الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى صحبه ومن والاه.. أما بعد:
فإن السؤال يكثر عن زكاة الحلي، ونظراً لأهمية الأمر؛ قمت بكتابة هذا البحث تحقيقاً للحق إن شاء الله، وقد استفدت كثيراً من كتب علمائنا رحمهم الله.
فأقول: اعلم أيها العبد الطائع، وفقك الله لطاعته، أن العلماء اتفقوا على عدم وجوب الزكاة في الماس، واللؤلؤ، والياقوت، والزبرجد، والدّر، والمرجان، ونحوها لعدم وجود دليل يدل على ذلك، ولأنه مال غير نام، بل هو حلية ومتاع للمرأة أباحه الله تعالى حين ذكر البحر فقال سبحانه: ((وَهُوَ الَّذِي سَخَّرَ الْبَحْرَ لِتَأْكُلُوا مِنْهُ لَحْماً طَرِيّاً وَتَسْتَخْرِجُوا مِنْهُ حِلْيَةً تَلْبَسُونَهَا )) (النحل:14).
واختلفوا في حُلي المرأة المباح من الذهب والفضة هل تجب فيه الزكاة أو لا؟
والراجح فيها: أنَّ في الحُلي زكاة ، وسأذكر لك الأدلة على ذلك مع الردِّ على شبه المخالفين...وبالله التوفيــق.
* أدلة وجوب زكاة الحلي:
1-قال تعالى: (( وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلا يُنْفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ)) (التوبة: الآية34)
وجه الدلالة من الآية: أنَّها عامة في جميع الذهب والفضة ، ولم تخصص شيئاً دون شيء، فمن ادعى خروج الحُلي المباح من هذا العموم فعليه بالدليل.
2-عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (ما من صاحب ذهب ولا فضة لا يؤدي منها حقها إلا إذا كان يوم القيامة صفحت له صفائح من نار فأحمي عليها في نار جهنم، فيكوى بها جَنْبُه وجبينه، وظهره، كلما بردت أعيدت له في يوم كان مقداره خمسين ألف سنة، حتى يُقضى بين العباد فيرى سبيله إما إلى جنة وإما إلى النار... الحديث) رواه مسلم.
وجه الدلالة من الحديث: أن المتحلي بالذهب والفضة هو صاحب ذهب وفضة ، ولا دليل على إخراجه من هذا العموم.
3-عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده ( أن امرأة أتت رسول الله صلى الله عليه وسلم ومعها ابنة لها وفي يد ابنتها مسكتان غليظتان من ذهب فقال لها: أتعطين زكاة هذا؟ قالت: لا، قال: أيسرك أن يسورك الله بهما يوم القيامة سوارين من نار، قال فخلعتهما فألقتهما إلى النبي صلى الله عليه وسلم وقالت: (هما لله عز وجل ولرسوله ) رواه أحمد وأبو داوود والترمذي والنسائي وصححه ابن القطان كما في نصب الراية (3/370)، وقال الشيخ الألباني: إسناده إلى عمرو بن شعيب جيّد. ا هـ الإرواء (3/296).
4-عن عبدالله بن شداد بن الهاد أنه قال : ( دخلنا على عائشة زوج النبي صلى الله عليه وسلم فقالت: دخل عليّ رسول الله صلى الله عليه وسلم فرأى في يدي فتختات من ورق فقال: ما هذا يا عائشة، فقالت: صنعتهن أتزين لك يارسول الله صلى الله عليه وسلم ، قال: أتؤدين زكاتهن؟ قلت: لا، أو ما شاء الله، قال: هو حسبك من النار) رواه الدارقطني والحاكم والبيهقي وقال الحافظ ابن حجر في (التلخيص الحبير) (2/189) : إسناده على شرط الصحيح. ا هـ والحديث في الشواهد.
5-عن أسماء بنت يزيد رضي الله عنها قالت: (دخلت أنا وخالتي على النبي صلى الله عليه وسلم وعليها أسورة من ذهب، فقال لنا: أتعطيان زكاته؟ قالت : قلنا: لا ، قال أما تخافان أن يسوركما الله أسورة من نار؟ !! أديّا زكاته). رواه أحمد والطبراني والحديث حسن بشواهده فإنه من طريق شهر بن حوشب وهو ممن يصلح حديثه في الشواهد.
6-عن أم سلمة رضي الله عنها قالت: (كنت ألبس أوضاحاً من ذهب، فقلت: يا رسول الله أكنز هو؟ فقال صلى الله عليه وسلم : (ما بلغ أن تؤدي زكاته فزكي فليس بكنز) رواه الدارقطني والحاكم والبيهقي، والحديث ضعيف , فإنه من طريق عطاء بن أبي رباح عن أم سلمة ولم يسمع منها.
7-عن فاطمة بنت قيس رضي عنها قالت: (أتيت النبي صلى الله عليه وسلم بطوق فيه سبعون مثقالاً من ذهب، فقلت: يا رسول الله خذ منه الفريضة، فأخذ منه مثقالاً وثلاثة أرباع مثقال). رواه الدارقطني من طريقين إحداهما من طريق أبي بكر الهذلي (متروك) والأخرى من طريق أبي حمزة ميمون (ضعيف جداً) فالحديث ضعيف جداً.
8-جاءت آثار صحيحة عن بعض الصحابة رضي الله عنهم في إيجاب زكاة الحلي، وهم :
أ-روى عبدالرزاق في مصنفه عن معمر عن حماد عن إبراهيم عن ابن مسعود قال: (سألته امرأة عن حُلي لها فيه زكاة؟ قال إذا بلغ مائتي درهم فزكيه، قالت: إنَّ في حجري يتامى لي أفأدفعه إليهم؟ قال: نعم) رواه الطبراني في المعجم الكبير وهو صحيح بشواهده.
ب-روى الدارقطني بسند حسن من طريق عمرو بن شعيب عن عروة عن عائشة قالت : (لا بأس بلبس الحُلي إذا أعطي زكاته).
ج-روى الدارقطني أيضاً بسند حسن من طريق عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده (وهو عبدالله بن عمرو بن العاص) : (أنه كان يكتب إلى خازنه سالم أن يخرج زكاة حُلي بناته كل سنة).
* شبهات المخالفين :
الشبهة الأولى: روى البخاري من حديث زينب رضي الله عنها أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (يا معشر النساء تصدقن ولو من حُليكن).
وجه الدلالة من الحديث: أنه يوجب بظاهره أن لا زكاة في الحُلي، بقوله للنساء (تصدقن ولو من حليكن) ولو كانت الصدقة فيه واجبة؛ لما ضرب المثل في صدقة التطوع.
والجواب: أن الأمر بالصدقة من الحُلي ليس فيه إثبات وجوب الزكاة فيه ولا نفيه عنه، وإنما فيه الأمر بالصدقة حتى من حاجيات الإنسان، ونظير هذا أن يقال: تصدق ولو من دراهم نفقتك ونفقة عيالك، فإن هذا لا يدل على انتفاء وجوب الزكاة في الدراهم.
الشبهة الثانية: روى ابن الجوزي في (التحقيق) من حديث جابر رضي الله عنه مرفوعاً : (ليس في الحُلي زكاة).
والجواب: أن الحديث ضعيف، فيه علتان: الأولى: إبراهيم بن أيوب (ضعيف) ، الثانية : الصواب وقفه على جابر، فإنه جاء في مصنّف ابن أبي شيبة بسند صحيح على شرط مسلم موقوف على جابر.
* تنبيهــان:
الأول: هناك علة يذكرها بعض أهل العلم في هذا الحديث ألا وهي جهالة عافية بن أيوب (شيخ إبراهيم بن أيوب) والصحيح أن عافية ليس مجهولاً، فقد قال أبو زرعة عند أن سُئل عنه: هو مصري ليس به بأس.
الثاني: وَهِمَ من عزى هذا الحديث إلى البيهقي والدارقطني، فقد قرأت لبعض من يقول بعدم وجوب زكاة الحُلي، فقال رواه البيهقي جزء 4/ص138، والدارقطني جزء 2/ص107، فبحثتُ في المصدرين فلم أجد هذا الحديث بعينه، وإنما وجدت أحاديث أخرى في هذه المسألة، فليتنبه!!.
الشبهة الثالثة: هناك من رَدّ على الاستدلال بحديث رقم (3) و (4) بقوله: الظاهر أنها ليست الزكاة المشروعة المفروضة التي يُطْلب فيها بلوغ النصاب وحولان الحول ، وذلك للأمور الآتية:
1-لأنَّ (المسكتين) أو (الفتخات) لا تبلغان النصاب.
2-ولأنَّ الرسول صلى الله عليه وسلم لم يسأل عن حولان الحول.
والجواب: أنَّ المسكتين والفتختات من جملة ما يجب على المرأة إخراج زكاته، ونبّه عليه النبي صلى الله عليه وسلم خشية أن تظن النساء أنه مما يُعفى عنه.
الشبهة الرابعة: صح عن بعض الصحابة كابن عمر وجابر وعائشة وأسماء، أنهم يرون عدم الوجوب.
والجواب: تقدم أنَّ بعض الصحابة قالوا بالوجوب، وعند التنازع يجب الرجوع إلى الكتاب والسنة، وقد جاء فيهما ما يدل على الوجوب كما سبق.
وأما أثر عائشة في عدم الوجوب، فقد تقدم أنَّها تقول أيضاً بالوجوب، ولذلك يُردُّ على هذا الاستدلال من ثلاثة وجوه:
الأول: أنها لا ترى إخراج الزكاة عن أموال اليتامى واجباً (لأن الأثر فيه أنها كانت تلي بنات أخيها اليتامى) فتُخرج تارة ولا تُخرج تارة.
الثاني: أن عدم إخراجها فعل والفعل لا عموم له، فقد يكون لأسباب ترى أنها مانعة من وجوب الزكاة فلا يعارض القول.
الثالث: أن فعل الصحابي يصلح للاستدلال بثلاثة شروط:
1-ألا يخالف المرفوع عن النبي صلى الله عليه وسلم .
2-ألا يعارضه قول صحابي مثله.
3-أن يصح عنه هذا القول.
فأنت ترى بأن شرطين قد فُقدا، فلا يكون حجّة في المسألة.
الشبهة الخامسة: ما الفرق بين الحُلي المباح وبين الثياب المباحة، إذا قلنا بوجوب الزكاة في الأول دون الثاني.
والجواب: أن هذا الاستدلال باطل من وجهين:
الأول: أن النبي صلى الله عليه وسلم فرّق بينهما حيث أوجبها في الذهب والفضة من غير استثناء، بل وردت نصوص خاصة في وجوبها في الحُلي المباح المستعمل كما سبق، وأما الثياب فهي بمنزلة الفرس والعبد اللذين قال فيهما رسول الله صلى الله عليه وسلم : (ليس على المسلم في عبده ولا فرسه صدقة) متفق عليه من حديث أبي هريرة.
الثاني: أنه قياس في مقابلة النص، وكل قياس في مقابلة النص فهو قياس فاسد، وذلك لأنه يقتضي إبطال العمل بالنص، ولأن النص إذا فرّق بين شيئين في الحكم فهو دليل على أن بينهما من الفوارق ما يمنع إلحاق أحدهما بالآخر ويوجب افتراقها، سواء علمنا تلك الفوارق أم جهلنا.
وبهذا يكون قد أتممت ما أردتُ بيانه
والحمد لله رب العالمين
أبو عمار ياسر العدني
نزيل: حضرموت-المكلا