أهمية توحيد العبادة
لفضيلة الشيخ عبد المحسن بن حمد العباد البدر
الطبعة الأولى 1429هـ
بسم الله الرحمن الرحيم
لفضيلة الشيخ عبد المحسن بن حمد العباد البدر
الطبعة الأولى 1429هـ
بسم الله الرحمن الرحيم
مقدمة
الحمد لله الذي قال في كتابه المبين: ﴿وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُون﴾ [الذاريات: 56]، وقال: ﴿الْحَمْدُ لِلّهِ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ وَجَعَلَ الظُّلُمَاتِ وَالنُّورَ ثُمَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ بِرَبِّهِم يَعْدِلُونَ﴾ [الأنعام: 1]، وأشهد أن لا إله إلا الله ولا نعبد إلا إيّاه مخلصين له الدين ولو كره الكافرون، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله أرسله بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله ولو كره المشركون، اللهم صلّ وسلم وبارك عليه وعلى آله وأصحابه ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.
أما بعد، فإن أوجب الواجبات وأهم المهمات إخلاص العبادة لرب الأرض والسماوات، وعدم صرف شيء منها لأحد من المخلوقات؛ لأنه للتكليف بتوحيد العبادة خُلق الجن والإنس، ولبيانه والدعوة إليه أنزلت الكتب وأُرسلت الرسل، وبسبب قبوله ورده حصل الانقسام إلى مؤمنين وكافرين وسعداء وأشقياء، ولا شك أن حاجة كل إنسان إلى معرفة هذا التوحيد والتعبد به فوق كل حاجة، وضرورته إليه فوق كل ضرورة؛ لأن في ذلك سعادة الدنيا والآخرة، وهذا التوحيد هو مقتضى شهادة أن لا إله إلا الله المشتملة على ركنين: نفي عام وهو نفي العبادة عن كل من سوى الله، وإثبات خاص وهو إثباتها لله وحده، وإخلاص العمل لله أحد شرطي قبول العمل المتقرب به إلى الله، والشرط الثاني المتابعة للرسول صلى الله عليه وسلم، وهو مقتضى شهادة أن محمداً رسول الله صلى الله عليه وسلم، والعمل المقبول عند الله هو ما كان خالصاً لله ومطابقاً لما جاء به رسول الله صلى الله عليه وسلم، وإذا فُقد شرط الإخلاص رُد العمل؛ لقول الله عز وجل: ﴿وَقَدِمْنَا إِلَى مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاء مَّنثُورًا﴾ [الفرقان: 23]، وقوله تعالى في الحديث القدسي: «أنا أغنى الشركاء عن الشرك، من عمل عملاً أشرك فيه معي غيري تركته وشركه» رواه مسلم (7475) عن أبي هريرة رضي الله عنه، وإذا فُقد شرط المتابعة رُدَّ العمل؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: «من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد» رواه البخاري (2697) ومسلم (4492) من حديث عائشة رضي الله عنها، وفي لفظ لمسلم (4493): «من عمل عملا ليس عليه أمرنا فهو رد»، والرواية الثانية أعم من الأولى؛ لأنها تشمل من أحدث ومن تابع من أحدث.
ولأهمية توحيد العبادة وأنه ينبغي العناية به من العلماء والدعاة إلى الله عز وجل رأيت كتابة هذه الكلمات، وأسأل الله عز وجل أن يوفق المسلمين للفقه في الدين والثبات على الحق وإخلاص العمل لله والمتابعة لرسوله صلى الله عليه وسلم، إنه سميع مجيب.
خلق الجن والإنس لتكليفهم بالعبادة
خلق الله الجن والإنس لعبادته، وأمرهم بتوحيده وطاعته، وقد انقسموا إلى قسمين سعيد وشقي، وعاص ومطيع، فمن أطاعه دخل الجنّة ومن عصاه دخل النار، قال الله عز وجل: ﴿وَلَوْ شِئْنَا لآتَيْنَا كُلَّ نَفْسٍ هُدَاهَا وَلَكِنْ حَقَّ الْقَوْلُ مِنِّي لأَمْلأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ﴾[السجدة: 13]، وكلهم مأمورون منهيون، وهم مع هذا الأمر والنهي موفَّقون ومخذولون، ومعنى خَلْقهم للعبادة أي لتكليفهم وابتلائهم بها، وقيل: المراد بقوله: ﴿إِلاَّ لِيَعْبُدُون﴾ مَن آمن منهم، قال القرطبي في تفسيره: «قيل: إن هذا خاص فيمن سبق في علم الله أنه يعبده، فجاء بلفظ العموم ومعناه الخصوص، والمعنى: وما خلقت أهل السعادة من الجن والإنس إلاّ ليوحدون»، وقال ابن كثير في تفسيره: «أي: إنما خلقتهم لآمرهم بعبادتي لا لاحتياجي إليهم»، وقال شيخنا الشيخ محمد الأمين الشنقيطي في (أضواء البيان: 7/ 714 ـ 715): «والتحقيق ـ إن شاء الله ـ في معنى هذه الآية الكريمة ﴿إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ﴾ أي: إلاّ لآمرهم بعبادتي وأبتليهم، أي: أختبرهم بالتكاليف ثم أجازيهم على أعمالهم، إن خيراً فخير وإن شراً فشر، وإنما قلنا: إن هذا هو التحقيق في معنى الآية؛ لأنه تدل عليه آيات محكمات من كتاب الله، فقد صرّح تعالى في آيات من كتابه أنه خلقهم ليبتليهم أيهم أحسن عملاً، وأنه خلقهم ليجزيهم بأعمالهم، قال تعالى في أول سورة هود: ﴿وَهُوَ الَّذِي خَلَق السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَكَانَ عَرْشُهُ عَلَى الْمَاءِ﴾، ثم بيَّن الحكمة في ذلك فقال: ﴿لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً وَلَئِن قُلْتَ إِنَّكُم مَّبْعُوثُونَ مِن بَعْدِ الْمَوْتِ لَيَقُولَنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ إِنْ هَـذَا إِلاَّ سِحْرٌ مُّبِينٌ﴾، وقال تعالى في أول سورة الملك: ﴿الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً وَهُوَ الْعَزِيزُ الْغَفُورُ﴾، وقال تعالى في أول الكهف: ﴿إِنَّا جَعَلْنَا مَا عَلَى الأَرْضِ زِينَةً لَّهَا لِنَبْلُوَهُمْ أَيُّهُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً﴾ الآية، فتصريحه ـ جلّ وعلا ـ في هذه الآيات المذكورة بأن حكمة خلقه للخلق هي ابتلاؤهم أيهم أحسن عملاً يفسر قوله: ﴿إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ﴾، وخير ما يفسر به القرآن القرآن».
توحيد العبادة هو حق الله على عباده
روى البخاري (5967) ومسلم (143) عن معاذ بن جبل رضي الله عنه قال: «بينا أنا رديف النبي صلى الله عليه وسلم ليس بيني وبينه إلا آخرة الرحل، فقال: يا معاذ! قلت: لبيك رسول الله وسعديك، ثم سار ساعة ثم قال: يا معاذ! قلت: لبيك رسول الله وسعديك، ثم سار ساعة ثم قال: يا معاذ! قلت: لبيك رسول الله وسعديك، قال: هل تدري ما حق الله على عباده؟ قلت: الله ورسوله أعلم، قال: حق الله على عباده أن يعبدوه ولا يشركوا به شيئاً، ثم سار ساعة ثم قال: يا معاذ بن جبل! قلت: لبيك رسول الله وسعديك، قال: هل تدري ما حق العباد على الله إذا فعلوه؟ قلت: الله ورسوله أعلم، قال: حق العباد على الله أن لا يعذبهم».
فقد اشتمل هذا الحديث على بيان حق الله على عباده، وهو إفراده بالعبادة وترك الإشراك به، واشتمل على اهتمامه صلى الله عليه وسلم وعنايته ببيان هذا التوحيد، وذلك بندائه معاذاً رضي الله عنه ثلاث مرات متفرقات، ثم قوله صلى الله عليه وسلم بعد ذلك: «هل تدري ما حق الله على عباده؟»، والمراد من هذا التمهيد بهذا النداء والسؤال أن يتهيّأ معاذ رضي الله عنه لمعرفة واستيعاب ما يقوله له رسول الله صلى الله عليه وسلم، وذلك دال على كمال بيانه صلى الله عليه وسلم وكمال نصحه صلوات الله وسلامه وبركاته عليه، وقد أورد شيخ الإسلام محمد بن عبد الوهاب رحمه الله هذا الحديث في مطلع كتابه «كتاب التوحيد الذي هو حق الله على العبيد» وأخذ تسميته منه.
دعوة الرسل إلى توحيد العبادة
بعث الله في كل أمة رسولاً بلسانها يدعوها إلى التوحيد ويحذِّرها من الشرك ويدلّها على خير ما يعلمه لها ويحذّرها من شرّ ما يعلمه لها، قال الله عز وجل: ﴿وَمَا أَرْسَلْنَا مِن رَّسُولٍ إِلاَّ بِلِسَانِ قَوْمِهِ لِيُبَيِّنَ لَهُمْ﴾ [إبراهيم: 4]، وقال: ﴿وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَّسُولاً أَنِ اعْبُدُواْ اللّهَ وَاجْتَنِبُواْ الطَّاغُوتَ﴾ [النحل: 36]، وقال: ﴿يُنَزِّلُ الْمَلآئِكَةَ بِالْرُّوحِ مِنْ أَمْرِهِ عَلَى مَن يَشَاء مِنْ عِبَادِهِ أَنْ أَنذِرُواْ أَنَّهُ لاَ إِلَـهَ إِلاَّ أَنَاْ فَاتَّقُونِ﴾ [النحل: 2]، وقال: ﴿وَمَا أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ مِن رَّسُولٍ إِلاَّ نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لاَ إِلَهَ إِلاَّ أَنَا فَاعْبُدُونِ﴾ [الأنبياء: 25]، وفي صحيح مسلم (4776) من حديث عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «إنه لم يكن نبي قبلي إلاّ كان حقاً عليه أن يدل أمته على خير ما يعلمه لهم، وينذرهم شر ما يعلمه لهم»، وقال صلى الله عليه وسلم: «تركتكم على مثل البيضاء، ليلها كنهارها، لا يزيغ عنها إلا هالك» حديث صحيح رواه ابن أبي عاصم في السّنّة (48) من حديث العرباض بن سارية رضي الله عنه، ورواه أيضاً (47) من حديث أبي الدرداء رضي الله عنه.
ففي هذه الآيات الدلالة إجمالاً على أن كل رسول دعا أمته إلى التوحيد وحذّرها من الشرك، وقد جاءت الآيات إجمالاً في بيان كفر أقوامهم بهم وبقائهم على ملّة آبائهم، قال الله عز وجل: ﴿أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَبَأُ الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ قَوْمِ نُوحٍ وَعَادٍ وَثَمُودَ وَالَّذِينَ مِن بَعْدِهِمْ لاَ يَعْلَمُهُمْ إِلاَّ اللّهُ جَاءتْهُمْ رُسُلُهُم بِالْبَيِّنَاتِ فَرَدُّواْ أَيْدِيَهُمْ فِي أَفْوَاهِهِمْ وَقَالُواْ إِنَّا كَفَرْنَا بِمَا أُرْسِلْتُم بِهِ وَإِنَّا لَفِي شَكٍّ مِّمَّا تَدْعُونَنَا إِلَيْهِ مُرِيبٍ قَالَتْ رُسُلُهُمْ أَفِي اللّهِ شَكٌّ فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ يَدْعُوكُمْ لِيَغْفِرَ لَكُم مِّن ذُنُوبِكُمْ وَيُؤَخِّرَكُمْ إِلَى أَجَلٍ مُّسَـمًّى قَالُواْ إِنْ أَنتُمْ إِلاَّ بَشَرٌ مِّثْلُنَا تُرِيدُونَ أَن تَصُدُّونَا عَمَّا كَانَ يَعْبُدُ آبَآؤُنَا فَأْتُونَا بِسُلْطَانٍ مُّبِينٍ﴾ [إبراهيم: 9ـ 10]، وقال: ﴿وَمَا أَرْسَلْنَا فِي قَرْيَةٍ مِّن نَّذِيرٍ إِلاَّ قَالَ مُتْرَفُوهَا إِنَّا بِمَا أُرْسِلْتُم بِهِ كَافِرُون﴾ [سبأ: 34]، وقال: ﴿وَكَذَلِكَ مَا أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ فِي قَرْيَةٍ مِّن نَّذِيرٍ إِلاَّ قَالَ مُتْرَفُوهَا إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِم مُّقْتَدُون﴾ [الزخرف: 23]، وقال: ﴿كَذَلِكَ مَا أَتَى الَّذِينَ مِن قَبْلِهِم مِّن رَّسُولٍ إِلاَّ قَالُوا سَاحِرٌ أَوْ مَجْنُونٌ﴾ [الذاريات: 52].
وهذا الإجمال في دعوة الرسل إلى التوحيد وردِّ أممهم عليهم جاء مفصلاً في قصص الأنبياء في القرآن الكريم، قال الله عز وجل عن نوح في سورة الأعراف: ﴿لَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى قَوْمِهِ فَقَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُواْ اللَّهَ مَا لَكُم مِّنْ إِلَـهٍ غَيْرُهُ إِنِّيَ أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ﴾ [الأعراف: 59]، وقال في سورة هود: ﴿وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى قَوْمِهِ إِنِّي لَكُمْ نَذِيرٌ مُّبِين أَن لاَّ تَعْبُدُواْ إِلاَّ اللّهَ إِنِّيَ أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ أَلِيمٍ﴾ [هود: 25ـ 26]، وقال في سورة المؤمنون: ﴿وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى قَوْمِهِ فَقَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُم مِّنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ أَفَلاَ تَتَّقُونَ﴾ [المؤمنون: 23]، وقال في سورة الشعراء: ﴿كَذَّبَتْ قَوْمُ نُوحٍ الْمُرْسَلِينَ إِذْ قَالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ نُوحٌ أَلاَ تَتَّقُونَ إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ وَمَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلاَّ عَلَى رَبِّ الْعَالَمِينَ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُون﴾ [الشعراء: 105ـ 110]، وقال في سورة نوح: ﴿إِنَّا أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى قَوْمِهِ أَنْ أَنذِرْ قَوْمَكَ مِن قَبْلِ أَن يَأْتِيَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ قَالَ يَا قَوْمِ إِنِّي لَكُمْ نَذِيرٌ مُّبِينٌ أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاتَّقُوهُ وَأَطِيعُونِ﴾ [نوح: 1ـ 3].
وقال عن ردّ قومه عليه في سورة المؤمنون: ﴿فَقَالَ الْمَلأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِن قَوْمِهِ مَا هَذَا إِلاَّ بَشَرٌ مِّثْلُكُمْ يُرِيدُ أَن يَتَفَضَّلَ عَلَيْكُمْ وَلَوْ شَاء اللَّهُ لأَنزَلَ مَلاَئِكَةً مَّا سَمِعْنَا بِهَذَا فِي آبَائِنَا الأَوَّلِينَ﴾ [المؤمنون: 24]، وقال في سورة نوح: ﴿وَقَالُوا لاَ تَذَرُنَّ آلِهَتَكُمْ وَلاَ تَذَرُنَّ وَدًّا وَلاَ سُوَاعًا وَلاَ يَغُوثَ وَيَعُوقَ وَنَسْرًا﴾ [نوح: 23]، وقد أوردت في التقديم لكتابَيْ تطهير الاعتقاد وشرح الصدور للصنعاني والشوكاني آيات مفصلة لدعوة عدد من الرسل من بعد نوح ورد بعض قومهم عليهم، وهم هود وصالح وإبراهيم ولوط وشعيب ويعقوب وموسى وعيسى وسليمان وإلياس ويونس ويوسف ومحمد عليهم الصلاة والسلام.
أقسام التوحيد ودلالة بعضها على بعض
أقسام التوحيد ثلاثة: توحيد الربوبية، وتوحيد الألوهية، وتوحيد الأسماء والصفات، فتوحيد الربوبية توحيد الله تعالى بأفعاله كالخلق والرَّزق والإحياء والإماتة وغيرها من أفعاله التي اختص بها ولم يشاركه فيها أحد.
وتوحيد الألوهية توحيده تعالى بأفعال العباد كالدعاء والخوف والرجاء والرغبة والرهبة والتوكل والإنابة والاستغاثة والاستعاذة والذبح والنذر وغيرها من أفعال العباد، فإنه يجب أن يخصوا الله بها ولا يجعلوا له شريكاً فيها.
وتوحيد الأسماء والصفات توحيده بأسمائه وصفاته، وذلك بإثبات ما جاء في الكتاب والسنّة من أسماء الله وصفاته على الوجه اللائق بكماله وجلاله من غير تكييف أو تشبيه أو تمثيل، ومن غير تحريف أو تعطيل أو تأويل، كما بيَّن الله ذلك بقوله: ﴿لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ﴾ [الشورى: 11]، فأثبت لنفسه السمع والبصر، ونفى مشابهة غيره له.
والدليل على هذا التقسيم استقراء نصوص الكتاب والسّنّة، فإنها دلت على توحيد الله في ربوبيته وألوهيته وأسمائه وصفاته، ويتضح ذلك بأول سورة في القرآن وآخر سورة فيه، ففي قول الله عز وجل: ﴿الْحَمْدُ للّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ﴾ إثبات توحيد الألوهية؛ وذلك بحمد العباد ربهم، وتوحيد الربوبية بقوله: ﴿رَبِّ الْعَالَمِينَ﴾، ومن أسماء الله في هذه الآية لفظ الجلالة والرب كما في قوله: ﴿سَلاَمٌ قَوْلاً مِن رَّبٍّ رَّحِيم﴾ [يس: 58]، وفي قول الله تعالى: ﴿الرَّحْمـنِ الرَّحِيمِ﴾ إثبات توحيد الأسماء والصفات، وفي قوله: ﴿مَـلِكِ يَوْمِ الدِّينِ﴾: توحيد الربوبية، وفي قوله: ﴿إِيَّاكَ نَعْبُدُ وإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ﴾: توحيد الألوهية، وفي قوله: ﴿اهْدِنَا الصِّرَاطَ المُستَقِيمَ﴾ إلى آخر السورة: توحيد الألوهية.
وفي قول الله عز وجل: ﴿قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ﴾ توحيد الألوهية وهو الاستعاذة برب الناس، وتوحيد الربوبية والأسماء والصفات في: (ربِّ الناس)، وفي قوله: ﴿مَلِكِ النَّاسِ﴾ توحيد الربوبية وتوحيد الأسماء والصفات، وفي قوله: ﴿إِلَهِ النَّاسِ﴾ توحيد الألوهية وتوحيد الأسماء والصفات.
وتوحيدا الربوبية والأسماء والصفات مستلزمان لتوحيد الألوهية، وتوحيد الألوهية متضمن لهما؛ فإن من أقر بأن الله هو الخالق الرازق المحيي المميت وحده لزمه أن يعبد الله وحده ولا يجعل غيره شريكاً له في العبادة، ومن أقر بما جاء في الكتاب والسّنّة من الأسماء والصفات لزمه أن يعبد الله وحده لا شريك له، ومن كان مقراً بتوحيد الألوهية فهو مقر بتوحيد الربوبية وبتوحيد الأسماء والصفات؛ لأن من عبد الله وحده لا ينكر أن يكون خالقاً رازقاً محيياً مميتاً ولا ينكر أن يكون سميعاً بصيراً عليماً حكيماً.
وتوحيد الربوبية قد أقر به الكفار الذين بُعث فيهم رسول الله صلى الله عليه وسلم ولم يُدخلهم في الإسلام، وقد جاء في القرآن آيات كثيرة فيها تقرير توحيد الربوبية وإقرار الكفار بذلك لإلزامهم بتوحيد الألوهية، وأن من تفرد بالخلق والإيجاد وحده لزم أن يُعبد وحده، قال الله عز وجل: ﴿وَلَئِن سَأَلْتَهُم مَّنْ خَلَقَهُمْ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ فَأَنَّى يُؤْفَكُونَ﴾ [الزخرف: 87]، وقال: ﴿وَلَئِن سَأَلْتَهُم مَّنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ فَأَنَّى يُؤْفَكُونَ﴾ [العنكبوت: 61]، وقال: ﴿قُلْ مَن يَرْزُقُكُم مِّنَ السَّمَاء وَالأَرْضِ أَمَّن يَمْلِكُ السَّمْعَ والأَبْصَارَ وَمَن يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيَّتَ مِنَ الْحَيِّ وَمَن يُدَبِّرُ الأَمْرَ فَسَيَقُولُونَ اللّهُ فَقُلْ أَفَلاَ تَتَّقُونَ فَذَلِكُمُ اللّهُ رَبُّكُمُ الْحَقُّ فَمَاذَا بَعْدَ الْحَقِّ إِلاَّ الضَّلاَلُ فَأَنَّى تُصْرَفُونَ﴾ [يونس: 31ـ 32]، وقال: ﴿قُل لِّمَنِ الأَرْضُ وَمَن فِيهَا إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ أَفَلاَ تَذَكَّرُونَ قُلْ مَن رَّبُّ السَّمَاوَاتِ السَّبْعِ وَرَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ أَفَلاَ تَتَّقُونَ قُلْ مَن بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ يُجِيرُ وَلاَ يُجَارُ عَلَيْهِ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ فَأَنَّى تُسْحَرُونَ بَلْ أَتَيْنَاهُم بِالْحَقِّ وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ مَا اتَّخَذَ اللَّهُ مِن وَلَدٍ وَمَا كَانَ مَعَهُ مِنْ إِلَهٍ إِذًا لَّذَهَبَ كُلُّ إِلَهٍ بِمَا خَلَقَ وَلَعَلاَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يَصِفُونَ عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ﴾ [المؤمنون: 84 ـ 92]، وقال: ﴿قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ وَسَلاَمٌ عَلَى عِبَادِهِ الَّذِينَ اصْطَفَى آللَّهُ خَيْرٌ أَمَّا يُشْرِكُونَ أَمَّنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ وَأَنزَلَ لَكُم مِّنَ السَّمَاء مَاء فَأَنبَتْنَا بِهِ حَدَائِقَ ذَاتَ بَهْجَةٍ مَّا كَانَ لَكُمْ أَن تُنبِتُوا شَجَرَهَا أَإِلَهٌ مَّعَ اللَّهِ بَلْ هُمْ قَوْمٌ يَعْدِلُونَ أَمَّن جَعَلَ الأَرْضَ قَرَارًا وَجَعَلَ خِلاَلَهَا أَنْهَارًا وَجَعَلَ لَهَا رَوَاسِيَ وَجَعَلَ بَيْنَ الْبَحْرَيْنِ حَاجِزًا أَإِلَهٌ مَّعَ اللَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ أَمَّن يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ وَيَجْعَلُكُمْ خُلَفَاء الأَرْضِ أَإِلَهٌ مَّعَ اللَّهِ قَلِيلاً مَّا تَذَكَّرُونَ أَمَّن يَهْدِيكُمْ فِي ظُلُمَاتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَمَن يُرْسِلُ الرِّيَاحَ بُشْرًا بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ أَإِلَهٌ مَّعَ اللَّهِ تَعَالَى اللَّهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ أَمَّن يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَمَن يَرْزُقُكُم مِّنَ السَّمَاء وَالأَرْضِ أَإِلَهٌ مَّعَ اللَّهِ قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ﴾ [النمل: 59 ـ 64]، ففي كلٍّ من هذه الآيات الخمس من سورة النمل قُرر توحيد الربوبية لإلزام الكفار بتوحيد الألوهية، وذلك في قوله في آخر كل آية قُرر فيها توحيد الربوبية: ﴿أَإِلَهٌ مَّعَ اللَّهِ﴾.
أول مأمور به وأول منهي عنه
لما بعث الله رسوله محمداً صلى الله عليه وسلم بالحق والهدى كان أول شيء دعا إليه الأمر بعبادة الله وحده والنهي عن الإشراك به، ففي مسند الإمام أحمد (16603) بإسناد صحيح على شرط الشيخين عن شيخ من بني مالك ابن كنانة قال: «رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم بسوق ذي المجاز يتخللها يقول: يا أيها الناس! قولوا لا إله إلا الله تفلحوا» الحديث، ولما بعث رسولُ الله صلى الله عليه وسلم معاذاً إلى اليمن وضع له المنهج الذي يسير عليه في الدعوة إلى الله، وكان أول شيء أمره بالدعوة إليه التوحيد، قال له عليه الصلاة والسلام: «إنَّك تقدم على قوم أهل كتاب، فليكن أول ما تدعوهم إليه عبادة الله» الحديث، رواه البخاري (1458) ومسلم (123) من حديث عبد الله بن عباس رضي الله عنهما.
أفضل الأعمال التوحيد وأعظم الذنوب الشرك
التوحيد أفضل عمل؛ فعن أبي هريرة رضي الله عنه: «أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سئل: أيُّ العمل أفضل؟ قال: إيمان بالله ورسوله، قيل: ثم ماذا؟ قال: الجهاد في سبيل الله، قيل: ثم ماذا؟ قال: حج مبرور» رواه البخاري (26) ومسلم (248).
والشرك أعظم ذنب عُصي الله به؛ لحديث ابن مسعود رضي الله عنه قال: «سألت النبي صلى الله عليه وسلم: أي الذنب أعظم عند الله؟ قال: أن تجعل لله نداً وهو خلقك» الحديث، رواه البخاري (4477) ومسلم (257).
ولهذا، فإن من مات على التوحيد إما أن لا يدخل النار، وإما أن يدخلها لكن لا يخلد فيها فمآله إلى الجنّة، ومن مات على الكفر فليس له إلا النار خالداً فيها لا يخرج منها أبداً؛ قال الله عز وجل: ﴿وَمَن يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتَ مِن ذَكَرٍ أَوْ أُنثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُوْلَـئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ وَلاَ يُظْلَمُونَ نَقِيرًا﴾ [النساء: 124]، وقال في آيتين من سورة النساء: ﴿إِنَّ اللّهَ لاَ يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَن يَشَاءُ﴾ [النساء: 48ـ 93]، وقال: ﴿إِنَّهُ مَن يُشْرِكْ بِاللّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللّهُ عَلَيهِ الْجَنَّةَ وَمَأْوَاهُ النَّارُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنصَارٍ﴾ [المائدة: 72].
أول أمر وأول نهي في القرآن الكريم
قال الله عز وجل: ﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُواْ رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الأَرْضَ فِرَاشاً وَالسَّمَاء بِنَاء وَأَنزَلَ مِنَ السَّمَاء مَاء فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَرَاتِ رِزْقاً لَّكُمْ فَلاَ تَجْعَلُواْ لِلّهِ أَندَاداً وَأَنتُمْ تَعْلَمُونَ﴾ [البقرة: 21 ـ 22]، هاتان الآيتان الكريمتان هما أول موضع في المصحف جاء فيه الأمر والنهي، وقد اشتملتا على أعظم مأمور به وهو عبادة الله عز وجل في قوله: ﴿اعْبُدُواْ رَبَّكُمُ﴾، وأعظم منهي عنه وهو الشرك في قوله: ﴿فَلاَ تَجْعَلُواْ لِلّهِ أَندَاداً وَأَنتُمْ تَعْلَمُونَ﴾.
وجاء في هاتين الآيتين بين الأمر بالعبادة والنهي عن الشرك الثناء على الله عز وجل بكونه رب الناس وخالقهم ورازقهم وخالق السماوات والأرض، وذلك يقتضي أن كل عاقل يجب عليه أن يخص الله بالعبادة ولا يجعل له شريكاً فيها.
بدء دعوته صلى الله عليه وسلم بالتوحيد وختمها بالتوحيد
عاش رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد أن بعثه الله رحمة للعالمين ثلاثاً وعشرين سنة بدأها بالدعوة إلى التوحيد، وقد مرَّ قريباً قوله صلى الله عليه وسلم لقومه: «يا أيها الناس! قولوا لا إله إلا الله تفلحوا»، وختمها بالتحذير من الشرك ووسائله، فعن جندب بن عبد الله البجلي رضي الله عنه قال: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم قبل أن يموت بخمس وهو يقول: «إنِّي أبرأ إلى الله أن يكون لي منكم خليل؛ فإن الله تعالى قد اتخذني خليلاً كما اتخذ إبراهيم خليلاً، ولو كنت متخذاً من أمتي خليلاً لاتخذت أبا بكر خليلاً، ألاَ وإن من كان قبلكم كانوا يتخذون قبور أنبيائهم وصالحيهم مساجد، ألا فلا تتخذوا القبور مساجد، إني أنهاكم عن ذلك» رواه مسلم (1188)، وهذا الحديث الذي قاله صلى الله عليه وسلم قبل وفاته بخمس ليال يدل أوله على فضل أبي بكر رضي الله عنه وعلى الإشارة إلى أولويته بالخلافة من بعده، ويدل آخره على التحذير من الوقوع فيما ابتلي به من سبق هذه الأمة من اتخاذ قبور أنبيائهم وصالحيهم مساجد، وقد اشتمل هذا الحديث على التحذير من ذلك من وجوه، منها بيان أن هذا الفعل حصل ممن سبق هذه الأمة، والمراد منه التحذير من وقوع هذه الأمة في ذلك، ومنها النهي بلا الناهية الموجَّه إلى هذه الأمة في قوله صلى الله عليه وسلم: «ألا فلا تتخذوا القبور مساجد»، ومنها تأكيد ذلك بالجملة الخبرية المؤكدة بـ (إنَّ) في قوله: «إنّي أنهاكم عن ذلك»، ومنها تصدير كلامه صلى الله عليه وسلم بأداة التنبيه، وهي ألا، وهو يوضح اهتمامه صلى الله عليه وسلم بالتوحيد والنهي عن الوسائل المؤدية إلى الشرك، وهذا من كمال بيانه صلوات الله وسلامه وبركاته عليه وكمال نصحه لأمته عليه الصلاة والسلام.
ولم يكتف صلى الله عليه وسلم بهذا التحذير البليغ الذي قاله صلى الله عليه وسلم قبل أن يموت بخمس ليال، بل حذّر من ذلك في آخر لحظاته صلى الله عليه وسلم، ففي صحيحي البخاري (435، 436) ومسلم (1187) عن عائشة وابن عباس رضي الله عنهم قالا: «لما نَزَل برسول الله صلى الله عليه وسلم طفق يطرح خميصة له على وجهه، فإذا اغتم بها كشفها عن وجهه، فقال وهو كذلك: لعنة الله على اليهود والنصارى؛ اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد، يحذِّر ما صنعوا»، قال الحافظ ابن حجر في الفتح (1/532): «قوله: (لما نَزَل) كذا لأبي ذر بفتحتين، والفاعل محذوف أي الموت، ولغيره بضم النون وكسر الزاي»، وقال: «وكأنه صلى الله عليه وسلم علم أنه مرتحل من ذلك المرض فخاف أن يعظم قبره كما فعل من مضى، فلعن اليهود والنصارى إشارة إلى ذم من يفعل فعلهم، وقوله: (اتخذوا) جملة مستأنفة على سبيل البيان لموجب اللعن، وكأنه قيل: ما سبب لعنهم؟ فأجيب بقوله: (اتخذوا)، وقوله: (يحذر ما صنعوا) جملة أخرى مستأنفة من كلام الراوي، كأنه سئل عن حكمة ذكر ذلك في ذلك الوقت فأجيب بذلك»، وقال النووي في شرح صحيح مسلم (5/13): «قال العلماء: إنما نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن اتخاذ قبره وقبر غيره مسجداً خوفاً من المبالغة في تعظيمه والافتتان به، فربما أدى ذلك إلى الكفر كما جرى لكثير من الأمم الخالية».
بدء الحياة السعيدة وختمها بالتوحيد
الحياة السعيدة هي الحياة بالإسلام، وقد خلق الله عباده مفطورين على التوحيد؛ قال الله عز وجل: ﴿مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِّن ذَكَرٍ أَوْ أُنثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُم بِأَحْسَنِ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ﴾ [النحل: 97]، وقال: ﴿فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لاَ تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يَعْلَمُونَ﴾ [الروم: 30]، ومن وُلد من أبوين مسلمين كانا سبباً في ثباته على الفطرة وتنشئته على الدين الحنيف، ومن كان أبواه غير مسلمين كانا سبباً في صرفه عن الفطرة إلى الدين الباطل الذي كانا عليه؛ فعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: «ما من مولود إلا يولد على الفطرة، فأبواه يهوِّدانه أو ينصِّرانه أو يمجِّسانه» الحديث، رواه البخاري (1358) ومسلم (6755)، وفي حديث قدسي: «وإنّي خلقت عبادي حنفاء كلهم، وإنهم أتتهم الشياطين فاجتالتهم عن دينهم، وحرَّمَت عليهم ما أحللتُ لهم وأمَرَتْهم أن يشركوا بي ما لم أنزل به سلطانا» الحديث، رواه مسلم (7207) عن عياض بن حمار المجاشعي رضي الله عنه.
وكل كافر مدعو للدخول في دين الإسلام؛ لقول الله صلى الله عليه وسلم: ﴿وَاللّهُ يَدْعُو إِلَى دَارِ السَّلاَمِ وَيَهْدِي مَن يَشَاء إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ﴾ [يونس: 25]، فالدعوة عامة لكل أحد، والهداية خاصة بمن وفقه الله للدخول في الإسلام، ولقوله صلى الله عليه وسلم: «والذي نفس محمد بيده! لا يسمع بي أحد من هذه الأمة يهودي ولا نصراني ثم يموت ولم يؤمن بالذي أُرسلت به إلاّ كان من أصحاب النار» رواه مسلم (386) عن أبي هريرة رضي الله عنه.
وكما أن المسلم يبدأ حياته السعيدة بشهادة أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، فإنه يختمها بكلمة الإخلاص عند الموت؛ لحديث أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لقِّنوا موتاكم لا إله إلا الله» رواه مسلم (2125)، والمراد بالموتى من حضرتهم الوفاة لا من ماتوا؛ لأنه لا تلقين بعد الموت، وهو من إطلاق الميت على من قارب الموت، ولحديث معاذ رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من كان آخر كلامه لا إله إلا الله دخل الجنّة» رواه أبو داود (3116) وغيره بإسناد حسن، ولحديث معاذ شاهد من حديث أبي هريرة عند ابن حبان في صحيحه (2993)، ولفظه: «لقِّنوا موتاكم لا إله إلا الله؛ فإنه من كان آخر كلمته لا إله إلا الله عند الموت دخل الجنّة يوماً من الدهر، وإن أصابه قبل ذلك ما أصابه»، وانظر إرواء الغليل للشيخ الألباني رحمه الله (687).
ثواب المؤمنين وعقاب الكافرين
لما كان توحيد الله في عبادته أعظم عمل أطيع الله به جعل الله ثوابه دخول الجنّة والخلود فيها إلى غير نهاية، ولما كان الشرك بالله أعظم ذنب عُصي الله به جعل الله عقابه دخول النار والخلود فيها إلى غير نهاية، ولهذا قال تعالى: ﴿لِّلَّذِينَ أَحْسَنُواْ الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ﴾ [يونس: 26]، وقال: ﴿ثُمَّ كَانَ عَاقِبَةَ الَّذِينَ أَسَاؤُوا السُّوأَى﴾ [الروم: 10]، والحسنى الجنّة، والسوأى النار، وقد جمع الله في آيات كثيرة بين هذا الثواب للمؤمنين والعقاب للكافرين، ومن ذلك قول الله عز وجل: ﴿فَاتَّقُواْ النَّارَ الَّتِي وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ وَبَشِّرِ الَّذِين آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ كُلَّمَا رُزِقُواْ مِنْهَا مِن ثَمَرَةٍ رِّزْقاً قَالُواْ هَـذَا الَّذِي رُزِقْنَا مِن قَبْلُ وَأُتُواْ بِهِ مُتَشَابِهاً وَلَهُمْ فِيهَا أَزْوَاجٌ مُّطَهَّرَةٌ وَهُمْ فِيهَا خَالِدُونَ﴾ [البقرة: 24 ـ 25]، وقوله: ﴿إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ بِآيَاتِنَا سَوْفَ نُصْلِيهِمْ نَارًا كُلَّمَا نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ بَدَّلْنَاهُمْ جُلُودًا غَيْرَهَا لِيَذُوقُواْ الْعَذَابَ إِنَّ اللّهَ كَانَ عَزِيزًا حَكِيمًا وَالَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ سَنُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا لَّهُمْ فِيهَا أَزْوَاجٌ مُّطَهَّرَةٌ وَنُدْخِلُهُمْ ظِـلاًّ ظَلِيلاً﴾ [النساء: 56 ـ 57]، وقوله: ﴿إِنَّ الَّذِينَ كَذَّبُواْ بِآيَاتِنَا وَاسْتَكْبَرُواْ عَنْهَا لاَ تُفَتَّحُ لَهُمْ أَبْوَابُ السَّمَاء وَلاَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ حَتَّى يَلِجَ الْجَمَلُ فِي سَمِّ الْخِيَاطِ وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُجْرِمِينَ لَهُم مِّن جَهَنَّمَ مِهَادٌ وَمِن فَوْقِهِمْ غَوَاشٍ وَكَذَلِكَ نَجْزِي الظَّالِمِينَ وَالَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ لاَ نُكَلِّفُ نَفْسًا إِلاَّ وُسْعَهَا أُوْلَـئِكَ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِم مِّنْ غِلٍّ تَجْرِي مِن تَحْتِهِمُ الأَنْهَارُ وَقَالُواْ الْحَمْدُ لِلّهِ الَّذِي هَدَانَا لِهَـذَا وَمَا كُنَّا لِنَهْتَدِيَ لَوْلا أَنْ هَدَانَا اللّهُ لَقَدْ جَاءتْ رُسُلُ رَبِّنَا بِالْحَقِّ وَنُودُواْ أَن تِلْكُمُ الْجَنَّةُ أُورِثْتُمُوهَا بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ﴾ [الأعراف: 40 ـ 43]، وقوله: ﴿إِنَّهُ مَن يَأْتِ رَبَّهُ مُجْرِمًا فَإِنَّ لَهُ جَهَنَّمَ لاَ يَمُوتُ فِيهَا وَلاَ يَحْيى وَمَنْ يَأْتِهِ مُؤْمِنًا قَدْ عَمِلَ الصَّالِحَاتِ فَأُوْلَئِكَ لَهُمُ الدَّرَجَاتُ الْعُلَى جَنَّاتُ عَدْنٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَذَلِكَ جَزَاء مَن تَزَكَّى﴾ [طه: 74 ـ 76]، وقوله: ﴿أَفَمَن كَانَ مُؤْمِنًا كَمَن كَانَ فَاسِقًا لاَّ يَسْتَوُونَ أَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَلَهُمْ جَنَّاتُ الْمَأْوَى نُزُلاً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ وَأَمَّا الَّذِينَ فَسَقُوا فَمَأْوَاهُمُ النَّارُ كُلَّمَا أَرَادُوا أَن يَخْرُجُوا مِنْهَا أُعِيدُوا فِيهَا وَقِيلَ لَهُمْ ذُوقُوا عَذَابَ النَّارِ الَّذِي كُنتُم بِهِ تُكَذِّبُونَ﴾ [السجدة: 18 ـ 20]، وقوله: ﴿لِيُدْخِلَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَيُكَفِّرَ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَكَانَ ذَلِكَ عِندَ اللَّهِ فَوْزًا عَظِيمًا وَيُعَذِّبَ الْمُنَافِقِينَ وَالْمُنَافِقَاتِ وَالْمُشْرِكِينَ وَالْمُشْرِكَاتِ الظَّانِّينَ بِاللَّهِ ظَنَّ السَّوْءِ عَلَيْهِمْ دَائِرَةُ السَّوْءِ وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَلَعَنَهُمْ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَهَنَّمَ وَسَاءتْ مَصِيرًا﴾ [الفتح: 5 ـ 6]، وقوله: ﴿إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَالْمُشْرِكِينَ فِي نَارِ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا أُوْلَئِكَ هُمْ شَرُّ الْبَرِيَّةِ إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أُوْلَئِكَ هُمْ خَيْرُ الْبَرِيَّةِ عِندَ رَبِّهِمْ جَنَّاتُ عَدْنٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا رَّضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ ذَلِكَ لِمَنْ خَشِيَ رَبَّهُ﴾ [البينة: 6 ـ 8].
ومن كان مؤمناً وارتكب شيئاً من كبائر الذنوب ومات من غير توبة فأمره إلى الله عز وجل إن شاء عفا عنه وإن شاء عذّبه؛ كما قال الله عز وجل: ﴿إِنَّ اللّهَ لاَ يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَن يَشَاءُ﴾، وإذا لم يعف عنه وأدخله النار فإنه لا يخلِّده فيها، بل يخرجه منها ويدخله الجنّة، قال الله عز وجل: ﴿ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِّنَفْسِهِ وَمِنْهُم مُّقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِالْخَيْرَاتِ بِإِذْنِ اللَّهِ ذَلِكَ هُوَ الْفَضْلُ الْكَبِيرُ جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَهَا يُحَلَّوْنَ فِيهَا مِنْ أَسَاوِرَ مِن ذَهَبٍ وَلُؤْلُؤًا وَلِبَاسُهُمْ فِيهَا حَرِيرٌ وَقَالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَذْهَبَ عَنَّا الْحَزَنَ إِنَّ رَبَّنَا لَغَفُورٌ شَكُورٌ الَّذِي أَحَلَّنَا دَارَ الْمُقَامَةِ مِن فَضْلِهِ لاَ يَمَسُّنَا فِيهَا نَصَبٌ وَلاَ يَمَسُّنَا فِيهَا لُغُوبٌ﴾ [فاطر: 32 ـ 35]، فإنَّ الواو في قوله: ﴿جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَهَا﴾ ترجع إلى أصناف المسلمين الثلاثة، وأحدهم الظالم لنفسه، وهو الذي خلط عملاً صالحاً وآخر سيئاً، ومما قاله شيخنا الشيخ محمد الأمين الشنقيطي - رحمه الله - في كتابه أضواء البيان مستطرداً عند قول الله عز وجل من سورة النور: ﴿وَلاَ يَأْتَلِ أُوْلُوا الْفَضْلِ مِنكُمْ وَالسَّعَةِ﴾ الآية، قال: «والواو في ﴿يَدْخُلُونَهَا﴾ شاملة للظالم والمقتصد والسابق على التحقيق، ولذا قال بعض أهل العلم: حُق لهذه الواو أن تكتب بماء العينين، فوَعْده الصادق بجنات عدن لجميع أقسام هذه الأمة - وأولهم الظالم لنفسه - يدل على أن هذه الآية من أرجى آيات القرآن، ولم يبق من المسلمين أحد خارج عن الأقسام الثلاثة، فالوعد الصادق بالجنّة في الآية شامل لجميع المسلمين، ولذا قال بعدها متصلاً بها: ﴿وَالَّذِينَ كَفَرُوا لَهُمْ نَارُ جَهَنَّمَ لاَ يُقْضَى عَلَيْهِمْ فَيَمُوتُوا وَلاَ يُخَفَّفُ عَنْهُم مِّنْ عَذَابِهَا كَذَلِكَ نَجْزِي كُلَّ كَفُورٍ﴾ إلى قوله: ﴿فَمَا لِلظَّالِمِينَ مِن نَّصِيرٍ﴾».
وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «يُدخل اللهُ أهلَ الجنَّة الجنَّة، يُدخلُ مَن يشاء برحمته، ويُدخل أهلَ النار النار، ثم يقول: انظروا مَن وجدتُم في قلبه مثقال حبَّة من خردل من إيمان فأخرجوه، فيُخرَجون منها حُمَماً قد امتُحشوا، فيُلْقَون في نهر الحياة أو الحيا، فيَنبتُون فيه كما تنبُت الحبَّة إلى جانب السَّيل، ألَم تروها كيف تخرج صفراء مُلتوية؟» رواه البخاري (22) ومسلم (457) من حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه.
وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لكلِّ نَبِيٍّ دعوةٌ مستجابة، فتعجَّلَ كلُّ نَبِيٍّ دعوتَه، وإنِّي اختبأتُ دعوتِي شفاعة لأمَّتِي يوم القيامة، فهي نائلةٌ إن شاء الله مَن مات من أمَّتِي لا يُشرك بالله شيئاً» رواه البخاري (6304)، ومسلم (338) - واللفظ له - من حديث أبي هريرة رضي الله عنه، وأحاديثُ الشفاعة في خروج العُصاة من النار متواترةٌ.
وقال ابن القيم في كتابه الوابل الصيب (ص: 49): «ولما كان الناس على ثلاث طبقات: طيِّب لا يشينه خبث، وخبيث لا طيب فيه، وآخرون فيهم خبث وطيب كانت دورهم ثلاثة: دار الطيِّب المحض، ودار الخبيث المحض، وهاتان الداران لا تفنيان، ودار لمن معه خبث وطيب، وهي الدار التي تفنى، وهي دار العصاة، فإنه لا يبقى في جهنم من عصاة الموحدين أحد، فإنهم إذا عذِّبوا بقدر جزائهم أُخرجوا من النار فأُدخلوا الجنّة، ولا يبقى إلاّ دار الطيِّب المحض، ودار الخبيث المحض».
بيان سفاهة عقول الذين يعبدون مع الله غيره
إن كل إنسان منحه الله عقلاً سليماً وفهماً مستقيماً يعلم يقيناً أن منتهى السفه وأشد الجهل وأقبح الحمق وأعظم الإجرام أن يعمد مخلوق إلى مخلوق مثله كان عدماً فأوجده الله فيجعله شريكاً لله في العبادة، وقد بيَّن الله عز وجل في كتابه العزيز أن المشركين شر الدواب ونفى عنهم العقل، فقال: ﴿إِنَّ شَرَّ الدَّوَابَّ عِندَ اللّهِ الصُّمُّ الْبُكْمُ الَّذِينَ لاَ يَعْقِلُونَ﴾ [الأنفال: 22]، وقال: ﴿إِنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ عِندَ اللّهِ الَّذِينَ كَفَرُواْ فَهُمْ لاَ يُؤْمِنُونَ﴾ [الأنفال: 55]، وأخبر أنهم شر البرية، فقال: ﴿إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَالْمُشْرِكِينَ فِي نَارِ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا أُوْلَئِكَ هُمْ شَرُّ الْبَرِيَّة﴾ [البينة: 6]، وقد جاء في القرآن الكريم آيات كثيرة توضح ألوان سفه من عبد مع الله غيره، قال الله عز وجل: ﴿وَمَن يَرْغَبُ عَن مِّلَّةِ إِبْرَاهِيمَ إِلاَّ مَن سَفِهَ نَفْسَهُ وَلَقَدِ اصْطَفَيْنَاهُ فِي الدُّنْيَا وَإِنَّهُ فِي الآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِين﴾ [البقرة: 130]، قال ابن كثير في تفسير هذه الآية: «يقول تبارك وتعالى رداً على الكفار فيما ابتدعوه وأحدثوه من الشرك بالله المخالف لملّة إبراهيم الخليل إمام الحنفاء، فإنه جرَّد توحيد ربه تبارك وتعالى، فلم يدعُ معه غيره ولا أشرك به طرفة عين، وتبرَّأ من كل معبود سواه، وخالف في ذلك سائر قومه حتى تبرَّأ من أبيه» ثم أورد جملة من الآيات في ذلك، وقال: «فمن ترك طريقه هذا ومسلكه وملّته واتبع طرق الضلالة والغي فأي سفه أعظم من هذا؟! أم أي ظلم أكبر من هذا كله؟! كما قال تعالى: ﴿إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ﴾».
فمن سفاهات المشركين أنهم يشركون مع الله في عبادته مخلوقين مثلهم كانوا عدماً فأوجدهم الله ويسوُّونهم برب العالمين الذي هو الخالق وحده، وكل من سواه مخلوق، قال الله عز وجل: ﴿قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ وَسَلاَمٌ عَلَى عِبَادِهِ الَّذِينَ اصْطَفَى آللَّهُ خَيْرٌ أَمَّا يُشْرِكُونَ﴾ [النمل: 59]، فهم يسوُّون بين الله ومعبوداتهم التي يعبدونها معه، ولهذا جاء في الآيات الخمس بعد هذه الآية تقرير توحيد الله في ربوبيته وأنه يلزم من أقر بذلك أن يُفرده بالعبادة فلا يجعل له شريكا فيها، وفي آخر كل آية يقول: ﴿أَإِلَهٌ مَّعَ اللَّهِ﴾، وختم الآية الأولى ببيان أن الكفار يعدلون بالله غيره ويسوُّونه به، فقال: ﴿أَمَّنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ وَأَنزَلَ لَكُم مِّنَ السَّمَاء مَاء فَأَنبَتْنَا بِهِ حَدَائِقَ ذَاتَ بَهْجَةٍ مَّا كَانَ لَكُمْ أَن تُنبِتُوا شَجَرَهَا أَإِلَهٌ مَّعَ اللَّهِ بَلْ هُمْ قَوْمٌ يَعْدِلُونَ﴾ [النمل: 60]، وقال تعالى: ﴿الْحَمْدُ لِلّهِ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ وَجَعَلَ الظُّلُمَاتِ وَالنُّورَ ثُمَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ بِرَبِّهِم يَعْدِلُون﴾ [الأنعام: 1]، وقال: ﴿أَفَمَن يَخْلُقُ كَمَن لاَّ يَخْلُقُ أَفَلا تَذَكَّرُون﴾ [النحل: 17]، وأخبر عن اختصام المشركين ومن يدخل النار من معبوداتهم، واعترافهم بضلالهم لأنهم سووا معبوداتهم برب العالمين، قال الله عز وجل: ﴿قَالُوا وَهُمْ فِيهَا يَخْتَصِمُونَ تَاللَّهِ إِن كُنَّا لَفِي ضَلاَلٍ مُّبِينٍ إِذْ نُسَوِّيكُم بِرَبِّ الْعَالَمِينَ وَمَا أَضَلَّنَا إِلاَّ الْمُجْرِمُونَ﴾ [الشعراء: 96 ـ 99].
ومن سفاهاتهم ما بيَّنه الله عن معبوداتهم أنها عباد لله أمثالهم، كما قال الله عز وجل: ﴿إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِن دُونِ اللّهِ عِبَادٌ أَمْثَالُكُمْ فَادْعُوهُمْ فَلْيَسْتَجِيبُواْ لَكُمْ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ﴾[الأعراف: 194].
ومن سفاهاتهم أن تلك المعبودات التي يعبدونها مخلوقة ليست مشاركة لله في خلق شيء، فكيف يكون لها نصيب في العبادة؟! قال الله عز وجل: ﴿وَاتَّخَذُوا مِن دُونِهِ آلِهَةً لاَّ يَخْلُقُونَ شَيْئًا وَهُمْ يُخْلَقُونَ وَلاَ يَمْلِكُونَ لأَنفُسِهِمْ ضَرًّا وَلاَ نَفْعًا وَلاَ يَمْلِكُونَ مَوْتًا وَلاَ حَيَاةً وَلاَ نُشُورًا﴾ [الفرقان: 3]، وقال: ﴿وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِن دُونِ اللّهِ لاَ يَخْلُقُونَ شَيْئًا وَهُمْ يُخْلَقُون﴾ [النحل: 20]، وقال: ﴿أَيُشْرِكُونَ مَا لاَ يَخْلُقُ شَيْئاً وَهُمْ يُخْلَقُون﴾ [الأعراف: 191]، وقال: ﴿قُلْ أَرَأَيْتُمْ شُرَكَاءكُمُ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِن دُونِ اللَّهِ أَرُونِي مَاذَا خَلَقُوا مِنَ الأَرْضِ أَمْ لَهُمْ شِرْكٌ فِي السَّمَاوَاتِ﴾ [فاطر: 40] الآية، وقال: ﴿قُلْ أَرَأَيْتُم مَّا تَدْعُونَ مِن دُونِ اللَّهِ أَرُونِي مَاذَا خَلَقُوا مِنَ الأَرْضِ أَمْ لَهُمْ شِرْكٌ فِي السَّمَاوَاتِ﴾ [الأحقاف: 4] الآية، وقال: ﴿قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُم مِّن دُونِ اللَّهِ لاَ يَمْلِكُونَ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلاَ فِي الأَرْضِ وَمَا لَهُمْ فِيهِمَا مِن شِرْكٍ وَمَا لَهُ مِنْهُم مِّن ظَهِير وَلاَ تَنفَعُ الشَّفَاعَةُ عِندَهُ إِلاَّ لِمَنْ أَذِنَ لَهُ﴾ [سبأ: 22 ـ 23]، وقال: ﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ ضُرِبَ مَثَلٌ فَاسْتَمِعُوا لَهُ إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِن دُونِ اللَّهِ لَن يَخْلُقُوا ذُبَابًا وَلَوِ اجْتَمَعُوا لَهُ وَإِن يَسْلُبْهُمُ الذُّبَابُ شَيْئًا لاَّ يَسْتَنقِذُوهُ مِنْهُ ضَعُفَ الطَّالِبُ وَالْمَطْلُوبُ﴾ [الحج: 73].
ومن سفاهاتهم أن معبوداتهم لا تفيدهم شيئاً ولا تجلب لهم نفعاً ولا تدفع عنهم ضرّاً، قال الله عز وجل: ﴿وَيَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللّهِ مَا لاَ يَضُرُّهُمْ وَلاَ يَنفَعُهُمْ وَيَقُولُونَ هَـؤُلاء شُفَعَاؤُنَا عِندَ اللّهِ﴾ [يونس: 18]، وقال: ﴿قُلْ أَتَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللّهِ مَا لاَ يَمْلِكُ لَكُمْ ضَرًّا وَلاَ نَفْعًا وَاللّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ﴾ [المائدة: 76]، وقال: ﴿قُلِ ادْعُواْ الَّذِينَ زَعَمْتُم مِّن دُونِهِ فَلاَ يَمْلِكُونَ كَشْفَ الضُّرِّ عَنكُمْ وَلاَ تَحْوِيلاً﴾ [الإسراء: 56]، وقال: ﴿وَيَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللّهِ مَا لاَ يَمْلِكُ لَهُمْ رِزْقًا مِّنَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ شَيْئًا وَلاَ يَسْتَطِيعُونَ﴾ [النحل: 73]، وقال: ﴿وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِن دُونِهِ لاَ يَسْتَطِيعُونَ نَصْرَكُمْ وَلآ أَنفُسَهُمْ يَنْصُرُونَ﴾ [الأعراف: 197]، وقال عن نبيه إبراهيم: ﴿قَالَ أَفَتَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ مَا لاَ يَنفَعُكُمْ شَيْئًا وَلاَ يَضُرُّكُمْ أُفٍّ لَّكُمْ وَلِمَا تَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ أَفَلاَ تَعْقِلُونَ﴾ [الأنبياء: 66 ـ 67]، وقال: ﴿وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّن يَدْعُو مِن دُونِ اللَّهِ مَن لاَّ يَسْتَجِيبُ لَهُ إِلَى يَومِ الْقِيَامَةِ وَهُمْ عَن دُعَائِهِمْ غَافِلُونَ وَإِذَا حُشِرَ النَّاسُ كَانُوا لَهُمْ أَعْدَاء وَكَانُوا بِعِبَادَتِهِمْ كَافِرِينَ﴾ [الأحقاف: 5 ـ 6]، وقال: ﴿وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِن دُونِهِ مَا يَمْلِكُونَ مِن قِطْمِيرٍ إِن تَدْعُوهُمْ لاَ يَسْمَعُوا دُعَاءكُمْ وَلَوْ سَمِعُوا مَا اسْتَجَابُوا لَكُمْ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكْفُرُونَ بِشِرْكِكُمْ وَلاَ يُنَبِّئُكَ مِثْلُ خَبِيرٍ﴾ [فاطر: 13 ـ 14].
ومن أقبح ما يكون من سفاهاتهم أن منهم من يصنع إلهه بيده ثم يعبده، قال الله عز وجل عن نبيه إبراهيم: ﴿قَالَ أَتَعْبُدُونَ مَا تَنْحِتُونَ وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ﴾ [الصافات: 95 ـ 96].
وكما أن أسفه السفه تسوية المشركين معبوداتهم برب العالمين، فإن من السفه أن يُظن بالله ظن السوء وأنه يسوِّي بين المهتدين والضالين، والمحسنين والمسيئين، قال الله عز وجل: ﴿وَمَا يَسْتَوِي الأَعْمَى وَالْبَصِيرُ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَلاَ الْمُسِيءُ قَلِيلاً مَّا تَتَذَكَّرُون﴾ [غافر: 58]، وقد جاء ذلك في آيات كثيرة مشتملة على الاستفهام الإنكاري، قال الله عز وجل: ﴿أَفَنَجْعَلُ الْمُسْلِمِينَ كَالْمُجْرِمِينَ مَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ﴾ [القلم: 35 ـ 36]، قال ابن كثير في تفسير هذه الآية: «أي أفنساوي بين هؤلاء وهؤلاء في الجزاء؟! كلاّ ورب الأرض والسماء! ولهذا قال: ﴿مَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ﴾ أي كيف تظنون ذلك؟!»، وقال: ﴿أَفَمَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَ اللّهِ كَمَن بَاء بِسَخْطٍ مِّنَ اللّهِ وَمَأْوَاهُ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِير﴾ [آل عمران: 162]، وقال: ﴿أَفَمَن كَانَ مُؤْمِنًا كَمَن كَانَ فَاسِقًا لاَّ يَسْتَوُون﴾ [السجدة: 18]، وقال: ﴿أَفَمَن يُلْقَى فِي النَّارِ خَيْرٌ أَم مَّن يَأْتِي آمِنًا يَوْمَ الْقِيَامَةِ﴾ [فصلت: 40]، وقال: ﴿أَفَمَن يَمْشِي مُكِبًّا عَلَى وَجْهِهِ أَهْدَى أَمَّن يَمْشِي سَوِيًّا عَلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيم﴾ [الملك: 22]، وقال: ﴿أَوَ مَن كَانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُورًا يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَن مَّثَلُهُ فِي الظُّلُمَاتِ لَيْسَ بِخَارِجٍ مِّنْهَا كَذَلِكَ زُيِّنَ لِلْكَافِرِينَ مَا كَانُواْ يَعْمَلُون﴾ [الأنعام: 122].
تحريم البناء على القبور واتخاذها مساجد وما يفضي إليه من الشرك
لما كان الشرك بالله عز وجل - وهو عبادة غير الله معه - أظلم الظلم وأبطل الباطل وأعظم ذنب عُصي الله به وأنه الذنب الذي لا يُغفر، جاءت النصوص الكثيرة في التحذير من الوسائل المؤدية إليه، ومن أظهرها وأشهرها اتخاذ التماثيل والبناء على القبور واتخاذها مساجد، وقد جاء في التحذير من هذين الأمرين حديث أبي الهياج الأسدي قال: قال لي عليّ بن أبي طالب: «ألا أبعثك على ما بعثني عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ أن لا تدع تمثالاً إلاّ طمسته، ولا قبراً مشرفاً إلاّ سوّيته» رواه مسلم (2243)، وفي لفظ عنده (2244): «ولا صورة إلاّ طمستها».
وفي صحيح البخاري (4920) عن ابن عباس رضي الله عنهما في (ود وسواع ويغوث ويعوق ونسر) أنها «أسماء رجال صالحين من قوم نوح، فلما هلكوا أوحى الشيطان إلى قومهم أن انصبوا إلى مجالسهم التي كانوا يجلسون أنصاباً وسمُّوها بأسمائهم، ففعلوا فلم تُعبد، حتى إذا هلك أولئك وتنسَّخ العلم عُبدت»، قال الحافظ في الفتح (8/669): «ولأبي ذر والكشميهني (ونسخ العلم): أي علم تلك الصور بخصوصها».
وبناء المساجد على القبور واتخاذها مساجد وقع فيه أهل الكتاب، وجاءت الأحاديث الكثيرة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في التحذير من وقوع هذه الأمة فيما وقعوا فيه، ومنها ما قاله النبي صلى الله عليه وسلم قبل أن يموت بخمس، وحال نزع روحه صلى الله عليه وسلم، وقد مرَّ ذكر أحاديث عائشة وابن عباس وجندب بن عبد الله البجلي رضي الله عنهم الدالة على ذلك، ومنها حديث عائشة أن أم حبيبة وأم سلمة ذكرتا كنيسة رأينها بالحبشة فيها تصاوير، فذكرتا للنبي صلى الله عليه وسلم، فقال: «إن أولئك إذا كان فيهم الرجل الصالح فمات بنوا على قبره مسجداً وصوّروا تلك الصور، فأولئك شرار الخلق عند الله يوم القيامة» رواه البخاري (427) ومسلم (1181)، وحديثها أيضاً قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم في مرضه الذي لم يقم منه: «لعن الله اليهود والنصارى؛ اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد، قالت: فلولا ذاك أبرز قبره غير أنه خشي أن يتخذ مسجداً» رواه البخاري (1330) ومسلم (1184) واللفظ له، وحديث أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «قاتل الله اليهود؛ اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد» رواه البخاري (437) ومسلم (1185)، وروى الإمام أحمد في مسنده (3844) بسند حسن عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «إنَّ من شرار الناس من تدركه الساعة وهم أحياء، ومن يتخذ القبور مساجد».
وهذه الأحاديث الثابتة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم اشتملت على التحذير من اتخاذ القبور مساجد مطلقاً، وبعضها يفيد حصول ذلك منه قبل أن يموت بخمس، وبعضها يفيد حصول ذلك عند نزول الموت به، وفي ذلك أوضح دليل على أن هذا الحكم محكم غير منسوخ؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال ذلك ولم يعش بعده؛ حتى يكون هناك مجال للنسخ.
واتخاذ القبور مساجد يشمل بناء المسجد على القبر، كما قال صلى الله عليه وسلم في النصارى: «أولئك إذا كان فيهم الرجل الصالح فمات بنوا على قبره مسجداً، وصوّروا فيه تلك الصور، أولئك شرار الخلق عند الله»؛ ويشمل قصدها واستقبالها في الصلاة، كما قال صلى الله عليه وسلم: «لا تجلسوا على القبور ولا تصلوا إليها» رواه مسلم (2251) من حديث أبي مرثد الغنوي رضي الله عنه، ويشمل السجود على القبر من باب أولى؛ إذ هو أخص من الصلاة إليه، وفي مصنف عبد الرزاق (1581) عن معمر عن ثابت البناني عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: «رآني عمر بن الخطاب وأنا أصلي عند قبر، فجعل يقول: القبر! قال: فحسبته يقول: القمر! قال: فجعلت أرفع رأسي إلى السماء فأنظر، فقال: إنما أقول: القبر! لا تصلِّ إليه، قال ثابت: فكان أنس بن مالك يأخذ بيدي إذا أراد أن يصلي فيتنحّى عن القبور»، وهذا الأثر علّقه البخاري بمعناه قبل حديث عائشة عن أم حبيبة وأم سلمة في قصة الكنيسة التي رأينها في الحبشة الذي تقدّم قريباً.
والبناء على القبور حرام سواء اتُّخذت مساجد أو لم تُتَّخذ، وكذا كل تعظيم للقبور يؤدي إلى الغلو في أصحابها؛ ويدل لذلك حديث جابر رضي الله عنه قال: «نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يُجصَّص القبر، وأن يُقعد عليه، وأن يُبنى عليه» رواه مسلم (2245).
ومثل البناء على القبور دفن الموتى في البنيان؛ لأنه بمعناه، ويدل لذلك حديث ابن عمر رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «اجعلوا في بيوتكم من صلاتكم ولا تتخذوها قبوراً» رواه البخاري (432) ومسلم (1820)، وحديث أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «لا تجعلوا بيوتكم مقابر؛ إن الشيطان ينفر من البيت الذي تُقرأ فيه سورة البقرة» رواه مسلم (1824)، وحديث أبي هريرة هذا أورده الحافظ في الفتح (3/530) وقال: «إن ظاهره يقتضي النهي عن الدفن في البيوت مطلقاً» وروى أبو داود (2042) بإسناد صحيح عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لا تجعلوا بيوتكم قبوراً، ولا تجعلوا قبري عيداً، وصلّوا عليَّ؛ فإن صلاتكم تبلغني حيث كنتم» والنهي عن اتخاذ البيوت قبوراً يشمل ترك الصلاة فيها وترك قراءة القرآن وتشبيهها بالمقابر التي ليست محلاً للصلاة وقراءة القرآن؛ كما دلَّ عليه حديثا ابن عمر وأبي هريرة المتقدمان، ويشمل دفن الموتى في البيوت كما أشار إلى ذلك ابن حجر، وقال الذهبي في سير أعلام النبلاء (8/27): «وقد نهى عليه السلام أن يُبنى على القبور، ولو اندفن الناسُ في بيوتهم لصارت المقبرة والبيوت شيئاً واحداً»، وقال: «وأما دَفنُه في بيت عائشة صلوات الله عليه وسلامه فمختص به».
أقول: وأما دفن أبي بكر وعمر رضي الله عنهما في حجرة عائشة رضي الله عنها فإنما جاء تبعاً لرسول الله صلى الله عليه وسلم، ومن فضل الله عز وجل على هذين الرجلين العظيمين أن جعلهما رفيقي رسول الله صلى الله عليه وسلم الملازمَين له في الدنيا، وجارَيه في قبره، وبعد البعث والنشور يكونان معه في الجنّة، وذلك فضل الله يؤتيه من يشاء والله ذو الفضل العظيم.
ولا يجوز أن يُصلَّى في المساجد التي بُنيت على قبور، والواجب هدم المسجد الذي بُني على القبر إذا كان القبر هو السابق، وإن كان الميت دُفن في المسجد فيجب نبشُه وإخراجه من المسجد، وأما مسجد نبينا محمد صلى الله عليه وسلم ففضله ثابت والصلاة فيه مضاعفة، وهي خير من ألف صلاة في غيره من المساجد إلاّ المسجد الحرام، كما ثبتت بذلك السّنّة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، سواء في ذلك ما كان قبل دخول القبر أو بعد دخوله.
وليس لأحد أن يتعلّق بوجود قبره صلى الله عليه وسلم في مسجده لتجويز بناء المساجد على القبور أو دفن الموتى في المساجد؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم هو الذي بنى مسجده صلى الله عليه وسلم، وبنى بجواره بيوت أزواجه خارجاً منه، وبعد موته صلى الله عليه وسلم دُفن في بيت عائشة، وقد بقيت البيوت على ما هي عليه خارج المسجد في عهد الخلفاء الراشدين رضي الله عنهم وعهد معاوية رضي الله عنه، وفي عهد خلفاء آخرين من خلفاء بني أمية، وفي أثناء عهد بني أمية وُسع المسجد وأُدخل القبر فيه، وقد مرَّ ذكر جملة من الأحاديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في التحذير من بناء المساجد على القبور، وهي أحاديث محكمة، منها ما قاله صلى الله عليه وسلم قبل موته بخمس، ومنها ما قاله في لحظاته الأخيرة صلى الله عليه وسلم، فلا يجوز ترك هذه الأحاديث المحكمة والتعويل على عمل حصل في أثناء عهد بني أمية.
ولا يجوز أيضاً ترك الأخذ بالأحاديث المحكمة الثابتة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في تحريم البناء على القبور واتخاذها مساجد والاستدلال على الجواز بقول الله عز وجل في أصحاب الكهف: ﴿قَالَ الَّذِينَ غَلَبُوا عَلَى أَمْرِهِمْ لَنَتَّخِذَنَّ عَلَيْهِم مَّسْجِدًا﴾ [الكهف: 21]؛ لأن الذي في الآية حكاية عزم أهل الغلبة فيهم على اتخاذ المسجد عليهم، وهذه الحكاية لا تدل على حمد الذي عزموا عليه، وهو من جملة فعل من كان قبلنا إن كانوا نفَّذوا ما عزموا عليه، وقد مرَّ في الأحاديث بيان أن اتخاذ المساجد على قبور الأنبياء والصالحين من فعل من قبلنا على سبيل الذم لهم، ونُهينا أن نفعل مثل أفعالهم، ولأن في الاستدلال بالآية على الجواز أخذاً بالمتشابه وتركاً للمحكم، ثم إن الاستدلال بالآية نظير الاستدلال بقصة بلقيس في سورة النمل على تولية المرأة وترك الأخذ بقوله صلى الله عليه وسلم: «لن يفلح قوم ولوا أمرهم امرأة» رواه البخاري (4425)، والاستدلال على عمل التماثيل بقوله تعالى: ﴿يَعْمَلُونَ لَهُ مَا يَشَاء مِن مَّحَارِيبَ وَتَمَاثِيلَ﴾ [سبأ: 13] الآية، وترك الأخذ بقوله صلى الله عليه وسلم لعليّ: «أن لا تدع تمثالاً إلاَّ طمسته» الحديث وقد تقدّم، وانظر تفصيل رد الاستدلال بهذه الآية على الجواز في تحذير الساجد من اتخاذ القبور مساجد للشيخ الألباني رحمه الله (ص: 63).
وقد جلَّت المصيبة وعظُمت الفتنة فيما ابتلي به كثير من المسلمين في أقطارهم المختلفة من تعظيم القبور والبناء عليها واتخاذها مساجد وإسراجها ووضع الستور عليها، وذلك من أعظم الوسائل المفضية إلى إشراك أهلها مع الله ودعائهم والاستغاثة بهم وطلب الشفاعة منهم وسؤالهم قضاء الحاجات وكشف الكربات.
وقد بيَّن العلماء أن تعظيم القبور والغلو في أصحابها من أعظم أسباب الوقوع في الشرك وعبادة الأصنام، قال الفخر الرازي (606 هـ) في تفسيره (17/ 60) عند قوله تعالى في سورة يونس: ﴿وَيَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللّهِ مَا لاَ يَضُرُّهُمْ وَلاَ يَنفَعُهُمْ وَيَقُولُونَ هَـؤُلاء شُفَعَاؤُنَا عِندَ اللّهِ﴾ قال: «ونظيره في هذا الزمان اشتغال كثير من الخلق بتعظيم قبور الأكابر؛ على اعتقاد أنهم إذا عظَّموا قبورهم فإنهم يكونون شفعاء لهم عند الله»، قال ذلك مشبها ما يحصل من كثير من الناس من تعظيم القبور وطلب الشفاعة من أصحابها بما حصل من عباد الأصنام في تعظيمها وعبادتها لتشفع لهم عند الله.
وقال في تفسير سورة سبأ (25/254): «واعلم أن المذاهب المفضية إلى الشرك أربعة»، قال في آخرها: «قول من قال: إنا نعبد الأصنام التي هي صور الملائكة ليشفعوا لنا، فقال تعالى في إبطال قولهم: ﴿وَلاَ تَنفَعُ الشَّفَاعَةُ عِندَهُ إِلاَّ لِمَنْ أَذِنَ لَهُ﴾، فلا فائدة لعبادتكم غير الله؛ فإن الله لا يأذن في الشفاعة لمن يعبد غيره، فبطلبكم الشفاعة تفوِّتون على أنفسكم الشفاعة».
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية (728 هـ) في مجموع الفتاوى (27/ 79): «وكان العكوف على القبور والتمسح بها وتقبيلها والدعاء عندها وفيها ونحو ذلك هو أصل الشرك وعبادة الأوثان، ولهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم: «اللهم لا تجعل قبري وثناً يُعبد»، واتفق العلماء على أن من زار قبر النبي صلى الله عليه وسلم أو قبر غيره من الأنبياء والصالحين - الصحابة وأهل البيت وغيرهم - أنه لا يتمسح به ولا يقبِّله، بل ليس في الدنيا من الجمادات ما يشرع تقبيلها إلا الحجر الأسود، وقد ثبت في الصحيحين أن عمر رضي الله عنه قال: «والله! إني لأعلم أنك حجر لا تضر ولا تنفع، ولولا أني رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقبِّلك ما قبَّلتك»، ولهذا لا يسن باتفاق الأئمة أن يقبل الرجل أو يستلم ركني البيت اللذين يليان الحجر ولا جدران البيت ولا مقام إبراهيم ولا صخرة بيت المقدس ولا قبر أحد من الأنبياء والصالحين».
والحديث الذي ذكره شيخ الإسلام في أول كلامه أخرجه أحمد (7358) وغيره بإسناد صحيح، وانظر تحذير الساجد للشيخ الألباني (ص: 25).
وقال ابن القيم رحمه الله (751 هـ) في كتابه إعلام الموقعين (3/151) في الوجوه التسعة والتسعين التي أوردها في سد الذرائع قال: «الوجه الثالث عشر: أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن بناء المساجد على القبور ولعَن من فعل ذلك، ونهى عن تجصيص القبور وتشريفها واتخاذها مساجد، وعن الصلاة إليها وعندها، وعن إيقاد المصابيح عليها، وأمر بتسويتها، ونهى عن اتخاذها عيداً، وعن شد الرحال إليها؛ لئلا يكون ذلك ذريعة إلى اتخاذها أوثاناً والإشراك بها، وحرم ذلك على مَن قصده ومن لم يقصده، بل قصد خلافه سداً للذريعة»، وقال ابن كثير رحمه الله (774هـ) في البداية والنهاية (14/ 171) في حوادث سنة (208 هـ) عند ذكره ترجمة السيدة نفيسة بنت الحسن بن زيد الهاشمية، قال: « وأصل عبادة الأصنام من المغالاة في القبور وأصحابها، وقد أمر النبي صلى الله عليه وسلم بتسوية القبور وطمسها، والمغالاة في البشر حرام».
ومن أبواب كتاب التوحيد لشيخ الإسلام محمد بن عبد الوهاب رحمه الله (1206هـ): «باب ما جاء في حماية المصطفى صلى الله عليه وسلم جَناب التوحيد وسدِّه كل طريق يوصل إلى الشرك»، و«باب ما جاء أن الغلو في قبور الصالحين يصيِّرها أوثاناً تُعبد من دون الله»، و «باب ما جاء أن سبب كفر بني آدم وتركهم دينهم هو الغلو في الصالحين»، و «باب ما جاء من التغليظ فيمن عبد الله عند قبر رجل صالح فكيف إذا عبده؟!»، وقد أورد رحمه الله آيات وأحاديث وآثاراً في ذلك كما هي طريقته رحمه الله في هذا الكتاب، وهذا الكتاب من أحسن ما أُلّف في بيان توحيد الألوهية.
وقد ألَّف الإمام الشوكاني رحمه الله (1250هـ) رسالة سماها «شرح الصدور بتحريم رفع القبور» بيَّن فيها أن تعظيم القبور والغلو في أصحابها يفضي إلى الشرك، وقال: «فلا شكَّ ولا ريب أنَّ السببَ الأعظمَ الذي نشأ منه هذا الاعتقاد في الأموات هو ما يُزيِّنه الشيطان للناس من رفعِ القبور ووضعِ الستور عليها وتجصيصِها وتزيينها بأبلغ زينة، وتحسينها بأكمل تحسين، فإنَّ الجاهلَ إذا وقعت عينُه على قبرٍ من القبور قد بُنيت عليه قُبَّة فدخلها ونظر على القبور الستورَ الرائعة والسُّرُجَ المتلألئة وقد سطعت حوله مجامر الطيب، فلا شكَّ ولا ريب أنَّه يمتلئ قلبُه تعظيماً لذلك القبر، ويضيق ذِهنُه عن تصوُّر ما لهذا الميت من المنزلة، ويدخله من الرَّوعة والمهابة ما يزرع في قلبه من العقائد الشيطانية التي هي من أعظم مكائد الشيطان للمسلمين، وأشد وسائله إلى ضلال العباد، مِمَّا يزلزله عن الإسلام قليلاً قليلاً، حتى يطلب من صاحب ذلك القبر ما لا يقدر عليه إلاَّ الله سبحانه، فيصير في عدادِ المشركين، وقد يحصل له هذا الشركُ بأولِ رؤيةٍ لذلك القبر الذي صار على تلك الصفة، وعند أول زَورة؛ إذ لا بدَّ له أن يخطرَ ببالِه أنَّ هذه العنايةَ البالغة من الأحياء بمثل هذا الميت لا تكون إلاَّ لفائدة يرجونها منه، إمَّا دُنيوية أو أُخرويَّة، فيستصغرُ نفسَه بالنِّسبة إلى مَن يراه من أشباه العلماء زائراً لذلك القبر وعاكفاً عليه ومُتمسِّحاً بأركانه».
ومن أوضح ما يبيِّن أن الغلو في الصالحين وتعظيم القبور يفضي إلى الشرك ما قاله عبد القادر بن شيخ بن عبد الله العيدروسي ـ وهو في القرن الحادي عشر ـ في كتابه (النور السافر عن أخبار القرن العاشر) في ترجمة أبي بكر بن عبد الله العيدروس المتوفى سنة (914 هـ) قال (ص: 79): «وأمَّا كراماته فكثيرة كقطر السحاب، لا تدرك بِعدٍّ ولا حساب، ولكن أذكر منها على سبيل الإجمال دون التفصيل، ثلاث حكايات تكون كالعنوان على باقيها بالدلالة والتمثيل، منها:
أنَّه لَمَّا رجع من الحجِّ دخل زيلع، وكان الحاكم بها يومئذ محمد بن عتيق، فاتفق أنَّه ماتت أمُّ ولد للحاكم المذكور، وكان مشغوفاً بها، فكاد عقلُه يذهب بموتِها، فدخل عليه سيدي لما بلغه عنه من شدَّة الجزع؛ ليُعزِّيه ويأمره بالصبر والرضاء بالقضاء، وهي مُسجاة بين يدي الحاكم بثوبٍ، فعزَّاه وصبَّره، فلَم يُفِد فيه ذلك، وأكبَّ على قدم سيِّدي الشيخ يُقبِّلُها، وقال: يا سيدي! إن لَم يُحي الله هذه متُّ أنا أيضاً، ولَم تبق لي عقيدة في أحد، فكشف سيِّدي وجهَها، وناداها باسمِها، فأجابته: لبَّيك! وردَّ اللهُ روحَها، وخرج الحاضرون، ولَم يَخرج سيدي الشيخ حتى أكلتْ مع سيِّدها الهريسةَ، وعاشت مدَّة طويلة!!!
وعن الأمير مرجان أنَّه قال: كنتُ في نفرٍ من أصحاب لي في محطَّة صنعاء الأولى، فحمل علينا العدوُّ، فتفرَّق عنِّي أصحابي، وسقط بي فرسي لكثرة ما أُثخن من الجراحات، فدار بِي العدوُّ حينئذٍ من كلِّ جانب، فهتفتُ بالصالِحين، ثمَّ ذكرتُ الشيخ أبا بكر رضي الله عنه، وهتفتُ به، فإذا هو قائمٌ، فوالله العظيم! لقد رأيتُه نهاراً وعاينتُه جهاراً، أخذ بناصيتِي وناصية فرسي، وشلَّنِي من بينهم حتى أوصَلَنِي المحطة، فحينئذ مات الفرس، ونجوتُ أنا ببَرَكتِه رضي الله عنه ونفع به!!!
وعن المُريد الصادق نعمان بن محمد المهدي أنَّه قال: بينما نحن سائرون في سفينةٍ إلى الهند، إذ وقع فيها خرقٌ عظيمٌ، فأيقَنوا بالهلاك، وضجَّ كلٌّ بالدعاء والتضرُّع إلى الله تعالى، وهتف كلٌّ بشيخِه، وهتفتُ أنا بشيخي أبي بكر العيدروس رضي الله عنه، فأخذتنِي سِنَة، فرأيتُه داخل السفينة، وبيده منديلٌ أبيض، وهو قاصدٌ نحو الخَرْق، فانتبهتُ فرحاً مسروراً، وناديتُ بأعلى صوتِي: أنْ أَبشِروا يا أهل السفينة! فقد جاء الفرَج، فقالوا: ماذا رأيتَ؟ فأخبرتُهم، فتفقَّدوا الخَرْقَ، فوجدوه مسدوداً بمنديل أبيض كما رأيتُ، فنجونا ببركته رضي الله عنه ونفع به!!!» اهـ.
وإذا كانت هذه حال أحد أشباه العلماء ممن انتسب إلى العلم وشغل نفسه بالتأليف، فكيف تكون حال العوام الذين لا يقرؤون ولا يكتبون وهم يرون من أشباه العلماء من يكون لهم قدوة سيئة، ويسمعون عنهم مثل هذه الحكايات المضحكات المبكيات؟! وصدق ابن كثير رحمه الله في قوله الوجيز: «وأصل عبادة الأصنام من المغالاة في القبور وأصحابها، وقد أمر النبي صلى الله عليه وسلم بتسوية القبور وطمسها، والمغالاة في البشر حرام».
ودعاء أصحاب القبور والاستغاثة بهم وسؤالهم قضاء الحاجات وكشف الكربات، وكذا دعاء الغائبين من الإنس والجن والملائكة شرك مخرج من الملّة؛ لأن فيه صرف حق الله إلى غيره، وقد قال الله عز وجل: ﴿وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ لِلَّهِ فَلاَ تَدْعُوا مَعَ اللَّهِ أَحَدًا﴾ [الجن: 18]، وروى الترمذي في جامعه (2969) وقال: «هذا حديث حسن صحيح» عن النعمان بن بشير عن النبي صلى الله عليه وسلم في قوله تعالى: ﴿وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ﴾، قال: «الدعاء هو العبادة، وقرأ: ﴿وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ﴾ إلى قوله ﴿دَاخِرِينَ﴾»، ومن كانت هذه حاله فهو كافر إن قامت عليه الحجة، ومَن لم تقم عليه تُوقف في تكفيره وأمره إلى الله وقد تكون حاله حال أهل الفترات الذين لم تبلغهم الرسالات وهم يُمتحنون يوم القيامة، وبعد الامتحان ينتهون إلى الجنة أو إلى النار، وقد أورد ابن كثير في تفسيره لقول الله عز وجل: ﴿وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً﴾ جملة من الأحاديث في ذلك، وقال: «إن أحاديث هذا الباب منها ما هو صحيح كما قد نص على ذلك غير واحد من أئمة العلماء، ومنها ما هو حسن، ومنها ما هو ضعيف يقوى بالصحيح والحسن، وإذا كانت أحاديث الباب الواحد متعاضدة على هذا النمط أفادت الحجة عند الناظر فيها».
وقد أوردت في تقديمي لكتابَي «تطهير الاعتقاد» و «شرح الصدور» للصنعاني والشوكاني المطبوعة ضمن مجموع كتبي ورسائلي (4/337) جملة من أقوال أهل العلم في حكم مَن قامت عليه الحجة ومن لم تقم عليه، ومنها قول شيخنا الشيخ عبد العزيز بن باز رحمه الله: «كذلك التوسل بالأولياء قسمان: (الأول): التوسل بجاه فلان أو حق فلان، هذا بدعة وليس كفراً، التوسل الثاني: هو دعاؤه بقوله: يا سيدي فلان انصرني أو اشف مريضي، هذا هو الشرك الأكبر وهذا يسمونه توسلاً أيضاً، وهذا من عمل الجاهلية، أما الأول فهو بدعة، ومن وسائل الشرك، قيل له: وقولهم: إنما ندعوه لأنه ولي صالح وكل شيء بيد الله وهذا واسطة، قال: هذا عمل المشركين الأولين، فقولهم: مدد يا بدوي، مدد يا حسين، هذا جنس عمل أبي جهل وأشباهه، لأنهم يقولون: ﴿مَا نَعْبُدُهُمْ إِلاَّ لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى﴾ [الزمر: 3]، ﴿هَـؤُلاء شُفَعَاؤُنَا عِندَ اللّهِ﴾ [يونس: 18]، هذا الدعاء كفر وشرك بالله عز وجل، لكن اختلف العلماء هل يكفر صاحبه أم ينتظر حتى تقام عليه الحجة وحتى يبيَّن له، على قولين: أحدهما: أن من قال هذا يكون كافراً كفراً أكبر لأن هذا شرك ظاهر لا تخفى أدلته، والقول الثاني: أن هؤلاء قد يدخلون في الجهل وعندهم علماء سوء أضلّوهم، فلابد أن يبين لهم الأمر ويوضح لهم الأمر حيث يتضح لهم، فإن الله قال: ﴿وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً﴾ [الإسراء: 15]، فإذا وضح لهم الأمر وقال لهم: هذا لا يجوز، قال الله كذا وقال الرسول كذا، بيّن لهم الأدلة، ثم أصرّوا على حالهم، كفروا بهذا، وفي كل حال فالفعل نفسه كفر شرك أكبر، لكن صاحبه هو محل نظر هل يكفر أم يقال: أمره إلى الله، قد يكون من أهل الفترة لأنه ما بيّن له الأمر فيكون حكمه حكم أهل الفترات، أمره إلى الله عز وجل، لأنَّه بسبب تلبيس الناس عليه من علماء السوء».
وكلامه هذا في كتاب «سعة رحمة رب العالمين» لسيد بن سعد الدين الغباشي (ص: 77) مأخوذ من شريط مسجل، وفي أوله صورة رسالة من الشيخ عبد العزيز بن باز رحمه الله للمؤلف بتاريخ 7/5/1403هـ تتضمن الإذن بطبع الرسالة بناء على تقرير الجهة المختصة في رئاسة البحوث العلمية والإفتاء، والغالب على الظن ـ إن لم يكن يقيناً ـ أن الشيخ رحمه الله قرئ عليه هذا الكلام المعزوّ إليه فيه فأقرَّه.
وأصحاب القبور يزارون ويُدعى لهم ولا يُدعَون، ويُطلب من الله لهم ولا يُطلب منهم شيء، لا دعاء ولا شفاعة ولا جلب نفع ولا دفع ضر؛ فإن ذلك إنما يُطلب من الله، والله سبحانه وتعالى هو الذي يُدعى ويُرجى، وغيرُه يُدعى له ولا يُدعى؛ والدليل على ذلك أن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم كانوا في حياته يطلبون منه الدعاء فيدعو لهم، وبعد موته صلى الله عليه وسلم في حياته البرزخية ما كانوا يذهبون إلى قبره صلى الله عليه وسلم فيطلبون منه الدعاء، ولهذا لما حصل الجدب في زمن عمر رضي الله عنه استسقى بالعباس رضي الله عنه وطلب منه الدعاء، فقد روى البخاري في صحيحه (1010) عن أنس أن عمر بن الخطاب كان إذا قحطوا استسقى بالعباس بن عبد المطلب، فقال: «اللهم إنا كنّا نتوسل إليك بنبينا صلى الله عليه وسلم فتسقينا، وإنا نتوسل إليك بعم نبينا فاسقنا، قال: فيُسقون»، ولو كان طلب الدعاء من النبي صلى الله عليه وسلم بعد موته سائغاً لما عدل عنه عمر رضي الله عنه إلى الاستسقاء بالعباس.
وجاء في فتح الباري (2/495) قول الحافظ ابن حجر: «وروى ابن أبي شيبة بإسناد صحيح من رواية أبي صالح السمان عن مالك الدار - وكان خازن عمر - قال: «أصاب الناسَ قحطٌ في زمن عمر، فجاء رجل إلى قبر النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله! استسق لأمتك؛ فإنهم قد هلكوا، فأُتي الرجل في المنام فقيل له: ائت عمر» الحديث، وقد روى سيف في الفتوح أن الذي رأى المنام المذكور هو بلال بن الحارث المزني أحد الصحابة».
وهذا الأثر في مصنف ابن أبي شيبة (12051) إسناده صحيح على شرط البخاري ومسلم إلى أبي صالح، وأما مالك الدار فمجهول، فلا يكون الأثر ثابتاً، وأيضاً الرجل السائل مبهم غير معروف، وأما تسميته ببلال بن الحارث المزني الصحابي فلا يصح؛ لأن الذي رواه سيف بن عمر وهو ضعيف لا يحتج به، وترجمته في تهذيب التهذيب مشتملة على ما قيل فيه من الجرح الشديد، وانظر تفصيل ذلك في كتاب «التوسل: أنواعه وأحكامه» للشيخ الألباني رحمه الله (ص: 116).
ويدل أيضاً لكون النبي صلى الله عليه وسلم لا يُطلب منه الدعاء بعد موته ما رواه البخاري في صحيحه (7217) عن عائشة رضي الله عنها أنها قالت: «وا رأساه! فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ذاك لو كان وأنا حي فأستغفر لك وأدعو لك، فقالت عائشة: وا ثكلياه! والله إني لأظنك تحب موتي...» الحديث، فلو كان يحصل منه الدعاء والاستغفار بعد موته صلى الله عليه وسلم لم يكن هناك فرق بين أن تموت قبله أو يموت قبلها صلى الله عليه وسلم، وهذا الحديث مبيِّن لقول الله عز وجل: ﴿وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذ ظَّلَمُواْ أَنفُسَهُمْ جَآؤُوكَ فَاسْتَغْفَرُواْ اللّهَ وَاسْتَغْفَرَ لَهُمُ الرَّسُولُ لَوَجَدُواْ اللّهَ تَوَّابًا رَّحِيمًا﴾ [النساء: 64]، وأن المجيء إليه وحصول الاستغفار والدعاء منه إنما يكون في حياته وليس بعد موته صلى الله عليه وسلم، والسّنّة تفسر القرآن وتبيِّنه وتوضّحه.
وجوب العناية من العلماء والدعاة ببيان توحيد الألوهية
تبيّن مما تقدّم من نصوص الكتاب والسّنّة أن توحيد العبادة هو حق الله على العباد، وأنه للتكليف به خُلق الجن والإنس، وأنَّ الرسل الكرام جميعاً دعوا أممهم إليه، وأن من استجاب لدعوة الرسل فهو المؤمن السعيد، وأن من أعرض عنها فهو الكافر الشقي الطريد، وأنه أعظم مأمور به، وأن ضده الشرك أعظم منهي عنه، وأن أول أمر في القرآن الأمر بعبادة الله، وأول نهي فيه النهي عن اتخاذ الأنداد له، وأنه أول شيء دعا إليه الرسول صلى الله عليه وسلم، وأنه أول شيء يبدأ به الدعاة إلى الله، وأن به بَدْء الحياة السعيدة وختمها، وأن الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم ختم حياته بالتحذير من الإخلال به والوقوع في الوسائل المفضية إلى الشرك، وأن الثواب على التوحيد أعظم ثواب، وأن العقوبة على الشرك أعظم عقاب، وأن منتهى السفه وأعظم الإجرام أن يعبد المخلوق مخلوقاً مثله ويجعله شريكاً للخالق، وأن أسوأ الذرائع المفضية إلى المحرَّمات الوسائل المؤدية إلى الشرك، وهذا كله يبين الأهمية البالغة لهذا النوع من التوحيد، وأن الواجب على العلماء والدعاة إلى الله عز وجل أن يُعنوا ببيانه غاية العناية ويهتموا به غاية الاهتمام؛ ليقوموا بأداء ما أوجبه الله عليهم من البيان ويَسلموا من مغبة الكتمان، فيبذلوا للعباد أعظم النصح وينفعوهم بأعظم النفع، وقد قال الله عز وجل: ﴿وَإِذَ أَخَذَ اللّهُ مِيثَاقَ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلاَ تَكْتُمُونَهُ فَنَبَذُوهُ وَرَاء ظُهُورِهِمْ وَاشْتَرَوْاْ بِهِ ثَمَناً قَلِيلاً فَبِئْسَ مَا يَشْتَرُونَ﴾ [آل عمران: 187]، وقال: ﴿إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنزَلْنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالْهُدَى مِن بَعْدِ مَا بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ فِي الْكِتَابِ أُولَـئِكَ يَلعَنُهُمُ اللّهُ وَيَلْعَنُهُمُ اللاَّعِنُونَ إِلاَّ الَّذِينَ تَابُواْ وَأَصْلَحُواْ وَبَيَّنُواْ فَأُوْلَـئِكَ أَتُوبُ عَلَيْهِمْ وَأَنَا التَّوَّابُ الرَّحِيمُ﴾ [البقرة: 159 ـ 160].
وإنَّ المسؤولية العظيمة والتبعة الجسيمة تقع على وجه أشد وأعظم على العلماء والدعاة في البلاد الإسلامية، التي ابتلي أهلها بتعظيم القبور والافتتان بها والبناء عليها واتخاذها مساجد؛ لأن هذه الأعمال من أعظم الوسائل المؤدية إلى الشرك الذي هو دعاء أصحاب القبور والاستغاثة بهم وسؤالهم قضاء الحاجات وكشف الكربات، وهذا من صرف حق الله إلى غير الله، وقد قال الله عز وجل: ﴿أَمَّن يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ وَيَجْعَلُكُمْ خُلَفَاء الأَرْضِ أَإِلَهٌ مَّعَ اللَّهِ قَلِيلاً مَّا تَذَكَّرُونَ﴾ [النمل: 62]، وقال: ﴿وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ لِلَّهِ فَلاَ تَدْعُوا مَعَ اللَّهِ أَحَدًا﴾ [الجن: 18].
فواجب الجميع الإيضاح والبيان لتوحيد العبادة والتحذير من الشرك والوسائل المؤدية إليه، وقد قال النبي الكريم صلى الله عليه وسلم: «من رأى منكم منكراً فليغيره بيده، فإن لم يستطع فبلسانه، فإن لم يستطع فبقلبه، وذلك أضعف الإيمان» رواه مسلم عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه (177).
ولا يجوز التشاغل عن بيان توحيد الألوهية والدعوة إليه والتحذير من الشرك ووسائله بتقرير توحيد الربوبية؛ لأن هذا النوع من التوحيد قد أقرَّ به الكفار الذين بُعث فيهم رسول الله صلى الله عليه وسلم ولم يدخلهم في الإسلام، وإنما أنكروا توحيد الألوهية، فقالوا: ﴿أَجَعَلَ الآلِهَةَ إِلَهًا وَاحِدًا إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عُجَابٌ﴾، فتُبيَّن أنواع التوحيد الثلاثة: توحيد الربوبية وتوحيد الألوهية وتوحيد الأسماء والصفات، وتكون العناية أشد وأعظم ببيان توحيد الألوهية والتحذير من ضده وهو الشرك بالله، وهو وظيفة الرسل ومن سار على نهجهم، فلا يجوز لمن رزقه الله علماً وفهماً أن يسكت على ما يراه في بلاده من الافتتان بالقبور والتمسح بها أو العكوف عندها أو الطواف بها أو دعاء أهلها والاستغاثة بهم، بل الواجب عليه أن يُبيِّن لهم توحيد الألوهية ويحذّرهم من الشرك ووسائله، وبذلك يكون هادياً مهدياً مستفيداً مفيداً، يظفر بثواب أعماله الصالحة وبمثل أجور كل من اهتدى بسبب دعوته وتوجيهه، كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «مَن دعا إلى هُدى كان له من الأجر مثل أجور من تبعه لا ينقص ذلك من أجورهم شيئاً، ومن دعا إلى ضلالة كان عليه من الإثم مثل آثام من تبعه لا ينقص ذلك من آثامهم شيئاً» رواه مسلم من حديث أبي هريرة رضي الله عنه (6804).
وأسأل الله عز وجل أن يوفق العلماء في كل مكان للقيام بما أوجبه الله عليهم من النصح والبيان، وأن يوفق المدعوين للاستفادة من نصح الناصحين والأخذ بما فيه سعادتهم في الدنيا والآخرة؛ إنه سميع مجيب، وصلى الله وسلم وبارك على عبده ورسوله نبينا محمد وعلى آله وأصحابه ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.
منقول من شبكة راية الإصلاح