أما بعد:
فإن الله تعالى شرع الجهاد وجعله ذروة سنام الإسلام أي من أعلى الأعمال الصالحة درجة ورتبة، كما أنه سبب لعلو شأن أهل الإسلام وعزهم وانتشار دينهم وهيبة عودتهم لهم قال صلى الله عليه وسلم (رأس الأمر الإسلام وعموده الصلاة وذروة سنامه الجهاد).
والجهاد شرع في الإسلام لإعلاء كلمة الله تعالى عن أبي موسى الأشعري رضي الله عنه قال : سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الرجل : يقاتل شجاعة ، ويقاتل حمية، ويقاتل رياء : أي ذلك في سبيل الله ؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : « من قاتل لتكون كلمة الله هي العليا». متفق عليه.
وقال تعالى (وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ لِلَّهِ فَإِنِ انْتَهَوْا فَلا عُدْوَانَ إِلا عَلَى الظَّالِمِينَ)
قال البغوي رحمه الله في تفسيرها: (وَقَاتِلُوهُم } يعني المشركين { حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ } أي شرك يعني قاتلوهم حتى يسلموا فلا يقبل من الوثني إلا الإسلام فإن أبى قتل { وَيَكُونَ الدِّينُ } أي الطاعة والعبادة { لله } وحده فلا يعبد شيء دونه. اهـ
وكان الجهاد بالسيف ممنوعاً في أول الأمر لما كان الرسول وأصحابه في مكة لضعف المسلمين وقلة عَددهم وعُددهم مع ما كانوا يتعرضون له من عظيم البلاء والامتحان وكان النبي صلى الله عليه وسلم يمر عليهم فلا يملك لهم إلا التصبير لهم وفتح باب الأمل لهم في وعد الله وتذكيرهم بما وعد الله به الموحدين الصابرين
عن عبد الله بن مسعود قال: "أول من أظهر إسلامه سبعة: رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأبو بكر، وعمار، وأمه سمية، وصهيب، وبلال، والمقداد.
فأما رسول الله، صلى الله عليه وسلم، فمنعه الله بعمه، وأما أبو بكر، فمنعه الله بقومه، وأما سائرهم، فألبسهم المشركون أدراع الحديد، وصفدوهم في الشمس، وما فيهم أحد إلا وقد واتاهم على ما أرادوا إلا بلال، فإنه هانت عليه نفسه في الله، وهان على قومه، فأعطوه الولدان يطوفون به في شعاب مكة وهو يقول: أحد أحد "
وعن ابن عباس أنه ذكر الصحابة فقال " والله كانوا ليَضربون أحدَهم ويجيعونه ويعطشونه حتى ما يقدر أن يستوي جالسا من شدة الضر ، حتى يقولوا له : اللات والعزى إلهُك من دون الله؟ فيقول : نعم "
وعن عثمان رضي الله عنه قال أقبلت أنا والنبي، صلى الله عليه وسلم، في البطحاء حتى أتينا على عمار وأمه وأبيه وهم يعذبون، فقال ياسر للنبي، صلى الله عليه وسلم: الدهرّ هكذا _أي سنبقى العمر كله على هذه الحال من البلاء ؟، فقال له النبي، صلى الله عليه وسلم: " اصبر " ثم قال: "للهم اغفر لآل ياسر وقد فعلت "
وعنه رضي الله عنه أنه قال "صبراً آل ياسر فإن موعدكم الجنة" .
وعن خباب بن الأرت رضي الله عنه قال : « شَكَوْنا إِلى رسولِ الله صلى الله عليه وسلم وهو متوسِّد بُرْدة له في ظل الكعبة ، فقلنا: ألا تَسْتَنْصِرُ لنا؟ ألا تَدْعو الله لنا؟ فقال: قد كان مَنْ قبلكم يُؤخَذُ الرجل ، فيُحْفَر له في الأرض، فَيُجْعَلُ فيها، ثم يُؤْتَى بالمنشار، فيوضَعُ على رأْسه ، فيُجْعَلُ نصفين ، ويُمْشَط بأمشاط الحديد ما دون لحمه وعظمه ، ما يَصدُّه ذلك عن دينه ، والله لَيُتِمَّنَّ اللهُ هذا الأمرَ حتى يَسيرَ الراكبُ من صنعاءَ إِلى حَضْرَمَوْتَ ، لا يخاف إِلا اللهَ والذئبَ على غنمه ، ولكنَّكم تستعجلون». أخرجه البخاري.
ولم يكن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم آنذاك جبناء ولا أذلة في نفوسهم بل كانوا متشوفين للدفاع عن أنفسهم والانتقام من عدو الله وعدوهم.
لم يكونوا لِيهون عليهم ما يرون فيه أنفسهم وإخوانهم ممن يعذب في ذات الله ولم تكن قلوبهم حجارةً صماءَ لا تحزن ولا تتألم وهي ترى ما ينزل من العذاب على إخوانهم في الدين ولكنهم منعوا من الجهاد بالسيف فسمعوا وأطاعوا وقدموا داعي الشرع على داعي العاطفة والحماس فأفلحوا أورد القرطبي عن ابن عباس أن عبد الرحمن بن عوف وأصحاباً له أتوا النبي صلى الله عليه وسلم بمكة فقالوا: يا نبي الله، كنا في عز ونحن مشركون، فلما آمنا صرنا أذلة _أي يعذبنا أهل مكة ولا نرد عن أنفسنا_ ؟ فقال: (إني أمرت بالعفو فلا تقاتلوا القوم).
وكانت لله في ذلك الحكمة البالغة فإنهم لو قاتلوا عدوهم مع ضعفهم وقلتهم لاستأصلهم وأفناهم
ولما هاجر النبي صلى الله عليه وسلم إلى المدينة ومن الله عليه بالعدد والعدة وتهيأ له العضد والنصر واستكملت الأسباب الحسية والمعنوية جاء الإذن من الله بجهاد المشركين بالسيف لا رغبة في سفك الدماء وإزهاق الأرواح والتوسع في الديار والأموال والغنائم ولكن لإخراج الناس من عبادة الأوثان والأصنام والأنبياء والأولياء والصالحين إلى عبادة الله وحده
فقد كانت هذه هي القضية العظمى التي قررها النبي صلى الله عليه وسلم في قلوب أمته الذين استجابوا لدعوته رباهم على هذا المبدأ لوحده في مكة ثلاثة عشر عاماً ورباهم عليه مع بقية شرائع الإسلام في المدينة عشرة أعوام حتى لحق بربه صلوات الله وسلامه عليه.
فما جاهد النبي صلى الله عليه وسلم إلا بقوم قد حققوا توحيد الله في أنفسهم وفي ديارهم فانطلق جنود الإسلام وأسوده يحاربون مَنْ كفر بالله فإن أسلموا كفُّوا عنهم وإن أبَوْا أخذوا منهم الجزية إن كانوا من أهلها وإن أبَوْا استعانوا بالله وقاتلوهم .
لم يكن القصد من القتال الفوزَ بمطامع دنيوية من حكم وإمارة ودولة وإنما القصد تحقيق التوحيد الذي هو إفراد الله بالعبادة وتطبيق شرع الله في هذا الباب قبل غيره لأنه الأساس.
لما كان الجهاد قائما على الشرع في غايته وأهدافه قد تحققت شروطه التي أمر الله بها من إخلاص الدين له واجتماع الكلمة وإعداد العدة التي ترهب عدو الله وعدونا جاء النصر الموعود به في قوله تعالى (ولينصرن الله من ينصره) وفي قوله تعالى (إن تنصروا الله ينصركم) وفي قوله تعالى (ولقد سبقت كلمتنا لعبادنا المرسلين إنهم لهم المنصورون وإن جندنا لهم الغالبون) وفي غيرها من النصوص الإلهية والنبوية.
لقد أورث ذلك الجهادُ الإسلامَ والمسلمينَ عزاً ومجداً ورفعة وذكراً حارت فيه العقول والأفهام ولكن من عرف سنن الله في عباده لا يحار ولا يعجب فإن الله لا يخلف الميعاد وأمره إذا أراد شيئاً فإنما يقول له كن فيكون.
لقد شُرعَ الجهاد بعد الهجرة وفي عشر سنوات فقط دانت الجزيرة العربية لدين الله ودخل الناس في دين الله أفواجاً .
واستلم الراية من بعد محمد صلى الله عليه وسلم خلفاؤه الراشدون ومَن بعدهم فواصلوا مسيرة الجهاد ليعبد اللهُ وحده فطوى الله لهم مشارق الأرض ومغاربها وأورثهم الشام والعراق وفارس والسند ومصر وشمال أفريقية وغربها كل ذلك في غضون خمسين سنة تقريباً من هجرة النبي صلى الله عليه وسلم (وكان وعداً مفعولاً).
فهذه هي ثمرة الجهاد الشرعي نصرُ الإسلام وعزةٌ المسلمين وهزيمةُ الشرك وذلةُ المشركين.
نسأل الله أن يصلح أحوال المسلمين وأن يولي عليهم خيارهم وأن يقيم علم الجهاد حقاً وصدقاً إنه سميع مجيب
بعد ذلك العرض الموجز لشيء من ثمرة الجهاد الشرعي يحق لنا أن نتساءل ونحن نرى الانتكاساتِ المتلاحقة والإخفاقاتِ المتوالية لما يسمى في هذه الأزمنة بالجهاد الإسلامي لقد ذهبت فيه عقود طويلة وذهب فيه مئات الألوف من الأنفس إن لم تصل للملايين وذهبت فيه من الأموال والجهود ما لا يعلمه إلا الله ثم لم تكن النتيجة المشاهدة اليوم إلا مزيداً من تسلط العدو ومزيداً من سفك الدماء ومزيداً من الذل والهوان الذي يصب على المسلمين في غير بقعة من بقاع العالم الإسلامي.
لم ينعم بلد من تلك البلدان المعنية بنعمة أمن ولم يتحرر من عدو مغتصب بل لا يزال يتلقى الضربات بعد الضربات بيد بعضهم أو بيد عدوهم.
ولو كان جهاداً حقاً كما شرع الله لرأينا وعد الله يتجلى بالنصر والتمكين فإن الله لا يخلف وعده.
إن من أبرز أسباب مآسي المسلمين وهي كثيرة أن تبتلى بمغامرين يغامرون بالشعوب والبلدان من أجل مصالح حركية وحزبية لا يبالون في سبيل بقاء الحزب ما يَحلُّ بشعوبهم المسلمة من قتل وتدمير ومذابح ومجازر فما دام الحزب قائماً لم يسقط، والحركةُ حيةً لم تمت. فإذاً هم المنتصرون وإن قُتل الألوف من النساء والصبيان والأبرياء وإن دمرت البيوت والأحياء والمدن.
هذا هو المنطق الذي يتردد ويصدقه كثير من الناس وللأسف ..
لقد ابتليت الأمة بمغامرين عبر تاريخها أوردوها المهالك كما حصل أواسط القرن السابع الهجري يوم غامر بعض قادة المسلمين فتحرش بعدو لا قبل للمسلمين به فلقي منه المسلمون مالا يخطر على بال انتهى بتقويض الخلافة في بغداد بعد أن اكتسح المشرق الإسلامي كله ولولا أن الله تكفل بحفظ دينه لذهب الإسلام في تلك الفتنة.
وابتلي المسلمون بمغامرين اليوم ورطوا المسلمين في ورطات كبرى جعلت للكافرين على المسلمين سبيلاً وأي سبيل.
أيها الإخوة :
هذا الكلام وما هو أقوى منه مما يصرح به كبار علماء الأمة وعقلائها يفسره كثير من الناس على أنه من قبيل الجبن والخور والتخذيل وينزّلون عليه الآيات التي نزلت على المنافقين وهو من التلبيس الباطل لأن التخذيل الذي ذمه الله ويذمه كل مؤمن إنما يكون عن الجهاد المشروع لا عن القتال المذموم.
ليست كلٌّ دعوة إلى حقن الدماء تخذيلاً. لقد صالح النبي صلى الله عليه وسلم كفار مكة على وضع الحرب وحقْنِ الدماء فهل كان بذلك محارباً للجهاد والمجاهدين
لقد اختار خالد بن الوليد الرجوع بالجيش في مؤتة والانسحابَ من المعركة لعدم التكافؤ بين جيش الصحابة وجيش الروم فهل ذمه النبي صلى الله عليه وسلم؟ لا بل مدحه وسمى عمله ذلك فتحاً .
وهل الدعوة إلى حقن دماء المستضعفين في غزة والجنوح إلى الصلح والسلم ولو بشروط فيها غضاضة على المسلمين دعوُة نفاق وتخدير لا تصدر من مؤمن كما يقال اليوم..
لا والله بل هو الأمر الذي يفرضه الشرع الحنيف ويقره العقل السليم، فإلى متى والعدو يقتل الأنفس ويهلك الحرث والنسل ونحن لا نملك إلا الوعودَ بالنصر والتهديدَ بالويل والثبور على اليهود على حد المثل العربي (أوسعتهم سباً وساروا بالإبل)
إن اليهود قتلة الأنبياء فكيف يستكثر عليهم تعمد قتل الأطفال والنساء والمدنيين أو يستغرب منهم ذلك، وإنهم لن يوقفهم الصراخ ولا البكاء ولا العويل بل لا يوقفهم بعد أمر الله إلا قوة مكافئة إذ (لا يفل الحديد إلا الحديد) وليست بأيدينا اليوم هذه القوة المطلوبة فليس في اليد إلا الميل لما فيه حقن الدماء وتخفيف المحنة وتقليل الشر ما أمكن.
نسأل الله أن يلهم أصحاب القرار في المسلمين ما فيه خير وعز للإسلام وأهله وأن يصرفهم عن كل ما فيه شر للإسلام وأهله كما نسأله سبحانه أن يحسن لهم البطانة وأن يريهم الحق حقاً ويرزقهم اتباعه وأن يريهم الباطل باطلاً ويرزقهم اجتنابه.
اللهم أعز الإسلام والمسلمين
منقول
فإن الله تعالى شرع الجهاد وجعله ذروة سنام الإسلام أي من أعلى الأعمال الصالحة درجة ورتبة، كما أنه سبب لعلو شأن أهل الإسلام وعزهم وانتشار دينهم وهيبة عودتهم لهم قال صلى الله عليه وسلم (رأس الأمر الإسلام وعموده الصلاة وذروة سنامه الجهاد).
والجهاد شرع في الإسلام لإعلاء كلمة الله تعالى عن أبي موسى الأشعري رضي الله عنه قال : سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الرجل : يقاتل شجاعة ، ويقاتل حمية، ويقاتل رياء : أي ذلك في سبيل الله ؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : « من قاتل لتكون كلمة الله هي العليا». متفق عليه.
وقال تعالى (وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ لِلَّهِ فَإِنِ انْتَهَوْا فَلا عُدْوَانَ إِلا عَلَى الظَّالِمِينَ)
قال البغوي رحمه الله في تفسيرها: (وَقَاتِلُوهُم } يعني المشركين { حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ } أي شرك يعني قاتلوهم حتى يسلموا فلا يقبل من الوثني إلا الإسلام فإن أبى قتل { وَيَكُونَ الدِّينُ } أي الطاعة والعبادة { لله } وحده فلا يعبد شيء دونه. اهـ
وكان الجهاد بالسيف ممنوعاً في أول الأمر لما كان الرسول وأصحابه في مكة لضعف المسلمين وقلة عَددهم وعُددهم مع ما كانوا يتعرضون له من عظيم البلاء والامتحان وكان النبي صلى الله عليه وسلم يمر عليهم فلا يملك لهم إلا التصبير لهم وفتح باب الأمل لهم في وعد الله وتذكيرهم بما وعد الله به الموحدين الصابرين
عن عبد الله بن مسعود قال: "أول من أظهر إسلامه سبعة: رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأبو بكر، وعمار، وأمه سمية، وصهيب، وبلال، والمقداد.
فأما رسول الله، صلى الله عليه وسلم، فمنعه الله بعمه، وأما أبو بكر، فمنعه الله بقومه، وأما سائرهم، فألبسهم المشركون أدراع الحديد، وصفدوهم في الشمس، وما فيهم أحد إلا وقد واتاهم على ما أرادوا إلا بلال، فإنه هانت عليه نفسه في الله، وهان على قومه، فأعطوه الولدان يطوفون به في شعاب مكة وهو يقول: أحد أحد "
وعن ابن عباس أنه ذكر الصحابة فقال " والله كانوا ليَضربون أحدَهم ويجيعونه ويعطشونه حتى ما يقدر أن يستوي جالسا من شدة الضر ، حتى يقولوا له : اللات والعزى إلهُك من دون الله؟ فيقول : نعم "
وعن عثمان رضي الله عنه قال أقبلت أنا والنبي، صلى الله عليه وسلم، في البطحاء حتى أتينا على عمار وأمه وأبيه وهم يعذبون، فقال ياسر للنبي، صلى الله عليه وسلم: الدهرّ هكذا _أي سنبقى العمر كله على هذه الحال من البلاء ؟، فقال له النبي، صلى الله عليه وسلم: " اصبر " ثم قال: "للهم اغفر لآل ياسر وقد فعلت "
وعنه رضي الله عنه أنه قال "صبراً آل ياسر فإن موعدكم الجنة" .
وعن خباب بن الأرت رضي الله عنه قال : « شَكَوْنا إِلى رسولِ الله صلى الله عليه وسلم وهو متوسِّد بُرْدة له في ظل الكعبة ، فقلنا: ألا تَسْتَنْصِرُ لنا؟ ألا تَدْعو الله لنا؟ فقال: قد كان مَنْ قبلكم يُؤخَذُ الرجل ، فيُحْفَر له في الأرض، فَيُجْعَلُ فيها، ثم يُؤْتَى بالمنشار، فيوضَعُ على رأْسه ، فيُجْعَلُ نصفين ، ويُمْشَط بأمشاط الحديد ما دون لحمه وعظمه ، ما يَصدُّه ذلك عن دينه ، والله لَيُتِمَّنَّ اللهُ هذا الأمرَ حتى يَسيرَ الراكبُ من صنعاءَ إِلى حَضْرَمَوْتَ ، لا يخاف إِلا اللهَ والذئبَ على غنمه ، ولكنَّكم تستعجلون». أخرجه البخاري.
ولم يكن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم آنذاك جبناء ولا أذلة في نفوسهم بل كانوا متشوفين للدفاع عن أنفسهم والانتقام من عدو الله وعدوهم.
لم يكونوا لِيهون عليهم ما يرون فيه أنفسهم وإخوانهم ممن يعذب في ذات الله ولم تكن قلوبهم حجارةً صماءَ لا تحزن ولا تتألم وهي ترى ما ينزل من العذاب على إخوانهم في الدين ولكنهم منعوا من الجهاد بالسيف فسمعوا وأطاعوا وقدموا داعي الشرع على داعي العاطفة والحماس فأفلحوا أورد القرطبي عن ابن عباس أن عبد الرحمن بن عوف وأصحاباً له أتوا النبي صلى الله عليه وسلم بمكة فقالوا: يا نبي الله، كنا في عز ونحن مشركون، فلما آمنا صرنا أذلة _أي يعذبنا أهل مكة ولا نرد عن أنفسنا_ ؟ فقال: (إني أمرت بالعفو فلا تقاتلوا القوم).
وكانت لله في ذلك الحكمة البالغة فإنهم لو قاتلوا عدوهم مع ضعفهم وقلتهم لاستأصلهم وأفناهم
ولما هاجر النبي صلى الله عليه وسلم إلى المدينة ومن الله عليه بالعدد والعدة وتهيأ له العضد والنصر واستكملت الأسباب الحسية والمعنوية جاء الإذن من الله بجهاد المشركين بالسيف لا رغبة في سفك الدماء وإزهاق الأرواح والتوسع في الديار والأموال والغنائم ولكن لإخراج الناس من عبادة الأوثان والأصنام والأنبياء والأولياء والصالحين إلى عبادة الله وحده
فقد كانت هذه هي القضية العظمى التي قررها النبي صلى الله عليه وسلم في قلوب أمته الذين استجابوا لدعوته رباهم على هذا المبدأ لوحده في مكة ثلاثة عشر عاماً ورباهم عليه مع بقية شرائع الإسلام في المدينة عشرة أعوام حتى لحق بربه صلوات الله وسلامه عليه.
فما جاهد النبي صلى الله عليه وسلم إلا بقوم قد حققوا توحيد الله في أنفسهم وفي ديارهم فانطلق جنود الإسلام وأسوده يحاربون مَنْ كفر بالله فإن أسلموا كفُّوا عنهم وإن أبَوْا أخذوا منهم الجزية إن كانوا من أهلها وإن أبَوْا استعانوا بالله وقاتلوهم .
لم يكن القصد من القتال الفوزَ بمطامع دنيوية من حكم وإمارة ودولة وإنما القصد تحقيق التوحيد الذي هو إفراد الله بالعبادة وتطبيق شرع الله في هذا الباب قبل غيره لأنه الأساس.
لما كان الجهاد قائما على الشرع في غايته وأهدافه قد تحققت شروطه التي أمر الله بها من إخلاص الدين له واجتماع الكلمة وإعداد العدة التي ترهب عدو الله وعدونا جاء النصر الموعود به في قوله تعالى (ولينصرن الله من ينصره) وفي قوله تعالى (إن تنصروا الله ينصركم) وفي قوله تعالى (ولقد سبقت كلمتنا لعبادنا المرسلين إنهم لهم المنصورون وإن جندنا لهم الغالبون) وفي غيرها من النصوص الإلهية والنبوية.
لقد أورث ذلك الجهادُ الإسلامَ والمسلمينَ عزاً ومجداً ورفعة وذكراً حارت فيه العقول والأفهام ولكن من عرف سنن الله في عباده لا يحار ولا يعجب فإن الله لا يخلف الميعاد وأمره إذا أراد شيئاً فإنما يقول له كن فيكون.
لقد شُرعَ الجهاد بعد الهجرة وفي عشر سنوات فقط دانت الجزيرة العربية لدين الله ودخل الناس في دين الله أفواجاً .
واستلم الراية من بعد محمد صلى الله عليه وسلم خلفاؤه الراشدون ومَن بعدهم فواصلوا مسيرة الجهاد ليعبد اللهُ وحده فطوى الله لهم مشارق الأرض ومغاربها وأورثهم الشام والعراق وفارس والسند ومصر وشمال أفريقية وغربها كل ذلك في غضون خمسين سنة تقريباً من هجرة النبي صلى الله عليه وسلم (وكان وعداً مفعولاً).
فهذه هي ثمرة الجهاد الشرعي نصرُ الإسلام وعزةٌ المسلمين وهزيمةُ الشرك وذلةُ المشركين.
نسأل الله أن يصلح أحوال المسلمين وأن يولي عليهم خيارهم وأن يقيم علم الجهاد حقاً وصدقاً إنه سميع مجيب
بعد ذلك العرض الموجز لشيء من ثمرة الجهاد الشرعي يحق لنا أن نتساءل ونحن نرى الانتكاساتِ المتلاحقة والإخفاقاتِ المتوالية لما يسمى في هذه الأزمنة بالجهاد الإسلامي لقد ذهبت فيه عقود طويلة وذهب فيه مئات الألوف من الأنفس إن لم تصل للملايين وذهبت فيه من الأموال والجهود ما لا يعلمه إلا الله ثم لم تكن النتيجة المشاهدة اليوم إلا مزيداً من تسلط العدو ومزيداً من سفك الدماء ومزيداً من الذل والهوان الذي يصب على المسلمين في غير بقعة من بقاع العالم الإسلامي.
لم ينعم بلد من تلك البلدان المعنية بنعمة أمن ولم يتحرر من عدو مغتصب بل لا يزال يتلقى الضربات بعد الضربات بيد بعضهم أو بيد عدوهم.
ولو كان جهاداً حقاً كما شرع الله لرأينا وعد الله يتجلى بالنصر والتمكين فإن الله لا يخلف وعده.
إن من أبرز أسباب مآسي المسلمين وهي كثيرة أن تبتلى بمغامرين يغامرون بالشعوب والبلدان من أجل مصالح حركية وحزبية لا يبالون في سبيل بقاء الحزب ما يَحلُّ بشعوبهم المسلمة من قتل وتدمير ومذابح ومجازر فما دام الحزب قائماً لم يسقط، والحركةُ حيةً لم تمت. فإذاً هم المنتصرون وإن قُتل الألوف من النساء والصبيان والأبرياء وإن دمرت البيوت والأحياء والمدن.
هذا هو المنطق الذي يتردد ويصدقه كثير من الناس وللأسف ..
لقد ابتليت الأمة بمغامرين عبر تاريخها أوردوها المهالك كما حصل أواسط القرن السابع الهجري يوم غامر بعض قادة المسلمين فتحرش بعدو لا قبل للمسلمين به فلقي منه المسلمون مالا يخطر على بال انتهى بتقويض الخلافة في بغداد بعد أن اكتسح المشرق الإسلامي كله ولولا أن الله تكفل بحفظ دينه لذهب الإسلام في تلك الفتنة.
وابتلي المسلمون بمغامرين اليوم ورطوا المسلمين في ورطات كبرى جعلت للكافرين على المسلمين سبيلاً وأي سبيل.
أيها الإخوة :
هذا الكلام وما هو أقوى منه مما يصرح به كبار علماء الأمة وعقلائها يفسره كثير من الناس على أنه من قبيل الجبن والخور والتخذيل وينزّلون عليه الآيات التي نزلت على المنافقين وهو من التلبيس الباطل لأن التخذيل الذي ذمه الله ويذمه كل مؤمن إنما يكون عن الجهاد المشروع لا عن القتال المذموم.
ليست كلٌّ دعوة إلى حقن الدماء تخذيلاً. لقد صالح النبي صلى الله عليه وسلم كفار مكة على وضع الحرب وحقْنِ الدماء فهل كان بذلك محارباً للجهاد والمجاهدين
لقد اختار خالد بن الوليد الرجوع بالجيش في مؤتة والانسحابَ من المعركة لعدم التكافؤ بين جيش الصحابة وجيش الروم فهل ذمه النبي صلى الله عليه وسلم؟ لا بل مدحه وسمى عمله ذلك فتحاً .
وهل الدعوة إلى حقن دماء المستضعفين في غزة والجنوح إلى الصلح والسلم ولو بشروط فيها غضاضة على المسلمين دعوُة نفاق وتخدير لا تصدر من مؤمن كما يقال اليوم..
لا والله بل هو الأمر الذي يفرضه الشرع الحنيف ويقره العقل السليم، فإلى متى والعدو يقتل الأنفس ويهلك الحرث والنسل ونحن لا نملك إلا الوعودَ بالنصر والتهديدَ بالويل والثبور على اليهود على حد المثل العربي (أوسعتهم سباً وساروا بالإبل)
إن اليهود قتلة الأنبياء فكيف يستكثر عليهم تعمد قتل الأطفال والنساء والمدنيين أو يستغرب منهم ذلك، وإنهم لن يوقفهم الصراخ ولا البكاء ولا العويل بل لا يوقفهم بعد أمر الله إلا قوة مكافئة إذ (لا يفل الحديد إلا الحديد) وليست بأيدينا اليوم هذه القوة المطلوبة فليس في اليد إلا الميل لما فيه حقن الدماء وتخفيف المحنة وتقليل الشر ما أمكن.
نسأل الله أن يلهم أصحاب القرار في المسلمين ما فيه خير وعز للإسلام وأهله وأن يصرفهم عن كل ما فيه شر للإسلام وأهله كما نسأله سبحانه أن يحسن لهم البطانة وأن يريهم الحق حقاً ويرزقهم اتباعه وأن يريهم الباطل باطلاً ويرزقهم اجتنابه.
اللهم أعز الإسلام والمسلمين
منقول