إعـــــــلان

تقليص
لا يوجد إعلان حتى الآن.

الموتى الاحياء والأحياء الموتى (لابن القيم الجوزية)

تقليص
X
 
  • تصفية - فلترة
  • الوقت
  • عرض
إلغاء تحديد الكل
مشاركات جديدة

  • الموتى الاحياء والأحياء الموتى (لابن القيم الجوزية)

    الموتى الاحياء والأحياء الموتى



    من أراد هذا السفر فعليه بمرافقة الأموات الذين هم في العالم أحياء ، فإنه يبلغ بمرافقتهم إلى مقصده

    ، وليحذر من مرافقة الأحياء الذين هم في الناس أموات ، فإنهم يقطعون عليه طريقه ، فليس لهذا

    السالك أنفع من تلك المرافقة ، وأوفق له من هذه المفارقة ، فقد قال بعض السلف: شتان بين أقوام

    موتى تحيا القلوب بذكرهم ، وبين أقوام أحياء تموت القلوب بمخالطتهم . فما على العبد أضر من

    عشائره وأبناء جنسه فنظره قاصر وهمته واقفة عند التشبه بهم ، ومباهاتهم والسلوك أين سلكوا ،

    حتى لو دخلوا جحر ضب لأحب أن يدخله معهم .



    فمتى صرف همته عن صحبتهم إلى صحبة من أشباحهم مفقودة ، ومحاسنهم وآثارهم الجميلة في

    العالم موجودة ، استحدث بذلك همة أخرى وعملا آخر ، وصار بين الناس غريباً وإن كان فيهم

    مشهوراً ونسيباً ، ولكنه غريب محبوب يرى ما الناس فيه و لا يرون ما هو فيه ، يقيم لهم المعاذير

    ما استطاع ، ويحضهم بجهده و طاقته سائراً فيهم بعينين: عين ناظرة إلى الأمر والنهى ، بها يأمرهم

    وينهاهم ويواليهم ويعاديهم ، ويؤدي لهم الحقوق و يستوفيها عليهم . وعين ناظرة إلى القضاء

    والقدر بها يرحمهم ويدعو لهم و يستغفر لهم ، ويلتمس وجوه المعاذير فيما لا يخل بأمر و لا يعود

    بنقض شرع ، وقد وسعهم بسطته ورحمته ولينه ومعذرته ، وقفاً عند قوله تعالى: { خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ

    بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ }
    متدبراً لما تضمنته هذه الآية من حسن المعاشرة مع الخلق وأداء

    حق الله فيهم والسلامة من شرهم . فلو أخذ الناس كلهم بهذه الآية لكفتهم وشفتهم فان العفو ما عفى

    من أخلاقهم وسمحت به طبائعهم ووسعهم بذله من أموالهم و أخلاقهم .



    فهذا ما منهم إليه ، وأما ما يكون منه إليهم فأمرهم بالمعروف ، وهو ما تشهد به العقول وتعرف

    حسنه ، وهو ما أمر الله به . وأما ما يلتقي به أذى جاهلهم فالإعراض عنه وترك الإنتقام لنفسه

    والانتصار لها .



    فأي كمال للعبد وراء هذا ؟ وأي معاشرة وسياسة لهذا العالم أحسن من هذه المعاشرة والسياسة ؟

    فلو فكر الرجل في كل شر يلحقه من العالم - أعني الشر الحقيقي الذي لا يوجب له الرفعة والزلفى

    من الله - وجد سببه الإخلال بهذه الثلاث أو بعضها ، وإلا فمع القيام بها فكل ما يحصل له من الناس

    فهو خير له وإن شراً في الظاهر ، فإنه يتولد من الأمر بالمعروف ولا يتولد منه إلا خيراً وان ورد

    في حالة شر وأذى ، كما قال الله تعالى: { إِنَّ الَّذِينَ جَاءُوا بِالْأِفْكِ عُصْبَةٌ مِنْكُمْ لا تَحْسَبُوهُ شَرّاً لَكُمْ

    }
    ، وقال تعالى لنبيه صلى الله عليه وسلم: { اعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ فَإِذَا

    عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ }
    وقد تضمنت هذه الكلمات مراعاة حق الله وحق الخلق ، فإنهم إما يسيئوا

    في حق الله وفي حق رسوله ، فإن أساءوا في حقك فقابل ذلك بعفوك عنهم وإن أساءوا في حقي

    فاسألني أغفر لهم واستجلب قلوبهم ، وأستخرج ما عندهم من الرأي بمشاورتهم ، فإن ذلك أحرى في

    استجلاب طاعتهم وبذل النصيحة ، فإذا عزمت فلا استشارة بعد ذلك بل توكل وامض لما عزمت عليه

    من أمرك فإن الله يحب المتوكلين .



    فهذا وأمثاله من الأخلاق التي أدب الله بها رسوله ، وقال تعالى فيه { وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ } قالت

    عائشة رضي الله:
    " عنها كان خلقه القرآن " ، وهذا لا يتم إلا بثلاثة أشياء:



    أحدها: أن يكون العود طيباً ، فأما أن كانت الطبيعة جافية غليظة يابسة عسر عليها مزاولة ذلك علماً

    وإرادة وعملاً بخلاف الطبيعة المنقادة اللينة السلسة القياد فإنها مستعدة إنما تريد الحرث والبذر .



    الثاني: أن تكون النفس قوية غالبة قاهرة لدواعي البطالة والغي والهوى فان هذه الأمور تنافي

    الكمال ، فإن لم تقو النفس على قهرها و إلا لم تزل مغلوبة مقهورة .



    الثالث: علم شاف بحقائق الأشياء وتنزيلها منازلها يميز بين الشحم والورم ، والزجاجة والجوهرة .



    فإذا اجتمعت فيه هذه الخصال الثلاث وساعد التوفيق فهو القسم الذي سبقت لهم من ربهم الحسنى ،

    وتمت لهم العناية .



    والله سبحانه وتعالى أعلم



    وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً أبداً إلى يوم الدين . والحمد لله رب

    العالمين




    الرسالة التبوكية

يعمل...
X