقها الدينية والدنيوية ليقوم كل بواجبه في جانب من جوانب الدين والدنيا فهذا مشروع.. بل واجب على ولي أمر المسلمين أن يوزع رعيته على واجبات الدين والدنيا على اختلاف أنواعها فيجعل جماعة لخدمة علم الحديث من جهة نقله وتدوينه وتمييز صحيحه من سقيمه..الخ.
وجماعة أخرى لخدمة فقه متونه تدوينا وتعلما وتعليما.. وثالثة لخدمة اللغة العربية قواعدها ومفرداتها وبيان أساليبها والكشف عن أسرارها.. وإعداد جماعة رابعة للجهاد وللدفاع عن بلاد الإسلام وفتح الفتوح وتذليل العقبات لنشر الإسلام.. وأخرى للإنتاج صناعة وتجارة وزراعة.. إلى آخره.. فهذه من ضرورات الحياة التي لا تقوم للأمة قائمة إلا بها ولا يحفظ الإسلام ولا ينتشر إلا عن طريقه.. هذا مع اعتصام الجميع بكتاب الله وهدي رسوله صلى الله عليه وسلم وما كان عليه الخلفاء الراشدون وسلف الأمة ووحدة الهدف وتعاون جميع المسلمين على نصرة الإسلام والذود عن حياضه وتحقيق وسائل الحياة السعيدة وسير الجميع في ظل الإسلام وتحت لوائه على صراط الله المستقيم وتجنبهم السبل المضلة والفرق الهالكة : قال الله تعالى:{ وَأَنَّ هَـذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلاَ تَتَّبِعُواْ السُّبُلَ
فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَن سَبِيلِهِ ذَلِكُمْ وَصَّاكُم بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ}( )
قال الشيخ سعد بن عبد الرحمن الحصين وفقه الله في كتابه الدعوة في جزيرة العرب بعد أن أورد فتوى الجنة الدائمة آنفة الذكر قال: <<يتبين من هذا أن مجرد قيام جماعة أو حزب أو طائفة أو فرقة وتميَّزها عن جماعة لمسلمين باسم غير الاسم الذي سمى الله به الأمة>> {هُوَ سَمَّاكُم المُسلمين}. أو تميزها بعقيدة أو عبادة لم يأذن بها الله في كتابه وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم وسبيل المؤمنين من أصحابه – أو انعزالها بمركز خاص أو أمير غير ولي الأمر أو بيعة دينية أو سياسية غير بيعة العامة لولي الأمر. كل ذلك أو بعضه خروج عن جماعة المسلمين وتشتيت لشمها وتقطيع لأمرها زبراً. انتهى بأهله إلى التعصب والتنازع والفشل وذهاب الريح والموالاة في الحزب والمعاداة فيه والحب فيه ، والبغض فيه بدعوى أن ذلك كله في الله. بل لقد وصل الأمر بكثير من المسلمين نتيجة لتعدد الجماعات والأحزاب والفرق والطوائف إلى أن تعدى بعضهم على بعض بالتهم والإشاعات الكاذبة والسباب حتى قتل رفقاء الجهاد والدعوة بعضهم بعضاً.
والعجب كل العجب أن يدعي أكثر الحزبيين أن همهم الأول تجميع الصفوف ووحدة المسلمين وفي سبيل ذلك رأوا أنه لا يجوز إنكار البدع ولا بيان مسائل العقيدة التي اختلف عليها المسلمون في العصر المتأخر حتى لا يكاد وجه الحق يعرف فيها بين أكثرية المسلمين.
كيف تتجمع الصفوف ويتحد المسلمون بواسطة جماعات وطوائف ، وأحزاب متفرقة يحاول كل طرف فيها أن يثبت أنه على الحق وغيره على الباطل..ويؤيد حزبه ويعارض الأحزاب الأخرى يجمع التبرعات لجماعته ويحاول أن يصرفها عن غيره.؟
أم كيف تتجمع الصفوف ويتحد المسلمون على عبادات لم يكن عليها أمر محمد صلى الله عليه وسلم وصحبه رضي الله عنهم.( )
الالتزام بالمنهـج الإسلامــي لا بالأشخــــاص:
ومن هنا فالالتزام إنما يكون دائماً وأبداً بالمنهج الإسلامي..بالفكرة..بما شرعه الله لنا..وليس الالتزام بالأشخاص ، أو التنظيمات ، أو الجماعات التي هي دائماً محل للخطأ والصواب والكارثة والخلل والأمراض والعلل تتسلل إلى الحياة الإسلامية من يد الإنسان المسلم ، ومن ثم تكون العصمة الكاذبة التي تخلع على بعض الأشخاص والمبررات المضحكة التي توضع لتصرفاتهم وأخطائهم. وهذا بدأ مرحلة السقوط ، حيث تبدأ عملية تخديم الأهداف والقيم ، لا خدمتها ، أو تستبد بهم حالات اليأس ، أو تمارس عمليات الإرهـاب الفكري ، أو الفساد السياسي ، فتفصَّل الأحكام على الأشخاص ، وتوصَّل الحيل الشرعية حتى تصبح لها مؤلفات ، وتؤوَّل الأحاديث والآيات على مقتضى الأهواء ، ولا يجوز أن يظن أحد أن الدعوة إلى التزام المنهج مقياس وميزان للحق والباطل ، وعدم الالتزام بالأشخاص الذين يخطئون ويصيبون ارتداد إلى الفردية..وبعثرة للجهود ، وابتعاد عن جماعة المسلمين كافةً ، فهذا ليس من الأمور الاختيارية بالنسبة للمسلم ، وإنما هو في حقيقته تصويب لمسيرة حياة المسلمين الجماعية ، وإلغاء للإقطاعات البشرية من حياة الناس ، والتزام بالإسلام الذي بيَّنه رسول الله صلى الله عليه وسلم بقوله: <<ورجلان تحابا في الله اجتمعا عليه وافترقا عليه>>( )
فالاجتماع على المنهج وليس على الأشخاص والافتراق أيضاً على المنهج ، وليس على الأشخاص ، إلا في حالة العمى العقلي ، وعدم الإبصار الصحيح ، بسبب التعصب لفئة ، أو شخص ، أو عرق ، أو قوم ، أو في حالة عدم وجود العَزْمة الأكيدة على الالتزام بهذا الدين.( )
النصيحــــة تفرق الأمــة في مفهــوم الحزبييـــن:
والملاحظ أن هذه الجماعات الحزبية ترى أن الأمر بالمعروف والنهـي عن المنكـر يفرق صفوف الأمة ويمزق كيانها وهذا قول فيه مغالطة خطيرة وتناقض عجيب فإن من أعظم وسائل نشر الدين ، وظهور الإسلام هو الأمر بالمعروف والنهـي عن المنكـر – عجباً لهذا القول ، إن قائله يشبه من يقول الماء لا يروي والطعام لا يشبع.
وخلاصة القول: إنه << فساد النظر الاعتقاد بأن عملية النقد ، والمناصحة ، والأمر بالمعروف والنهـي عن المنكر تُحدث تشويشاً في الصف الإسلامي ، واضطراباً في العمل ، ذلك أن الصف ، أو الجماعة التي تخشى من الحوار ، وتخاف من المناصحة ، ويلبَّس الشيطان على بعض أفرادها بأن الأمر بالمعروف ، ومحاربة المنكر يهدد كيانها ، جماعة لا يوثق بها ، ولا تستحق البقاء ، ولا تستأهل حمل رسالة الإسلام التي من أولى متطلباتها الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، ففاقد الشيء لا يعطيه ، إن مطاردة عمليات المناصحة ، ومحاصرتها ، والقضاء عليها ، تنطوي على خطورة كبيرة تؤدي بأصل القضية في سبيل استبقاء الصورة الشكلية للعمل والدعوة ، حيث تنقلب الوسيلة – التعاون في إطار الجماعة للوصول إلى قدر أكبر من الخير غاية بحد ذاتها . إن التسلط الفردي والإرهاب الفكري الذي يقع فيه أحياناً بعض العاملين للإسلام عندما يغيب عن ساحة العمل البُعدُ الإيماني العيني ، وما يقتضيه من خفض الجناح ، ولين الجانب ، والخلق الكريم ، يؤدي إلى لون من التشرذم ، وضرب من الطائفيات الجديدة ، تتمزق معها رقعة التفكير ، وتنمو الجزئيات ، وتغيب الكليات ، ويضطرب سلَّم الأولويات ، ويضيع تصنيف المشكلات ويتوقف العمل المنتج ، وتنقلب الوسائل إلى غايات – كما أسلفنا – وتتمحور الصورة الإسلامية حول أشخاص لا تُرى القضية الإسلامية إلا من خلالهم ، وينقلب جهد العمل إلى صناعة المبررات ، وتتغلب عملية صناعة التبرير على عقلية دراسة أسباب التقصير ، لا تعالج هذه القضية إلا من خلال ممارسة الحركة الفكرية ، والحوار الشامل ، والتزام أدب الخلاف الإسلامي وجعل المشروعية للمبادئ والأفكار ، وليس للوسائل والأشخاص ، إن العقيدة مقرها القلب ، ولا سلطان لأحد عليه إلا سلطان الدليل ، والقناعة بالشيء هي الدافع لممارسته ، والله تعالى خاطب النبي صلى الله عليه وسلم بأن الغاية من ابتعاثه إلحاق الرحمة بالعالمين ، قال تعالى: {ومَا أَرْسَلنَاك إلاَّ رَحمَة لِلعَالَمِين}. وقال : {لَسْتَ عليْهِم بِمُسيطِر}. وقال مخاطبا ًنبيَّه أيضاً: {أَفَأَنتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُواْ مُؤْمِنِينَ}.وقال: {وَلَوْ كُنتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لاَنفَضُّواْ مِنْ حَوْلِك}.
وهذه من الأبجديات الأولى في الدعوة إلى الله ، وإلحاق الرحمة بالعالمين.( )
البيعـــــة عنــــد الحزبييــــــــــــــــن:
قلت: ومن عوامل الهدم والفرقة لدى هذه الجماعات أنهم يدعون من انضوى تحت لوائهم إلى البيعة لشخص أو أشخاص على طريقة بل طرق متعددة أحياناً الأمر الذي جعل الأمة شيعاً وأحزاباً حتى في الدول التي توجد فيها أقليات إسلامية ، فجعلوا الأمة أمماً ، وأوغلوا في ذلك حتى إنهم ليأخذون البيعة على أتباعهم لأشخاص مجهولين تحت ستار الدعوة إلى الله عـز وجـل ، هي دعوة للتعلق بذات الأشخاص ، وتلك المبادئ الحزبية التي يُوالون ويعادون عليها ، وإننا لنتساءل هنا: أين كان سلف هذه الأمة عن مثل هذه البيعات الاستثنائية؟ وهل نستطيع أن نصل بعقولنا وأهوائنا إلى خير نظنه فات صالحي هذه الأمة من السلف رضوان الله تعالى عليهم أجمعيــن ، وصدق النبي المصطفى صلوات الله وسلامه عليه: <<مَن أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو ردٌ>>.
فمثل هذه البيعات الاستثنائية التي لم ترد في نص قرآني ، أو حديث نبوي ، أو فعل أحد من السلف الصالح تعد <<بدعة ومحدثة ، أحدثت لاستغلال العوام ، والبسطاء من المسلمين للتأثير على نفوسهم ، بقصد تسخيرهم والتحكم فيهم تحت شعار الولاء والانتماء والسمع والطاعة والتوبة وغير ذلك من العبارات المُنمَّقة ، والكلمات المزخرفة ، والألفاظ البرَّاقة!!( )
الولاء والبــراء عند الجماعــات الحزبيـــة:
قلت: وهذه الدعوات لا يخلو أمرها من حالين:
إحداهما: الخطأ في المنهج والسلوك.
كمناهج الطرق الصوفية التي ذكرنا فيما سبق بعض مقالاتهم الإلحادية التي لا تمت بصلة بل صرفت أتباعها عن الاعتماد على الكتاب والسنة اللذين هما مصدر شريعة الإسلام.
والحالة الثانية: الخطـأ في الفكر.
كمثل جماعات الدعوة الإسلامية المعاصرة ، والتي تنطلق في دعواتها من منطلق حزبـي ضيــق.
الأمر الذي بعد بهم عن منهج السلف الصالح، إذ أن هذه الجماعات لم تؤسس بناء دعوتها على توحيد الباري جل وعلا ، والعقيدة السلفية الصافية من الشوائب.
فإن من تأثر بتلك الدعوات إن كان من أهل العقيدة أصلاً لا يكون ولاؤه لها ، ولا يكون فكره متفقاً معها ، بسبب سيطرة هذه المناهج على أفكاره ، حتى ماتت العقيدة في نفسه ، فأصبح لا يدعو لها ، وإن كان يعتقدها ، لكنه بعد عنها تحت تأثير المنهج الحزبي ، لأنه يوالي ، ويعادي على ذلك الفكر الضيق ، الذي بني على غير أسس سليمة ، فلا يكون للعقيدة مكان ولا مجال في التطبيق العملي ، ولا تعطي ثمراتها الطيبة اليانعة ، فهي لا تفيد معتقدها ، لأنها قد فقدت روحها ، فأصبحت ، بلا روح كالجذوة التي استترت وانغمرت تحت الرماد.
وخطورة هذه الأمر لا تقل عن الجهل بالعقيدة ، فإن من يعرف العقيدة ولا يدعو إليها ، هو كالجاهل بها سواء بسواء. وهؤلاء إنما أصيبوا بالخرس عن الدعوة إلى العقيدة بدعوى أن ذلك يفرق الأمة ، ويمزق كيانها ،لأنهم يريدون أن يجمعوا تحت لوائهم من هب ودب ، لا فرق في ذلك عندهم بين ملتزم بالعقيدة الصحيحة وغيره.
إذ أن الهدف الذي يقصدونه هو مجرد الجمع دون تمييز ، وهذا منهج بلا شك سينتهـي بأصحابه إلى الفشل الذريع ، نظراً لكونه قد بني على غير أسس سليمة ، وذلك أن أصحاب هذا المسلك أتوا من عدم الفهم ، والإدراك الصحيح حيث لم يفرقوا في الدعوة بين الأصول ، والفروع.
فتراهم يبدءون بالدعوة إلى بعض الفروع ، ويزعمون أنه متى أقيم هذا الفرع ، فإنه سوف يوجد الأصل تلقائياً ، ولذا نرى كثيراً منهم يهتمون بالجانب السياسي ، بدعوى أنه متى وجدت الدولة التي ينشدونها عند ذلك تصلح العقيدة وغيرها ، مما فسد من أحوال المسلمين ، وهذه تصور غير صحيح ، لأن صاحب هذا التصور ذكر شيئاً ، وغابت عنه أشيــاء.
هذا على فرض أن صاحب هذا الفكر حسن النية ، بيد أننا نشط في حسن نية كثير منهم ، فقد اتضح أن بعضاً ممن ينتمي إلى هذه الأحزاب لا همَّ له إلا تحقيق هدف سياسي وهو الحصول على منصب معين ، وإنما يموَّه بذلك على أولئك الذين لا رسوخ لهم في فهم العقيدة مستغلاً عواطفهم نحوها( ) ، ولكنه ينوي خلاف ذلك لأنه ليس من أهل العقيدة ،ولا أدل على ذلك من كونه يدعـي أن الدعوة إلى العقيدة تفرق الأمة كما أسلفنا.
الإســــلام وحـــدة لا تتجـــــــــــــزأ:
نعم الإسلام دين ، ودولة ، وعقيدة ، وشريعة ، ولكن يجب أن نأخذه كوحدة متكاملة بحيث ينطلق في سياسته ، وجميع أموره من العقيدة الإسلامية المستمدة من الكتاب والسنة ، وهما كفيلان ببيان منهج الدعوة الإسلامية كما فصلنا ذلك فيما تقدم.
لا بمجرد الدعاية والأناشيد الحماسية ، والهتافات ، والشعارات الجوفاء ، والبيعات الحزبية التي لم يستفد منها المسلمون سوى القضاء على الدعوة وأهلها في كثير من البلاد ، حيث يهيجون الشباب المسلم ، ويلهبون حماسه ، ويستثيرونه إلى أن يثور ، ويتحرك فيقع في أيدي الطغاة الظلمة ، أعداء الإسلام ، والمسلمين فيقضون على هؤلاء الشباب ، ويهدرون هذه الطاقة نتيجة لذلك المسلك الخاطئ الذي تسلكه تلك الجماعات في دعوتها.
المنهــــج الحـــــــــــــق:
وإذا أردنا أن يتحقق للمسامين ما يصبون إليه ، وما يتطلعون إليه من العودة بالمسلمين إلى الإسلام الصحيح ، فعلينا أن نسلك بهم طريق التعليم ، والتربية ، وتفقيه الشبب المسلم في دينه وتبصيرهم في ذلك حتى تزول تلك الشوائب التي علقت بالدين ، ودعوته وتلك الرواسب التي أكل عليها الدهر وشرب ، التي انحرفت بالمسلمين عن الجادة الصحيحة التي رسمها لهم الله عز وجـل في كتابه المبين ، وبينها رسول الهدى صلى الله عليه وسلم في سنته المطهرة ، ولنا لأسوة حسنة في أولئك الدعاة المصلحين الذين أسسوا دعوتهم على عقيدة الإسلام ، وبدءوا بتطهيرها من شوائب الشرك والخرافات.
الأمر الذي تحقق بسببه رفع راية التوحيد خفاقة في ربوع الجزيرة العربية ، بعد أن ران عليها الجهل ، وخيم عليها الظلام عدة قرون ، وعاد كثير من الناس إلى الشرك والخرافات ، فانقشع ذلك الجهل وتحول ذلك الظلام إلى نور على يد شيخ الإسلام محمد بن عبد الوهاب رحمه الله ، الذي بدأ بتعليم الناس لعقيدة الصحيحة ، وقامت بفضل هذه العقيدة دولة التوحيد ، منذ أن قام الإمام محمد بن سعود رحمه الله مؤسس هذه الدولة المباركة ، هذه الدعوة الطيبة ، فكتب الله لها بذلك النصر ، والبقاء ، وزالت مظاهر الشرك والوثنية في برهة وجيزة ، وهي لم تكن لتزول لو لم تنطلق هذه الدعوة من روح العقيدة.
ولستُ مبالغاً حينما أذكر هذه الحقيقة فإنها حقيقة يسلم بها الأعداء فضلاً عن الأصدقاء ، والحق ما شهدت به الأعداء.
وخلاصـة القول إنه لا صلاح لنا ، ولا فلاح ، ولا نجاح لدعوتنا ، إلا إذا بدأنا بالأهم ، قبل المهم ، وذلك بأن ننطلق في دعوتنا من عقيدة التوحيد نبني عليها سياستنا ، وأحكامنا ، وأخلاقنا ، وآدابنا ، ننطلق في كل ذلك من هدي الكتاب والسنة ، بلا إفراط ، ولا تفريط ، ذلكم هو لصراط المستقيم ، والمنهج القويم الذي أمرنا الله تعالى بسلوكه فقال: { وَأَنَّ هَـذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلاَ تَتَّبِعُواْ السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَن سَبِيلِهِ }.
وال تعالى ك { واعتصموا بحبل الله جميعا ولا تفرقوا }، وقال رسول الهدى صلى الله عليه وسلم: <<تركت فيكم أمرين ، لن تضلوا بعدي ما تمسكتم بهما ، كتاب الله وسنتي>>.( )
ويقول الإمام مالك بن أنس رحمه الله: لن يصلح آخر هذه الأمة إلا بما صلح به أولها.( )
اللهم إنا نسألــك أن ترد المسلميــن إلى دينهـم رداً جميلاً ، ونسألـك أن ترينــا الحــق حقــاً ، وترزقنــا اتباعــه ، والباطــل باطلاً ، وترزقنـــا اجتنابــه ، وأن لا تجعلــه علينا فنضل إنـــك ولـــي ذلــك والقادر عليـه ، وصلـى الله وسلــم وبارك على نبينـــا محمد وعــلى آلــه وصحبــه وأتباعهــــم بإحســــان إلى يــوم الديــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ـــن.