الموتى الاحياء والأحياء الموتى
من أراد هذا السفر فعليه بمرافقة الأموات الذين هم في العالم أحياء ، فإنه يبلغ بمرافقتهم إلى مقصده
، وليحذر من مرافقة الأحياء الذين هم في الناس أموات ، فإنهم يقطعون عليه طريقه ، فليس لهذا
السالك أنفع من تلك المرافقة ، وأوفق له من هذه المفارقة ، فقد قال بعض السلف: شتان بين أقوام
موتى تحيا القلوب بذكرهم ، وبين أقوام أحياء تموت القلوب بمخالطتهم . فما على العبد أضر من
عشائره وأبناء جنسه فنظره قاصر وهمته واقفة عند التشبه بهم ، ومباهاتهم والسلوك أين سلكوا ،
حتى لو دخلوا جحر ضب لأحب أن يدخله معهم .
فمتى صرف همته عن صحبتهم إلى صحبة من أشباحهم مفقودة ، ومحاسنهم وآثارهم الجميلة في
العالم موجودة ، استحدث بذلك همة أخرى وعملا آخر ، وصار بين الناس غريباً وإن كان فيهم
مشهوراً ونسيباً ، ولكنه غريب محبوب يرى ما الناس فيه و لا يرون ما هو فيه ، يقيم لهم المعاذير
ما استطاع ، ويحضهم بجهده و طاقته سائراً فيهم بعينين: عين ناظرة إلى الأمر والنهى ، بها يأمرهم
وينهاهم ويواليهم ويعاديهم ، ويؤدي لهم الحقوق و يستوفيها عليهم . وعين ناظرة إلى القضاء
والقدر بها يرحمهم ويدعو لهم و يستغفر لهم ، ويلتمس وجوه المعاذير فيما لا يخل بأمر و لا يعود
بنقض شرع ، وقد وسعهم بسطته ورحمته ولينه ومعذرته ، وقفاً عند قوله تعالى: { خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ
بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ } متدبراً لما تضمنته هذه الآية من حسن المعاشرة مع الخلق وأداء
حق الله فيهم والسلامة من شرهم . فلو أخذ الناس كلهم بهذه الآية لكفتهم وشفتهم فان العفو ما عفى
من أخلاقهم وسمحت به طبائعهم ووسعهم بذله من أموالهم و أخلاقهم .
فهذا ما منهم إليه ، وأما ما يكون منه إليهم فأمرهم بالمعروف ، وهو ما تشهد به العقول وتعرف
حسنه ، وهو ما أمر الله به . وأما ما يلتقي به أذى جاهلهم فالإعراض عنه وترك الإنتقام لنفسه
والانتصار لها .
فأي كمال للعبد وراء هذا ؟ وأي معاشرة وسياسة لهذا العالم أحسن من هذه المعاشرة والسياسة ؟
فلو فكر الرجل في كل شر يلحقه من العالم - أعني الشر الحقيقي الذي لا يوجب له الرفعة والزلفى
من الله - وجد سببه الإخلال بهذه الثلاث أو بعضها ، وإلا فمع القيام بها فكل ما يحصل له من الناس
فهو خير له وإن شراً في الظاهر ، فإنه يتولد من الأمر بالمعروف ولا يتولد منه إلا خيراً وان ورد
في حالة شر وأذى ، كما قال الله تعالى: { إِنَّ الَّذِينَ جَاءُوا بِالْأِفْكِ عُصْبَةٌ مِنْكُمْ لا تَحْسَبُوهُ شَرّاً لَكُمْ
} ، وقال تعالى لنبيه صلى الله عليه وسلم: { اعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ فَإِذَا
عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ } وقد تضمنت هذه الكلمات مراعاة حق الله وحق الخلق ، فإنهم إما يسيئوا
في حق الله وفي حق رسوله ، فإن أساءوا في حقك فقابل ذلك بعفوك عنهم وإن أساءوا في حقي
فاسألني أغفر لهم واستجلب قلوبهم ، وأستخرج ما عندهم من الرأي بمشاورتهم ، فإن ذلك أحرى في
استجلاب طاعتهم وبذل النصيحة ، فإذا عزمت فلا استشارة بعد ذلك بل توكل وامض لما عزمت عليه
من أمرك فإن الله يحب المتوكلين .
فهذا وأمثاله من الأخلاق التي أدب الله بها رسوله ، وقال تعالى فيه { وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ } قالت
عائشة رضي الله: " عنها كان خلقه القرآن " ، وهذا لا يتم إلا بثلاثة أشياء:
أحدها: أن يكون العود طيباً ، فأما أن كانت الطبيعة جافية غليظة يابسة عسر عليها مزاولة ذلك علماً
وإرادة وعملاً بخلاف الطبيعة المنقادة اللينة السلسة القياد فإنها مستعدة إنما تريد الحرث والبذر .
الثاني: أن تكون النفس قوية غالبة قاهرة لدواعي البطالة والغي والهوى فان هذه الأمور تنافي
الكمال ، فإن لم تقو النفس على قهرها و إلا لم تزل مغلوبة مقهورة .
الثالث: علم شاف بحقائق الأشياء وتنزيلها منازلها يميز بين الشحم والورم ، والزجاجة والجوهرة .
فإذا اجتمعت فيه هذه الخصال الثلاث وساعد التوفيق فهو القسم الذي سبقت لهم من ربهم الحسنى ،
وتمت لهم العناية .
والله سبحانه وتعالى أعلم
وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً أبداً إلى يوم الدين . والحمد لله رب
العالمين
، وليحذر من مرافقة الأحياء الذين هم في الناس أموات ، فإنهم يقطعون عليه طريقه ، فليس لهذا
السالك أنفع من تلك المرافقة ، وأوفق له من هذه المفارقة ، فقد قال بعض السلف: شتان بين أقوام
موتى تحيا القلوب بذكرهم ، وبين أقوام أحياء تموت القلوب بمخالطتهم . فما على العبد أضر من
عشائره وأبناء جنسه فنظره قاصر وهمته واقفة عند التشبه بهم ، ومباهاتهم والسلوك أين سلكوا ،
حتى لو دخلوا جحر ضب لأحب أن يدخله معهم .
فمتى صرف همته عن صحبتهم إلى صحبة من أشباحهم مفقودة ، ومحاسنهم وآثارهم الجميلة في
العالم موجودة ، استحدث بذلك همة أخرى وعملا آخر ، وصار بين الناس غريباً وإن كان فيهم
مشهوراً ونسيباً ، ولكنه غريب محبوب يرى ما الناس فيه و لا يرون ما هو فيه ، يقيم لهم المعاذير
ما استطاع ، ويحضهم بجهده و طاقته سائراً فيهم بعينين: عين ناظرة إلى الأمر والنهى ، بها يأمرهم
وينهاهم ويواليهم ويعاديهم ، ويؤدي لهم الحقوق و يستوفيها عليهم . وعين ناظرة إلى القضاء
والقدر بها يرحمهم ويدعو لهم و يستغفر لهم ، ويلتمس وجوه المعاذير فيما لا يخل بأمر و لا يعود
بنقض شرع ، وقد وسعهم بسطته ورحمته ولينه ومعذرته ، وقفاً عند قوله تعالى: { خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ
بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ } متدبراً لما تضمنته هذه الآية من حسن المعاشرة مع الخلق وأداء
حق الله فيهم والسلامة من شرهم . فلو أخذ الناس كلهم بهذه الآية لكفتهم وشفتهم فان العفو ما عفى
من أخلاقهم وسمحت به طبائعهم ووسعهم بذله من أموالهم و أخلاقهم .
فهذا ما منهم إليه ، وأما ما يكون منه إليهم فأمرهم بالمعروف ، وهو ما تشهد به العقول وتعرف
حسنه ، وهو ما أمر الله به . وأما ما يلتقي به أذى جاهلهم فالإعراض عنه وترك الإنتقام لنفسه
والانتصار لها .
فأي كمال للعبد وراء هذا ؟ وأي معاشرة وسياسة لهذا العالم أحسن من هذه المعاشرة والسياسة ؟
فلو فكر الرجل في كل شر يلحقه من العالم - أعني الشر الحقيقي الذي لا يوجب له الرفعة والزلفى
من الله - وجد سببه الإخلال بهذه الثلاث أو بعضها ، وإلا فمع القيام بها فكل ما يحصل له من الناس
فهو خير له وإن شراً في الظاهر ، فإنه يتولد من الأمر بالمعروف ولا يتولد منه إلا خيراً وان ورد
في حالة شر وأذى ، كما قال الله تعالى: { إِنَّ الَّذِينَ جَاءُوا بِالْأِفْكِ عُصْبَةٌ مِنْكُمْ لا تَحْسَبُوهُ شَرّاً لَكُمْ
} ، وقال تعالى لنبيه صلى الله عليه وسلم: { اعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ فَإِذَا
عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ } وقد تضمنت هذه الكلمات مراعاة حق الله وحق الخلق ، فإنهم إما يسيئوا
في حق الله وفي حق رسوله ، فإن أساءوا في حقك فقابل ذلك بعفوك عنهم وإن أساءوا في حقي
فاسألني أغفر لهم واستجلب قلوبهم ، وأستخرج ما عندهم من الرأي بمشاورتهم ، فإن ذلك أحرى في
استجلاب طاعتهم وبذل النصيحة ، فإذا عزمت فلا استشارة بعد ذلك بل توكل وامض لما عزمت عليه
من أمرك فإن الله يحب المتوكلين .
فهذا وأمثاله من الأخلاق التي أدب الله بها رسوله ، وقال تعالى فيه { وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ } قالت
عائشة رضي الله: " عنها كان خلقه القرآن " ، وهذا لا يتم إلا بثلاثة أشياء:
أحدها: أن يكون العود طيباً ، فأما أن كانت الطبيعة جافية غليظة يابسة عسر عليها مزاولة ذلك علماً
وإرادة وعملاً بخلاف الطبيعة المنقادة اللينة السلسة القياد فإنها مستعدة إنما تريد الحرث والبذر .
الثاني: أن تكون النفس قوية غالبة قاهرة لدواعي البطالة والغي والهوى فان هذه الأمور تنافي
الكمال ، فإن لم تقو النفس على قهرها و إلا لم تزل مغلوبة مقهورة .
الثالث: علم شاف بحقائق الأشياء وتنزيلها منازلها يميز بين الشحم والورم ، والزجاجة والجوهرة .
فإذا اجتمعت فيه هذه الخصال الثلاث وساعد التوفيق فهو القسم الذي سبقت لهم من ربهم الحسنى ،
وتمت لهم العناية .
والله سبحانه وتعالى أعلم
وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً أبداً إلى يوم الدين . والحمد لله رب
العالمين
الرسالة التبوكية