سئل عن الباري سبحانه : هل يُضِلّ ويَهدي؟
فأجاب :
إن كل ما في الوجود فهو مخلوق ، خلقه بمشيئته وقدرته ، وما شاء كان وما لم يشأ لم يكن ، وهو
الذي يعطي ويمنع ، ويخفض ويرفع ، ويعز ويذل ، ويغني ويفقر ، ويضل ويهدي ، ويسعد ويشقى ،
ويولي الملك من يشاء وينزعه ممن يشاء ، ويشرح صدر من يشاء للإسلام ويجعل صدر من يشاء
ضيقًا كأنما يَصَّعَّد في السماء ، وهو يقلب القلوب ، ما من قلب من قلوب العباد إلا وهو بين إصبعين
من أصابع الرحمن ، إن شاء أن يقيمه أقامه ، وإن شاء أن يزيغه أزاغه ، وهو الذي حبب إلى
المؤمنين الإيمان وزينه في قلوبهم ، وكره إليهم الكفر والفسوق والعصيان ، أولئك هم الراشدون .
وهو الذي جعل المسلم مسلمًا ، والمصلي مصليًا ، قال الخليل : { رَبَّنَا وَاجْعَلْنَا مُسْلِمَيْنِ لَكَ وَمِنْ
ذُرِّيَّتِنَا أُمَّةً مُسْلِمَةً } [ البقرة : 128 ] ، وقال : { رَبِّ اجْعَلْنِي مُقِيمَ الصَّلَاةِ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي } [
إبراهيم : 4 ] ، وقال تعالى : { وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا } [ السجدة : 24
] ، وقال آل فرعون : { وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً يَدْعُونَ إِلَى النَّارِ } [ القصص : 41 ] ، وقال تعالى :
{ إِنَّ الْإِنسَانَ خُلِقَ هَلُوعًا . إِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ جَزُوعًا . وَإِذَا مَسَّهُ الْخَيْرُ مَنُوعًا }
[ المعارج : 19-21 ] ، وقال : { وَاصْنَعْ الْفُلْكَ بِأَعْيُنِنَا وَوَحْيِنَا } [ هود : 37 ] ، وقال :
{ وَيَصْنَعُ الْفُلْكَ } [ هود : 38 ] .
والفلك مصنوعة لبني آدم ، وقد أخبر الله تبارك وتعالى أنه خلقها بقوله : { وَخَلَقْنَا لَهُمْ مِنْ مِثْلِهِ مَا
يَرْكَبُونَ } [ يس : 42 ] ، وقال : { وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمْ مِنْ بُيُوتِكُمْ سَكَنًا وَجَعَلَ لَكُمْ مِنْ جُلُودِ الْأَنْعَامِ
بُيُوتًا تَسْتَخِفُّونَهَا يَوْمَ ظَعْنِكُمْ وَيَوْمَ إِقَامَتِكُمْ وَمِنْ أَصْوَافِهَا وَأَوْبَارِهَا } الآيات [ النحل : 8 ] ، وهذه
كلها مصنوعة لبني آدم .
وقال تعالى : { أَتَعْبُدُونَ مَا تَنْحِتُونَ . وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ } [ الصافات : 95 ، 96 ] ، ف
[ ما ] بمعنى [ الذي ] ، ومن جعلها مصدرية فقد غلط ، لكن إذا خلق المنحوت كما خلق
المصنوع والملبوس والمبني ، دل على أنه خالق كل صانع وصنعته ، وقال تعالى : { مَنْ يَهْدِ اللَّهُ
فَهُوَ الْمُهْتَدِ وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ وَلِيًّا مُرْشِدًا } [ الكهف : 17 ] ، وقال : { فَمَنْ يُرِدْ اللَّهُ أَنْ
يَهدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلْإِسْلَامِ وَمَنْ يُرِدْ أَنْ يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقًا حَرَجًا } [ الأنعام : 125 ] ،
وهو سبحانه خالق كل شىء وربه ومليكه ، وله فيما خلقه حكمة بالغة ، ونعمة سابغة ، ورحمة
عامة وخاصة ، وهو لا يسأل عما يفعل وهم يسألون ، لا لمجرد قدرته وقهره ، بل لكمال علمه
وقدرته ورحمته وحكمته .
مجموع فتاوي ابن تيمية